حسن الخلق

د. عثمان قدري مكانسي

د. عثمان قدري مكانسي

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إن الله تعالى اختار لكم الإسلام ديناً، فأكرموه بحسن الخلق والسخاء فإنه لا يكْمُلُ إلا بهما".

وقال الأحنف بن قيس: ألا أخبركم بأدوأِ الداء؟ قالوا بلى قال: الخلق الدنيّ، واللسان البذيّ.

وقال بعض الحكماء: من ساء خلقه ضاق رزقه.

وقال بعض البلغاء: الحسَنُ الخلُق من نفسه في راحة، والناسُ منه في سلامة. والسيء الخلق الناس منه في بلاء، وهو من نفسه في عَناء.

فإن حسنت أخلاق الإنسان كثر مصافوه، وقلّ معادوه. فسهلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغضاب. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" وقال كذلك: "أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً(1) الذي يَألفون ويُؤلفون.

وصاحب الخلق الحسن سهل العريكة، لين الجانب، طلق الوجه، قليل النفور، طيب الكلمة. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأوصاف فقال: "أهل الجنّة كل هينٍ لينٍ سهلٍ طلق".

فكلما كان المسلم متخلقاً بما ذكرنا آنفاً كان قريباً إلى الكمال، ولكون الإنسان خلق من ضعف فقد يبدر منه ضعف يدل على إنسانيته.

قال الشاعر معللاً ذلك متلطفاً:

أصفو وأكدر أحياناً لمختبري       وليس مستحسناً صفو بلا كدر

 وليس يريد بالكدر البِذاءَ وشراسة الخلق، فإن ذلك ذم لا يستحسن، وعيب لا يرتضى، وإنما يريد الكف والانقباض في بعض المواقف التي يبدو الوفاق فيه والرضا بما يجرى ملقاً ونفاقاً، والملق ذلُّ. والنفاق لؤم، وليس لمن وُسم بهما ودٌّ مبرور ولا أثر مشكور، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" "شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه".

وقال كذلك "لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون وجيهاً عند الله تعالى".

ويقول الشاعر رافضاً النفاق:

خـلّ النـفاق  وأهـله     وعليك فالتمس الطريقا

وارغب بنفسك أن تُرى     ألا عـدوّاً أو صـديقاً

وربما تغيّر حسن الخلق إلى سوئه وبذائه لأسباب عارضة، وأمور طارئة تجعل اللين خشونة، واللطف غلظة، والطلاقة عبوساً، والابتسام تقطيباً.

فمن أسباب ذلك:

أولاً: المناصب والمسؤولية التي تحدث فيمن يتسنمها في أخلاقه تغيراً وعلى خلطائه وأصحابه تنكراً، إما مِنْ لؤم طبع، وإما من ضيق صدر، وقد قيل: مَنْ تاه في ولايته ذلَّ في عزله.

وقيل: ذُلُّ العزل يُضحك من تيه الولاية.

ثانياً: العزل وفقدان الرئاسة الذي يورث سوء الخلق وشدة الأسف على ما فُقد - وحكي أن عمار بن ياسر حين عُزل عن ولايته اشتد ذلك عليه وقال: إنني وجدتها حلوة الرَّضاع، مرّة الفطام.

ثالثاً: الغنى: فقد تتغير به أخلاق اللئيم بَطراً، وتسوء طرائقه أشراً. وقد قيل: من نال استطال، وأنشد أحدهم في فضح غني مستكبر:

لئن تـكن الدنيا أنالتك  ثروة     فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر

لقد كشف الإثراء منك خلائقاً     من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر

ومن أفسده الغنى أصلحه الفقر. فقد كتب قتيبة بن مسلم إلى الحجاج يشكو تطاول بعض الناس عليه فكتب إليه الحجاج أن اقطع عنهم الأرزاق، ففعل، فساءت حالهم فاجتمعوا إليه فقالوا: أقلنا (ارفع عثرتنا) وأظهروا أسفهم، فاستأذن الحجاج في إعادة ما قطعه عليهم، فكتب إليه: إن كنت آنست منهم رشداً فأجرِ عليهم ما كنت تجري، وأعلم أن الفقر جند الله الأكبر، يذل به كل جبار عنيد.

وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الله تعالى أذل ابن آدم بثلاث ما طأطأ رأسه لشيء، الفقر والمرض والموت".

رابعاً: الفقر فقد يسوء به الخلق إما أنفاً من ذل أو أسفاً على فائت الغنى. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "كاد الفقر أن يكون كفراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر".

وربما تسلّى عن الفقر بالأماني، وقلّ صدقها، ولكن يعتاض بها سلوةً من هم أو مسرة برجاء، قال أبو العتاهية:

حرّك مناك إذا اغتممت فإنهن مَراوح

فقال آخر: إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً       إن المنى رأسُ أموال المفاليس

خامساً: الهموم التي تذهل اللب، وتشغل القلب فلا تقوى على احتمال، ولا تتحمل الصبر. وقد قيل: الهمُّ كالسُّم.

وقال بعض الأدباء: الحزن كالداء المخزون في فؤاد المحزون.

ورحم الله قائل هذه الأبيات فقد أصاب الصحيح:

همومك بالعيش مـقرونة    فما تقطع العيش إلا بهمّ

إذا تـم أمـر بدا نقصه    ترقّب زوالاً إذا  قيل تمّ

إذا كنت في نعمة فَارْعَها    فإن المعاصي تُزيل النعم

وحـام عليها بشكر الإله    فـإن الإله سريـع النقم

حـلاوة دنـياك مسمومة    فـما تأكل الشهد إلا بسمّ

فـكم قدرٍ دبّ فـي مهلة    فما يعلمُ الناسُ حتى هجمْ

سادساً: الأمراض التي يتغير بها الطبع، كما يتغير بها الجسم، فلا تبقى الأخلاق على اعتدال، ولا يقدر معها على احتمال.. قال المتنبي:

آلةُ العيش صحة وشباب    فـإذا ولّيا عن المرء ولى

أبداً تسترد ما تهب الدنيا    فـيا ليت جودها كان بخلا

وهذا النبي أيوب عليه السلام جأر إلى الله تعالى بالدعاء، يسأله الشفاء من الداء (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين).

فالأمراض ضرُّ يجعل الإنسان في تعب ومشقة (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) وطال عليه المرض فصبر لكن زوجته وسوس إليها الشيطان أن لا تصبري فأقسم أيوب أن يضربها مئة سوط إن شفاه الله.

سابعاً: علوّ السن وحياة الهرم الذي تصاحبه مورثاته فيمل الحياة ويسأمها وتسوء أخلاقه لضعف جسده عن احتمال ما كان يطيقه من أثقال. ويشعر بالإحباط وقلة الحيلة.. قال منصور النمريّ:

ما كنت أوفـي شـبابي كُـنْهَ عـزتـه    حـتى مـضى فـإذا الـدنيا له تـبع

مـا كـان أقـصرَ أيـامَ الشباب ومـا     أبـقى حـلاوة  ذكـراه الـتي تـدع

ما واجه الشيب مـن عين وإن رمقـت    إلا لـهـا نـبـوة  عـنه ومـرتـدع

قد كدت تقضي على موت الشباب أسىً     لـولا يـعـزيـك أن الـعمر  منقطع

وقال أحدهم:

ليتَ وهل تنفع شيئاً ليتُ       ليت شباباً بـيعَ فاشتريت

فهذه الأسباب السبعة أحدثت سوء خلق كان عاماً.

لكن البُغضَ الذي تنفر منه النفس الطيبة يحدث نفوراً خاصاً يظل ملتصقاً بالمبغض فيورثه سوء خلق حتى ينجلي البغض وترتاح النفس أو ينقلب البغض حباً وتنبسط الأسارير ويحسن الخلق.

(1) ـ الموطؤون أكفافاً: المذللون جوانب، المتواضعون مقاماً.