الهجرة

د. عثمان قدري مكانسي

الهجرة

د. عثمان قدري مكانسي

أسلم بعض فتيان مكة، وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة تخلفوا عنه فلم يهاجروا، وأقاموا مع قومهم، وفُتن منهم جماعة،فافتتنوا. فلما كانت غزوة بدر خرج منهم قوم مع الكفار رغبةً أو رهبة، فلما التقى المسلمون والكافرون استحقر هؤلاء عدد المسلمين واستقلّوهم وداخلهم شك في الدين الحق  فارتدّوا، وقاتلوا في صف الكفار فقُتلوا.

وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم فيُرمى به، فيصيب أحدهم، فيقتله أو يُضرَب فيُقتل، فأنزل الله تعالى.

"إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوّاً غفوراً"(1).

فأصحاب الدعوة المؤمنون بها ينشطون في الدعوة إليها، ويقربونها إلى الناس، وينافحون عنها بالطرق الصحيحة المتاحة، ولا يألون جهداً، ولا يوفّرون طاقة في نشرها والذّود عنها، ويتحملون في سبيلها الأذى والمشقة، فإذا ضاق عليهم الأمر، وخافوا على أنفسهم القتل أو السجن والتعذيب، أو الفتنة والنكوص على الدعوة وجبت عليهم الهجرة إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم، وينجون فيه من السوء ويحافظون فيه على دينهم وإلا كانوا ممن ظلم نفسه، وكلّفها مالا تطيق من احتمال المساءة والأذى، وقد قال سعيد بن جبير: إذا عُمِل بالمعاصي في أرض فاخرج منها، وتلا "ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها".

ورُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فرَّ بدينه من أرضٍ إلى أرض وإن كان شبراً استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد" عليهما صلوات الله وسلامه. أما من خاف على نفسه فترك الدعوة، أو تخلّى عنها، أو ركن إلى أعدائها ثم كان عليها ﴿فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً﴾ إلا من كان ضعيفاً لا يستطيع السفر ولا يتمكن من الهجرة، ولا يستطيع الفرار بدينه فـ "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" وعسى الله تعالى أن يعفو عنهم، ويغفر لهم.

والهجرة في سبيل الله تعالى - إن حاق الظلم بأرض - واجبة، وفيها فوائد كثيرة. قال تعالى: "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفوراً رحيماً"(2).

أولى الفوائد: أن المهاجر يأمن على نفسه فيظهرُ الحقَ، لا يخاف أن يظفر به عدوّه، ويجهرُ بالدعوة دون أن تطاله اليد الآثمة التي اعتادت وأد الحقّ، وحرصت على كتمه، ويُحزن الظالمَ حين يكشف جرائمه، ويعرّيه، ويصرح برأيه غير هيّاب ولا وجل، فهو في منعة منهم، وسلام من غوائلهم.

ثانيها: أن الله تعالى يوسع عليه في الرزق، وفي سبل العيش، ومعرفة الحياة، قال قتادة: إنها سعة من الضلالة إلى الهدى، ومن العَيْلةِ إلى الغنى. وقال مالك: السعة سعة البلاد، فسعة الأرض تؤدي إلى كثرة الرزق واتساع الصدر لهمومه وأفكاره وغير ذلك من وجوه الفرج.

قال الشاعر:

وكنت إذا خليلٌ رام قطعي    وجدتُ ورايَ منفسحاً عريضاً

وقال آخر:

لكان لي مضطرب واسع   في الأرض ذات الطول والعرض

ثالثها: أنه لا ينبغي لمسلم أن يمكث في أرض يسبُّ فيها السلف، ويُعمل فيها بغير الحق، قال تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين"(2) هذا بعد التذكرة والحجة والتنبيه إلى خطورة ما يخوضون فيه، وإصرارهم على التكذيب والإيذاء، وإمعانهم في الضلالة والسفاهة. قال تعالى: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم.."(3).

رابعها: أنّ الذين يتركون بلادهم التي ألفوها وشربوا من مائها وتنسّموا هواءها وامتزجوا في ترابها، وتعلقت قلوبهم بها، ففي كل زاوية ذكرى، وكل منعطف مأوى، وكل دقيقة لهفة وتعلّق بها.. هؤلاء الذي تركوها لله سبحانه وتعالى، وانسلخوا عن دورهم وأملاكهم وحقولهم ومتاجرهم، وأهلهم وأحبابهم ابتغاء مرضاته، هؤلاء الذين هجروا كل غال ونفيس في الدنيا ابتغاء مرضاة الله سبحانه، ثم ماتوا إنّ أجرهم لكبير، وثوابهم لخطير.. إنهم تركوا كل شيء لله سبحانه، وهو الكريم فسيعطيهم ما تقرُّ به عيونهم وترتاح له نفوسهم، فما فعلوه عظيم، يدل على عمق إيمانهم، وسمّو نفوسهم، وليكوننّ الثواب وليكوننّ الأجر عظيمين كذلك، وهل هناك أفضل من رحمة الله وغفرانه؟!!

وقد قسّم العلماء الذهاب في الأرض قسمين. الأول هرب، والثاني طلب.

أما الأول: الهرب، فينقسم إلى ستة أقسام.

أولها الهجرة، وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وما تزال باقية مفروضة إلى يوم القيامة. فَمَنْ أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام ليقوى بإخوانه ويأمن على نفسه، أما إذا لم يجد الأذى في بلده وكان باستطاعته الحفاظ على دينه والدعوة إليه وجب البقاء فيه، ليكون نبراساً ومثلاً يحتذى، وعاملاً إيجابياً لهذا الدين يقتفى.

ثانيها: الخروج من أرض البدعة التي تسلّط عليها من يدّعي الإسلام لكنه يحرّفه، ويزاول المنكرات ويدعو إليها باسم التقدّم تارة، ومسايرة ركب الحضارة الزائفة تارة أخرى. قال ابن العربي: إن المنكر إذا لم تقدر أن تغيّره فَزُلْ عنه. وقال تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم إلى قوله تعالى "وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين".

ثالثها: الخروج من أرض غلب عليها الحرام من مأكل ومشرب وحديث وشعارات برّاقة لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، ومعاملات غلب عليها طابع التغريب والتشريق، وإجهاض كل دعوة نظيفة شريفة تقيم حياة أفرادها على تقوى من الله ورضوان.. إن طلب الحلال فرض على كل مسلم، فمن رأى نفسه وأسرته يعيشون في مجتمع منحل فاسد يكاد يعصف بهم، فعليه الرحيل إلى مجتمع نظيف طيب طاهر.

رابعها: الفرار من الأذيّة في البدن، وهذا فضل من الله تعالى أرخص فيه، فإذا خشي الإنسان على نفسه فقد أذن الله تعالى له في الخروج من البلد الذي قد يسجن فيه ويعذّب، وأول ما فعله إبراهيم عليه السلام حين خاف ذلك العذاب أن انطلق إلى شمال العراق قائلاً: "إني ذاهب إلى ربي سيهدين" "إني مهاجر إلى ربي" وقال الله مخبراً عن موسى عليه السلام "فخرج منها خائفاً يترقب، قال رب نجني من القوم الظالمين".

خامسها: خوف المرض في البلاد الوَخَِمة والخروج منها إلى الأرض النّزهة. وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى ظاهرها حتى يصحوا وتتعافى أجسادهم.

وقد استُثني من ذلك الخروج من الطاعون، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيّه الكريم صلى الله عليه وسلم الذي رواه أسامة بن زيد رضي الله عنه في شرح قوله تعالى في سورة البقرة: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.." حين ذكر الوجع فقال "رجز أو عذاب عُذّب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقيّة، فيذهب المرّة، ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض فلا يقدِمنّ عليه، ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فراراً منه" أخرجه الترمذي. وهو الطاعون.

سادسها: الفرار خوف الأذيّة في المال، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد.

وأما الثاني: الطلب، فإنه ينقسم إلى قسمين: طلب دين وطلب دنيا، ويتعدد بتعدّد أنواعه إلى تسعة أقسام.

الأول: سفر العبرة والعظة، قال تعالى "أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟" وهو كثير في القرآن، ويقال: إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها، وقيل لينفذ الحق فيها.

الثاني: سفر الحج والأول وإن كان ندباً فالحج الغرض الخامس من فروض الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً.

الثالث: سفر الجهاد في سبيل الله والدفاع عن حرماته، ودعوة الناس إلى الحق، وقتال من يمنع ظهوره، وقد قال ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس، ومن ظلم الجاهلية إلى عدل الإسلام، والجهاد ذروة سنام الإسلام.

الرابع: سفر المعاش، وطلب الرزق "وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله" وقد يتعذر على المرء معاشه مع الإقامة، فيخرج في طلبه، لا يزيد عليه من تجارة وصيد وما شابه ذلك، وهو فرض عليه فلا يمد يده للناس.

الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد من المال والقوت، وهو جائز، فقد قال سبحانه "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" وهي – التجارة - نعمة من نعم الله في الحج فكيف إذا انفردت.

السادس: السفر في طلب العلم أو البحث والاستكشاف، وصاحبه ذو همة عالية، يدع الراحة وطيب الإقامة ليحصل العلم الديني والدنيوي، فينفع نفسه، وينفع المسلمين به، والأحاديث كثيرة في هذا الباب تحث المسلمين على طلبه أينما كان.

السابع: قصد البقاع، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"  لما في ذلك من الأجر والثواب.

الثامن: الالتحاق بالثغور والرباط فيها وتكثير سوادها للذب عنها، وإخافة أعداء الله. قال صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".

التاسع: زيارة الإخوان في الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاثاً على الرباط الأخوي والصلة في الله" "زار رجل أخاً له في قرية، فأرصد الله له ملكاً على مَدرجته، فقال: أين تريد؟ قال أريد أخاً لي في هذه القرية. قال: هل لك من نعمة تربّها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عزّ وجل. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" رواه مسلم وغيره.

وهكذا نجد للهجرة فوائد في الدنيا والآخرة، حين يُحِسُّ المسلم وهو مهاجر بمعيّة الله تعالى، وفضله عليه وكرمه سبحانه.

ومهما طالت الهجرة في الله فهي نعمة خصّها الله عباده الذين أحبهم وأحبوه، وأمرهم فأطاعوه، ولئن ظنّ أحدهم أن هجرته قد أضرّت به، وأساءت إليه لقد ضعف إيمانه، واستحوذ عليه شيطانه، ونحن راضون بهجرتنا

              

الهوامش:

(1)  سورة النساء – الآيات: 79 – 99

(2)  سورة النساء – الآية: 100.

(3)  سورة الأنعام – الآية 68.

(4)  سورة النجم – الآيتان: 29 – 30.