حنين وذاكرة
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
صباح آخر لعمّان، لم أصحو مبكرا كالعادة وكما اعتدت أن أصحو في رام الله، فعمّان لها طقوسها الخاصة بها وخاصة في الصيف، طقوس كنت قد نسيتها بحكم الغياب الطويل عنها، لكن هذا الصيف عادت وعدت وأصبحت جزء منها، فالصيف يجمع الخلان والأهل القادمين من أنحاء الدنيا، مغتربين ومسافرين ومقيمين، فتمتد السهرات إلى أوقات متأخرة من الليل، ومن كان مثلي قد اعتاد النوم المبكر والصحو المبكر، يواجه مشكلة بإعادة برمجة ساعته البيولوجية، فهي عمّان تبقى عمّان الهوى، تهوى إليها أفئدة أحبتها من كل حدب وصوب، من كل مكان يأتون، فكل الينابيع تصب فيها.
يوم الجمعة الماضي صحوت بالفجر المبكر على أصوات إطلاق النار والتفجيرات، للوهلة الأولى ظننت أني في رام الله وأن هناك اجتياحا إسرائيليا كالمعتاد، فقفزت من سريري لأنظر الأمر وآخذ احتياطاتي، فوجدت نفسي في سرير عمّان وليس رام الله، فتذكرت أن في هذا الصباح إعلان نتائج الثانوية العامة، وأن الفرحة والتعبير عنها يكون مبكرا، فرحة عرفناها بفترتنا، لكن وسائل التعبير كانت مختلفة، فالبعض من الأسر كانت تقيم حفلة لابنها، والناس تكتفي بتقديم الهدايا لخريج الثانوية، أما ما حصل صبيحة الجمعة الماضية فهو شيء مختلف لم أعتاده أبدا، فهل من المعقول أن يبدأ نهارنا بإطلاق الرصاص وتفجيرات الألعاب النارية، حتى أني شعرت نفسي في أتون معركة!!، أليس بالإمكان أن يكون هناك قوانين تمنع هذه الألعاب وتحد من هذه الظواهر السلبية، ظواهر تؤدي إلى قتلى وجرحى إضافة للهدر المالي الكبير، فتفسد الفرحة وتنشأ أجيالا تبالغ بالمظاهر، بدلا من أجيال تنتمي إلى أرضها ووطنها وواقعها أكثر.
أقف لشرفتي العمّانية الجميلة، أتذوق بعض من حبات العنب الحلوة مباشرة عن دالية العنب، التي زرعتها ورعيتها حتى وصلت لشرفتي في الطابق الثالث، فأحمد الله على نعمته، فتجول الذاكرة ما بين الحاضر والماضي، بين عمّان البسيطة التي عرفتها طفلا وشابا، وبين عمّان التي أراها الآن، فأول الأمس تمكنت من الحصول على سيارة أقودها لأذهب للبحث عن ذاكرتي، كان المفترض أن أخرج باكرا قبل اشتداد حرارة الجو، لكن لم تأتي الرياح بما تشتهي السفن، فخرجت من البيت في حدود الثانية عشرة وعشرة دقائق من خلدا، لأجد نفسي في سيل متدفق من السيارات والحافلات، ازدحام لم أراه أو أخوضه في الماضي، فالعربات كأنها حبل واحد غير منقطع، وزاد الأمر سوءً أن نسبة الحوادث ترتفع فتزيد من أزمة السير، ولمدة خمسون دقيقة كنت أسبح في عرقي حتى وصلت دوار الداخلية في الحسين، مسافة لا تتعدى العشرة كيلومترات لكنها أخذت وقتا طويلا، فأخذت بداية شارع الاستقلال متجها إلى الأشرفية حيث مرابع الصبا، ومن بداية شارع الاستقلال حتى وصولي حي أم تينة خلف حاووز الأشرفية لم تأخذ الطريق معي أكثر من خمسة عشر دقيقة، فاستغربت هذا التغير المعكوس، فقد كانت الأزمات في المنطقة الشرقية، والمفترض أن المنطقة الغربية باتساع شوارعها وكثرة أنفاقها وجسورها أن تكون أكثر سلاسة، لكن ما لمسته كان مختلفا تماما.
تجولت في أم تينة قليلا وزرت خالة طيبة لي، وأم تينة ليس من أحياء عمّان العريقة والقديمة، فقد بدأت بداياته بعد هزيمة حزيران وتدفق النازحين لعمّان، وقبل ذلك أذكره أراض حمراء شاسعة تزرع بالقمح والقثائيات، ولعل أراضيه الممتدة على السفوح كانت تكفي عمّان غذائها وتفيض، وما زال هذا الحي تتكاثف فيه الأبنية الإسمنتية وتمتد، فهذه الأحياء التي بناها الفقراء لم تعرف الحجر بالبناء إلا نادرا، تضيق أزقتها وتتسع، تفتقد الغطاء الشجري إلا ما ندر في بعض البيوت وبقايا أشجار على بعض الأرصفة، وأثناء تجوالي في الحي وجدت شجرة تين تمتد إلى خارج جدار بيت، فاقتطفت حبة وأكلتها، فكانت حلوة وشهية، فساءلت نفسي إن كان هناك صلة بين اسم الحي وحبة التين الشهية.
من أم تينة إلى حينا القديم في الأشرفية، امتداد شارع حاتم الطائي حتى حدود الجوفة الغربي، أوقفت السيارة وأخذت عدستي لأجول في الحي، كانت مشاعري متضاربة، كنت أشعر بنفسي أعود للماضي بقوة وسرعة، فهذا الحي شهد صباي وشبابي المبكر، فقد سكناه منذ عام 1969 حتى عام 1972، فترك في ذاكرتي الكثير، وما أن نزلت من السيارة حتى التقت عيناي بشخص أذكر أنه كان من أشقياء الحارة، كان أكبر منا عمرا، فما أن رآني حتى تذكرني وسلم عليّ بحرارة، مستغربا وجودي في الحي بعد هذا العمر الطويل، فقلت له: جئت ابحث عن ذاكرتي في الحي، أصر أن يستضيفني على فنجان قهوة في بيته فاعتذرت لضيق الوقت، سألته عن كِبار الحي، فقال: العم أبو عليان وأبو فهمي وأبو جبران وأبو بشير انتقلوا لرحمة الله تعالى، وعدد أسماء كثيرة بعضها في الذاكرة وبعضها ذهب مع الزمن، فترحمت عليهم جميعا، فالبعض منهم له نقش في ذاكرتي لم يمحوه الزمان، وبدأت أجول في الحي الذي تغير كثيرا، فالبنايات الإسمنتية تكاثفت كالفطر فيه، فحجبت الرؤيا والريح الغربية الجميلة، فلم أتمكن من مشاهدة جبل القصور والقلعة وجبل عمان إلا من بين شقوق ضيقة بين البنايات، مقارنة بفترتنا التي كنت أقف لشرفة البيت فأرى عمان بامتدادها أمام عيناي، تجولت في الحي بشوارعه الثلاثة المتوازية، وكان شريط الذكريات يتدفق بقوة مارا بأصدقاء الحارة ومحبوبة الحي وتاريخ رسم لوحاته على روحي، فلم يفارقني رغم عقود من الغياب.
من هناك إلى حي الأرمن فجلت فيه كاملا بالسيارة، كثير من ذاكرتي لم أجده هناك، فمدارسنا ذهبت وكثير من الأماكن قد تغير، وعبث الزمان بالذاكرة فلم يترك إلا بعض من تشوهات، حتى شعرت بألم يجتاحني، ثم صعدت وأوقفت السيارة بالقرب من مسجد أبو درويش، وأردت الدخول للصلاة في وقت ليس من أوقات الصلاة فوجدته مغلقا، فظننت أن ذلك مرتبط بالحفريات المحيطة بالمسجد لتطوير موقعه، لأكتشف لاحقا أن المساجد لا تفتح إلا بأوقات الصلوات، فتجولت بالمنطقة وذهبت إلى مدرستي الواقعة تحت المسجد، فوجدتها قد تبخرت مع الزمن وذهب اسمها وحل محله اسم آخر لمدرسة أساسية، فوقفت أمام الجدار أستعيد ذكريات أربعة سنوات فيها، تجولت في كل المنطقة رغم الحر، قرأت الفاتحة على أرواح من ذهبوا بلحظات الجنون في قبرهم المختفي تحت الأبنية، وركبت السيارة لأجول الأشرفية بكاملها، شارع بارطو والشارع الرئيس من بداية التقاءه بطلوع مصدار عيشة حتى وصوله لجامع أبو درويش، اتجهت بعدها إلى حي آخر من أحياء الأشرفية خلف الدير، فوجدت غابة بشعة من الاسمنت، وإن تمكنت أن أجد في تجوالي البيت الذي سكناه وولد فيه أخي جهاد عام 1957 أثناء الثلج القوي، ومن ثم جلت شارع مأدبا والدبايبة والشعيلية ودخلت مخيم الوحدات، وكل المعالم في الذاكرة قد تغيرت، ووجدت المخيم المكتظ قد استحال إلى بسطة واحدة للمبيعات، من كثر أعداد البسطات وتواصلها، فلم أستطع أن أجد مكانا أقف فيه وأجول على أقدامي، فقررت المغادرة والعودة في وقت لاحق، ومن وسط المدينة عدت باتجاه جبل عمان بجولة سريعة، مقررا أن افرغ نفسي أياما قادمة للتجوال كل يوم في حي، باحثا عن ذاكرتي التي شوهها الزمن وغابات الاسمنت.
صباح آخر يشدني الشوق لرام الله، ويشتعل هوى عمّان، فلا أجد غير مجالسة طيفي البعيد القريب ومعانقة هوى من حروف خمسة، وفنجان قهوتنا وشدو فيروز:
"أنا عندي حنين ما بعرف لمين، ليلية بيخطفني من بين السهرانين، بيصير يمشيني لبعيد يوديني، لأعرف لمين وما بعرف لمين، عديت الأسامي ومحيت الأسامي، ونامي يا عيني إذا راح فيك تنامي، وبعده الحنين من خلف الحنين، بالدمع يغرقني بأسامي المنسيين لأعرف لمين وما بعرف لمين، أنا خوفي يا حبي لتكون بعدك حبي ومتهيئلي نسيتك وأنت مخبى بقلبي، بتودي الحنين ليلية الحنين يشلحني بالمنفى بعيونك الحلوين"
فيروز.. عندي حنين يجتاحني وأعرف لمين..
صباحكم أجمل.