خاطرة قصصية، ذكريـــات
حدثني أبي ذات ليلة، وفي العين دمعة، وفي الوجه كآبة، وفي القلب حرقة وآلام …
قال لي: يا بني، اجلس قليلا لأحدثك، فها قد كبرت في عيني، ولم تعد صغيرا…
فأصخت إليه وقلت :
-أحاديثك درس لا ينسى ، فهاتها أنتفع بها .
قال :- بني الحبيب ، اعتصركَ الألم رضيعا ، وعشت في أحضان الأسى ، ونشأت في عنفوان الجريمة ، ولما درجت في مدارج الشباب كنتُ قد مسحت عن عيني الدموع ، وعشت للإسلام خادما ، ، ولأخلاقه متبعا ، وللعمل مخلصا ، وبه سعيدا كل السعادة …
قلت له : فلم تحزن يا أبتاه ؟ وقدر الله إذا حم لارادّ له … ألست علمتني هذا ؟ أليس الرزق محدودا ؟ وغيرك قد أصيب بما هو أمر وأقسى .
أجاب وفي الحلق غصة :
-أحزن للإسلام الضائع الذي جاء رحمة للعالمين ، فكان لدى المنافقين نقمة .
-وكيف ؟
-ليس الأمر كما فهمت يا بني ، ولكن أدعياء الإسلام شوهوا صورته ، تلفعوا بالسواد ، وانطوت قلوبهم على الظلمة ، راحوا يكيدون ويتهمون ، ويسخرون ويفترون عنجهية وكبرياء ،وإنا لله وإنا إليه راجعون …
- ألهذا الحد يصل الأمر ؟ فأين الدين وموقف الحساب والحياء من الله سبحانه ؟
-هذا ما قصدته يا بني … و بتصرفات هؤلاء نقم الناس على الإسلام ، والإسلام من الشر بريء .
تحسرت من أعماق فؤادي … وحدثت نفسي بأحاديث شتى ، وراحت ذكريات المعاناة تراود مخيلتي … نعم أعرفه، كان كما يقول لأبي إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، يفتعل مشاكل ليقصي والدي … ليزيد رزقه باعتلاء منصب أعلى ، كان ينقل إلى مالك الأمر صورة غير الصورة … وكان المدير راضيا عن والدي ، ولكن مالك الأمر لايعرف فضله وجهده .
بضع عشرة سنة عانى والدي وصمد ، إلى أن كان ما كان في العام الأخير ، وسانده بعض زملائه ليحققوا مآرب ارتأوها لصلته بمالك الأمر ، وعزل أبي عن العمل !!…
تفجر حزنا وأسى ، وطوى الكشح على الألم ، أخفى الدمع وأظهر الجلد …
قلت لأبي :
- أعهدك يا أبت صابرا محتسبا
- قلبي يابني لايزعزعه خطب ألم ، ولكني أبكي الإسلام ، كنت لا أتحدث لئلا أسيء إلى سمعة المسلمين ، ليكونوا في نظر الآخرين كالزهرة الفواحة ، ، ولكني الآن يابني أردت أن أعرفك الحقيقة المرة . الإسلام يابني كامل الفضل والنبل ، فالله سبحانه قال " اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا " ، ولكن أبناءه لم يلتزموا به حق التزام ، مسلمون بلا إسلام ضائعون تائهون .
وصمت قليلا ثم قال : ها قد عاد " عبد الله بن أبي بن سلول " ينخر في جسد الأمة أفرادا وجماعات ، ومعه أبالسة شياطين أ أبو جهل ، وما أكثر أمثال أبي جهل في ثياب المسلمين ؟
وتحسر قليلا ثم قال :
-بني يا حبيب القلب … كنت في عمرك أعيش عيش النقاء والصفاء … بقلب طاهر لايمازجه الران … ثم بدأت أرى الظلم والمعاناة … كنت أجول بعيني في كبد السماء فأرى فيها الرحمة المهداة ، وأنقل الطرف إلى عالم الأرض فأرى الكيد والفساد، أستعيذ بالله مما أرى ، أفرك عيني لأصحو فلعلني في حلم أو في غفلة ، أنظر بمرآة أخرى فأرى الثرى يتشح بالسواد قد لبس ثوب الحداد …
أسائل المعمورة: لم اصطبغت بهذا اللون القاتم وكنت أراك خضراء نضرة؟ فتجيبني والدموع تنهل من عينيها :
- الخراب حل في والدمار .
فأقول لها :
- أسألك بالله :أليس على ظهرك أخيار صلحاء ؟
- ولكن هجمات الذئاب طغت على النقاء … وأكثرهم فاسقون .
- ويحك … هؤلاء شيوخ ومتلفعات بالسواد , هم بركة من أهل السماء إلى هذه الديار
فترد بنبرة الواثق:
- لا تغتري يا نفس ، فأنت لا تعرفين القلوب ، أدعياء إسلام يكيدون له كيدا ، قد طووا أفئدتهم على الحقد والدهاء ، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الماء ، إنهم ذئاب في مسوح بشر …
قلت :
- لا عليك يا أبت ، فالرزق على رب العباد ، وهو مقدر ولن يحور .
- هذا ما نوقن به ، والحمد لله أن قدر الأرزاق .
- فلم الحزن إذا يا أبت ؟
- ليس من حزن على الدنيا ، ولا اعتراض على قدر الله سبحانه ، معاذ الله يا بني ، ولكن القلب يتفطر ألما من الافتراء والدسائس .
- ولكن رحمة الله واسعة .
- نعم وبوادر فضله قد بدت .
وصمت قليلا ثم قال :
- أبكي الإسلام الضائع ، وإلى الله المشتكى .
- ضيعه أمثاله ، وإنا لله ، وإنا إليه راجعون …
- نعم ها قد عرفت الدرس حقا ، والمؤمن مبتلى، فكن يابني إن استطعت، ولن تستطيع، فالأمر جد صعب في تقوى عُمر ودهاء عَمرو، والله مع المتقين، " ولن يَتِرَكُمْ أعمالَكم "، " ولتُسْأَلُنَّ عما كنتم تعملون " .
- صدق الله العظيم .
وسوم: العدد 651