من وحي المولد
من وحي المولد
الشيخ احمد جمال
عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام
سيدي رسول الله
صلوات ربي وسلامه عليك. ان المعاني لتزدحم عندما يكون الحديث عنك. وما ذاك
إلا لاستجماعك خلال الخير ومكارم الأخلاق , وعظيم الشمائل جمعا غير مسبوقٍ في
تاريخ البشر . فلا يدري المرء عن أي الخلال يتحدث وماذا يقدم منها وماذا يؤخر
. وكلها خلال في الذروة من المكارم وكلها تستحق الرفعة والتقديم بجدارة مميزة
. ولله در القائل:
وعلى تفنن مادحيه بوصفه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
و في الوقت نفسه تتعثر الكلمات حياءاً مما نحن فيه وما آل إليه حال الأمة في هذه الأيام مما لا يسرك ولا يرضيك.لكن من غير المقبول ان يحول ذلك دون التذكير والبيان ونحن نعلم ان ربنا تباركت أسماؤه قد قالان الذكرى تنفع المؤمنين )
وانه لمن عجائب تدبير الله عز وجل ان يطل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على الدنيا في شهر ربيع , وكأن ذلك أشارة إلى أن ربيع الإنسانية المأمول أوشك ان يجئ فيعلن نهاية العقود العجاف بكل قحطها وجدبها وظلمها وظلامها وقد أخلت الساحة للذؤابة الندية المخضلة بشآبيب الرحمة وغيث الهدى والنور الذي ستحظى به مسيرة الإنسانية في مستقبل أيامها إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها .
يقول لنا لسان الحـــــــال منه وقول الحق يعذب للسميع
فوجهي والزمان وشهر وضعي ربيع في ربيع في ربيع
ولقد نعلم أن بروز جسده الشريف صلى الله عليه وسلم إلى عالم الحس ليس هو السبب الأول والأخير فيما نعمت به البشرية وتقلبت فيه من خير بعد ذلك. لكن الولادة الحسية كانت المقدمة الأكيدة التي لا بد منها للولادة الروحية تلك التي تفتحت أولى أزهارها في غار حراء ,الغار الذي يرمز بعلوه وارتفاعه إلى علو هذا الدين ورفعته, ثم تتابعت ازاهير الخير والبركة , وتوالت تجليات الهدى والنور في مدى ثلاثة وعشرين عاما , ينزل فيها بين الحين والحين أمين الوحي جبريل عليه السلام على السيد المرتضى والرسول المجتبى بتعاليم السعادة والنجاة,نجاة البشرية إن هي أذنت لنداء السماء وانقادت للمبادئ والأحكام التي لن تعرف الأمن والطمأنينة إلا في ظلالها وأفيائها .
نزل الوحي وتحققت ولادة أخرى , وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي الأمانة ويبلغ الرسالة ولاقى من اجل ذلك ما لاقى مما لا تطيق الجبال حمله, وانه ليلفت النظر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتراجع لحظة واحدة عن حمل العبء والقيام بالواجب, ولم تثنه العقبات على كثرتها وشدتها , وصعوبة اجتيازها عن السير قدما في الطريق اللاحب الطويل, وان واحدة من تلك العقبات كافية ان تفل عزائم عصبة أولي قوة وأولي بأس شديد . فبماذا نفسر ذلك ؟ وهل قوة البشر مهما بلغت تصلح تفسيراً للصبر والثبات والتحمل وما أثمر ذلك من أنوار لم تنطفئ على الرغم من كثرة النافخين لإطفائها , ومن ثمار يانعة لم تنته ولن تنتهي حتى تنتهي دورة الفلك وتطوى الحياة عن هذه الأرض .
ومثل الذي سبق أو أعجب منه ان لا يبالي صلى الله عليه وسلم بالدنيا مقبلة كانت أو مدبرة . فلا هو سعى إليها عندما أدبرت , ولا أخذت من نفسه أدنى مأخذ عندما أقبلت منصاعة راغمة , بل بقيت حياته كما هي في صفائها وبساطتها .ولم يغره أن دانت له القبائل وانساحت جيوش المسلمين في جوانب الأرض ففتح الله على ايدي الصحب البلاد , فغنموا الغنائم وفاض المال , بل كان عليه الصلاة والسلام يقول بما يأتيه من الدنيا _وهو كثير_ هكذا وهكذا, ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر, ويمنح منحة من يريد أن يغني من يعطيه لا ان يسد رمقه , ومن الفقر ينجيه.وبعد هذا ينتقل إلى الرفيق الأعلى ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام لأهله .
ومن الأمور الرائعة – وكل لمحة في حياته رائعة تستدعي الوقوف والتأمل – تواضعه الجم الذي لم يغيره تغير الحال عندما كثر الأتباع, وقهر الأعداء, وأُكرم بالنصر والظفر وقيام دولة الإسلام وارتفاع راياتها , وإنما ازداد خشوعا وتواضعا و خضوعا , على نحو تهتز المشاعر لذكره , ويطرب ذوو المروءات لنغمه العذب الشجي .
انه الصبر المرير , والجهاد الطويل , والقناعة الآسرة من أجل إنقاذنا وإسعادنا فمن الذي يقدره حق قدره , ويعرف عظيم فضله منا نحن البشر .وعلى كل حال فسوف نتحدث عن نقطتين اثنتين تشيران إلى شئ من فضله علينا وعلى الناس :
أولاهما ان نحاول تخيل الدنيا كيف تكون لو لم يُبعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولعمر الحق ما من عاقل إلا سيوقن أن الصورة ستكون كالحة شوهاء , وأن الدينا ستكون مظلمة مدلهمة سوداء .
وثانيتهما وهي ترتبط بالأولى , أن نعمد إلى مرصد من مراصد التاريخ , نقف على قمته مستطلعين بؤر الحضارات القديمة من أقصى الأرض إلى أقصاها –ودع عنك مجاهل الأدغال وبؤر التخلف – فماذا نرى وماذا نجد. أترانا نجد إلا ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي :
والناس فوضى لا تمر بهم إلا على صنم قد هام في صنم
فالدنيا ظلم وفساد , جهل وتسلط واستعباد, وكل ما يخطر على البال من المخازي والسخف, مما يجعل أعظم الناس همة وأمضاهم عزيمة ,يصاب باليأس, ويلفه القنوط, ويعتقد في قرارة نفسه ألا سبيل إلى أدنى تغيير .
وههنا مجلى من مجالي عظمة الرسول حيث يقوم رجل واحد في هذا الجو القاتم , ليس معه أحد من أهل الأرض, داعيا إلى الله عز وجل , متحديا بحر الفساد الطامي وأمواجه المتلاطمة , فإذا بموازين القيم تنقلب وإذا الدنيا غير الدنيا, والناس غير الناس .
فصلى الله عليك وسلم يا سيد المرسلين وحبيب رب العالمين وإن الأمل بالله كبير أنَ أتباعك سيظلون على العهد , ولن يقبلوا أن تسقط الراية وفيهم نفس يتردد, وقلب يخفق, ولن تكون يا رسول الله ذكرى عابرة حظها من السنة يوم واحد, بل أنت الروح, وأنت الحياة, وأنت كل شئ . وإننا على دربك ماضون وبدينك مستمسكون ومن الله نستمد العون والحمد لله رب العالمين .