دُلونا على الطريق
دُلونا على الطريق
نعيم الغول
حين يدهم مشهد الواقع الاجتماعي عينيك، وتخشى أن تضل، يقفز إلى ذاكرتك حِكمٌ قالها الأجداد وأشعار أنشدها كبار شعرائهم، وفوق كل ذلك الأحاديث الشريفة التي فيها حكمة الحكماء، وبلاغة تفوق بلاغة الشعراء، وفيها الهداية كل الهداية.
من الشعر يوقفنا امرؤ القيس في طريقه للمطالبة بملكه الذي ضاع :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه فـقـلـت لا تـبـك عينُك إنما | وأيـقـن أنّـا لاحـقان نـحـاول مـلكا أو نموت فنعذرا | بقيصرا
امرؤ القيس هنا يعرف طريقه، إنه الذهاب إلى قيصر، وطلب مساعدته في استرداد حقه ممن "أكله". ولا بد أن امرأ القيس قد طالب بحقه فهُدد وطورد ولوحق، فاضطر إلى اللجوء إلى قوة غريبة طامعة تعيد له حقه. ولكن ما لم يخطر ببال امرئ القيس هو انه في زماننا هذا يرفض "آكل الحق بالباطل" أن يطلب صاحب الحق حقه.
حدثني صديق لي أن أحد أصحاب الأعمال - ممن يختبئون وراء أسماء كبيرة لا يليقون بحملها - اتصل به ورجاه أن يعمل لديه، فعمل ما شاء الله له أن يعمل دون أن يتحرك رجل الأعمال ويحدد مقابلا لهذا العمل، فتحرك صاحبي وطلب تحديد الأجر، فحُدد كما أراد، وحين حان موعد الدفع لم يتحرك رجل الأعمال أيضا ويدفع له ، وظل صاحبنا يعمل دون أن ترد ملاحظات على عمله من رجل الأعمال الشهم ودون دفع أيضا. وتحرك صاحبنا أيضا وطلب اجره بتقديم مطالبة خطية، وتوقع أن صاحب الأعمال -بما يظهر على محياه الوسيم- رجل يخشى الله وصاحب كلمة لا يبيعها بكنوز الأرض، وتوقع أن يعتذر الرجل لأن مشاغله ألهته عن دفع اجره- والمشاغل أحيانا تلهي عن الصلاة. ولكن صاحبي فوجئ "بدوش" بارد ينزل على جسمه . فقد استنكر صاحب الأعمال بصوت كهدير "تسونامي" أن يجرؤ على طلب حقه بتلك الطريقة. فهناك أصول وإتيكيت وبروتوكول لطلب الحق يجب على صاحبي أن يلتزم بها جميعا ،وإلا فقد حقه ،وتساءل بوقاحة:" هل أنا هارب من البلد؟" فلماذا الطلب؟؟!! ونسي رجل الأعمال في غمرة انفعاله أن الأصول والاتيكيت تقتضي ألا يترك مجالا لمطالب، بل عليه أن يسارع في إعطاء الحق، وأن يتبع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم( أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه).
وهنا بكى صاحبي لأنه لا يرى الدرب دونه كصاحب امرئ القيس الذي يعرف الطريق جيدا.
وصديق آخر يعمل مترجما اتصل به محام ،وطلب ترجمة أوراق وتصديقها من كاتب العدل، وتجهيز فاتورة بمصاريفه. وبعد إنجاز الأمر قدم صاحبنا الفاتورة، وصبر يومين فلم يتصل به أحد فاتصل مذكرا بالفاتورة فجاءه الجواب : " هل نحن هاربون من البلد؟ لماذا الاستعجال يا أخي . لا ، ليس بهذه الطريقة". وبالطبع لم يدفع تماما كصاحبنا ذي النفخة.
ويذكرنا هذان المثالان بقصة العصفور والذئب التي تقول إن ذئبا آكل فريسة فعلقت عظمة في حلقه، فعجز عن إخراجها، فمنعته من التنفس حتى كاد يهلك، فرأى عصفورا فقال له :" اخرج العظمة من حلقي وسأعطيك ما تشاء." فوقف العصفور بين فكي الذئب، وسحب العظمة، وألقاها بعيدا ،و"طلب" حقه من "الذئب"، فقال الذئب:" أي حق يا رجل ؟ أما تستحي أن تطلب حقا ،وأنت لم تفعل سوى أن أخرجت عظمة تافهة؟ أما أنا فقد كان بوسعي أن آكلك وامتنعت وبذلك منحتك الحياة؟".
وهكذا يتحول العمل الطيب عند الذئاب إلى عمل تافه، ويتحولون هم إلى أصحاب حق، و"تنخدش" كرامتهم من وقاحة المطالبين.
ويبدو أن أمثال هؤلاء يتخذون من تقدم الشخص بطلب حقه ذريعة لرفض أداء الحق. وهو أسلوب جديد في أكل أموال الناس بالباطل، فمن المعروف أن من لا يريد الدفع يماطل ويُسوّف، ولكن أن يحتج بطريقة الطلب فهذا جديد.
وفي ديننا الحنيف لصاحب الحق أن (يطالب) بالطريقة التي يراها مناسبة لاسترداد حقه. اخرج ابن ماجه – بسند صحيح (سنن ابن ماجه 2/810)- إلى آبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه، فاشتد عليه حتى قال :" اخرج عليك إلا قضيتني ." فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك أتعرف من تكلم؟ قال: "إني اطلب حقي" ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( هلا مع صاحب الحق كتيم) ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها (إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك) فقالت (نعم بابي أنت يا رسول الله).
والشاهد من الحديث أن الرسول عليه السلام لم ينكر على الأعرابي طلب حقه، ولا شدته وتضييقه فيه، بل أنكر على الصحابة انتهارهم الأعرابي. فأين منك من ينتسبون زورا إليك يا رسول الله؟
وذاك الحديث من جهة طالب الحق ،أما من جهة من عليه الحق فيمتنع عن دفعه ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) ولم يقل إن من حقه عدم الدفع إلا وفق الطريقة التي يشترطها.
والحق، إن إصرار هذه الفئة من الناس- التي خرجت بهذه البدعة التي يعوزها الحياء- على إخفاء نواياها بأكل حقوق الناس وراء هذه القشة تجعلنا نفكر بما يريدون ؛ أي بالطريقة التي تخطر ببالهم. والسيناريو التالي هو المحتمل:
صاحب الحق: سيدي وتاج رأسي أعطني يدك.
المدين: لماذا؟
صاحب الحق: أريد أن اقبلها ألف مرة يا مولاي وسيدي؟
المدين ( باستحياء ليس من طبعه): ولماذا تتعب نفسك يا هذا؟
صاحب الحق : حتى ترضى عني يا سيدي ومولاي وتاج رأسي، وكي أخطر ببالك ثانية واحدة في الشهر.
المدين : ثانية واحدة فقط؟ قل ساعة أو ساعتين!!
صاحب الحق: ثانية واحد تكفي كي تفكر أن تتكرم وتعطف وتمن وتحن على خادمك الذليل وتعطيه أجره.
المدين: لا أقول إلا كما قال المثل: لولا سلامك سبق كلامك.. على كل حال ، مر علينا آخر السنة وأدّ نفس التحية ،وسنعطيك ما يتيسر إن شاء الله.
قال صاحبي معلقا: إن كانت هذه هي الطريقة لنيل الحق من آكل الحق فبئست وبئس من يريدها. وان لم تكن فدلونا على الطريق يرحمكم الله.