التفكير فريضة إسلامية

المهندس مصطفى عبدان

التفكير فريضة إسلامية

بقلم : المهندس مصطفى عبدان

    رحم الله " عباس محمود العقّاد " حيث ألّف كتاباً أسماه " التفكير فريضة إسلامية " لما رأى من أهمية أهميّة للتفكير ، لأن الله سبحانه وتعالى قد خصّ الإنسان عن سائر مخلوقاته بعقله الذي هو مركز التفكير وسخّر كافة مخلوقاته له بسبب قدرته على التفكير . وصدق الله العظيم حيث يقول [ وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه . إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكّرون ] الجاثية : 13 . هذا التسخير للإنسان الذي يفكر ويتدبّر ويتأمّل ، فإذا كان لا يفكّر ما استحقّ هذا التسخير .

ولقد اعتبر ديكارت التفكيرَ دليل وجود الإنسان ، فقال مخاطباً نفسه : هل أنا موجود ؟ … أنا أفكّر ! إذن أنا موجود . وكذلك فليس " العقل السليم في الجسم السليم " فحسب كما يؤكد المثل المشهور ، بل كذلك فإن " الجسم السليم في العقل السليم " . وهذا نابليون يقول : " إنني أبدو دائماً جاهزاً للرد على كل شيء ومجابهة أي شيء ، وما ذاك إلا لأني فكّرت طويلاً قبل الإقدام على العمل ، لقد توّقعت كل ما يمكن أن يقع وليست العبقرية هي التي تكشف لي فجأة وبصورة سريعة ما علي أن أقوله أو أفعله في ظرف لا يتوقّعه الآخرون . إذن فمن يقوم بكل هذا ؟ إنه تفكيري ، إنه التأمّل " .

    ورد في الأثر أن بعضهم قال : " تفَكُّر ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة " . ويقول الحسن البصري : " تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة " . ويقول عمر بن عبد العزيز : " الكلام بذكر الله عز وجل حسن ، والفكرة في نِعَم الله أفضل العبادة " . حتى قيل : " الفكر … هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها … وإنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له " ، مفتاح السعادة لابن قيم الجوزية .

 فالتفكّر هو مفتاح كل خير لأنّه مقدمة لجميع النشاطات ، ولقد حثّ الله تعالى على التفكير ( التعقّل ) وأمر به ، فقال عزّ وجلّ : [ وليذّكّر أولو الألباب ] آل عمران : 191 . وقال تعالى [ والله أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها ، إن في ذلك لآية لقوم يسمعون . وإن لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ] النحل : 65-66 . وقال تعالى [ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض سطحت ] ؟؟! الغاشية : 17-26 .

    وتارة ينقلب الخطاب عنيفاً مقروناً في بعض الأحيان بالتهديد والوعيد لمن لا يفكر ، وهذه هي الآيات الموجّهة لذوي القلوب القاسية الكافرة ، حيث يقول الله تعالى في كتابه : [ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ؟ إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآيةً لكلّ عبدٍ منيب  ] سبأ : 9.

    وفي المقابل يأتي الحض على التفكير في صورة الثناء الودود على أولي الألباب : [ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، لآياتٍ لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله … ] آل عمران : 190 .

    ولقد حض القرآن الكريم  الإنسان على التفكير في نفسه : [ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ، ثم خلقنا النطفة علقة ؛ فخلقنا العلقة مضغة ؛ فخلقنا المضغة عظاماً ؛ فكسونا العظام لحماً ؛ ثم أنشأناه خلقاً آخر ؛ فتبارك الله أحسن الخالقين ] المؤمنون : 12- 14 .

    وعندما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ؛ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ؛ وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ؛ وبث فيها من كل دابّة ؛ وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء والأرض ؛ لآياتٍ لقومٍ يعقلون ] البقرة : 164 ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ويل لمن قرأها ولم يتدبّرها " .

    وشدّد القرآن الكريم النكير على عدم التفكير ، بقوله تعالى : [ أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ] الرعد : 12 . وكذلك بقوله تعالى : [ لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعيُنٌ لا يُبصِرون بها ، و لهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل . أولئك هم الغافلون ] البقرة : 269 . أي أن عدم التفكير والامتناع عن استعمال وسائل الإحساس يلحق الإنسان بالحيوانات ، بل يصبح أضل منها ، لأن الحيوانات لم تُمنح نعمة التفكير البشري ، وعندما نفكر نصل إلى نتائج صحيحة ، ولا يخفى ما لتلك النتائج من تأثير على مسيرة الإنسان وعلاقته مع الله تعالى ومع الإنسان والكون والحياة .

ولنضرب على ذلك مثلاً فهذا إبراهيم عليه السلام حين خلا بنفسه ، وأطلق العنان لتفكيره ، وأخذ يتأمّل هذا الكون اهتدى إلى الله [ وكذلك نُرِي إبراهيمَ ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين . فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً ، قال : هذا ربّي ، فلما أفل ، قال : لا أحب الآفلين ، فلما رأى القمر بازغاً ، قال : هذا ربي ، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي  لأكونن من القوم الضالّين ، فلما رأى الشمس بازغة ، قال : هذا ربي هذا أكبر ، فلما أفلت ، قال : يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ] الأنعام : 75-79 .

على أن أهم ما يرفع التفكر أن الله تعالى قد أقسم بذاته العظيمة ببعض مخلوقاته ، فهذه أكبر دعوة إلى النظر فيها وسبر أغوارها والتدبّر في مكوناتها ، فالله يقسم بالضحى وبالفجر … والنبي محمد صلى الله عليه وسلم قد تناول تفسير الآيات التي تحتاج إلى بيان في العقيدة أو العبادة أو المعاملة أو السلوك ، وما كان في إطار غير ذلك تركه النبي صلى الله عليه وسلم لعلماء المسلمين حتى لا يتعطّل التفكير .

فحرية الإنسان في التفكير حريّة مطلقة إلا في الذات الإلهية ، لأن التفكير في الله جنون لا يستقيم مع المنهج السليم . وكيف يفكر المحدود في غير المحدود ؟ والفاني في الباقي ؟ والعاجز في القوي ؟ والميت في الحي ؟ والمخلوق في الخالق ؟ فعن ابن عباس رضي الله عنه يقول : " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله ، وكل ما ورد في بالك فالله بخلاف ذلك " .

الأسس في عملية التفكير .

    هناك نظريات عدة ، أهمها – التفكير عند الفلاسفة – التفكير في الماركسية – التفكير في الإسلام . وسنأخذ التفكير في الإسلام .

    إذا رجعنا ونحن مسلمون إلى القرآن الكريم استطعنا أن نستلهم منه تعريف التفكير ونتوصل إلى كيفية حصوله بالتدبّر في قوله تعالى : [ وعلّم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : أنبؤوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا : سبحانك ، لا علم لنا  إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم . قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم … ] البقرة : 30-32 . فآدم عليه السلام – وهو الإنسان الأول – قد عرض الله عليه الأشياء وعلمه أسماءها ، ثم عرض تلك الأسماء والمسميات على الملائكة فلم يستطيعوا فهمها مع أن واقع تلك المسميات كانت معروفة أمام آدم عليه السلام ، وأحسوا بها كما أحس بها آدم ، ولكن لم يستطيعوا فهمها وإصدار الحكم عليها ، لعدم وجود سابق معرفة بها ، في حين أن آدم عليه السلام استطاع أن ينبئهم بأسماء تلك المسميات لوجود سابق معرفة لديه من قبل الله تعالى ، لذلك قالت الملائكة : [ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ] .

    لذلك لا بد لعملية التفكير حين تقوم بشكل صحيح من وجود أربعة أشياء :

1. الدماغ  2. الواقع محسوس 3. الحواس سليمة  4. المعلومات أ والمعرفة الأولية السابقة .

فالتفكير كما يقول محمد تقي الدين في كتابه ( التفكير )  : " هو نقل الحس بالواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس ، ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها هذا الواقع . فضرورة وجود الواقع والإنسان العاقل من المسلّمات بها عند الناس جميعاً حتى يحصل التفكير . والذي ينقل الواقع إلى الدماغ هو الإحساس وليس الانعكاس ، حيث إن الإنسان يرى صفات الأشياء ، ويحس بها ، ويسمع بواسطة السمع والبصر واللمس والذوق والشم ، فيعرف صفاتها وحالاتها ، فتنقل تلك الاحساسات كلها إلى الدماغ بواسطة أجهزتها المعلومة . وهناك يحصل الربط بين ما هو موجود الآن وما سبق معرفته من قبل الدماغ فيصدر الحكم على الشيء فتكون عملية التفكير ، وبغير معلومات سابقة لا يمكن أن يحصل التفكير " بشكل صحيح " ، لأن الإنسان إذا عرض أمامه ثلاث قطع مختلفة من النحاس والحديد والحجر ، وأحس بها حسب الطريقة المعروفة بكل ما تحمل كلمة الإحساس من معان ، ثم عرضت عليه تلك القطع ثانية وثالثة ، فهو إن لم يكن قد عرف عنها شيئاً مسبقاً فلن يعرف عنها شيئاً الآن . لأن الذي حصل منه هو تكرار الإحساس وتكرار أن تلك القطع مختلفة ، ولكن ما هي ، وما تكوين كل واحدة من تلك القطع ، والتوصل إلى الحكم بأن إحداها حجر والأخرى حديد والأخرى نحاس ، فذلك ما يحتاج إلى معرفة سابقة بأسماء تلك القطع والأشياء أو معلومات عن تلك الأشكال المختلفة أو تلك المتباينة بواسطتها ليحكم على كل واحدة منها ما هي وإلى أي مادة أو عنصر تنتمي ؟ إذن لا بد من معلومة مسبقة . كيف نحصل عليها ؟

    وإذا رجعنا إلى أول آية نزلت على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وجدناها [ اقرأ … ] أي طلب المعلومة ، طلب المعرفة ، طلب العلم ، وهي نتيجة القراءة لتكون اللبنة الرابعة في عملية التفكير لأن اللبنات الثلاث موجودة لدى الإنسان منذ ولادته وهو طبعاً الإنسان السليم وهي لا تحتاج إلى بذل جهدٍ للحصول عليها ولكن طلب المعرفة يحتاج إلى قراءة ، وطلب للعلم ، ولهذا حَضّ ورغّب الإسلام في طلب العلم ، حيث يقول الله تعالى في كتابه [ شهد الله أنه لا إله إلا هو ، والملائكة ، وألوا العلم ، قائماً بالقسط  ] آل عمران : 18 . فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه ، وثنّى بالملائكة وثلّث بأهل العلم ، ويقول تعالى [ يرفع الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات  ]المجادلة : 11 . وهناك آيات كثيرة تحضّ على طلب العلم . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " العلماء ورثة الأنبياء " رواه أبو داود والترمذي .

    ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوّة ، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تحضّ على طلب العلم .

    ولنأخذ مثلاً على " أهميّة القراءة " ان موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي السابق ، قال يوماً لقومه من اليهود وقد لاموه على بعض تصريحات تكشف عن أطماعهم وتطلّعاتهم ، وقد خشوا أن يقرأها العرب ويكتشفوا خططهم قال لهم : اطمئنّوا فإن العرب لا يقرؤون . والعجب من أمة أول آية نزلت في كتابها كانت [ اقرأ ] لا تحسن أن تقرأ ، وإذا قرأت لا تحسن أن تفهم ، وإذا فهمت لا تحسن أن تعمل ، وإذا عملت لا تحسن أن تستمر !! ولو قرأ العرب والحكام خاصّة ، ما قاله موشي ديان لفكروا ، وأخذوا الحيطة ، وأعدوا العدة لمجابهة الخطر الإسرائيلي ، ولما كانت كارثة 1967م بهذا الشكل وبهذه النتيجة .

    إن الله تعالى يشاء أن يجعل معجزة الإسلام معجزة عقلية أدبية ، ولم يجعلها معجزة حسيّة كما كان في رسالات سبقت ، وذلك إعلاءاً لشأن العقل في هذا الدين ، وهذا الكتاب .

    ونعود إلى القراءة وأهميتها حيث نشرت جريدة الرأي الأردنية في 28/8/2000 نقلاً عن وكالة قدس برس تحت عنوان : ( تمرين الدماغ بالنشاطات الفكرية يرفع مستوى الذكاء ) نقطف منه ما يلي ، " أكّد الباحثون في تقرير نشرته صحيفة ( ذى تايمز أوف إنديا ) أن تمرين الدماغ بالنشاطات الفكرية والعقلانية يرفع نسبة ذكاء الشخص وتوقّد ذهنه … حيث تعمل بعض أجزاء الدماغ على إنتاج خلايا جديدة باستمرار ، وخاصة تلك المسؤولة عن معالجة الذكريات … وأكّد الخبراء أن تمرين العقل والذهن بالقراءة المتكرّرة وحل الكلمات المتقاطعة أو لعب الشطرنج والتسجيل في دورات علميّة وفكريّة يزيد حِدّة الذكاء وتوقّد الذهن … ".

    أخي القارئ هل عرفت لماذا نزلت أول آية [ اقرأ ] ؟ لقد حضّ الإسلام على القراءة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً .

    وفي الختام أنقل عن شيخنا محمد الغزالي رحمه الله تعالى حيث يقول " أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكّر وإن ضلّ ، لأنه سيعود إلى الحق . ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يفكّر وإن اهتدى لأنّه سيكون كالقشّة في مهبّ الريح " .

    ونعود إلى ( المعلومة المسبقة ) وهي اللبنة الرابعة لعملية التفكير . ولكي تكون عملية التفكير صحيحة يجب  أن تكون هذه المعلومة المسبقة تخص الشيء الذي أفكر فيه ، فالطبيب يجب أن تكون المعلومة المسبقة لديه هي عن الطب ، والمعلومات التي يستوعبها في دراسته ما هي إلا معلومات مسبقة لكي تصبح لديه القدرة الصحيحة على عملية التفكير عندما تأتيه حالة مرضيّة ، والسياسي الذي يتخذ قراراً سياسياً يجب أن تكون لديه المعلومات المسبقة في علم السياسة وكل ما له صلة في الحالة التي يفكر بها … أما الذي يفكر في شيء وليست لديه معلومة مسبقة عنه فحتماً يأتي تفكيره غير صحيح .

    وفي الختام لا يجوز لأي إنسان أن لا يفكّر ، إلا الذين ذكرهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " رُفِع القلم عن ثلاثة ، عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبُر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق " رواه أحمد .