في واحة حديث قدسي

في واحة حديث قدسي

أحمد جمال الحموي

عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام

إخواني وأخواتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

نتقلب في النعم ولا ندري، وبعض هذه النعم تدركها قلوب وتعجز عنها أخرى لم تُصْقل مرآتها، ولم تتجه الوجهة الصحيحة، لتلتقط الإشارات، وتنعكس على صفحاتها التجليات.

أليست نعمة كبرى أن يبلغنا ربنا سبحانه شهر رمضان المبارك؟ فنغنم بركاته، وتتدلى علينا فيه شآبيب الرحمة الموصولة بالسماء، فتسكن القلوب إلى بردها، وترتاح في ظلها الوارف الظليل؟

وإنه لمن الإيمان والعقل أن نحمده عز وجل على أن مد في العمر، ونسأله وهو الكريم المتفضل أبداً على عباده أن يعيننا على صيامه وقيامه، وألا يحرمنا بره وخيره وجدواه.

أيها الأحبة:

في فضل الصيام حديث أوله قدسي، وتتمته حديث نبوي شريف، وهذا الحديث معروف، بُحّتْ به حناجر الوعاظ، ونطقت به ألسنة الخطباء، حتى ليكاد يعرفه العامي كما يعرفه العالم. غير أن كثيراً من الناس ربما كان يفهم الحديث فهماً إجمالياً دون أن يعرف أبعاده أو يدرك مراميه وإشاراته وتلميحاته السامية الراقية. فتعال أخي المسلم نحيا مع هذا الحديث عسى أن يكرمنا ربنا بتذوق بعض معانيه، والارتواء أو الارتشاف على الأقل من هذا العذب النمير ليكون سقيا قلوبنا وبلال أرواحنا.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل:

(كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم.

والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)

رواه البخاري واللفظ له، ومسلم.

فهيا بنا إلى بحار هذا الحديث نصيد ما ييسر الله تعالى لنا من لآلئه (واتقوا الله ويعلمكم الله). ولنعلم أن الرزق مقسوم ما كان منه للأجساد والأشباح وما كان منه للقلوب والأرواح. وعسى ألا نكون ممن قدر عليهم رزقهم. والمأمول المرجو من المولى الرحيم الكريم أن يجعلنا ممن يستمعون فينتفعون فيتبعون. فإنما غاية العلم العمل. وعلمٌ لم يعمل به صاحبه إنما هو حجة عليه لا له، نعوذ بالله من هذا. ونبدأ بالحديث مقطعاً بعد مقطع.

(كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).

وأول ما يتبادر إلى الذهن سؤال: هو أن جميع الطاعات لله تعالى فلماذا الاستثناء (إلا الصوم فإنه لي...) وهنا تزدحم المعاني وتنهمر على قلوب العارفين أنهاراً، كل حسب استعداده ومدى قدرته على الغوص في بحار الفهوم والإشارات:

فمن هذه المعاني أن الإضافة إضافة تشريف كقوله تعالى: ناقة الله لكم..

ومنها أنه لم يعبد أحدٌ غير الله تعالى بالصوم.

وأسألْ مَنْ شئت من أهل التأريخ هل بلغه أن الكفار كانوا يعظمون معبوداً لهم في عصر من الأعصار بالصيام. وسيأتيك الجواب قاطعاً أن ذلك لم يكن. لذا لم ينقله أحد، ولم يحوه كتاب. لكن وجد من الكفار من عظم معبوده بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وأمثال هذا.

ثم إن الصيام بعيد عن الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة. فلربما صلى إنسان وهو يريد بذلك أن يراه الناس لغرض من أغراض الدنيا رخيص، وعرض من أعراضها قليل، أما الصوم فإنه تَرْكٌ، والتُّروك لا تُرى. فقد يترك المرء تناول الأكل في خلوته ثم إن شاء أشبَعَ بطنه في خلوته حيث لا يراه من الخلق أحد وبهذا لا يعلم حقيقة الترك إلا الله سبحانه وتعالى. أما الأفعال فقد يراها الناس، سواء أداها مخلصاً أو مرائياً، وبهذا يكون الصوم أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص والنقاء.

ومن المعاني القريبة والنابعة مما سبق أنه ليس للصائم ونفسه حظ في الصوم، فإذا صام فهو يصوم لله عز وجل ليس غير.

ومن المعاني اللطيفة الرائعة لتلك العبارة ما قاله الخطابي: أن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى، فيتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء.

إنه السمو بالانعتاق من رغبات الجسد وحاجاته، وكلما فعل الإنسان ذلك علا في معارج وراء ما يراه الناس وفوق ما يعرفونه، حتى يصبح كله لله تعالى، وكأنه ليس من الدنيا ولا هو لها من قريب أو بعيد.

وما دام الأمر هكذا فالله وحده هو المتفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). وغير الصوم من العبادات أظهَرَ سبحانه بعضَ مخلوقاته على مقدار ثوابها.

ففي هذا التعبير بيان لعظم فضل الصوم وكثرة ثوابه. لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء، اقتضى هذا عظم قدر الجزاء وسعة العطاء من كريم غني لا تنفد خزائنه ولا يفنى ما عنده.

(والصيام جنة):

أي وقاية وحصن من الوقوع في المعاصي والآثام، فهو أدعى إلى التوبة والطاعة، والانقياد إلى ما يرضي الله. إذ يُضيق مجاري الشيطان ويكسر حدة الشهوة. وما دام كذلك فهو حائل بين العبد والنار وحصن له منها بإذن الله تعالى. ومنه المجنّ وهو الترس.

(فلا يرفث ولا يصخب):

لا يفحش في القول. والرفث يأتي على معان منها الكلام المتضمن لما يقبح ذكره من الحديث عن الجماع ودواعيه وهو المراد هنا، أما الفعل نفسه فهو مفسد للصيام وأي مفسد، موقع في الإثم والحرام. ومن المعلوم أنه ليس من أخلاق المسلم السب والشتم، والطعن واللعن، والكلام البذيء. فكيف إذا كان صائماً. قال عليه وآله الصلاة والسلام (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء).

إنه السمو والطهر، والرفعة التي تعلو على الدنيا كلها فترتقي بالإنسان إلى آفاق لا يدريها إلا من خبرها، ولا يعرفها إلا من ذاق لذتها وحلاوتها.

ويزداد المشهد الرائع ألقاً بالنهي عن الصخب. فلا يكفي تجنب الشتم والسب بل إن الأمر أبعد من ذلك فعلى الصائم ألا يرفع الصوت وأن يحذر مجاراة السفهاء في أساليبهم وطرائقهم. فشتان شتان ما بين الفريقين، فريق الطيب والطهر، وفريق الضلال والخبث.

(فليقل إني صائم):

ويستمر السمو ويتصاعد، ويضيء المشهد كله بالنور والعفة والطهر (فإنْ سابه أحدٌ أو شاتمه فليقل إني صائم). أسمعتَ ماذا يقول. إنه الجواب اللائق بمن أخذ به الصوم إلى عالمه عالم الرفعة. يقول ما معناه: إني ممسك عن الدنايا، مترفع عن هذا المستوى، ولن أقبل أنْ أهبط إلى الدرك الذي أنت فيه، بل سأبقى في عالمي، فأنا خائف من ربي أن يبطل صومي سبحان الله ما أروعه من رد وما أقواه من جواب.

وكأن هذه العبارة ردع للنفس عن أن تلين أو تستجيب لنوازع الشر، ونهوض بها لتبقى متحلية بالكمالات والفضائل، متخلية نافرة عن الدنايا والرذائل. كما أن فيها طمأنة القلب لثواب الرب سبحانه إذا صان المرء صيامه.

(لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك):

قال الإمام النووي: وأما معنى هذه العبارة فقال القاضي المازري: هذا مجاز واستعارة، لأن استطابة بعض الروائح مِنْ صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه وتنفر من شيء فتستقذره، والله تعالى متقدس عن ذلك. لكن جرت عاداتنا بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله تعالى.

فالله تعالى يجازيه برائحة الخلوف في الآخرة وتكون نكهته أطيب من رائحة المسك عندنا كما أن دم الشهيد يكون ريحه ريح المسك. وقال بعضهم: رائحة الخلوف عند ملائكة الله تعالى أطيبُ من رائحة المسك عندنا. وإن كانت رائحة الخلوف عندنا خلافه.

واحتج بعض أهل العلم على كراهة السواك للصائم، بعد الزوال، لأنه يزيل الخلوف الذي هو أثر الصوم وفضيلته. وإن كان السواك فيه فضل أيضاً.

(للصائم فرحتان):

قال العلماء: أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه وتذكر نعمة الله عليه بتوفيقه لذلك. وأما عند فطره فسببها تمام عبادته وسلامتها من المفسدات وما يرجوه من الثواب والخيرات.

ما أسعدها من لحظات عندما يُعطى العامل أجره بعد تمام عمله، من غني لا ينفعه العمل ولا يضره العصيان والخلل. لكنه الجود والكرم والإحسان والامتنان.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان) رواه أحمد والطبراني في المعجم الكبير.

فهنيئاً للعاملين. هنيئاً لهم حين يفطرون. وهنيئاً لهم حين، على الرب الكريم، يقدمون. وما أجمل تلك اللحظات وهاتيك الأويقات.

أخي الكريم:

إن من أهداف الصوم كسرَ النفس وقمعها عن الشهوات والمعاصي. فإذا لم يزل المرء متبعاً هواه، عاكفاً على صنم نفسه وشهواته، مقيماً على معصية مولاه، فليعلم أنه لم يصم الصوم الصحيح، إنما هو في صورة الصائم لقوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه:

(كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر) رواه البزار والبيهقي.

ولله در القائل:

إذا لـم يكن فـي السمع مني  تصامم   وفي مقلتي غض وفي منطقي صَمْتُ

فحظي إذنْ من صومي الجوع والظما    وإن قلتُ إني صُمت يوماً فما صُمتُ

 فلنجتهد في مدرسة الصوم ومعسكره، مدرسة التقوى ومدرسة الصبر والنظام، ومدرسة الوحدة والوئام، ومدرسة الحب والهيام، مدرسة الفضائل والمكارم.

اللهم أعنّا وتقبل منا بجودك وكرمك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.