ذكريات طفل في ( حي الحويقة )

قاسم ميثاق الحسين

من سراديب الذاكرة

الحويقة روضة من رياض الجمال في دير الزور يحضنها نهرالفرات الثر بفرعيه حانيا عليها حنوالأم الرؤوم  الشفوق على بكرها الصغيرتأخذه بحضنهاالدافء الرحيم المفعم بالحب والحنان هذه هي الحويقة الجميلة الأنيقة ، ضرب عليهاالحسن قبابه وخيامه ، واختارها الجمال لتكون متبوأه ومقامه، واصطفاها البهاءليتخذ منهامستقره ومنزله.  يكاد الحسن أن يغار من رونق حسنها ، وتحمر البهجة خجلا من بهجة حدائقها ونضارة بساتينها . عبق العطور الناعشةمن أريج ورودها وأزهارها ، والنشر الفواح في الآفاق من عبق  فلها وياسمينها . هذه هي الحويقة الجميلة الأنيقة ، عروس رفلت بأثواب الربيع المونق ، فتجلت فأبهرت  بجلوتهانواظر المجتلين وأسرتهم بباهر زينتها وبهاء طلعتها . علقتها طفلا صغيرا يدرج في ملاعبها ويرتاض في حدائقها وبساتينها فيأكل من طيب جناها وناضج ثمارها . ويتمرغ على شطآن نهرها مرحا وجذلا، ويغمس في حمارة القيظ اللاهب جسمه الغض في رقراق سلسبيله ، ويمتع ناظريه برؤية السابحين العابرين الى الحويجة النهرية بالقرب من الجسر المعلق كان بعضهم يعبر النهروهو يدفع أمامه بطيخة تطفو على السطح حينا وتغطس حينا آخر  فمنهم من تصل معه الى الحويجة بسلام فتند من فمه صرخات الفرح والسرور ، لانه سيتمع واصحابه بروعةحلاوتها ولذة                                ( جمارتها ) ومنهم يجرفها النهر الدافق فلايقدر على اللحاق بها فيتركها وهو في غاية اللهفة والحسرة وآخرون يعبرون وقد حملوا ثيابهم بيد ويصارعون الماء باليد الأخرى ، كانت الحويجة البديعة ملاذ الناس في الصيف اللاهب يتمرغون برمالها ويتفيؤن ظلالها كما كان الجسر المعلق موئل المغامرين يقفزون من اعلاه بكل جراة غير هيابين ولا خائفين هذه هي الحويقة وهذا نهرها الفياض الثر المعطاء

لي في مغانيها الف ذكرى وذكرى لكل ذكرى نكهة خاصة ومذاق فريد . ذكريات محفورة في جدران ذاكرتي متجذرة في أعماق وجداني وجدتني وانا أستدعي هذه الذكريات أدلف الى دار جدي لأمي - رحمه الله - في الحويقة وكانت دارا واسعة كبيرة لها بابان يطلان على شارعين ينتهي أحدهماإلى أرض فسيحة نصبت فيها  ( تنانير )يخبز فيها نساء الحي القريبات اللواتي كن يتخذن من دار جدي معبرا للوصول إلى تلك التنانير وكأني بهن أمام ناظري الآن يتهادين  بمشيتهن وهن يحملن على رؤوسهن (مخامر الخبز ) المقمر كهيئة البدر التمام ، وتتمثل امامي وانا اخط هذه السطور صورة جدتي - رحمها الله -وقد تحلق أحفادها حولها تدغدغ قلوبهم فرحة غامرة يراقبونها وهي تخبز ( السيالي ) الذي كانت تتحفنا به بين الحين والآخر والذي كنا ننتظره بلهفة وشوق بالغ ثم تعرض لي صورةجدي - رحمه الله - واقفا على السلم الخشبي وهو يحمل مقصا كبيرا يهذب به ويقلم عريشة العنب المتدلية على فناء الدار كأن عناقيدها مصابيح فضيةصغيرة نضد بعضهافوق بعض اوتراه يحملق في شجرات النخل الباسقة يتفحص رطبها الجني الطيب الحلو كل يوم مخافة ان يكون أحد من الاهل والجيران قد سطا على بعضه كان لايحب لاحد ان ياخذ منها رطبة واحدة دون علمه وارادته ولم يكن احد من اهله يجرؤعلى تسلقهااوهزها لتسقط ثمرهاغير طفل مشاغب مشاكس ، العبث و( الشقاوة ) ملء إهابه ، كان يتحين فرصة غياب جده عن البيت فيأتي من حي الحميدية ليتسلق تلك النخلات فيهزها هزا تتساقط له كل مانضج من رطبها فيتداعى الاهل والجيران لالتقاط مايقدرون على التقاطه والهرب من مسرح الجريمة قبل ان يأتي الجد فيحدث لهم ما لاتحمد عقباه كان هذا الطفل اول الهاربين واول المتهمين كان الجد يبرق ويرعد ويتهدد ويتوعدفيتغيب اياما حتى تنحسر موجة غضب جده اتعرفون من هذا الطفل 

( العابث المشاغب ) ؟ اظنكم ستعرفونه ، إنه كاتب هذه السطور وسارد هذه الوقائع التي طواها الزمان فاصبحت فعلا ماضيا ولكنها لم تزل في ذاكرتي على طول العهد بها حاضرا شاخصا استدعيه دون مشقة اوعناء كنت استرضي جدي الغاضب  

-رحمه الله - واستل من قلبه غيظه وحنقه بحيلة ماكرة كنت اجمع - من بيتنا - قشورالبطيخ وكسر الخبز اليابس في كيس ثم انطلق الى دار جدي فادلف على عجل دون استئذان اوسلام متوجها الى مربض الخاروف القابع في زاوية الدار فانثر امامه القشور وكسر الخبز على مرأى من جدي وجدتي  اللذين تملأ ضحكتهما الدار  من هذه الحيلة المكشوفة المعروفة 

فاضحك لضحكهما وأسرلسرورهما وتنجلي عني غمامة الخوف من تقريع جدي وتأنيبه ومايمضي غير قليل حتى يدب الخلاف بيننا فيعلو صراخه - رحمه الله - فيزجرني وينهرني فيأخذني من ذلك غضب شديد فأركض دون وعي مني الى مربض الخاروف المسكين الذي لاحول له ولا قوة فاجمع من امامه بقايا القشور وكسر الخبز التي لم يهنأ بها وانطلق وسط حشد من الاهل والجيران الذين هيجهم من بيوتهم صراخ جدي المرتفع الى الفسحة الكبيرة القريبة وانثر مامعي وامرغه بالتراب حتى  لايستفيدوا منه بعد هربي .كنت

اسمع من ورائي قهقات الجيران والاهل من هذا المشهد ( الكوميدي ) الساخر رحم الله جدي وجدتي فقد تحملا عبثي كثيرا   ويكبر هذا الطفل الصغير ويصبح شابا هادئا عاقلا وتصبح تلك الذكريات قصصا يتندر بها في مجالس الاهل والاحباب .إهداء لأخوالي ( آل الضامن والمضحي )

وللمشاركين الأعزاء.

وسوم: العدد 661