خواطر من الكون المجاور الخاطرة 67 .. تشويه عالم اﻷطفال
عندما ظهرت ﻷول مرة صفحة عين الروح في الفيس بوك ، نشرت مقالة بعنوان (اﻷطفال والشجرة ذات اﻷوراق القرمزية ) لتعبر تماما عن نوعية أبحاثي وحقيقة هدفي من نشرها ،في ذلك الوقت كان عدد قراء صفحة عين روح في بدايته لذلك لم يتجاوز عدد القراء هذه المقالة الـ600 شخص ، ومن المعروف أن قراء الفيس بوك بشكل عام يقرأون المقالات الجديدة ، وقليل جدا من يبحث في المقالات القديمة ليطلع عليها ، وﻷن هذه المقالة عزيزة على قلبي ولم تأخذ رقما كخاطرة من خواطر الكون المجاور لذلك أعيد نشرها مضيفا إليها فقرات جديدة ليقرأها القراء الجدد والقراء القدماء أيضا.
كلما رأيت شجرة أوراقها قرمزية تذكرت ذلك الفيلم الفرنسي المؤثر الذي كان من إنتاج أواخر السبعينات بعنوان " الشجرة ذات الأوراق القرمزية" وعلى الرغم من مرور ربما أكثر من ثلاثين عام على مشاهدتي لهذا الفيلم ورغم عدم تذكري لتفاصيل أحداثه ولكني أراني دوما كلما ظهرت شجرة من هذا النوع أمامي أشعر بنسمة حزن ممزوجة بشيء من الحنان والعطف تسري في جسدي وتجعلني أدعي في نفسي " إلهي احمي أطفال العالم واجعل براءتهم تبقى معهم إلى الأبد" موضوع ذلك الفيلم كان عن العذاب النفسي الذي يعاني منه الطفل – بطل الفيلم- بسبب الطلاق والخلافات بين أبويه ويبدو أن كل عناصر الفيلم من ( قصة وسيناريو وتمثيل وموسيقى تصورية وإخراج) كانت على مستوى كاف بحيث جعلت هذا الفيلم وهذه الشجرة بالذات أن تحفر مكانا في ذاكرتي وروحي وتبقى هناك وربما إلى الأبد... وأصبح لون الأوراق القرمزي في كياني رمزا لروح أولئك الأطفال الذين يعيشون في بيئة روحية فاسدة لا تناسب أرواحهم البريئة لذلك وبدل من أن يكون لون أوراقها خضراء مثل جميع الأشجار تحول لونها إلى القرمزي ليعبر عن حزن وشكوى أرواح هؤلاء الأطفال بأنهم يعيشون في بيئة روحية فاسدة لا تلائم طبيعة تكوينهم الروحي على اﻹطلاق. في عام 2001 تم إنتاج فيلم أمريكي كرتون للأطفال يحمل عنوان ( Shrek) ،الفيلم لاقى نجاحا منقطع النظير على مستوى عالمي وحقق أرباحا كبيرة وحصل على عدة جوائز أوسكار وجوائز عديدة من مهرجانات أخرى ، وهذا ما جعلني أشعر بخيبة أمل من شدة إنحطاط ثقافة اﻹنسان المعاصر. فقصة الفيلم لم تكن إلا عبارة عن عملية محاولة تشويه عالم الطفولة الذي حاولت اﻹنسانية على مر آلاف السنين تصفيته من جميع الشوائب لتجعله عالم خيالي مليء بالعواطف الدافئة والقيم السامية ليكون ملائما تماما لروح اﻷطفال البريئة ، فقصة الفيلم كانت عبارة عن تدمير كل شيء جميل في حكايتين مشهورتين للأطفال اﻷولى حكاية ( اﻷميرة النائمة ) والثانية حكاية ( الجميلة والوحش ) . فهاتين الحكايتين كانتا من الحكايات الكلاسيكية المحببة جدا لقلوب اﻷطفال مثلها مثل سندريلا وليلى والذئب، عروس البحر ،.... تلك الحكايات الشعبية التي كان اﻷطفال عندما يسمعها أو يقرأها كانت تخلق في داخله إحساسات رهيفة جميلة وتجعله يعيش في عالم خيالي مليء بالمشاعر الدافئة والطمانينة فرغم وجود روح الشر في هذا العالم الخيالي ولكن روح الخير والقيم السامية واﻷخلاق الحميدة في نفوس أبطال هذه الحكايات كانت تجعل اﻷحداث فيها تسير وتتطور وتملئ نفوس اﻷطفال بعواطف دافئة مليئة بالحنان والمحبة فيشعر اﻷطفال بتعاطف شديد مع أبطالها ، وكان مظهر أبطال هذه الحكايات يساهم في تحقيق هذا التعاطف فجميع أبطال هذه الحكايات كان لهم مظهر يسر العين ويوحي بالبراءة والعفة وطيبة قلب أبطال الحكاية ، ينطبق عليهم ما وصفته الكتب المقدسة عن مظهر الإنسان ( وخلق اﻹنسان في أحسن تقويم ) . ولكن قصة وأبطال فيلم (شريك) كانوا بعكس ذلك تماما. حتى نفهم بشكل واضح مغزى فيلم ( شريك ) ودوره السلبي في النمو الروحي للأطفال لابد أن نذكر ملخص سريع لكل من حكاية اﻷميرة النائمة وحكاية الجميلة والوحش: حكاية ( اﻷميرة النائمة ) تحكي عن ملك وملكة طيبا القلب يحكمان بلادهما بمحبة وسلام وبشكل يحقق السعادة لكل سكان البلاد، ولكن كل ما كان ينقص هذه البلاد لتكتمل سعادة الجميع هو مولود يرث العرش ليتابع حكم البلاد في المستقبل لتبقى البلاد سعيدة إلى اﻷبد ، بعد سنوات تحمل الملكة وتلد أميرة صغيرة جميلة فيفرح الجميع بهذا الخبر وتقام الحفلات واﻷفراح ويشارك بها جميع سكان البلاد، ولكن جنية عجوز شريرة تغضب لولادة اﻷميرة ، فتقرر أن تصيبها بالسحر لتجعلها غير قادرة على وراثة العرش ، وعندما يصل عمر اﻷميرة إلى ستة عشر عاما تقوم الجنية الشريرة بعمل نوع من السحر على اﻷميرة تجعلها تذهب بنوم عميق إلى اﻷبد ، فيحزن الجميع على ما أصاب اﻷميرة، ولكن إحدى الجنيات الطيبات تخبر أهل المملكة بأنه بعد 100 عام سيأتي أمير شجاع على فرسه اﻷبيض وسيقضي على الجنية الشريرة وعندما يعطي اﻷمير اﻷميرة قبلة في جبينها ستستيقظ وتعود إلى القصر، لذلك عرضت الجنية الطيبة على أهل المدينة أن تقوم بتنويمهم جميعا لنفس المدة الزمنية التي ستنامها اﻷميرة، وذلك عندما تستيقظ اﻷميرة لكي تجد كل شيء على حاله كما كان ، فيقبل الجميع إقتراح الجنية الطيبة وينام الجميع نوما عميقا. ....بعد 100 عام يأتي اﻷمير على فرسه اﻷبيض إلى البلاد فتخبره الجنية الطيبة بما حصل ، فيحزن اﻷمير ويقرر إنقاذ اﻷميرة ، فيذهب إلى قصر الجنية الشريرة التي كانت قد تحولت إلى تنين ضخم يمنع أي شخص اﻹقتراب من غرفة اﻷميرة النائمة ، وبعد صراع طويل بين اﻷمير والتنين ،ينتصر اﻷمير عليه ويذهب إلى غرفة اﻷميرة ويقبلها من جبينها فتستيقظ وعندها يستيقظ معها جميع سكان البلاد ويتزوج اﻷمير من اﻷميرة وتعود السعادة والمحبة إلى البلاد ثانية كما كان اﻷمر في السابق. أما حكاية (الجميلة والوحش) فتحكي قصة رجل طيب قام بقطف زهرة جميلة من حديقة إحدى القصور ليقدمها لإبنته الجميلة ، وكان صاحب القصر أميرا مصاب بالسحر وهذا السحر كان قد حوله إلى وحش ، وعندما شعر الوحش بأن شخص ما قد دخل حديقة قصره ، ذهب وأمسك بالرجل الطيب وأراد أن يقتله ولكن الرجل شرح له سبب قطفه للوردة ، فقال له الوحش بأنه سيطلق سراحه بشرط أن يأتي بإبنته ليتزوجها و تعيش معه ، وعندما سمعت الإبنة الجميلة ما حدث مع والدها قبلت أن تضحي بسعادتها من أجل إنقاذ حياة والدها ، فذهبت وتزوجت الوحش ، وﻷن الوحش كان متأكدا بأن الفتاة الجميلة كانت تكرهه وأنها قبلت الزواج منه ليس حبا به ولكن رغما عنها لتنقذ والدها لذلك كان يعاملها بقسوة شديدة ليجعل حياتها جحيما ، وتمر اﻷيام واﻷحداث وبفضل ذكاء الفتاة الحسناء وحنانها و طيبة قلبها تستطيع في نهاية القصة أن تنمي في الوحش الطيبة والمحبة، و بهذه الطريقة تلغي مفعول ذلك السحر الذي أصيب به الوحش ، فيتحول عندها إلى أمير وسيم طيب القلب يحبها حبا جما ،وهكذا تعيش معه في القصر بسعادة وهناء. فيلم ( شريك ) يجمع هاتين الحكايتين بطريقة ساخرة وكأنه يسخر من تلك العواطف الرقيقة الدافئة التي كان يشعر بها اﻷطفال أثناء سماعهم لمثل هذه لحكايات ،فنجد الفيلم يبدأ بوحش شكله قبيح قذر يستحم بالطين كالخنازير، يعيش بعيدا عن الناس ، لا يحب أحد ولا يسمح ﻷحد أن يقترب من منطقته تماما مثل حالة الوحش في حكاية الجميلة والوحش ، ولكن في إحدى اﻷيام يرى حشد كبير من أبطال الحكايات قد دخلوا إلى منطقته هربا من قبضة أمير البلاد ، فيغضب الوحش . وحتى يستطيع التخلص من جميع أولئك المزعجين الذين دخلوا منطقته وجب عليه أن يقبل شرط اﻷمير بأن يذهب إلى برج التنين ليحرر اﻷميرة النائمة من سيطرة التنين ليستطيع اﻷمير الزواج منها. وهكذا وبدلا من أن يذهب اﻷمير نفسه على فرسه الأبيض لينقذ اﻷميرة النائمة كما يحصل في حكاية اﻷميرة النائمة، نجد في فيلم (شريك) الوحش يذهب بدلا منه ومعه حمار قبيح بدل الفرس اﻷبيض الجميل ، وبعد الصراع مع التنين ينقذ الوحش اﻷميرة فيأخذها معه إلى اﻷمير ، ولكن في طريق العودة تنشأ قصة حب بين الوحش واﻷميرة الجميلة ، وبدلا من أن تستطيع اﻷميرة الجميلة فك السحر عن الوحش ليتحول إلى أمير وسيم طيب القلب كما يحصل في حكاية الجميلة والوحش ، نجد أن اﻷميرة هي التي تتحول إلى وحش ،ويتحول شكلها من فتاة جميلة ( في أحسن تقويم ) إلى فتاة شكلها قبيح ساذج ، وفي نهاية الفيلم تتزوج اﻷميرة من الوحش وتنجب منه وحوش قبيحة صغيرة. إذا تمعنا جيدا في موضوع الحكايتين ( اﻷميرة النائمة - الحسناء والوحش ) نجد أنهما تخاطبان وبإسلوب عاطفي بديع ومسلي روح اﻷطفال وليس عقولهم ﻷن اﻷطفال لا تستخدم عقولها في فهم الحكايات واﻷحداث ولكن تتقبل اﻷشياء كما هي فكل شيء يسمعه الطفل لا يذهب إلى عقله ولكن إلى روحه مباشرة ، و هاتين الحكايتين تلخصان بطريقة مبسطة جدا مغزى التطور الروحي التي تمر به اﻹنسانية ، فاﻹنسان خلق في أحسن تقويم ، ولكن بسبب معصيته لأوامر الخالق تم طرده من الجنة ، لذلك في حكاية اﻷميرة النائمة نجد أن اﻷمير (كرمز للأنبياء أو المرشدين ) يحاول الصراع مع قوى الشر لينقذ اﻷميرة ( كرمز للمرأة ) لتقوم بدورها في إصلاح الصفات الروحية في المجتمع كالعواطف النبيلة من حنان ومحبة وسلام وحب التعاون والتسامح.... لتحل محل الغرائز الحيوانية من وحشية وكره وحقد وإستغلال وإنتقام وسلب وقتل ....، لذلك تأتي حكاية (الجميلة والوحش) حيث بطلة الحكاية الفتاة الجميلة هنا تعبر عن دور المرأة في إصلاح المجتمع ، حيث الوحش في هذه الحكاية هو رمز للغرائز الحيوانية التي تسيطر على سلوك الرجال ، والفتاة الجميلة ( كرمز للفتاة الصالحة ) هي التي تقوم بتحويل الوحش إلى أمير وسيم طيب القلب تماما كما يعبر عنه الحديث الشريف ( الجنة تحت أقدام اﻷمهات )، هذا المعنى المبسط في الحكايتين ينتقل إلى روح الطفل ويبقى هناك ليؤثر بشكل إيجابي على سلوكه ونموه الروحي ليسير الطفل وبدون أي وعي عقلي في الطريق السليم ، أما بالنسبة لفيلم ( شريك ) فنجد أن موضوع الفيلم يخاطب أرواح اﻷطفال بطريقة تجعلهم يسخرون من كل تلك التطورات التي جاهدت اﻹنسانية عبر آلاف السنين لتحقيقها ،فيلم (شريك) يجعل اﻷطفال يقومون في داخلهم ثورة ضد جميع هذه التطورات الحضارية لتجعل التطور يأخذ جهة معاكسة حيث تدفع روح الطفل إلى رفض الجمال والعواطف الدافئة والقيم السامية واﻷخلاق الحميدة ، وتسعى بدلا من ذلك إلى اﻹعجاب بالقباحة والغرائز الحيوانية ، فالهدف الحقيقي في الفيلم هو تكوين جيل جديد يسعى إلى دفع اﻹنسانية إلى الوراء نحو عصر الكهوف. كما فعل الوحش في الفيلم حيث نجده في آخر الفيلم بدلا من أن يعيش في المدينة بين الناس نراه يأخذ زوجته ويهجر القصر والمدينة ويذهب ليعيش في غابته كما تعيش بقية الحيوانات. ليوناردو دافنشي الذي يعتبر من أوائل عظماء الفن في التاريخ وأحد أهم مؤسسي عصر النهضة الأوروبية يقول عن الفن " الفنان هو ذلك الشخص الذي عندما يصف الماء يصف ذلك الماء الذي يخرج من النبع في الطبيعة و ليس ذلك الماء الموجود في جرة بيته". الفيلسوف وناقد الفن الفرنسي " ايبوليتو تاين" (1828- 1893 ) في كتابه " فلسفة الفن" يذهب ويوضح أكثر معنى الفن قائلا " بسبب وجود عوامل عديدة تساعد على تشويه وإخفاء صفات وشخصية الأشياء في الطبيعة ، قانون الطبيعة نفسه أجبر على ولادة مهنة الفن ليساعد الطبيعة في إظهار شكلها الحقيقي لتستطيع التعبير عن نفسها" وأنا بدوري أضيف توضيحا أشمل لمعنى الفن ودور الفنان " كل شيء خلقه الله لم يخلق عبثا ولكن ليأخذ دوره في المخطط الإلهي في تطور الكون، لذلك أعطى الله لكل شيء هوية تعبر عن روحه وسبب وجوده، والفنان هو ذلك الإنسان الذي يستطيع رؤية روح هذه الأشياء وهو الذي لديه القدرة على عرضها على الناس بعد نزع جميع الشوائب التي شوهت هذه الروح ، عندما تظهر هوية كل شيء بشكلها الصافي كما خلقها الله عز وجل ، يمكن للإنسان أن يرى حكمة قانون الخلق من خلال إنسجام وتناسق هذه الأشياء مع بعضها البعض وبالتالي تستطيع الإنسانية اختيار الطريق الصحيح في التطور لتصل إلى الصفاء الروحي و الجسدي. اليوم وفي كل مرة أسمع فيها النشرات الأخبارية العالمية وأرى من خلالها الفوضى العارمة و الوحشية التي تحكم هذا العالم أتساءل مع نفسي يا ترى جميع أولئك الذين شاركوا في صنع أفلام رديئة فاسدة روحيا ليراها اﻷطفال أمثال فيلم ( شريك) وعلى رأسها سلسلة أفلام الأطفال هاري بوتر من كاتب القصة، المخرج ، المنتج، ملحن الموسيقى ، دور النشر ودور الإعلان الذين روجوا لهذا النوع من اﻷفلام والكتب لتصبح أكثر مبيعا في عالم السينما والكتب، أتساءل : جميع هؤلاء في أي كوكب درسوا ليحصلوا على تلك المعارف عن معنى الفن التي جعلتهم يصنعوا هذا العالم القبيح و المظلم المقرف الذي يعيشه أبطال هذه اﻷفلام ليراه ويعيشه ملايين الأطفال في جميع شعوب العالم! لو أن أشجار العالم بأجمعها أرادت اليوم أن تعبر عما تعانيه أرواح أطفال شعوب هذا العالم لتحولت جميع هذه الأشجار إلى شجرة من نوع واحد وهي " الشجرة ذات الأوراق القرمزية "
وسوم: العدد 651