شيء من رحيق الأمس 4
شيء من رحيق الأمس 4
سليمان عبد الله حمد
هذا الرحيق يعيد المسنين الى زمان الصبا – لن تغيب تلك الصور من ذكرتنا كان زمنا جميلا على الرغم من عدم توافر وسائل الراحة الحديثة ...
في رحلتنا الماضية كنا قد استخدمنا الدواب أي الحمير التي كانت هي المتسيدة في بيئة الجزيرة وعندما توقفنا فقد ربط كل منا حماره حتى لا يعير (بفتح الياء وكسر العين) أي لا يشرد وقد استخدم بعضنا في ذلك البربندي والجنزير وهؤلاء هم الذين يهتمون بدوابهم حيث للحمار قلادة من الجلد تلف في رقبة الحمار ويحكم ربط طرفيها بعد ادخال قرص دائري من الحديد عند ملتقى الطرفين وفي هذه الدائرة الحديدية يدخل الطرف الامامي للجنزير الذي هو مجموعة من السلاسل الحديدية الصغيرة المتصلة ببعض والنهاية التي تدخل في القلادة عبارة عن شكل دبوسي شبيه بالدبوس المشبك له طرف طري بحيث يضغط حتى ينزل داخل حلقة القلادة ثم يترك وبهذا الوضع يحكم غلق الجنزير تماما على القلادة اما النهاية الطرفية للجنزير فهي في شكل حرف T وفي القرص الرابع او الثالث من نهاية الجنزير تثبت ايضا دائرة صغيرة بحيث يثنى هذا ال حرف T ليصبح في شكل طولي وينزل داخل هذه الدائرة بعد ان يمرر الجنزير ايضا داخل قرص دائري في نهاية البربندي وبذلك يتم ربط الجنزير بالبربندي الذي هو عبارة عن قطعة حديدية نهايتها الطرفية حادة ومن خلال هذه النهاية الحادة يتم تثبيت البربندي في التربة (يدق) اما في حالة استئناف الرحلة مرة آخرى فيوضع السرج على الحمار ويقلع البربندي بعد فصل الجنزير عنه ويعلق البربندي بواسطة حبل صغير على عكفة السرج الخلفية اما الجنزير فيظل الجزء المتصل بالقلادة ثابت اما الذي فصل عن البربندي فيتم طيه ووضعه داخل فتحة العكفة الامامية للسرج بحيث يتدلى من السرج الى اسفل. اما الاشخاص غير المهتمين فيربطون دوابهم بقطعة حبل من القطن او التيل او غيره من كراعها وتربط على كتلة خشب او ساق شجرة او أي شي آخر. وبمناسبة حديثنا عن الحمير فان الصغير يسمى دحيش وعندما يكبر يصبح دحش ثم يتم تطيعه او تأديبه ليتعود على الحمل والركوب ولهذه المهمة اناس معينون لان مثل هذا الدحش يكون شرس ولا يستطيع الركوب عليه او تأديبه الا من له خبرة في ذلك وقد تسببت مثل هذه الحمير غير المطيعة في الاذى للكثيرين عندما تفنجط وهي حركة يرفع فيها الحمار ارجله الخلفية من على الارض فيختل توازن الراكب عليه فيطيح وقد تكسر يده أو رجله او يلحق به أي اذى آخر ويستخدم الشخص الذي يطيع أو يؤدب هذا الحمار عصا من الخيزران ولذلك احيانا تعرف بالخيزرانة وهي عصا طائعة ويعرف جيلنا جيدا هذه العصا بالذات الذين بدءوا تعليمهم في الخلوة حيث كنا ندخل الخلوة قبل المدرسة لنتعلم اللغة العربية ثم نحفظ ما تيسر من القرآن وكانت هذه الخيزرانة جزء من ثقافة الخلوة حيث يقوم الفكي أو الشيخ بضرب الطالب الذي يأتي الصبح وهو لم يحفظ لوحه من القرآن الذي الزم به فيقوم الفكي بضربه فلقة بهذه العصا والفلقة هي ان تجلس على الارض وترفع رجليك بحيث تحاذي القدمين بعضهما تماما ويقوم بضربك بهذه العصا على راحة القدمين وهذا ما يعرف بالفلقة وبمناسبة الخلوة فقد كان لها أثر واضح في تعليم جيلنا اللغة العربية الصحيحة فكنا نبدأ بتعلم الحروف أ ب ت ث وكنا ننطقها هكذا ألف باء تاء ثاء جيم حا وخاء دال وذال راء وزين سين وشين صاد وضاد طاء وظاء عين وغين فاء وقاف كاف ولام ميم ونون هاء وواو لام الالف الاتنين من تحت. طبعا لام الألف لم يفهما الا من درس الخلوة وهي تعني حرف اللام المربوط بحرف الألف (لا) والاتنين من تحت تعني حرف الياء حيث تحمل الياء نقطتان اسفل رسم الحرف ي وكذلك كنا نتعلم الحركات على الحروف حيث نقول الباء باء نصب أي أن عليها فتحة أو علامة النصب والباء بي خيفيض أي عليها كسرة والباء بو روفوع أي عليها ضمة والباء أب جزم أي عليها سكون. كذلك يا ابني فان جيلنا وجد حظه من تعلم اللغة العربية لغة القرآن بالصورة الصحيحة ما يفتقده جيل اليوم حيث نجد من ابنائنا من هو مؤهل اكاديميا ويحمل الدرجات العليا ولكنه عندما يتحدث العربية أو يكتبها فحدث ولا حرج لذا ننصح الابناء الاهتمام بلغة امهاتنا وإبائنا فمعظمنا ولا اقول كلنا لا يتحدث اباءنا ولا تتحدث امهاتنا الا اللغة العربية ولا يعرفون غيرها ومن تعلم العربية ولا ينطق بغيرها فهو عربي لذا يجب ان نعتز بها وهي لغة القرآن وبهذه المناسبة عندما كنا طلاب في كلية الزراعة جامعة الخرطوم كان هنالك استاذ زائر من الجنسية الهندية وكان يدرسنا احد الكورسات وفي محاضرة معينة ترددت كلمة اكسجين Oxygen عدة مرات وفي كل مرة كان ينطق الكلمة نطق غريب لم نعتاده فكان الطلاب في كل مرة يضحكون عليه فاشتط الهندي غضبا وصاح بأعلى صوته قائلا ان الغة الانجليزية ليست لغة امي ولا هي لغة امهاتكم وإنما لغة غريبة وهذا يوحي باعتزازه بلغة امه الآ فعلنا ذلك الاعتزاز ابنائي الاعزاء. ثم بعد تعلم الحروف وتعلم الكتابة نبدأ بحفظ القرآن ويبدأ الطالب بالفاتحة والحفظ يتطلب كتابة السورة القرآنية على اللوح وهو لوح من الخشب وتتم الكتابة عليه بواسطة المداد الموجود في الدواية وهو مداد يتكون من السكن الاسود بعد ان يضاف له الماء وقلم الكتابة الذي يكتب به على اللوح فص من قصب الذرة يتم برايته بدقة فتصبح حافته رقيقة تشبه الريشة ثم يغمس في الدواية فيتشبع بهذا المداد الاسود ثم يكتب به وكلما جف المداد عن القلم اعيد الى الدواية. ومن ذكريات الخلوة بليلة الاربعاء او كرامة الاربعاء حيث يقوم الطلاب بعمل بليلة من الذرة أو احد انواع اللوبة مثل للوبة العدسي أو اللوبة العفن وسميت بالعفن لارتباط ذلك بان آكل هذا النوع يصدر ريحا كريهة او لوبة تسمى الحنيطير كما يقول المثل العامي المشتهي الحنيطير ان شاء الله يطير كناية على انها غير مرغوبة وأيضا من ذكريات الخلوة الشرافة حيث من يكمل اول جزء من القرآن يشرف لوحه بان يحمل اربعة من الطلاب هذا اللوح في توب وهو قطعة من قماش الدمورية فيمسك كل واحد بطرف ويوضع لوح الطالب المشرف (بضم الميم) في وسط التوب ويطاف به في القرية فيتم التكريم من اهل القرية كل بما تجود به نفسه. وبمناسبة اللوبة كما انها تصنع منها البليلة كذلك يصنع منها ملاح يسمى ملاح اللوبة بحيث تطحن اللوبة وتنعم وبعد غلي البصل والماء تضاف لها بدرة اللوبة وبعد ان تستوي تتحول لملاح ذو طعم مميز وكذلك يمكن آكله من اخراج الريح بكثرة. كذلك هنالك ملاح يسمى ملاح شرموط والشرموط هو اللحم المجفف حيث يتم تقطيع اللحم في شكل شرائح وينشف على الحبل الى ان يجف ثم يستخدم في الطبيخ بديلا للحم الطازج بعد تقطيعه قطع صغيرة او احيانا سحنه أو دقه في الفندك وللشرموط رائحة مميزة نتيجة للتعفن الذي يحدث بفعل البكتيريا وبهذه المناسبة بعد دخول التيار الكهربائي لأحد قرانا وكانت من اول القرى التي تحظى بهذه النعمة وكانت هنالك اسرة ميسورة الحال على طول اشتروا تلاجة فذكر ذلك لأحد الاخوان اصحاب النكتة فقيل له ناس فلان اليوم جابوا ليهم تلاجة فرد مباشرة وقال وآ شوقون للشرموط اب نمسة والنمسة هي الرائحة الكريهة بفعل البكتيريا. كذلك كنا نتمتع بملاح ام تكشو وهي الخضرة او الملوخية الجافة ولكنها ليست التي تزرع وانما التي تنبت بروس في الخريف دون تدخل الانسان بزراعتها وقد تطبخ مع الشرموط أو بدون أي نوع من اللحم. كذلك ملاح ام شعيفة وهي الويكة بدون أي لحم وملاح القاورمة وهي بصل ينظف دون ان يقطع يعني بطوله وقد يكون معه لحم او بدون لحم . نتوقف هنا على آمل ان نواصل بإذن الله تعالى.