"شابينا بيغوم" بين رقي العقل وجلباب العفاف
"شابينا بيغوم" بين رقي العقل وجلباب العفاف
م. حسن الحسن
نشر موقع MEO بتاريخ 2005-03-02 الخبر التالي: "ربحت تلميذة بريطانية في الخامسة عشرة الاربعاء دعوى قضائية في الاستئناف لارتداء "الجلباب" وهو لباس المسلمة "الملتزمة بدينها" الذي يغطي كامل الجسد ولا يسمح برؤية سوى الوجه واليدين، وفق ما علم من مصادر قضائية… وكانت محكمة البداية رأت عام 2002 ان من حق مدرسة لوتن في شمال لندن ان تطرد شابينا بيغوم بعد ان رفضت ارتداء الزي الذي ترتديه المسلمات عادة في المدرسة وهو مكون من سروال وقميص طويل."
باتت شابينا بيغوم حديث الإعلام إثر تلك القضية... فقد غطت قصتها صحف ومجلات وإذاعات وقنوات فضائية ... كانت الاتصالات تنهال على شابينا من قبل الجالية الإسلامية في بريطانيا، لتعبر لها بكلمات بسيطة عن فرحتها بذلك الثبات الذي أبدته تلك الفتاة، في وجه أعاصير المدرسة والمحكمة العادية ومحكمة الاستئناف، بل وأمام مقربين منها وآخرين كانوا يثبطون من همتها على الدوام، وألخص كلام المتصلين لشابينا بكلمة واحدة، قالها رئيس شركة الطيران البنغالية في لقاء مع شابينا على إحدى الفضائيات:
اعلمي يا شابينا إن أهل بنغلادش يعتزون ويفخرون بك كثيرا
كما عرض عليها وعلى الهواء مباشرة، أن تختار أي بلد في العالم كي تزوره مجانا على حساب شركة الطيران البنغالية، كنوع من مكافأتها على تلك الشجاعة والصلابة التي أبدتها في القضية، في فترة تحيا الأمة فيها انحدارا وانحطاطا غير مسبوق، إضافة إلى انعدام ثقة الأمة بمقدراتها وإمكانياتها مع تقهقرها الواضح نحو الحضيض.
قد يردد البعض ولم كل ذلك الاهتمام بشابينا وبقضية الحجاب أصلا! ولماذا يصر المسلمون على أن يغلقوا على فتياتهن عقولهن؟ بل ولم يصرون على تقزيم قضية المرأة في قطعة قماش لا أهمية لها طالت أم قصرت! أليس من الأولى التركيز على الجوهر بدلاً من التنطع للقشور!؟ أليس ذلك اللباس المحتشم صيفا شتاء فيه خنق للمرأة وتدمير لشخصيتها وتحويلها إلى مجرد ثوب! دعوها تنطلق في عالم الحرية، دعوها تنعتق من ظلامية العادات والتقاليد وكبت الدين! فلتسقط القرون الوسطى وملحقاتها ولننظر إلى الأمام وإلى العالم حولنا ... دعونا ننهل من المعرفة والتكنولوجيا والفلسفة الاجتماعية الحديثة ومن الغرب الذي وصل إلى المريخ.
يا لتهافت ما ساقه أولئك المضبوعون بالغرب، فقد غفلوا أو تغافلوا عن بعد القضية الحقيقي، وحتى لا أغرق في العموم المفضي إلى كلام إنشائي مجمل لا أكثر ... أجد الحاجة ماسة للخوض في إجابات محددة عن الأسئلة والاستفسارات المطروحة.
فالمرأة والرجل هما مكونا العنصر الإنساني حصرا، وهذا الإنسان هو الكائن المتميز عن بقية الأشياء والكائنات المحسوسة، والتي يستثمرها الإنسان لصالحه متعاملا معها كسيد لها، وكأنه هو مدار الكون والطبيعة وقطبها الأساس، كيف لا! فلو حذف من الوجود للحظة، لبقيت الكائنات في صورة جماد أو حيوان ليسا بذي معنى، لأن التأمل والمفهوم وإنتاج المعاني هي من شأن الإنسان وهو مفقود، ومطرح تميز الإنسان عقله، إن تخلى عنه تحول إلى بهيمة تدب على الأرض بجسد مجرد.
لذلك يتميز الإنسان ويرتقي لحظة إعمال عقله، وأعلى درجات ذلك التميز: التفكير بسائر الكائنات المشكلة لذلك الكون الفسيح بشكل كلي، وبتحقيق تفسير لمعنى ذلك الوجود وقيمة الإنسان فيه، وإدراك مدى ارتباط تلك الكائنات بأسباب الوجود ومقتضايته ومآلاته.
ولذلك فإنّ تحديد ثمة علاقة للحياة الدنيا بما قبلها وما بعدها، هو الذي يشكل وجهة نظر الإنسان في الحياة، وهو الذي يحدد نمط عيشه وسلوكه المفترض والمتوقع منه، في مسيرة قد لا تتعدى العقود القليلة، تلك الحياة القصيرة والمثيرة والغنية بالتنوع والتناقض والاختلاف والتباين المفهوم والمحكوم حتما بالقاعدة الفكرية المبدئية للإنسان.
واستنادا لهذا فإننا نجد أن المسلمين قد اعتنقوا عقيدة التوحيد، تلك التي تعتبر الكائنات بما فيها الإنسان طبعا، مخلوقات لإله واحد له السلطان المطلق عليها وصاحب الحق وحده بالتصرف فيها وتدبير شؤونها وتسييرها، وقد أحكم الخالق سبحانه بقضائه تركيبة الكون والحياة ومختلف أشكال الطبيعة ضمن سنن وقوانين جبرية لا يمكن لأحد الخروج عليها، وميز الإنسان من بين كافة الكائنات المحسوسة بالعقل، ومنحه القدرة على الاختيار في دائرة لا يستطيع أن يجادل فيها أحد، وبعث إليه برسول يحمل رسالة خالدة خاتمة صالحة لكل زمان ومكان، فالله بكل شيء محيط ولا يعوزه حدوث الأشياء حتى يشرع لها ما يعالجها، فهو يعلم واقعها منذ الأزل. وانطلاقا من تلك الإرادة وتلك القدرة على الاختيار الممنوحة للإنسان وجب عليه الانعتاق من الانغلاق على ذاته وعبادة الأشياء المخلوقة والمسخرة له، والخروج من ذلك كله بالتوجه إلى عبادة الله، من خلال إخضاع المادة والسلوك البشري لأحكام من بيده مفاتيح الغيب وهو بكل شيء محيط.
هذه هي خلاصة رسالة التوحيد: لا إله إلا الله ومقتضياتها المنصوص عليها بمحمد رسول الله، وهكذا كان قول ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس "إنما نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
ومن هنا كان انقياد المسلم في هذه الحياة لربه هو قمة الارتقاء، فبعقله أدرك يقينية عقيدته ومطابقتها للواقع وانسجامها مع فطرته كإنسان، مما نزع به إلى التسليم بما انبثق عن تلك العقيدة من شرائع وشعائر وقوانين وأنظمة ومعالجات، ترتاح إليها نفسه كلما امتثل بها وطبقها، ويشعر بالطمأنينة كلما تلبس بها لما تحققه من نوال لرضوان الله تعالى. بينما تنغص المعاصي حياته وإن تلذذ بها، حيث تضطرب نفسه وتتعس جراء الانحراف عن منهج الله.
وعلى ذلك الأساس فقط تأتي أهمية لباس الثوب الشرعي على اعتباره جلباب طاعة وليس مجرد قماشة. بل إن المسلم أكثر تجردا من كافة أصحاب الملل والنحل والفلسفات الأخرى، إذ أنه يسمو دائما عن الارتباط بالأشياء من خلال العادات والتقاليد والأعراف ودوافع الغريزة والشهوة البهيمية والعاطفة التي لا ينكر وجودها، ولكنه لا يجعلها مصدر أحكامه. فهي إن صحت أو أصابت حينا، فإنها كثيرا ما تخطئ وتجرف الإنسان نحو الشقاء المحقق.
وفي هذا الإطار يفهم ما قاله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما أراد تقبيل الحجر الأسود وهو من مناسك الحج: " أيها الحجر إني أقبلك وأنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك."
وبالتالي فقد كان ذلك الاهتمام بشابينا الفتاة التي ولدت في الغرب ونمت وترعرعت فيه، لتقول إنني اخترت عن رضى وطواعية التزام منهج الله، وأخوض دون ذلك غمار الصعاب، فأنا لا أفعل ذلك لمجرد وراثتي ذلك الزي كعادة أو تقليد، فما أرتديه هو ما أرشد إليه الشرع ويخالف ما عليه عامة الناس في بلادي. وإنما غايتي هي تجسيد معنى العبودية لله والطاعة له والانسياب في درب رضوانه.
والناظر بتجرد يرى أن الحجاب لا يتناقض مع إعمال العقل أو التفكير السليم وليس لذلك أي اعتبار فقد تكون المرأة ملتزمة بالزي الشرعي وهي طبيبة أو معلمة أو ما شاكل، ولو كانت تغطية الرأس تؤثر على العقل، لكان سكان البلاد الباردة مجانين وفاقدين للأهلية، الرجال منهم والنساء لاضطرارهم تغطية الرأس وكافة الجسد غالب أيام السنة وبجلود أو أقمشة جد سميكة. والعفة الحقيقية هي بالتعفف عما يغضب الله والتزام ما يأمر به الله من أحكام على النحو الذي يرضيه.
ولا يقال أن التزام تلك الأحكام الشرعية هو تخلف أو جمود أو سطحية أو اهتمام بالقشور، إذ إن أعظم ما يقدمه الإنسان في هذه الحياة هو إيجاد تفسير مستنير لمعنى وجوده فيها، وقد عالجت العقيدة الإسلامية ذلك بالتصدي لكل العقد الأساسية التي يواجهها الإنسان في حياته، والتي تتعلق ببلورة وتوضيح وشرح أجوبة للأسئلة الملحة التالية: من أين أتى ولماذا أتى وإلى أين المصير، يستعمل في ذلك كله العقل المجرد رافضا التبعية أو الوراثة أو التقليد في العقيدة.
وأما بقية الادعاءات فإنها تتهافت أمام إدراك أن الإسلام هو رسالة نموذجية فيها قابلية الاعتناق من قبل كل البشر، ويحمل معاني شاملة وشرائع تفصيلية في آن معا، ويمنح الإنسان الفرصة الحقيقية لاستثمار ما في الكون لصالحه على أمثل حال مستندا إلى حديث النبي الكريم:" أنتم أدرى بشؤون دنياكم"، ويطلق الإنسان في هذه الحياة تحت عنوان الاستخلاف في الأرض لعمارتها وبنائها حتى ولو كان قائما بين يدي الساعة، ولذلك لم يجد مسلم يوما غضاضة في النهل من العلوم وأنواع المعارف العلمية والكونية من أي كان قط، فالحكمة في ذلك ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها... مستخدما مهاراته في استثمار كل ما يحقق له أرقى أنواع الحياة وأمثلها على الإطلاق.
أخيرا يجدر بنا القول أن ثبات شابينا بيغوم وإصرارها على طاعة الله والامتثال لأوامره قد حجّمت كثيرين ممن انتهجوا الخضوع للواقع وارتضوا الذلة والهوان، وإننا لفخورون بشابينا ليس لأنها من دارسات حزب التحرير، بل لأنها أبت الذلة في دينها وواجهت أعاصير بقوة وصلابة المؤمنين الواثقين بنصر الله وفرجه وتأييده، في وقت يلين فيه رجال يتزيَّوْن بلباس العلماء يميعون الدين ويفتون بإباحة خلع لباس العفاف والفضيلة لمن هم في حال أخف وطأة بكثير مما وصلت إليه تلك الفتاة التي آثرت أن تستقيم على عهد الله، وأن تعلنها مفاصلة حاسمة بكلِّ أنَفٍ واعتزازٍ بين المبدئية والارتباط بالله وبين الميوعة والاستسلام والانهزام، فهنيئا لها بذلك النصر والظفر.

