هوايا الأرقا

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

بين الألم والفرح تدور عجلة الزمان، فأبحث في هذا الصباح البارد عن الفرح بالسير تحت الرذاذ، فقد بدأ موسم الأمطار يحمل في ثناياه خير كثيرا، واغتسلت رام الله بالمطر كما الوطن، فتطهر جسدها وروحها بكمية جيدة من الأمطار، أزالت بعض مما تراكم عليها في الصيف الطويل الذي سبقه موسم جفاف عانينا فيه من شحة الماء، وعكس نفسه على غلال الزيت والزيتون، فجاء الزيت شحيحاً في معظم المناطق.

ليلة الأمس حين توقف رذاذ المطر خرجت من صومعتي للسير في دروب رام الله، كان الهواء باردا، لكني كنت اشعر بالدفء يلفني، كان البرق يسطع بالغرب باتجاه ساحلنا السليب، دلالة على أمطار قوية، فتوقعت أن يصل المطر في الليل لرام الله ولكنه لم يصل إلا رذاذاً، فسرت بقوة وهمة عالية، متمتعا بالنسمات الباردة وجمال المدينة وهدوئها، وبعد تجوال سريع لعدة كيلومترات آويت لصومعتي وحيدا إلا من رفقة الحب والذاكرة، فالخريف يجدد الحب ويجدد الروح، فأشعر بأوراق تسقط مني كأوراق الشجر، استعدادا لولادة جديدة.

   الأيام الماضية كنت أمر بمرحلة هدوء وانطواء، فلم أكن أخرج سوى للسير في شوارع المدينة في الصباح الباكر وفي الأمسيات، ولم احضر سوى فيلم سينمائي واحد في المركز الثقافي الألماني الفرنسي، شعرت به فيلما موجها يهدف فقط لإبراز أن شعبنا ليست لديه أية مشكلة بالتعايش مع المحتل ومستوطنيه، وسيكون لي حديث بمقال خاص عن هذا الفيلم، وقد بدأت أشعر أن هناك دورا خفيا يمارسه المركز المذكور بعد أن زاد عدد رواده وزواره، وقد استفزني هذا الفيلم حتى أني قدمت مداخلة طويلة لتبيان أهداف الفيلم السيئة، رغم أني قلة من الأوقات التي أشارك بها في مثل هذه الحوارات، لأخرج من هناك مع الصديق حسان البلعاوي الذي استُفز مثلي في لقائنا الأول بعد معرفة طويلة من خلال كتاباتي واطلاعه عليها، لنجلس حتى منتصف الليل بحديث ذو شجون كانت القدس وذاكرة القدس التي عشتها، واحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية تأخذ الحيز الأكبر من الحوار، وسرقنا الوقت حتى اكتشفنا انه لم يبقى غيرنا في مقهى زرياب الجميل، فاعتذرنا للعاملين الذين بقوا بانتظارنا ولم يظهروا تأففا ولا ضيقا من تأخرنا.

وها أنا أعود لأواصل ما انقطع من الذاكرة في الأحاديث السابقة، وتمسك ذاكرتي بيدي وتعيدني لأوائل سبعينات القرن الماضي إلى الشام مرة أخرى، فقد عشقت المدينة بطريقة غريبة، وقد كتبت عن ذلك في مقال صباحكم أجمل شام يا ذا السيف، في الثلاثين من الشهر السابع لهذا العام، وفي دمشق كنت أصحو مبكرا وأجول في شوارعها، أتمتع بالسير لمسافات طويلة، كنت اتجه نحو حي من أحيائها وابدأ التجوال فيه حتى أحاول أن اعرفه كله، وفي العصارى أعود إلى وسط المدينة، احتسي القهوة أو الشاي بالنعناع على مقهى الفاروق الذي ذهب به الزمان، وأدلل نفسي أحيانا بنفسٍ من التمباك من تحت يد أبو سليم الفلسطيني الذي كان يقطن مخيم اليرموك، فعلى روحه الرحمة إن كان ميتا أو ما زال على قيد الحياة، وإن كنت أشك بذلك فقد كان في الخمسينات من العمر وأنا بأوائل العشرينات، وكان يحلو لي الجلوس معه حين لا يكن ضغط بالعمل عليه، فيحدثني عن ذاكرته وفلسطين وذاكرة اللجوء، ويحلم باليوم الذي يعود به إلى بلدته في شمال فلسطين، وإن كنت نسيت مع الزمن أي بلدة ينتسب إليها بالجذور، فأشعر بالدمعات تتدفق إلى عينيه وهو يحدثني، فما أن يجلس معي إلا وقلت له مقطع من أغنية: أهلا بالشيخ يحدثنا، فيجيب كما الأغنية: سأحدثكم، ونضحك معا.

كانت دمشق جميلة وبسيطة، كانت مساحات الأخضر تحيطها، وبعد ما يزيد عن ثلاثين عاما لم أراها، اسمع من أصدقاء لي هناك أن هذه المساحات الخضراء قد التهمها البنيان وغابات الاسمنت، وأن معظم ما في ذاكرتي قد عفا عليه الزمان، وأني بحاجة إلى ترتيب زيارة جديدة لبناء ذاكرة أخرى تقارن بين ما كان وما مضى.

كان يعجبني التجوال بحي الساروجة القديم واشعر فيه بعبق التاريخ، والذي يحمل اسمه من أسطورة تروى، ومع الزمن وجدت نفس الأسطورة سببا لتسمية بلدة طاروجة في محافظة نابلس وتسمية الفالوجة في فلسطين والعراق، وربما تكون سببا للتسمية في مناطق أخرى من أنحاء الوطن العربي الكبير، أما في الأمسيات فكان يحلو لي الجلوس دوما في قاصيون المرتفع والجميل، احتسي القهوة والشاي مع كتاب اقرأه مع النسمات العليلة، أو أحضر فيلما سينمائيا وخاصة في سينما الكندي التي كانت متميزة بأفلامها، أو أحضر مسرحية بأحد المسارح المنتشرة في المدينة، وقد أتيح لي بتلك الفترة أن أزور حلب وحمص وأجول بهما، كما أتيح لي أن ازور الزبداني وسرغايا والفيجة وعين الخضراء وهي من أجمل مصايف سوريا، ولكنها زيارات قصيرة لم تترك في الذاكرة إلا بعض من الملامح.

وذات صباح خرجت من البيت لأجد دمشق ترتدي حلتها العسكرية، فعلمت أن حرب تشرين قد بدأت، وكنت حاضرا على ملحمة مشرفة من القتال الشرس، وشاهدت بعيناي الطائرات الإسرائيلية وهي تتساقط أمام منظومة الصواريخ الدفاعية المضادة للطيران، فشعرت بالكرامة تعود للروح وذاكرة خروجنا مطرودين من وطننا ومن رام الله في حرب حزيران في الذاكرة، وفي تلك الفترة فقدت رفيقين في غارة على حي أبو رمانة، أوصلاني بالسيارة إلى منطقة المعرض واتجها هناك، فحصلت الغارة الإسرائيلية وارتقت أرواحهما شهداء للعلا، بعد أن تسللت الطائرات المغيرة من فوق بردى على ارتفاع منخفض ونفذت فعلتها، وشاهدت غارة فاشلة أخرى على موقع بطريق السويداء وكنت مع أصدقاء بسيارة نمر من هناك، فقفزنا إلى جنبات الشارع على الأرض حتى نهاية الغارة، وفرت الطائرات المغيرة بعد أن واجهت مقاومة عنيفة فلم تتمكن من أهدافها، ونجونا جميعا رغم أني كنت اشعر مع القذائف المتساقطة بأني ارتفع للسماء وأرتطم بالأرض، وبقيت بدمشق في تلك الفترة ورفضت أن أعود لعمّان، حتى توقفت الحرب وقررت الذهاب إلى بغداد للدراسة الجامعية، حيث كان اللقاء بحاضرة مميزة من حواضر العرب، سيكون لها أحاديث في مرات قادمة.

صباح آخر لرام الله، صباح أجمل يا طيفي البعيد القريب، صباح أجمل يا حروفي الخمسة، التي لا يمكن أن تفارقني وستبقى منقوشة في ثنايا الروح وتلافيف الذاكرة، صباح أجمل مع أمطار الخير والجمال وجولة الصباح السريعة في دروب المدينة، أتأمل بها رام الله والياسمين المتعربش على الحيطان وأقطف كالعادة وردتين منها، لي ولطيفي، فأضعها أمامي في صومعتي بيت الياسمين لأبدأ نهارا جديدا وحلما بصباح أجمل مع شدو فيروز: " أحب دمشق  هوايا الأرقا، أحب جوار بلادي، ثرى من صبا و وداد، رعته العيون جميلة و قامة كحيلة، دمشق بغُوطتك الوادعة حنين إلى الحب لا ينتهي، كأنك حلمي الذي أشتهي،   هوى ملئ قصتك الدامعة، تمايل سكرى به دمشق كشمس الضحى الطالعة، هنا و البطولات لا تنضب، تطلع شعب حبيب العلى إلى المجد بالمشتهى، كلل دمشق و أنت الثرى الطيب، غضبت و ما أجمل، فكنت السلام إذا يغضب".

صباحكم أجمل.