حفاة العقول .. وتبديد الخطاب الديني

حُفاة العقول.. 

وتبديد الخطاب الديني
بقلم: الدكتور جابر قميحة
[email protected]

لا خلاف في أننا نعيش حاليًا عصر الأمٍركَهٍ, أي عصر «القولبة الأمريكية» التي تغطي وجهها بقناع اسمه «العولمة» فقد زعم الأمريكان وأذنابهم أن هدفها بناء عالم جديد علي نظام يحقق العدالة والديمقراطية والرفاهية لشعوب العالم كلها. وتحقيق مثل هذا النظام يحتاج تطبيقه إلي راع قوي متابع, ولا يتمثل بالطبع, إلا في الولايات المتحدة الأمريكية.

وعمليًا اتجهت الأمركة إلي الشعوب العربية والإسلامية لتشكيلها علي «قالب الإرادة الأمريكية» سياسةً واقتصادًا وتثقيفًا, وتربية وتعليمًا.

ابحث عن الحكام

وكانت استجابة حكامنا للسياسة الجديدة أسرع مما تطمع فيه الولايات المتحدة نفسها, وأصبح همّ هؤلاء الحكام أن يتسابقوا في إصدار التصريحات التي ترضي «الأب بوش», وتدلّك عواطفه, فلا يرون إلا بعينيه, ولا يرددون إلا صوته, من ذلك إعلانهم - في إصرار - أن «خارطة الطريق» هي الخطوة المثلي لحل مشكلة فلسطين حلاً عادلاً. ومن ذلك الدعوة إلي إيقاف العنف «المتبادل» بين الإسرائيليين والفلسطينيين, وهذا يعني التسوية بين إرهاب معتد دموي فاجر, وجهاد مدافع عن عرضه وأرضه, وأهله.

ووصلت الوقاحة بأحمد الجلبي  إلي حد مطالبة الولايات المتحدة بإنشاء قواعد لها في العراق بصفة دائمة.

وبطمأنينة تحسد عليها بدأت إسرائيل تمد ذراع عدوانها الآثم إلي سوريا, وإلي رفح علي الحدود المصرية.

تجفيف المنابع

والتزامًا بمتطلبات «الأمركة» أدخل الأمريكان ومواليهم في حياتنا مصطلح «تجفيف المنابع», بإغلاق المدارس الدينية في باكستان واليمن, وخنق الأصوات الإسلامية, وتعديل المناهج التعليمية بما يتفق مع الإرادة الأمريكية, وخصوصًا المواد الشرعية, ووصلت الوقاحة بالأمريكان إلي حد مطالبة الحكومة السعودية بالتوقف عن طبع المصحف وتوزيعه.

وفي المناهج التعليمية الجديدة لم يعد هناك مكان لآيات الجهاد, ولا لمواقف النبي صلي اللّه عليه وسلم من غدر قبائل اليهود, كبني قينقاع وقريظة والنضير وخيبر, وحذف ما يمكن أن يكون فيه إثارة في نظرهم. وأكتفي بمثال واحد: في درس بعنوان «صفات المؤمن» في كتاب من كتب التربية الدينية ببلد عربي جاءت العبارة الآتية: ومن صفات المؤمن إذا أحب فلا يحب إلا للّه, وإذا أبغض فلا يبغض إلا للّه...», وفي الطبعة الجديدة من الكتاب حُذًفت الجملة الثانية, وبقيت الأولي, وغير ذلك كثير وكثير

الحفاة .... العراة...

وفتحت وسائل الإعلام المرئي, والمسموع والمقروء أبوابها - علي الواسع - لأدعياء الثقافة والتنوّر والتنوير, ليفرغوا ما في جعبتهم استجابة «للأمركة», وأغلبهم - للأسف - يتمتعون بالحفاء العقلي, والتعري أو الانسلاخ من القيم الخلقية, والولاء للعقيدة والوطن.

وباسم حرية التفكير والتعبير أعلنوا الحرب علي الثوابت الإسلامية والقيم المثالية الموروثة, وعُقدت ندوات ولقاءات ومؤتمرات تولي كبرها العلمانيون الذين أطلقوا علي أنفسهم وصف «المثقفين» أو «التنويريين» وأطلقوا علي أمثالنا وصف «الظلاميين».

وكان من  أشهر أنشطتهم الأخيرة ما أطلق عليه «إعلان باريس حول سبل تجديد الخطاب الديني» الذي تمخض عن لقاء نظمه مركز القاهرة لحقوق الإنسان, وعُقد بالعاصمة الفرنسية في 11, 21 من أغسطس الماضي, وقد تم ترتيب اللقاء بالتعاون مع الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان, والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان بدعم من الاتحاد الأوروبي.

وتحت هذا العنوان «تجديد الخطاب الديني» علت أصوات الحفاة العراة, وخططوا, وأفتوا بما يجب أن يكون عليه الإسلام في «عصر العولمة» أعني الأمركة:

1ـ فمنهم من دعا إلي إسقاط السنة من التعامل التشريعي, والتقييم النصّي, والاكتفاء بالقرآن, وقد رأيت واحدًا من هؤلاء, وهو ينفخ نفسه, ويقول في قناة مصرية رسمية «نعم.. نعم علينا أن نؤمن بالآيات, ونسقط الروايات» (يعني السنة)

2ـ ومنهم من دعا إلي التعامل مع الآيات القرآنية كنصوص تاريخية, تخضع للنقد (بلا تقديس). ولا مانع من أن يُحذف من القرآن «ما يتعارض مع المعطيات العلمية والتقنية» علي حد كذبهم.

3ـ ومنهم من يذهب إلي أن القرآن من وضع محمد, ولا علاقة له بالوحي. فهو مجموعة من النصوص البشرية, لا حرج في نقدها.

4ـ ومنهم من يطالب بتقييم أحداث السيرة النبوية بعقلانية وحرية وواقعية, وتنقيتها - علي حد افترائهم - من الخرافات والأساطير.

وهؤلاء الأدعياء الحفاة العراة الذين وضعوا أنفسهم في مكانة العلماء الأفذاذ لا يرتكزون, ولا ينطلقون من ركائز علمية صحيحة, بل لا يملكون الحد الأدني من التخصص العلمي الذي يزعمون أنهم استوفوا كل مفرداته وزيادة. إنهم في حفائهم وعريهم يذكرونني بقول الشاعر:

لقد هزلتٍ حتى بدا من هزالها  وحتى سامها كل مفلس

مثال من تجديدهم

صحيفة «القاهرة» القاهرية, وهي تصدر كل ثلاثاء عن «وزارة الثقافة المصرية الفاروقية الحُسّنية» مهما قيل إنها صحيفة مستقلة.. نشر فيها أحد المغامير - وهو يحمل اسمًا إسلاميًا - مقالاً في 5 من أغسطس نفي فيه أن يكون «الإسراء» قد تم من مكة إلي بيت المقدس, ولكن الآية: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] تشير إلي هجرة النبي صلي اللّه عليه وسلم من مكة إلي المدينة, وادعي «المغمور» بذلك أنه يطرح بذلك تحليلاً جديدًا للنص القرآن.

وبعد أسبوعين نشر المغمور مقالاً تجديديًا آخر نقدم منه المقتطفات الآتية:

>.. احتُلت فلسطين من قبل المسلمين في سنة 71 هـ (836م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وبدأ الناس في فلسطين في ذلك الوقت اعتناقهم الإسلام. تري كيف نتصور وجود مسجد في فلسطين في زمن النبي محمد (أي قبل احتلال فلسطين من قبل المسلمين) سواء سمي ذلك بالمسجد الأقصي أو خلافه?...<..

إن تغيير القبلة من القدس إلي المسجد الحرام في مكة جاء دليلاً علي أن القدس لم تعد مركز العبادة لأتباع النبي صلي اللّه عليه وسلم. ومن ثم لم تعد تستحق الاحترام من جانب المسلمين. وإذا لم يُفهم الأمر علي هذا الأساس فإن تغيير القبلة لا يحمل في طياته أي معني...>.

ويمضي المغمور في هذا الهراء فيري أن الذي بني المسجد الأقصي هو عبد الملك بن مروان ليجذب المسلمين إليه بعد أن استقل عدوه عبد اللّه بن الزبير بالسيطرة علي مكة, ومنع عبد الملك الحج (أي أنه قام بعمل يماثل ما قام به أبرهة الأشرم - صاحب الفيل - من بناء كنيسة ليحج إليها العرب بدلا من الكعبة)< لذا شرع عبد الملك بتشييد جامع كبير في القدس, الذي كان بمثابة القبلة الأولي. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر تقاليد لإعلاء شأن الأهمية الدينية لهذا الجامع, وتحويله إلي ثالث الحرمين...>.
ترى لو أن بن جوريون, أو شارون تناول هذا الموضوع.. أكان يكتب أشنع وأخس من هذا الكلام الذي أفرزه هذا المغمور الحافي العاري الذي يحمل اسمًا إسلاميًا?!!