يومٌ رَمادِيٌّ عَاصِف

يومٌ رَمادِيٌّ عَاصِف

ابنة الحدباء

 حدَقت مِن نافِذتها ... حيثُ قَطراتُ المَطرِ كالصقيعِ بِبرودتها... والرِيّاحُ تعصفُ بالأشجارِ وأغصانِها .. والزهورُ المتعبةُ من عواءِ العاصفةِ تحاول التشبّثَ بالثرى، بعد أن حنَتْ أكمامَها ... لكنها أبَت إلا الخُروجَ إلى حديقتها والجلوسَ على أُرجوحتِها، في زَاويتها التي اعتادَت أن تَركنَ إليها ساعاتِ ضِيقِها واحتباسِ أنفاسها ... حَلّقت بِنظراتها التي تَحمل بَراءةَ الأطفال إلى الفضاءِ ، حيثُ الغُيوم ملبَّدةٌ والرياح عاصفة ، وكأنَّ السماءَ حزينةٌ لِحُزنها، وتقطُرُ مَطراً لِبُكائِها ... بَدأ الثلج بِالتساقطِ ، لِكنها لم تَعبأ !؟ حيثُ كانت مُحلِّقةً بِعالمها الذي نسجَتْهُ من بَناتِ أفكارها ، فَكُلّما زَادت الخُطوب وأوغلتْ الأحزان، حَلّقَت إليهِ تاركةً الأرضَ بِقُشورِها وغُبارها وما التحفت من قيمٍ تَخلو من العطاءِ والصدقِ والوفاءِ على أديمها ، والظلم وقلب الموازيين سمة سُكانها أرضٌ ارتضت أنْ تحملَ الصقيعَ حتى في ليالي الصيفِ بِدفئها أو حَرارتها ..

تَذكّرت مَلعبَ طُفولتها وصِباها ... تذكّرت وَطنها الجَريح .. فَراشاتِها ، عَريشتَها ، نَافورة الماء وسَطََ قَصرِها القديمِ .. حدِيقتها المُتناسقةِ الألوان ...مملكةَ الدِّفء التي تنشُدُها!..

هَبّتْ نسماتٌ باردةٌ بِحباتِ الثلجِ الأبيض، فأغمضَت جُفُونَها وحَلّقت مع الغُيوم .. لعلَّ نسماتِ بلادها تلفحُ وجناتِها وتُحيلُ الثلجَ إلى قطراتِ ندىً دافئةٍ تُنعِشُ النفسَ بَعدَ يومٍ رماديٍّ عاصفٍ حزين ... لِتستنشقَ شذى أشجار النَخيلِ والزيتون ... لتطلّ على شواطئ دجلةَ والفراتِ والخابور ... بل لِتُمتعَ ناظريها بِبِحارِها ، بأنهارها ، بكلِّ ما فيها ... لتطلَّ على أقربِ الناسِ من فوقِ الغُيومِ ... حيثُ يتوقفُ الزمن ويَعمُّ الرَّبيعُ وإن كانَ في جوٍّ جليديٍّ عاصفٍ كئيب !...

تَناثَرت دُمُوعها الدافئة كالسيلِ الهادرِ، وخَالت نَفَسها تلمسُ الثَرى ... تُعانِقُ النَرجِسَ الأَبيض مع باقاتِها المُلونةِ ... ترشفُ رحيقَ الأملِ المضمّخِ بِضحكاتِ الطفولةِ ، تمحو لحظات الوداع التي تركت نقشاً على صفحات قلبها ... لتزيلَ أطيافَ جفاء الواقع وقساوتهِ ، حينَ تركَ الروحَ جمرةً تستعرُ كالهشيم الحارق ... هَمسَت بأنينٍ مَذبوحٍ : " متى اللقاء ؟!.. فأنا لا أستطيعُ التحليقَ وَسَطَ هذهِ الأجواء ، حيثُ بُركانٌ هَادِرٌ مِن الغُيوم السَوداء وعواصفُ شديدةٌ تَقْتلع الزُهُور وأغصانَ العنبِ والزَيزفون ."..تساءلت: يا ترى أين وكيفَ ومتى ستعودُ إلى عُشِّها وعَريشتها.. إلى حيثُ ثََرى أولِ أوطانِها وآخرها!.. إلى مملكةِ الدفءِ!.. حَيث أُرجوحَتُها هناك تَتَراقَصُ بِفَرحٍ فَوقَ شُرفَتها وَسَط باقات الزَنابِق وأكاليلِ الغارِ واللّيلاكِي إلى جوارِ أقربِ الناس!...