رمضانيات
د.عثمان قدري مكانسي
(1)
عرف من جاره أحمد أن سعيداً دعا الأصدقاء جميعاً إلى الإفطار عنده . أخبره أحمد بذلك لأن خالداً من الأصدقاء بل من قدمائهم الخُلّص !. ولن يظن أحمد أن خالداً لم يكن من المدعويين في رمضان هذا ، إلا أن الدعوة لم تصل خالداً .
لم يكن حزن خالد كبيراً لأن سعيداً لم يدعُه ، فقد عرف ابتداءً أنه لن يكون من المدعويين في رمضان هذا ، لقد كان تلك السنة ضيق ذات اليد ، فلم يدعُ الآخرين كما كان يفعلون . وتمنى لو رزقه الله تعالى أثناء السنة ليعوّض ما فاته ، ولكنّ العين بصيرة واليد قصيرة . إنما كان حزنه أنه لم يعرف أصدقاءه حق المعرفة ، فصارت اللقاءات بينهم واحدة بواحدة ، وكانوا يتبارون ، بل قـُلْ : كانت النساء يتبارين أيتهنّ تقدم في دورها أطايب الطعام وأشهاها ، وأكثرها تنوّعاً ، وكمية وأغلاها ثمناً .
لقد صارت دعوات الإفطار – كما تقول زوجة خالد - حلبات المنافسة في عرض الثياب وأفانين المأكولات . فبعد الإفطار تُقدم المشروبات المتعددة من عرق السوس إلى شراب الورد والبرتقال ، إلى نقيع الكركديه وشراب العسل ، ويذهب الرجال بعد ذلك إلى صلاة التراويح ، في الجامع القريب ، يؤدون ثماني ركعات سريعات بعد صلاة العشاء ، لقد كان الإمام نشيطاً ! يسرع في صلاته فيدمج الركوع بالقيام ، ويسجد فلا تلامس جبهته الأرض حتى يرتفع عنها ، ويعود بحركة رياضية إلى الأرض ليلمسها بأنفه وقليل من جبهته ، فيرتد جالساً . وتنتهي الصلاة في ماراثون سباق يرضاه الكثيرون من المصلين . فالمراد عندهم أن يًعُدّوا ثماني ركعات يحسبون أنهم أدَّوا فيها الصلاة كما علّمـَناها رسول الله صلى الله عليه وسلم !.
وتبدأ السهرة ببعض الحلويات الشرقية : كنافة مبرومة ، وبين نارين ، وبقلاوة ، وقليل من الفواكه لا تتعدى سبعة الأنواع ، فالإسراف مذموم !!
وعرف بعد ذلك أن سميراً لم يكن من المدعوّين رمضانَ هذا ، فقد كانت زوجته مريضة لا تستطيع – حين يأتي دورهما– أن تخدم هذا الجمع الوفير ، فاتفق وزوجته أن يحملا معهما في كل دعوة يحضرانها كيلين من الحلويات الغالية ، وكأنهما يقولان : اعذرونا ياجماعة ؛ فوضع الزوجة الصحي لا يسمح لها أن نفعل ما تفعلون وإن كنا ميسورَين . ..
هكذا كانا يفعلان رمضان الفائت ، ثم تبين الآن أن هذا العذر لم يكن مقبولاً ، فلم يكن سمير وزوجته من المدعوّين .
(2)
الشفاعة
شفع له في أمر : أعانه عليه ، وساعده في الحصول عليها ، وذلـّلها له .
وقد أثنى الله تعالى على الشفيع الخيّر حين قال " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها " .
أما في الآخرة فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله تعالى " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " .
والشفاعة : إذاً طلب الخير للغير والوساطة لهم عند من يرجونهم . وهذا ماعلـّمناه النبيُّ الكريم إبراهيم حين قال لأبيه : " سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً "
إن المدعو حين يرى من الداعية اهتماماً واعتناءً يلين قلبه ثم يتقبل منه ما يقول ، ثم يؤمن بما يقول ، ثم يعتنق ذلك ويكون منافحاً عن هذه الدعوة " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " ..
كان الصحابة متحلقين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل رجل من بعيد إلى مجلسه صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إليهم صلى الله عليه وسلم ، وقال : " هذا الرجل قادم يريد مني مسألة ، وإني معطيه إياها إن شاء الله ، ولكن إذا سألنيها فاشفعوا له ، والله يُؤجركم على شفاعتكم ، وليقض الله على لسان نبيه ما يشاء " .
جاء الرجل وجلس ولم ينبس ببنت شفة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألك حاجة يا رجل؟." قال : نعم يا رسول الله ، صلى الله عليك وسلم . وذكر حاجته . فكان أصحاب رسول الله يقولون :
- هو أهلٌ لفضلك يا رسول الله .
- ما علمنا عنه إلا خيراً يا رسول الله .
أحسن إليه يا رسول الله . فما عهدناك إلا محسناً .
كان الرجل ينظر إليهم مسروراً من شفاعتهم ، وقد أحبهم وشعر أنه منهم وأنهم منه . ... يا لـَهذا المجتمع المتحاب المتكافل ...
وابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد اكتسب إلى المسلمين واحداً آخر ، وعلم أصحابه أن يناصر بعضهم بعضاً .... وقضى للرجل حاجته .
جميل جداً أن يهتم المسلم بأمر أخيه فيعينه على قضاء حوائجه ، ويسعى بخدمته ، فإذا بالحب والود والشعور بالأخوة يتعمق ، ويصير المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضُه بعضاً .
وحب الصالحين يجعلنا معهم يوم الحشر . ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم " يُحشر المرء مع من أحب " فحبهم شفع لنا أن نكون معهم ، ورحم الله الشافعي إذ يقول :
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنـال بهم شـفـاعة
وأكره مَن تجارتـُه المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
وفي رمضان الخير يعوّد المرء نفسه أن يكون سفير إخوانه إلى المحبة والود وحُسن الأخلاق ، وسفير الود وحسن الأخلاق إلى إخوانه سواء بسواء . فيسعى في خدمة إخوانه وقضاء حوائجهم ، فيسعدوا به ويسعد بهم ، وتتمكن اصداقة والأخوّة في قلوبهم وأفعالهم . ويبدأون السير إلى الله في الطريق الصحيح ...... أليس هذا صحيحاً يا أحبائي ؟؟
(3)
الله أكبر
أديت صلاة العشاء أمس في المسجد القريب من بيتنا ، وسلمت على بعض الأحباب وهنـّأ بعضنا بعضاً برمضان ، وهممت بالخروج من المسجد .
سلّم أحد المصلين عليّ وقال لي بعد ن أخذ بيدي إلى إحدى الزوايا وكأنه يريد أن يخلوَ بي :
ألم تلاحظ يا أخي أن الأذان يبدأ بالنداء " الله أكبر " وينتهي به كذلك؟
قلت : بلى .
قال وكذلك يفعل من يقيم الصلاة ، فيرفع صوته بـ " الله أكبر " .
قلت : نعم يأخي .
قال : وتبدأ تكبيرة الإحرام بقوله : " الله أكبر " وقبل الركوع والسجود وبعدهما نردد هذه العبارة حتى صارت جزءاً منا نعيش بها ، ونتنسمها ، ونأنس إليها ، ونرددها إرادياً وغير منتبهين . إنها في دمنا وأرواحنا .. فلماذا اعتدنا قول: " الله أكبر " في كل لحظة من لحظات حياتنا ؟
يرددها الإمام في صوات العيد وفي خطبها ، ويترنم بها المسلمون في تكبيرات العيد .. ويندفعون بها في ميادين الجهاد ، ويستعينون بها في كل أمر يسير أو عسير .
نقولها إذا تعجبنا مما نرى أو نسمع ، ونقولها إذا ألمّت بنا النوازل ، وإذا فرحنا ، إذا ابتسمنا وسعدنا أو تألمنا وبكينا .. نشعر أنها الوقود الذي يحركنا وبه نحيا ، ونحس أنها العون يهبنا القوة والنشاط والإرادة والتصميم .......
كنت أسمع ما يقول ، وأسبح في الذكريات إلى أن وصلت- في ذكرياتي - إلى صلاة عيد الفطر السعيد حين كنت في مدينة " بولونيا " الإيطالية منذ أربع سنوات .. كان الناس مجتمعين في خيمة تتسع لأكثر من عشرة آلاف يهللون ويكبرون . وخارجها مثل عددهم أو يزيد .
دخلت عليهم ، فقادني أحد المنظمين لهذا الجمع الحاشد إلى مقدمة الخيمة ، والمسلمون من جنسيات مختلفة تتعدى العشرين جنسية أو أكثر يقولون " الله أكبر الله اكبر ، لا إله إلا الله وحده ،صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، لا شيء قبله ولا شيء بعده ... " ثم يهدرون بصوت واحد " الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " قلت نعم ، ولو كره الكافرون . وانطلقت معهم أترنم بهذا الحداء الخالد والهتاف الأبدي العظيم .
وقبل الصلاة تقدم أحدهم يعلن إسلامه ، فقا ل مردداً ورائي بلغة عربية ثم إيطالية :
أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله . أحيا على هذا وأموت في سبيله . اللهم أحيني مسلماً وأمتني مسلماً ، واجعلني في عبادك الصالحين .
ضجت القاعة بالتكبير والتهليل ، وهنأ المسلمون أخاهم الجديد بالهداية ، ودعوا له بالثبات على هذا الدين العظيم .
وبعد الصلاة والخطبة تقدمت صحفية إيطالية تسألني : لقد استرعى انتباهي كثرة ترداد " الله أكبر " فيما قلتَ وما كانوا يقولون ، فما المقصود منها ، بل ما معناها ؟ أرجو أن تفصل في ذلك.
ولما كنت أجهل اللغة الإيطالية تقدم بعض المصلين يريدون أن يترجموا بيننا الحديث ، ونظرت حولي لأرى أخاً إيطالياً أسلم منذ ست سنوات ، وعاش في مصر وتزوج مسلمة مصرية ، وهو الآن – أقصد في عام 2004 للميلاد الموافق 1425 للهجرة – لولب في خدمة المسجد في بولونيا وخدمة إخوانه ، فاخترته ليكون المترجم لما أقول . اخترته لأن الإسلام في قلبه حار وقوي ، وله نبض جديد متدفق بين الضلوع والحنايا .
قلت لها :
الله أكبر من الدنيا وشهواتها ، وملذاتها وأهوائها .
الله أكبر في قلوبنا من زخارفها وبهارجها ومغرياتها.
الله أكبر في نفوس عباده من لعاعات الدنيا ، ومكر الشيطان وأهواء النفوس .
الله أكبر من الظلم والظالمين وأكبر من المتجبرين والطغاة الذين يكيدون للدين وأهله .
الله أكبر ، إن له الدنيا والآخرة ، وهو يمهل ولا يُهمل ، وهو ناصر دينه ومؤيد عباده .
الله أكبر لأنه حليم غفور رحيم ودود لطيف .
الله أكبر لأنه الرحمن القوي العظيم الجبار المهيمن القادر العزيز
الله أكبر يفعل ما يشاء ، لكنه عادل لا يظلم أحداً مثقال ذرة ، بيده الأمر وهو على كل شيء قدير .
كان أخي المسلم المترجم يجهش بالبكاء ، وهو ينقل هذه المعاني ، ويتمثلها بقلبه وعقله وروحه الشفافة ونفسه المؤمنة الطيبة ، حتى ذرفت عيناي وتغير صوتي .
أرأيت لِمَ اخترت مسلماً إيطالياً ينقل هذه المعاني وتلك المشاعر ؟ إنه المسلم الجديد الذي دخل الإسلام قلبه حديثاً ، فهو به منفعل ، وله محب وهو أقدر على نقل هذه الأفكار والأحاسيس إلى بني قومه .
(4)
أستاذي لا يحمل شهادة عليا
دخلت بيته وأنا غلام ، سألتهم أين صاحب البيت ؟ قالوا في غرفة أمه .. كان الصبيان وأمهم يأكلون الخبز اليابس مفتتاً في شوربة العدس مع البصل اليابس . .. كان الوقت ظهراً وأنا جائع ، فجلست معهم آكل . وكل طعام لذيذ حين يكون المرء جائعاً . شبعت ،ثم شربت كأسين ماءً بارداً من ( الخابية ) ، فارتويت – والخابية : إناء فخاري كبير ذو مسامات دقيقة يرشح منها الماء فيبرد ما فيها، وحمدت الله تعالى على نعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى .
طرقت الباب ودخلت عليهما ، فسلمت فردّا السلام . كان وحده معها يطعمها بيده اللحم المشوي ، ويحدثها ، ويمازحها ، فتردّ عليه بما يثلج صدره فيضحك ، ثم يعود إلى إلقاء بعض الكلمات فتسبه سباً لطيفاً فيعود إلى تقبيلها من يديها ثم من خديها ورأسها . وتقول لي أسمعت ما يقول عمك يا عثمان ، فأرد : لا دخل لي بين البصلة وقشرتها ، فتسبني قائلة أنت مثله قليل الأدب ، فأضحك وأقول : قصدت التفاحة وقشرتها يا جدتي . فتبتسم وتقول داعية لنا جميعاً : اللهم ارض عنهم وعن أبنائهم ، فأنا راضية عنهم .
لم يكن عمي وقتذاك ميسوراً ، وطلبت منه جدتي اللحم المشويّ . إنه يطلب رضاها ويودّ أن يكون بها باراً ، فالجنة تحت أقدام الأمهات ، وكان يردد القول المأثور : " برّوا آباءكم تبرَّكم أبناؤكم " . فكر قليلاً ثم قال لزوجته – وهي امرأة لبيبة عاقلة – يا ابنة عمي ؛ لن أستطيع شراء ثلاث كيلات من اللحم لتاكل الأسرة كلها معاً ، ولن أشوي نصف كيل من اللحم وأضعه أمام أمي ، والأولاد ينظرون ، إنهم لا يقدّرون الظروف فهم صغار لا يعقلون . وسيتألمون إن رأوا جدتهم تأكل اللحم وحدها ، وهم يأكلون شوربة العدس المطحون . وقد يمدون أيديهم إلى اللحم ويسبقون جدتهم في أكله . أشغليهم بالأكل وسأدخل إلى أمي فأطعمها ثم أعود إليكم .
حفر عمله هذا في قلبي حباً للوالدين ، فكان لي أستاذاً ومعلماً ، ولن أنسى هذا الدرس ما حييت ، ولأحدثَنّ به كي يتأساه كل ذي قلب حي وعقل عقول .
مرت الأيام ، وشب الصبيان فصاروا آباء . وكانوا بارين بواليديهم ، يتأدبون بحضرة والدهم ويتلطفون مع أمهم .
علّموا أولادهم أن الجد والجدة مقدّسان ، وأن نيل البركة كل يوم بتقبيل يديهما وطلب الدعاء منهما والتأدب بحضرتهما . وإدخال السرور إلى قلبيهما .
عمي الحبيب له بقالة يعمل فيها ويساعده أبناؤه .. كبرت هذه البقالة ، وفتح الله باب الرزق الطيب الوافر عليهم ،
يجلس الآن بينهم فيسارعون إلى مرضاته ، ويقولون له : إذا دخلت المحل كثر الزبائن يا أبانا ، فما السبب؟!
فيقول : أدبكم يا أولادي معي ومع والدتكم ، وحسن أخلاقكم ،وطلب الرزق الحلال ، وابتسامتكم في وجوه الناس يجلب رضاء الله . ويزيد في الرزق .
يلتفت إليّ قائلاً : أنا رجل عامّي يا ولدي ، لا أعرف العربية مثلك ، ولا أتقن القراءة ، فأسمعني شيئاً من القرآن وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فهما الماء للعطشان والزاد للغرثان .
وعلمت أنه – أطال الله في عمره وحسّن عمله – يجلس بين أترابه ، فيحدثهم بما سمعه وما فقهه من علم وأدب وتفسير وسيرة ، فهو يتعلم ويعلم . ونعم المعلم المتعلّم .