عمر الزمن... عكا...
صالح أحمد
وعلى إيقاع نبض الموج أعثر على عواطفي... وعواطفي تعثر على تاريخ إنسانها، تلملمه وقد تبعثر في جسوم كثيرة، وحقب، وأيامٍ وخطوات... وتدابير اقشعر منها الحجر، وتراجع الموج خجلا...
عكا... ما الذي ينهض بي الآن... أعمري؟ أتاريخي؟ أم تراه حصارِيَ الذي أصبح جزءً من وجودي؟! بل جزءً من بري وبحري وفضائي ولغتي وملامحي وتناسق أعضائي... !! أم تراه قلبي الذي يصحو ليرفض ما بات يراه عليه العالم، وما يرى منه العالم هو أنه أدمن الحزن حتى بات كل العالم يظن أن من واجبه أن يمن على قلبي بما يحتاجه من وجبة الحزن اليومية...!
عكا... قد كنت هناك... في موجك كنت؛ ولا عمر للموج.. في أحجارك كنت؛ ولا عمر للصخر المعتق تحت ضربات القدر... في تاريخك كنت؛ لم أنكره، ولا ينكرني... فللتاريخ جاذبية؛ كما للقلوب ذاكرة؛ وكما للأحاسيس الحرة انتفاض..
عكا... لا أرى صورتي في العتم، لا أبصر لي ملامح في هذا الدخان، لا أجد لي في هذا الغبار المستبد من أثر... وحده الموج يحفظ بعض ملامحي؛ كل مواجعي؛ وجزءً من شكاياتي... وحده الموج ينتظر احتضاني كقلب شاقه احتضان الأحبة عائدين وبعد رحيل... وحدها الزرقة تحفظ سر إدمانِيَ الصّبر... وأنا أغرق، وتنهض من ملامحي إرادة... وللإرادة يد... ولليد روح.. وللروح جاذبية ستجمع كل أعضائي المبعثرة لتعلمها القضية...
عكا... لا شيء يتشابه في هذا الوجود كما يتشابه الغزاة... فالغزاة صورة أرضيتها الخراب... ولغتها القهر، وألوانها السواد، وعمرها الصرخة... الغزاة يتشابهون لأنهم جهنم يستهدف قلبا، أرضا، فكرا، بيتا، روحا، وطنا، صوتا... الغزاة يتشابهان، هدفا، فكرا، أصلا، فعلا... الغزاة يتشابهون بما يتركون؛ قلبا محطما، وبيتا مهدما، وحزنا مخيما، وذاكرة ملأى بما لا تحب.. الغزاة هم الغزاة... فلا تنامي يا عكاي... ولا تخافي الموج أبدا؛ وأنك قادرة..
عكا... كنت هناك... فكرة لم تغادرني ولم أفارقها... عشنا كأنّنا واحد، وافترقنا كأنّنا كل شيء... كأنّنا الحياة...
عكاي... كنت هنا دهرا... وأعرف أين أقف الآن... أعرف أنني وموجك... حوصرنا، وهوجمنا، وقوتلنا... حتى ضاع صوتك... والصدى ماعاد يأتيني كما لم يعد يأتيك مني... أعرف كل هذا ... وأعرف أننا عدنا نقاوم ، واقتلعنا كل الملامح التي لا تنتمي لظلال أسوارك، أو لبياض أمواجك...
عكا... كنت هناك... حتى ألف الدهر وجودي هناك؛ بقلبك، في أمواجك، فيك.. عايشت نبضك، كما عايشت عمر الزمن النابض فيك، كما عايشت ملامح التاريخ تنحدر من على جدرانك... بل تنغرز فيك..
وكنت هناك... حين جاءت كف ممسوخة الإرادة والتاريخ والوجود .. تهاجم بيتا في أحضانك... كان قبل أن يولد الجسد، وقبل أن تصطنع له يد وحياة وحكاية وإرادة... تظن أن بهدمها التاريخ يصير لها كيان... أو أثر..
عكا... سأظل هنا... وهنا هناك... وهنا أنت... وهناك أنا... وما أنت إلا يدي... تمتد تستجمع نبضي وحسي ، كياني وروحي... وما أنت إلا صوتي يهز بقاياي فيّ : صبرت، قدرت، هجرت، رجعت، انتصرت، قدرت، عفوت، خسرت، صبرت، انتصبت، تحاملت على أوجاع ذاتي، انتفضت، انقلبت على صفحتي العارية... وهأنذا احتلّ لي زاوية... قريبا من الحلم.... قريبا من العلم... بعيدا بعيدا عن الهاوية... فإذا اقترب مني الألم سأحرص أن تكون كلمتي هي الفاصلة...