ذكريات طفل في يوم عيد
قبل مايقرب من خمسين سنة
في دير الزور قاسم الحسين:
ماأجمل العيد في بلدي وماأروع ٱشراقة فجره وماأعذب صوت جدي ـ رحمه الله ـ وهو يوقظني بكلمات تقطر رقة وحبا : انهض يابني ألاتعرف أن اليوم أول ايام العيد انهض وصل الفجر ثم هيئ نفسك لصلاة العيد ،على طول العهد بتلك الأيام الرائعة مازال يراودني ذلك الاحساس الجميل الآخاذ بروعة تلك اللحظات الجميلة ومازال يرن في سمعي اصوات التكبير التي كانت تنبعث من مأذنة جامع (تكية ) الشيخ ويس النقشبندي تدغدغ قلوب السامعين بفرحة غامرة بروعة هذه الأجواء الرائعة والمظاهرالخلابة فتحس بأن كل شيئ يرقص من حولك سعادة وحبورا ويملأ عيني دهشة وإعجابا أفواج المصلين وهي تيمم وجوههاشطر مسجد النقشبندي وهي تلهج باصوات عذبة بالتكبير وقد أستنارت هذه الوجوه ابتهاجا وفرحا وارتسمت على افواههم ابتسمات مشرقة مرحبة بالمنحةالربانية المتجلية في هذا العيد المبارك بأجوائه الرائعة. ومظاهره الخلابة
تراهم في المسجد خاشعين مخبتين منصتين إلى خطبة الشيخ العالم الفاضل أبي مظهر عبد الجليل النقشبندي ـ رحمه الله ـ يرشدهم فيها الى فضائل هذا اليوم
ويهديهم الى أفضل الأعمال كصلة الأرحام والصدقة على المحتاجين والتوسع في المأكل والمشرب على اهليهم ثم ترتفع أصواتهم مؤمنين على دعاء الشيخ وفي نهاية الخطبة يقبل بعضهم على بعض بالعناق الحار يتبادلون التهنئة بهذا العيد المبارك
ثم يتدافعون الى ساحة المسجد يرقبون يلهفة بالغة ( صواني الحبية ) وهي أكلة مشهورة في دير الزور وكان يصنعها الشيخ عبد الجليل النقشبدي ـ رحمه الله ـ للمصلين جريا علي عادة حميدة ورثها الشيخ عن آبائه الكرام وهي شبيهة بأكلة الهريس في دول الخليج فيقبلون على (الحبية ) اقبال محب لايرى حبيبه إلا مرة واحدة كل عام فتخيل ماذا يفعل من كان هذا حاله كانت ضحكاتهم وهم يأكلون ترن في الاسماع يتبادلون الطرائف اللطيفة والنوادر المبهجة وترى على باب دار الشيخ عبدالجليل ـ رحمه الله ـ صفا من الأولاد وقد حملوا آنيتهم ينتظرون حصتهم من ( الحبية ) وهم في منتهى الفرح والسرور لقد كان لهذه المظاهر روعتها وجمالها وأنسهاوبهاؤها
واني وقد مرت عليها سنون مديدة لأحس بنشوتها العذبة وحلاوتهااللذيذة تملأ علي روحي وتهز كياني وكأن الشخوص والأمكنة ماثلة أمام ناظري أعاينها الساعة غضة طرية . سقيا لتلك الايام وأهلهافكم كانت طيبة مباركة .
كنا نرجع بعد ذلك إلى الدار على عجل تدغدغ نفوسنا فرحة قبض (العيدية )من الجد والأب والأعمام نسلم على الحضور جميعا نعانقهم بشوق حميمي ونقبل يد من يستحق التقبيل لسنه ومكانته ونسلم خدودنا ـ على مضض ـ لقبلات عجائزنا الحارقة الخارقة (مطق ـ مطق ) نقلب عيوننا بين الحاضرين لنرى من يبادر اولا فيمنحنا (العيدية ) كنا في اول الأمر نتأبى عن أخذها بخجل مصطنع ثم نأخذها تحت ضغط الالحاح فندسها في جيوبنا ونحن نتطلع إلى غيرها نلبس ثياب العيد الأنيقة الجميلة الزاهية والأحذية اللماعة دون ان يعن على خاطرنا أن آباءنا في ـ الغالب ـ كانوا يتحملون أعباء الديون الثقيلة في سبيل شراء هذه الألبسة من أجل إدخال البهجة على نفوسنا وماعرفنا ذلك إ لا بعد أن كبرنا اللهم انزل شآبيب رحمتك عليهم وأكرم نزلهم وأحسن مثواهم
وكنا بعد ذلك نخرج مع جدي ومن حضر من أعمامي الى المقابر نزور الموتى نقرأالفاتحة وندعو لهم بالرحمة والمغفرة وهذا ما كان يفعله كثير من أهل الدير تراهم مجتمعين على قبور موتاهم منهم من يدعو ومنهم من يقرأ القرآن ومنهم من يوزع الحلوى التي كانت في أكثر الأحيان (الكليجة ) منهم يسقي شجرة خضراء قد نبتت على ظاهر القبر وآخرون علت أصواتهم بالبكاء على أب كريم أوزوج عزيز أو أخ حبيب وكانت تأخذنا الدهشة والاستغراب من بكائهم فقدكنا صغارا لانحس بألم فراق الأحباب كمايحسون ولا نألم كمايألمون .
كنا نتمنى ان لاتطول الزيارة فأصحابنا واولاد أقربائنا كانو ا ينتظرون لقاءنا على أحر من الجمر لنذهب فنتمتع بمظاهر العيد وأجوائه الاحتفالية كنا نعرج احيانا على بعض أقربائنا نبارك لهم بالعيد طامعين ان ينفحونا بالعيدية وكنا قبل ذلك لا نزورهم الا في المناسبات المهمة ولكنه الطمع الذي يحرك النفوس لطلب الزيادة
كانت العيدية تتشتت مابين شراء الحلوى ( الطيب وناهي والهريسة وسندوييشات الفلافل والبطاطا والعجة وشراء الالعاب النارية (الطقطاق والفتاش )
وأحيانا نبذخ فنأكل الكباب
إذا كانت العيدية تسمح بذلك كان مجمع الاحتفال بالعيد بالفرب من جامع الراوي ومقبرة الشيخ ياسين وكنا نحب ركوب المراجيح وعربات النقل التي كان يجرها حصان هزيل مصاب بسو ء التغذية وكأنه لم يذق طعم الشعير منذ زمن بعيد كان أصحاب العربات يستغلون فينا سذاجة طفولتنا وسلامة صدورنا فيغرونا للركوب بعروض جذابة تجعل الاطفال يتزاحمون للركوب معهم كانوا يستخدمون بعض العبارات المشوقة والتي لم تكن في الحقيقة الاكذبا وخداعا : (اركب عالمشنوق بفرنكين )فنركب معه ونحن يحدونا الشوق إلى رؤية هذا المشنوق الذي لم يكن في واقع الأمر إلا وهما وخيالا
فيذهب بنا إلى قريب منطقة (الخسارات ) ولم يكن العمران قد استبحر ووصل الى تلك المنطقة ولم نر في رحلتنا الميمونة (المشنوق ولا المحروق ) وإنما رأينا في طريقنا قاعا صفصفا لاترى فيها عوجا ولاأمتا ولم نكن نجرؤ على سؤاله عن المشنوق فقد كان عصبي المزاج سريع الغضب وخشينا ان يلهب أجسادنا الغضة مسلاقه الذي لايرحم وكان يصرخ بنااذا وصلنا : ( انزلوا إجا أبوكم ) وهي عبارة يرددها اصحاب المراجيح والعربات للإيذان بانتهاء جولة الركوب
ومن الذكريات اللذيذة التي تثير في نفسي عاصفة من الشوق والحنين زيارة بيت جدي لأمي وكنت أذهب إليه بصحبة أمي وأخواني فنلتقي بجدنا وجدتنا وخالاتناوأخوالنا لنأكل (السيالي )
الذي كانت تصنعه جدتي والذي أصبح عادة جارية لاتكاد أن تتخلف وكنا نسرح ونمرح في ساحة الدار الكبير ة ونستظل بظلال عريشة العنب وشجرة الإجاص (العرمط ) المحببة إلى جدي رحمه الله سقيا لتك الأيام ما أروعها وأجملها رحم الله من عاصرناهم ومن خالطناهم ثم غيبهم الموت فتركوا في نفوسنا من الذكريات مايجعلهم كأنهم حاضرون بيننا .
سقى الله تلك الأيام