صورتان.. ومفارقة!!!

د.مصطفى عبد الرحمن

د.مصطفى عبد الرحمن

[email protected]

الصورة (الأولى)

 ( و.ش) طبيبة، زميلة لنا.. جاءت من احدى بلادنا العربية الشمال أفريقية لاستكمال تخصصها في طب الأطفال في هذا البلد.. فرنسا.. والعودة سريعاً الى وطنها، ثم كان أن بقيت في هذه الديار مثلها مثل آلاف الاطباء العرب، تعمل كطبيبة في أحد المشافي الفرنسية، وترسل بفائض مالها الى أهلها في الوطن، ليستطيعوا التغلب على ظروف حياتهم القاسية، وخاصة في هذه المحنة المزمنة التي أصابت هذا البلد العربي الحبيب، فأثقلت كاهل كل أهله وأفقرت جلهم وهجرت مئات الآلاف منهم وتركت الكثير ممن بقوا يحلم بالهجرة.

( و.ش) غير متزوجة، ككثير من بنات بلادنا ممن فاتهن قطار الزواج، قليلة الاختلاط بالناس،قليلة الكلام، كثيرة الصمت، تعيش لوحدها في غرفة صغيرة في ضاحية باريسية. ولكي تؤنس وحدتها وتتغلب على صمت أيامها وسكون حياتها ورتابة أشغالها وروتين أعمالها، ذهبت تبحث لها عن قطة صغيرة، تربيها فتكسب بها بعض أجرها، وتصرف في العناية بها شيئاً من عاطفتها، وتغدق عليها بعض حبها وحنوها فتصرف عليها بعضاً مما افتقدته من حنان الأمومة.

وفعلاً.. وجدت ضالتها، وعثرت على قطة صغيرة جميلة، يغلب عليها البياض إلا من خصلتين من الشعرالذي يغطي جسدها احداهما سوداء والاخرى شقراء.

واحبت ( و.ش)  هذه القطة حباً جماً ، وكثيراً ما كانت تنفق السويعات تتكلم الى من يجالسها في المشفى عن قطتها هذه، وعن مدى حبها لها وعشقها لعينيها وشكلها، وان بدأت الحديث عنها لابد وانك (ومن باب اللباقة) ستضطر الى الاصغاء لها وحتى النهاية، وتتعرف على ماذا اشترت لها في الأمس، وكم انفقت على قفصها المعد للسفر، وعلى طعامها الذي تشتريه لها من اغلى المحلات وارقى (البوتيكات)، ولاتنسى أن تطلعك على دفتر اللقاحات الذي تحتفظ لها به ومدون عليه آخر اللقاحات المعطاة وتلك التي تنتظر، وكلها (طبعاً) غالية الثمن؟!!!وإن نسيت فيجب ألاتنسى أن تبدي اعجابك بهذه القطة الجميلة ورشاقة قوامها ورتابة شكلها وحلاوة عينيها.. و.. و.. و..

 وفي يوم من الأيام حدث أن اضطرت ( و.ش) أن تذهب في اجازة اضطرارية وغير مبرمجة الى بلدها، واحتارت في أمرها الى من توكل أمر قطتها؟..

ومن حسن حظها وصفاء نيتها وسلامة سريرتها، تبرعت احدى الممرضات في المشفى،ان تتعهد لها قطتها هذه بانتظار عودتها من رحلتها المفاجئة هذه.

وكان فراقاً صعباً، ذلك الذي فصل( و.ش)عن قطتها،رغم انه لم يمضي أكثر من ثلاثة أشهر على تعارفهما، اوشك ان يبكي كل من حولهما يوم أن حملت قطتها الى تلك الممرضة،مع طعامها وشرابها وفراشها وبعض زينتها، وراحت تشرح لها ماذا تاكل وماذا تشرب ومتى تنام، وما نسيت أن تذكرها بموعد حمامها وأوقات نزهتها.. و.. و... ثم ودعتها بقبلات اختلطت فيها الدموع بكلمات مخنوقة وعبارات متقطعة.. و..و..

ذهبت ( و.ش) الى اجازتها شبه مطمئنة، بعدما أكدت لها تلك الممرضة أنها ستعمل ما في وسعها أن تقوم بالواجب وأكثر تجاه هذه القطة المدللة.

ومضت تلك الاسابيع الثلاثة بسرعة لكنها كانت ولاشك (ثقيلة) على زميلتنا وهي مفارقة لحبة قلبها.

وفي يوم عودتها واول ما وقعت عيناي عليها، استغربت كثيراً وانا اراها تبكي بكاءً مراً، وتندب حظها العاثر، وعلى ان قلبها كان يحدثها بهذا الذي حدث لقطتها، وعندما استطلعت الامرأعلمتني بأن القطة المسكينة ضاعت اثناء غيابها بعدما خرجت من بيت الممرضة ولم تعد.. وسألتني ماذا تستطيع أن تفعل؟ واحترت في أمري بماذا أنصحها.. لكنها اهتدت بنفسها الى طريقة قد تعيد لها الامل في أن تجد قطتها ..

ذهبت ( و.ش)  الى احدى الجرائد في المدينة، الذائعة السيط والواسعة الانتشار، ونشرت فيها اعلاناً بأوصاف قطتها الضائعة وطولها وعرضها ولونها و..و..و.. ودفعت مبلغاً محترماً يليق بحبها لها وعشقها لقربها منها وتألمها لفقدها، وتركت مقولة توحي بأن هناك جائزة لمن يعطيها علامة تودي الى لقائها ومن جديد بقطتها.

ومن عظيم قدر الله، ان سيدة اتصلت بها واعلمتها ان قطتها عندها وبالحفظ والصون، وقصت لها القصة كاملة،اذ أنها رأت قطة جميلة وديعة هائمة على وجهها في الطريق، فرق قلبها لها واخذتها واعتنت بها، واوصافها تنطبق تماماً على تلك المدونة في الجريدة.

ذهبت ( و.ش) الى هذه السيدة وفعلاً، عقدت المفاجأة لسانها بعد ان تعرفت الى قطتها فكانت هي بلحمها وشحمها، فأخذتها في حضنها واخذت تقبلها.. وتقبلها.. دون مراعاة انها تقبل قطة وليس طفلاً خرج من أحشائها.

عادت( و.ش) بقطتها بعد أن مرت الى عيادة الطبيب البيطري، واجرت لها فحوصات كاملة لتطمئن على صحتها، وانها لم يصبها جوع او مرض او نحول في غيابها وضياعها هذا.

ومنذ ذلك الحين لاتكف ( و.ش)  تتحدث عن قطتها وقصة ضياعها منها وقدر الله عز وجل الذي اعادها لها؟!!!..

 الصورة (الثانية) 

منذ يومين يرن الهاتف في بيتنا، ومن الصدف انني كنت من يرد على المتكلم، واذ بصوت امرأة لاأعرفه، صوت مخنوق هده الألم والحزن، تطلب مني التكلم الى زوجتي، وعندما ردت زوجتي، رأيت فجأة الدموع تذرف من محجريها وهي تقول له..له.. (كما ينطقها اهل سوريا، مصحوبة بالالم والمرارة)..له..له.. لاحول ولا قوة الا بالله.

وحزنت أنا حزناً شديداً رغم اني لم اعرف من المتحدث، ولا حتى ماذا جرى، لكن ظني  ذهب الى ما اعتدنا عليه هنا في بلاد الغربة من المفاجآت بموت عزيز في الوطن أو مرض حبيب في البلد أو خبر بمصيبة حلت أو كارثة وقعت من نوع آخر لكن من نفس الطعم أو أشد.

وعندما انتهت المحادثة بعد حوالي الساعة والنصف، وانا انتظر متلهفاً لأعرف من المتكلمة وماذا جرى لهذه المرأة المسكينة.

وعقدت المفاجأة لساني عندا علمت من السيدة، وان الامر وبكل بساطة ان زوجها فجأة تركها وحدها في بلاد الغربة هذه، وذهب الى الوطن ليرسل الى اهلها ورقة الطلاق ويعقد على امرأة أخرى، هكذا بدون مقدمات أو مؤخرات ولا اشارات او دلالات،ولاحتى أسباب أو مسببات!!!.

ورغم اني تفاجأت كثيراً، وهالني ما سمعت، الا أن ذلك كان الى حد ما ضمن ما يمكن ان يحدث، ولكن ان سمعتم امر وتفاصيل هذه القصة فسوف تعرفون تماماً لماذا كنت أنا شديد الاستغراب وكثير الاستنكار لما حدث مع هذه الأخت المسكينة.

لقد انفق هذا الرجل سنوات طويلة في حبها والهيام بها والحلم بوصالها والزواج منها، ثم عندما تكرر رفضه من قبل وليها، كان أن وسط وساطات، وأدخل نساء ورجالات، وانتظر بعد ذلك شهوراً وسنوات حتى يوافق اهلها ويعطوه اياها ويقبلوا به نسباً وصهراً.

ومن ذلك الحين وهما يعيشان سمناً على عسل، ودون مكدرات او منغصات أو ما شاكلهما  ومنذ اكثر من خمسة عشر عاماً، رغم ان الله لم يرزقهما بأطفال، لكن كل منهما رضي بقسمته ورضي بقضاء الله وقدره، خاصة بعدما بينت التحاليل المتكررة في بلد العلم في فرنسا، انه من الصعب الجزم بان احدهما دون صاحبه هو المسؤول الوحيد عن المشكلة.

ثم أن يحدث ما حدث هكذا بين عشية وضحاها، ودون اية انذارات او اية مقدمات، ويقوم بترك زوجته دون ان يعلمها بذهابه والى اين هو ذاهب، ويسلمها الى الخوف والقلق والتساؤل والبكاء خمسة عشر يوماً، تسال عنه في كل مكان دون ان يراودها أي شك بوجهة سفره هذه، الى أن أتاها اتصال من والدتها تعلمها بما حدث، وبأنهم تلقوا هذا اليوم ورقة الطلاق من المحكمة والموقعة منه شخصياً.

 يعود صاحبنا في اليوم التالي(اليوم التالي لتلك المكالمة التلفونية) دون ان يعود الى البيت طبعاً، بل يعود الى عمله والى بيت آخر لاندري حتى الآن مكانه وطبيعته، يعود دون ان يتذكر انه ترك انسانة من لحم ودم كانت والى عهد قريب قريب زوجة له على السراء والضراء ومنذ خمسة عشر عاماً.

اتصلت به المسكينة بعيد عودته، ولازالت تتصل به، تستطلعه الامر، وتسأله تفسيراً لما حدث ويحدث، فلا يجيب.. تسأله بحبهما الذي عاش قرابة العقدين من الزمن من عمريهما، وتذكره بالأيام الجميلة.. والعشرة الطيبة.. والسويعات الرائعة في غابر ايامهم الماضية وذكرياتهم السعيدة.. لكن دون جواب ولا حتى كلام، ومازال صاحبنا مصراً على أن يطبق أبغض الحلال إلى الله عز وجل وبطريقة رعناء قاسية لاتليق بالجنس البشري ناهيك عن المسلم المتقي الذي ينطبق على حاله وفاله. 

أسمعتم أن الدم قد ينقلب ماءً فجأة ؟.. إن لم تكونوا قد سمعتم به من قبل، فها أنذا(ولا فخر) اخبركم به واعلمكم بوجوده ...

في النهاية،اترك لكم المقارنة.. بل التأمل في هذه المفارقة.. بين هاتين الصورتين المعبرتين