الحوار الحضاريّ (1)
قضايا معاصرة :
الحوار الحضاريّ (1)
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
في الحقيقة موضوعنا هذا متشعّب، يحار فيه المرء من أين يبدأ، وكيف ينتهي.. لكننا سنحاول الإحاطة به، من خلال استشفاف عناصره الأساسية، ولا بد لنا في البداية، من الإشارة إلى مبادئ مهمةٍ نلتزم بها إن شاء الله، ليكون الحديث ضمن مفاهيم عدة :
1- سنناقش قضية الحوار من خلال وجهة نظرٍ دعويةٍ إسلامية، لأن ما يعنينا أولاً وأخيراً، هو: كيف يستطيع الإنسان المسلم أن يكون صديقاً وفياً للناس، وفياً لدينه ودعوته.. فما أعظم الخير الذي يمكن لهذا الإنسان أن يحققه لدينه ولأمته، عندما يكون مقبولاً في مجتمعه، محبوباً في كل بيئةٍ يتحرّك فيها، مشهوداً له باستقامته، ومحترَماً يحترمه خصمه قبل صديقه .
2- لعلّنا نركّز في نقاشنا على قضيةٍ مهمة، هي بمنـزلة الناظم للسلوك الإنسانيّ الراقي، هذه القضية هي: آداب الحوار الحضاري، الذي يوصل إلى النتائج المتوخّاة بأسلوبٍ أخلاقيٍ حضاريٍ راقٍ .
3- ولعلّ الشق الآخر لموضوعنا يكون واسعاً مغرياً للنقاش هنا.. هو : أهم الصفات والعناصر الخُلُقية التي يجب أن تتوافر لدى الإنسان المسلم صاحب القضية النبيلة، ليكون شخصيةً آسِرةً، تجعل الناس مشدودين إليه، متابعين لما يعرضه من فكرٍ وثقافةٍ وإنتاج قلم .
أولاً : المنهجية العلمية والأخلاقية في الحوار
1- الحوار منهج حضاريٌ علميّ :
1- المحاور الذي يخطف الأضواء عادةً، هو الذي يحترم آراء الآخرين ويقدّرها، لأن من حقهم أن يعبّروا عن وجهة نظرهم، وهذا المحاور هو الذي يضع قول أي قائلٍ في موضعه ورتبته المناسبة، فلا يغمط لمحاوره حقاً قاله، ويستفيد مما يمكن الاستفادة منه، ويُعرِض عما ينبغي الإعراض عنه.
2- والمحاوِر الحقيقي الذي يمكن له أن يلجَ بفكره إلى قلوب الناس، هو الذي يحاور بأسلوب الأخذ والعطاء، والفعل والاستجابة للحق .
3- والمحاور الناجح هو الذي يحرص على تمتين الروابط مع الناس، وجذب الأصدقاء، ويحافظ على ودّهم ومكانته بينهم، ويراعي مشاعرهم.. فاكتساب الصديق الصدوق أمرٌ صعب، لكن المحافظة على الصداقة أصعب بكثير .
4- والمحاور اللامع، الذي ينتزع لنفسه مكانةً مرموقةً بين الناس، هو الذي يضبط نفسه عند مواطن الغضب، ولا يتشفّى بالناس، فيهدم ما بناه خلال زمنٍ طويل، ويذهب بجهودٍ ضخمةٍ بذلها معهم.. فهو يعرف كيف يضبط نفسه عند الاستفزاز، فيحبس الكلمة كي لا تخرج منه إلا بمقدار الموقف، ويُضفي عليها من نور العقل أكثر مما يُحمّلها من انفعالات النفس .
وبشكلٍ آخر نقول: المحاور المحبوب بين الناس، هو الذي لا يأسف على ما قال، لأنه لا يقول ما يُؤسَف له أصلاً!..
5- ومن منهج الحوار الحضاري العلميّ، أن يسعى المحاور إلى فهم موقف الآخرين، فإذا فهمه يستطيع تحديد مقدار الخلاف بقدره، ويتمكّن من تحديد مقدار الشقّة معهم، فإن فعل كل ذلك يجعل هدفه تقريب هذه الشقة إن استطاع.. حتى تزول، وخلال ذلك يحرص على مراجعة نفسه، وتصحيح مواقفه، فيزيل بذلك أي سوء فهمٍ يعلق بالأذهان، ويتخلى عن أي موقفٍ ثبت له أنه خاطئ، وتبيّن وجه الحق فيه .
6- والمحاور الناجح الذي يخطف الأضواء والأبصار، هو الذي لا يفتعل بينه وبين الآخرين سدوداً من الوهم والهوى، ولا يحفر القنوات والأخاديد بينه وبينهم، ولا يشهّر بهم.. وإنما يحاورهم باحترامٍ وتقديرٍ لعقولهم ومداركهم.. طالما التزموا هم بذلك، لكنه يعرف كيف يضع كل صاحب شطط، في موقعه الذي يجب أن يكون فيه، وحجمه الذي يجب أن يكون عليه !..
2- الحوار منهجٌ أخلاقيّ :
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(خَيرُكُم الموطَؤونَ أكنافاً ، الذين يَألفون ويُؤلَفون ، ولا خيرَ فيمَن لا يَألف ولا يُؤلَف) (مجمع الزوائد).
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(إنّ المنافقينَ لا يَألَفونَ ولا يُؤلَفون) (أحمد) .
1- فالمحاور صاحب الهدف السامي، إنسانٌ من أكثر الناس عملاً وبذلاً وحُنكةً، وأشدّهم التزاماً.. فهو قائدٌ للناس وخادمهم في آنٍ واحد، وهو مذلّل لعقباتهم، ومعهم في السرّاء والضرّاء!..
2- إنه أحسن الناس أخلاقاً، يمارس طاعة الله عز وجل بلا حدود، فهو من زمرة : (الموطَؤون أكنافاً)، وهم: المتذلّلون لله عز وجل، والمتواضعون للناس، الذين يجعلون نفوسَهم في خدمة غيرهم: (كانت الجارية تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لِيُعينها في بعض عملها)!..
3- إنه من (المطاوعين)، الذين يقدّمون كل ما يمكن تقديمه من وقتٍ وبذلٍ وعونٍ للآخرين، دون أي نفورٍ أو تذمّرٍ أو مقابلٍ أو ثمن !..
4- والإنسان الذي يحرص على سمعته وموقعه المرموق بين الناس، هو كذلك من زمرة : (الذين يَألفون ويُؤلَفون):
و(يَألفون): هم الذين يُقبِلون على الناس بكل جوارحهم وصدقهم وعفويّتهم، فيتعاملون معهم بكل صدقٍ وثقةٍ واحترام!..
أما (يؤلَفون): فهم الذين يُزيلون كل الحواجز والحدود التي بينهم وبين الناس، ويُخفونَ كلَ مِيزةٍ أو صفةٍ تميّزهم عن غيرهم، ويقدّمون من ذوات نفوسهم، ومن سلطانهم وموقعهم.. ما يؤدي إلى حرص الناس على محبّتهم وإدامة الصلة بهم!..
بهذا نفتح مغاليق القلوب، ونسبر ثغرات النفوس.. فنفتح الدنيا كلها بأخلاقنا، وليس القلوبَ والعقولَ والأرواحَ فحسب !..
وللحديث بقية إن شاء الله