الطيبة ورفقة وطن ومطر

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

صباحك أجمل يا وطن.. صباحك أجمل يا رام الله.. صباح أجمل وأنا أسير مع رفقة رذاذ المطر الخريفي المتساقط منذ ليلة الأمس، مع الضباب الجميل الذي انتشر في الطرقات في الصباح الباكر، فلعل الله يمن علينا بموسم أمطار خير، فيكون موسما زراعيا جيدا ولا نعاني العطش في الصيف القادم.

الأحد في الخامس من هذا الشهر كنت على موعد مع أحضان رام الله بعد أيام قضيتها في عمّان الهوى، كان العيد الأول الذي أقضيه مع أسرتي بعد أحد عشر عاما من حصاري في رام الله الحب، وكان الألم على فراق الوالدة هو المسيطر على أجواء الأسرة، ومع هذا أتيح لي بعضا من الوقت لمعايشة الذاكرة التي لم تتوقف عن الذكرى، فسجلت لقاءً تلفزيونيا عن ذاكرة الأشرفية في نفس المنطقة التي عشت بها، نفس المنطقة التي تفتحت بها براعم الهوى ولم تُنسى عبر الزمن، فذكراها عبق ياسمين وجمال، وباقي الأيام قضيتها أعاني من الأنفلونزا وأتنشق الياسمين كلما أتيح لي، حتى اليوم الأخير قبل عودتي فقضيته في زيارة مركز رؤى ودارة الفنون، وما أن دخلت رام الله حتى تنشقت هوائها بقوة وصرخت بصوت مرتفع: ما أجملك رام الله، ومنذ الصباح التالي كنت أجوب شوارعها مبكرا، أحتسي فنجان قهوة اشتريته من بائع متجول تحت شجرة قديمة أسميتها في مقال السابق يوم سفري "بركة".

بلداتنا في الوطن تنهض وتقاوم بكل الوسائل، فهي الجياد التي لا تعرف الكبوة، وأهلها الفرسان الذين إن ترجل فارس منهم أنبتت الأرض الف فارس، فوطننا المغموس بالطل والندى وعبق الياسمين والمستظل فيء الزيتون كان وسيبقى، رغم كل عتمة الليل وخفافيش الظلام وحراب جند الاحتلال، ورغم أنف العابثين بأمن الوطن من أصحاب المصالح واللون الواحد، ورغم أنف متسولي بطاقات الشخصيات الهامة من الاحتلال، والذين لا يخجلون من التباهي بامتيازات احتلالية، وهم يرون شعبهم يتعرض للمهانة على المعابر والحواجز، بينما هم يعبرون رافعي الرؤوس كالسنابل الفارغة ببذلاتهم الأنيقة، ويغمض القذى عيونهم عن طوابير شعبهم المسحوق، الذي يتكدس تحت الشمس ويعاني من قرف الاحتلال واضطهاده، ويغرق بالعرق ولا يكاد يتخلص من حاجز وتفتيش حتى يعاني من غيره.

في اليوم الثاني كنت أشد الرحال لمدينة طولكرم والتقي أصدقاء أعزاء وأجول فيها، فالجو كان أفضل بكثير من زيارتي السابقة، مما سمح لي أن أجول بمتعة كبيرة سيرا على الأقدام، ثم غادرت لجيوس بلدتي الخضراء التي تعاني ما تعانيه بعد سيطرة الاحتلال على أكثر من ثلثي أراضيها، فابتلعها الجدار وغرقت القرية بالفقر بعد فقدان الأراضي، لأتنشق عبق الزيت البكر مع بدء موسم قطاف الزيتون، مما حرمني أن أتمكن من كتابة مقالي الأربعاء الماضي، فتغيبت عن القلم وقرائي الأحبة أسبوعين بعد أن اعتادوا على مصافحة حروفي كل أربعاء، وفي مساء الخميس كنت أغادر جيوس قافلا إلى طولكرم لأغادرها صباح الجمعة متوجها إلى بلدة ترمس عيا المغرقة بالجمال، وأجول في رحابها حيث كان هناك احتفال لسباق الخيل، فقد أصبحت المهرجانات السنوية بعض من سمات المقاومة في العديد من بلداتنا، ومن ترمس عيا إلى بير نبالا البلدة التي امتدت في السنوات الماضية بعمران جميل ومتميز، حيث الهواء النقي والجو اللطيف، حتى أتى جدار الضم الاحتلالي فحصر البلدة ومنع اتصالها بالمناطق إلا عبر منفذ واحد مع رام الله، وأغلق الطرق السابقة التي كانت تربطها بأطراف القدس، فأصبحت كالوردة الجميلة التي تنقل من بستانها الرحب إلى قارورة صغيرة، فتبدأ الحياة تجف في عروقها.

في المساء كنت اتجه للمخيم الذي قدم كما كبيرا من الشهداء والجرحى، مخيم قلنديا الصمود لزيارة أصدقاء يسكنون القلب، وكما هي العادة تحرشت الدوريات الاحتلالية بالمواطنين فرشقوها بالحجارة، ليعلوا صوت الرصاص وقنابل الصوت وينتشر الغاز في الجو، فالاحتلال لا يريد أن يستوعب أنه مرفوض أبدا، وأن هذه الأرض لنا ولن تقبلهم بالمطلق، فالاحتلال ما زال مغرورا بقوته، مراهنا على حالة التمزق والانقسام والتفرد التي تسود بيننا، وصراع بعض من قوانا السياسية على المقاعد السلطوية المنخورة بالسوس تحت ظل الاحتلال، بدلا من مواجهة المحتل والعمل على تقصير عمره في وطننا الجميل.

السبت كنت في بلدة الطيبة الجميلة والأكثر طيبة، لأشارك أحبتنا الطيبون هناك مهرجانهم السنوي للعام الثاني على التوالي، فهذه البلدة الجميلة الرابضة على التلال ما زالت تصر أن تقاوم بتطوير نفسها، فأصبحت منتجاتها مضربا للمثل، وأصبح أهلها مثالا للتعاون والعطاء، فأكرموا الحضور كعادتهم، وقدموا مجموعة من الفعاليات الثقافية والفنية وفرق الدبكة الشعبية على مدار يومين، فأفرام التي أسماها القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي بالطيبة، تستحق هذا الاسم ويستحق أهلها الطيبون هذا التكريم، من قائد عظيم حرر الأوطان والقدس، فالطيبة والطيب في الطيبة كان منذ القديم وما زال، فتحية محبة لهم جميعا على تمسكهم بالوطن والأرض والأصالة والطيبة، ولعل أكثر ما أفرحني هناك إضافة للقاء أصدقائي من أهل الطيبة كداود ونديم وبثينة كنعان خوري وأفراد أسرتهم جميعا الذين تفانوا بالترحيب والإعداد والمتابعة، أن البلدة القديمة في الطيبة سيبدأ ترميمها وإعادة تأهيلها قريبا، بحيث يكون المهرجان القادم فيها، وهذا حديث تحدثت به مع أصدقائي على أثر المهرجان في العام الماضي والذي كتبت عنه مقالا مطولا.

وفي الأمس كنت مستضافا في الفضائية الفلسطينية، تحدثت به عن صحافة الانترنت ودورها، وعن معرض صباحكم أجمل – رام الله للصور الفوتوغرافية عن رام الله التي التقطتها عدستي، والذي افتتح في مركز رؤى في عمّان برعاية وتغطية كاملة من السيدة سعاد العيساوي مديرة رؤى وياسمينته، بعد أن ضاقت المؤسسات هنا عن رعاية المعرض، فشكرا لزاهدة بدر مقدمة البرنامج وشكرا  للفضائية الفلسطينية على اهتمامهم.

أجول في دروب المدينة بعد أن أوصلتني أمل زوجة أخي الرائعة إلى وسط المدينة حيث يستضيفوني وزوجتي التي تزور رام الله عندهم منذ أيام، فأسير بنهم وعشق لشوارع رام الله، أزور شجرتي الأثيرة في هذا الصباح المبكر في شارع النـزهة، أمارس طقوس عشقي الصباحي لرام الله وأستعيد الذكرى تلو الذكرى، فاذكر أهلنا في عكا وهم يعانون من الاحتلال واجتياح منازلهم من قطعان اليهود وحرقها، وافتتاح كنيس لصلاة اليهود بجوار الأقصى وتواصل الحفريات تحت الأقصى الأسير، حتى يكون جاهزا للانهيار وبناء الهيكل مكانه، في الوقت الذي يصمت العرب والمسلمون فلا نسمع قرقعة ولا نرى طحنا، ويتواصل الصراع الداخلي ولا يتوقف الاحتلال عن إذكاء الصراع ضمن لعبته المعتادة القرد والهرتين وقطعة الجبنة، ففي النهاية لا مستفيد سواه، وان استمر الوضع الداخلي كما هو فلن يأكل الجبنة سوى الاحتلال، ولن يرحم التاريخ كل من ساهم بإطالة أمد الاحتلال يوما بتلهيه بالصراع على المصالح والامتيازات، بينما قطعان المستوطنين تعبث بأمن الوطن وتقطع وتحرق وتسرق أشجار الزيتون في موسم القطاف المبارك، تمارس كل عنجهية تحت حماية جيش الاحتلال، والقدس تسرق والأراضي تصادر، ووسائل الإعلام لا تنقل إلا تصريحات الصراع المتراشقة بين شقي وطن واحد، نسي الكثير من القادة أنه ما زال تحت الاحتلال.

أعود لصومعتي بيت الياسمين من جديد، وقد بللتني قطرات المطر وشعرت بها تبث الحياة في عروقي من جديد، فاشعر بالمطر دموع تبكي على شهدائنا، وعلى الشاب الصغير الذي مارس الاحتلال هوايته بالقتل عليه الليلة الماضية، فقتلوه في مدخل رام الله وهو يسير على الشارع العام قرب بيته ليزور أصدقائه، فصعدت روح عبد القادر محمد بدوي زيد لبارئها تشكو من الظلم ومن الاحتلال، أتصفح صحيفتي وأحتسي قهوتي وطيفي البعيد القريب، أستمع لشدو فيروز وهي تشدو:

" لا يدوم اغترابي لا غناء لنا يدوم، فانهضي في غيابي واتبعيني إلى الكروم، هيئي هالدنانة كرمنا بعد في ربى، يوم تبكي سمانا نشبع القلب والشفاه، حبيبتي زنبقة صغيرة أما أنا فعوسج حزين، طويلا انتظرتها طويلا جلست بين الليل والسنين، وعندما أدركني المساء حبيبتي جاءت إلى الضياع، ما بيننا منازل الشتاء يا أسفا للعمر كيف ضاع، ما أحيل رجوعي متعبا أتبع المساء، والهواء في ضلوعي جن من فرحة اللقاء".

صباحكم أجمل..