يا براعم الخريف اتّعظي
يا براعم الخريف اتّعظي !
عابدين رشيد احمد
نعم !
إن على كل إنسان على وجه هذه الأرض أن يهتم بقضية " قبره " الرهيب والذي ينتظره في كل لحظة ، والذي سيقضي فيه ويمكث لا عقوداً معدودةً من السنين – كما هو الحال في الحياة الدنيا – بل سيمكث فيه آلاف العقود !
فانظر واعتبر .
أجل يا أخا الإنسان !
إن على كلٍ منّا أن يهتم بها تماماً كما يهتم كل سجين بريء قابع في ظلمات سجنه وقيوده ؛ فيحاول بكل الطرق والوسائل أن يخرج منه إلى عالم الحرية والنور والسعادة ، فحياة القبر – إذا فكّر المرء قليلاً – أمر ذو بال بحق وحقيق .. وهي في غاية الضرورة ومنتهى الخطورة إذ تتوقف عليها الحياة في جحيم النيران أبداً .
ومن ثم فما أشد حاجة هذا المخلوق المكّرم المعظّم أن يدعو ربه الكريم الأرحم في اليوم مرّة واحدة في الأقل بأن يجعل قبره روضة من رياض الجنّة ولا يجعله حفرة من حفر النار .. ذلك أن مئة وأربعة وعشرين ألف خبير من أصدق وأوثق خبراء طريق الآخرة – وأعني بهم بالطبع " الأنبياء " عليهم السلام – وقد أجمعوا كلهم بلا استثناء عبر دهور الأجيال البشرية بيقين قاطع جازم ثابت : أنه ليس بعد الموت والخروج من الدنيا هذه إلاّ الجنّة والنار .
فالجنّة للمؤمنين والنار للكافرين والمشركين والمنافقين .
وأقول : نعم ثانيةً :
لقد صدق من قال : " الشباب شعبة من الجنون " وهو عهد الهوى في كل عصر ومصر ، فالإنسان في هذا العمر مخمور بسكرة الغفلة والجهل واللامبالاة ، محجوب قطعاً عن الرؤية الصحيحة الواضحة الرائقة لأسرار عالم الغيب والشهادة معاً فكأنه لا يسمع ولا يرى من حقائقهما – ولو علماً – شيئاً !
نعم لقد كنت جالساً في حديقة بيتنا الصغيرة – وهذه الأفكار تمر مرّ السحاب في جوّ خاطري – والفصل فصل الخريف ، أنضر وأتأمل في نباتاتها وأشجارها ، في أوراقها وأزهارها …
فلفتت نظري مجموعة زاحفة من البراعم الصغيرة التي تكلل رؤوس أو سيقان شجرة الورد والعنب والتين وبعض الأزهار التي لا تتفتح إلاّ في أيام الخريف الذي يغشاه الحزن السماوي والوقار الكوني وكأنّ تلك الأزهار الجميلة في موسمه ابتسامات وداعية أخيرة لمواكب كثيرة من الكائنات المهاجرة الراحلة قبل غزو جيوش الشتاء الكاسحة بأقدامها الثلجية ورياحها العاصفة القاصفة .
فما هي إلاّ لحظات حتى ألفيتُ قلمي تحتضنه أصابعي الثلاث اليمنى في عناق مثلّث جميل ليشكّل رأس جسر ممدود موصول بين قلبي وعقلي ودفتر ملاحظاتي وخواطري مسجلاً برغبة وهمّة هذه الكلمات وأحسبها من قبلي هدية ربّانية من هدايا الفصل الأنيق الرزين :
يا قارئي الكريم !
كل ابن آدم وبنته إذا طال عمرهما فسيلاقيان في مراحل حياتهما وأدوارهما ما يشبه الفصول الأربعة للطبيعة في مدار السنة . ولكل مرحلة ودور خصائصه ومميزاته ومعالمه وإماراته .
ولا شك أن أجمل وأقوى فصل من فصول حياة الإنسان هو " ربيع العمر " ؛ فتراه يحس – في هذا الفصل – بكل كيانه يخرج منطلقاً من ظلمات الجمود والهمود إلى عالم النشاط والحيوية والآمال والأحلام فتتكون " البراعم " بارزة ظاهرة من شجرة الحياة ، وتتهيّأ للأنفتاح والانعتاق بشوق عظيم وتوق حميم في بساتين الوجود . وتلك سنة الله في رحلة ا لإنسان الكبرى من تخوم العدم وظلماته ومجرداته إلى سدرة الأبدية وأنوارها ومناهجها .
فالإنسان في هذا العهد يحلم بآمال كبار كبار ومستقبل زاهر باهر ، ولا يكاد يفكر أو يتصور يوماً أن هذا العمر مرحلة من مراحل الحياة الإنسانية العظيمة فسيفنى هنا ويزول كما ظهر وبرز أول مرّة بأمر الخلاّق العليم الحكيم . ومهما يكن فسيأتي على الإنسان زمان عن قريب جداً هو الفصل الثالث من مراحل العمر وهو فصل الخريف .. وهو فصل أشد شبهاً بفصل الربيع العابر الغابر من بعض النواحي فيشعر كيانه كله برجفة الانتفاضة ونشوة الانعتاق وتجديد سحر الحياة وهو أشبه بصحوة الموت المعروفة قبيل أن يلبّي المرء نداء ربه العلي الأعلى .
ولذلك تجده يظن نفسه قوياً معافى وكأنه عاد إليه شبابه الراحل وفتوّته الفانية فربما اغترته هذه الحالة وأنسته حقيقة وضعه وأمره ، ومن ثم ما أسهل ما ينخدع بكل سهولة وبساطة بسرابه اللامع الكاذب !
فيروح يلهو ويلعب ويعبث ويرتع كالطفل الغرير والمدمن السكير فلا يعود يرى نذر الرحيل ولا يسمع أجراس الهجرة وبالتالي لا يصحو الصحوة الحقيقية إلاّ عندما يرتطم أنفه الأنوف بصخرة اللحد البارد الصلد في جوف القبر العميق : بوّابة عالم الآخرة إلى دار البقاء الأبدي السرمدي .
أجل يا صاحبي !
إن على الإنسان – وهو يمر بمرحلة خريف عمره أن يفتح عينيه واسعتين وأن ينظر بهما ملياً عميقاً إلى كل ما حواليه من شئ ليرى ماذا يجد ؟ وماذا يفهم ؟
لقد مضى أبهج وأقوى بل وأحبَّ أيامه الخوالي وهو اليوم يتخطّى عتبة عمر الكهولة أو الشيخوخة الهالكة الحالكة ؛ فلا ينبغي أن ينخدع بروائع المناظر وزخارف المظاهر فتجذبه الملاهي والمناهي وتشغله عن قدس مسؤوليته وشرف مهمته كخليفة الله في الأرض . فإن كان ولا بدَّ وكان ذا عقل واعتبار فلا أقل أن يستغل تلك الفترة القصيرة والفرصة الأخيرة للمناجاة الطويلة والسجدة الدامعة والخلوة المهتاجة المباركة في محاريب الذكر الطهور ليقوّي بها وفيها علاقته الصميمية أكثر وأكثر بربّه المعبود الأكرم وقد بدأ فعلاً يخطو إليه بخطوات سريعة واسعة والزمن من تحته يجري سيّالاً وينحدر كالشلال نحو هاوية الوادي السحيق ليحمل زورقه المتهرّئ المتآكل الأطراف نحو بحر الفناء ، وألاّ يكون مثله كمثل تلك الزهرة الغبية المغفلة التي استيقظت لتوها في مساء الخريف أو كالشمعة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة ، فتأتلق ساطعاً فجأة وتنطفئ .. فتحسب أنها جاءت مع فجر الربيع الأمين السعيد لتشارك الوجود في مهرجانه السنوي الكبير بألوانها الخلاّبة وروائحها الفوّاحة فلا تلبث أن ترى نفسها إلاّ وقد أحاط بها الشتاء القارس من كل جانب بغزاته القساة العتاة وأنوائه الساحقة الماحقه فيصيبها في مقتلها فتذبل أوراقها ويبهت سحرها وتخفق حيويتها فتتساقط من عروش الأغصان نحو الأرض متمرغة في ترابها أو تقذفها الريح إلى مكان بعيد ليذوق وبال أمرها من جرّاء جهلها وغفلتها وربما غرورها كذلك حيث لا ينفع الندم و الخيب .
حقاً وهكذا سرعان ما يجد المرء نفسه كذلك وقد قارب شفير القبر ليواريه من الدنيا بلا عودة فيها إلى الأبد وبنقله عبر أنفاقه الموحشة إلى عالم البرزخ العظيم حضوراً وامتثالاً للقيامة يوم الحساب الأكبر .
وبعد:
إيه يا براعم الخريف تذكرّي العمر هاهنا أقصر وأن المخاطر اكثر وأكثف حيث البرد والعواصف والشتاء قاب قوسين .. فكوني عاقلة فاهمة حذرة .
ويا براعم الخريف الإنساني إنتبهي ، وتقدّمي ولا تغفلي ولا تلعبي فالرحيل قريب قريب والأفول حتم حتم .
وفي ذلك الوعي والفهم فليتنافس المتنافسون وليتسابق المتسابقون لعلهم غداً ينالون الفوز العظيم والنصر الكبير عند مليك مقتدر وعندها يقال لهم :
طوبى للعاملين المؤمنين المحسنين .. فادخلوها بسلام آمنين خالدين !
( إنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ والباقياتُ الصالحات ) صدق الله العظيم .