الوردة الصفراء
د. عمر العاني
لا أنساها كلما اتصل بي " البرات " عمر أي الأخ في اللسان الروسي ، تلك البنت الخرافية القادمة من الجنائن المسحورة ، كانت تساعدنا كزبائن مفضّلين لكثرة ما نأتي مكتبها ، وهي موظفة في شركة اتصال أهلية ، لم تكن في روسيا - آنذاك - هواتف نقالة ، فكنا نأتي هذا المكتب كلما عصف بنا تسونامي الأشواق للأهل والأحبة ، وما أكثر عواصف الشوق هناك ؟؟؟
وبسبب تصرّف غير مقصود صدر من صديقي الموريتاني غضبت البنت ،لا أحسب أن مثلها يعرف الغضب ، فقسمات وجهها فضاءات من السماحة والنقاء اللا محدود.
كان كل ما حولها يعزف على وتريات الابتهاج ، نظارتها ، معطفها المعلّق ، منديلها .....!!!
لم تسعفنا لغتنا الروسية لتقديم الاعتذار ( إزفنيتي يا إز فنيايوس ) المعذرة ... أنا أعتذر
تركنا المكتب وصاحبي يسألني كيف سنعتذر للبرات عمر صديقنا ،...؟ لا يليق أن تبقى مجروحة المشاعر والبرات عمر يكون عمها
من غير تردّد رأيت صاحبي الموريتاني يتجه إلى عجوز قريبة من المكتب بائعة متجوّلة تبيع الزهور
اشترى صاحبي وردة صفراء وقدمها للبنت رايات ( هكذا هو اسمها ) ..لماذا صفراء ....؟؟
لا أدري ، ولا يدري صاحبي أيضًا ، مفاجأة مبهمة ، لا تفسير لها
أخذت البنت الوردة وملأت المكتب بالضحك حتى كاد الكرسي أن يسقط من تحتها .
خرجنا وأنا أمسك بيد صاحبي وأشدّ عليها ..أرأيت كيف فعلت الوردة الصفراء مفعول السحر في " رايات... " ؟ وتمنيت أن تكون كل ورود الدنيا صفراء تشيع البشر والبهجة .
في المساء جاء الأخ البرات عمر وهو يفسّر لنا لغز الوردة الصفراء .ساعتها علمنا أن البنت كانت تضحك من غبائنا لجهلنا بتقاليد المدينة ،فالوردة الحمراء تمثّل الحب ،والبيضاء للصداقة
والصفراء للمواساة والتعزية في المصائب
منذ تلك الحادثة ما رأينا أكثر خدمة لنا من البنت راية ( أو رايات بلهجتهم )ولم نستطع أن نكافىء ابتساماتها ... كانت تودعنا إلى نهاية المكتب
قلت لها يومًا ... أتذكرين الوردة الصفراء ...؟ قالت وهل تنسى ...؟
قلت لقد قتلنا بها فورة الغضب ، وأمتنا مرارة الألم الذي شوّش على هدوء المشاعر، جئنا - يومها - نعزيك بهذا الميت، وقدمنا الوردة الصفراء ، ولو جئت إلى موريتانيا لقدم لك صديقي ناقة صفراء عليها أحمالها
كان ذلك عام 1999م .... وفي 2007 زرت المدينة مشاركًا في مؤتمر الاستشراق
مررت على المكتب فلم أجد رايات ولا مقهى الحسناء والوحش الذي دعتنا فيه فتناولنا المروجنا ( المرطبات المثلجة ) حيث كانت حفلة توديع ... كانت تلك الساعة آخر أصيل أتجوّل فيه في المدينة النائمة على ضفاف قزوين
يا سقى الله تلك الأيام .... ومرّ آخرون .