خواطر من الكون المجاور..الخاطرة 110 : عصر بلا جمال

لعل من أهم أسباب المشاكل اﻹجتماعية التي تعاني منها الإنسانية في العصر الحديث هو تدهور مفهوم الجمال في ذوق اﻹنسان الحديث. وتحول الجميل في نظر اﻹنسان إلى قبيح والقبيح إلى جميل. المقصود بمفهوم الجمال هنا ليس بمعناه العامي ولكنه بمفهومه الحقيقي والذي يعطي لكل شيء قيمته وأهميته في التطور الحضاري.

نعتقد بأن معيار الجمال في الشيء هو أمر نسبي حسب ذوق كل إنسان ، وأنه يتوقف على عوامل عديدة مرتبطة بكل إنسان ،وذلك حسب تقاليد مجتمعه ،نوعية ثقافته ، ديانته ، ميوله . ... إلخ ، فهذه العوامل المختلفة تجعل لكل إنسان تقييم خاص لصفة الجمال..... هكذا نعتقد ، أو اﻷصح هكذا فرضت علينا القاعدة الثقافية الحديثة التي إكتسبناها من خلال الكتب المدرسية والروايات واﻷفلام السينمائية ومختلف وسائل اﻹعلام في العصر الحديث. فهل حقا أن صفة الجمال تختلف من شخص إلى آخر أم أنه يجب أن تكون واحدة عند الجميع ؟

أول من إستخدم مصطلح علم الجمال ( اﻹستاطيقا ) هو الفيلسوف اﻷلماني ألكساندر غوتيب بومغارتن ( 1714-1762) ليصف به الدراسات اﻹنسانية لتعريف الجمال. هذا المصطلح مصدره اللغة اليونانية (αισθητικη) هذه الكلمة تأتي من كلمة شعور أو إحساس ، فالشيء الجميل هو الذي يؤثر بأحاسيسنا فيجذبنا نحوه. ولكن هل فعلا كل شيء يؤثر في أحاسيسنا هو شيء جميل ؟ طبعا لا ، فكما ذكرنا في مقالات ماضية أن اﻹنسان يتكون من كائنين ، كائن علوي ( عاطفي ) وكائن سفلي ( غريزي ) ، فالمقصود بكلمة (جميل) هو ذلك الذي يؤثر في الكائن العلوي في اﻹنسان. أما ذلك الشيء الذي يؤثر في الكائن السفلي فهو القبيح.

للأسف نحن نعيش اليوم في عصر إختلط الجميل مع القبيح فأصبحت معايير الجمال عشوائية لا معنى لها لذلك أصبحت تختلف من إنسان إلى آخر ، ﻷن معايير الجمال ونقصد هنا به الجمال الذي يؤثر في الكائن العلوي فقط فيجب أن تكون واحدة في جميع سكان العالم. ﻷن الكائن العلوي في جميع أنحاء العالم له قوانين واحدة. لتوضيح هذه الفكرة بشكل أفضل لا بد لنا في البداية شرح الفرق بين الجميل والقبيح.

الحكمة اﻹلهية في تصميم اللغة اليونانية ( لغة اﻹنجيل ) توضح لنا المعنى الحقيقي لمفهوم الجميل ومفهوم القبيح ، فكلمة قبيح في اللغة اليونانية هي (ΑΣΧΗΜΟ اسخيمو ) ومصدر هذه الكلمة هو ( ΣΧΗΜΑ سخيما ) ومعناها ( شكل ) حيث أن إضافة حرف Α في بداية الكلمة يغير معناها إلى ( عديم الشكل ) ، فكلمة قبيح هي صفة لذلك الشيء الذي لا شكل له ، وبدقة أكثر هي صفة ذلك الشيء الذي لا يوجد أي إنسجام وتوافق بين شكله ومضمونه. والذي يجعل شكله عشوائي دون معنى واضح يحدد سبب وجوده.

أما كلمة جميل في اللغة اليونانية فهي( ΩΡΑΙΟ أوريو ) وهذه الكلمة مصدرها كلمة (ΩΡΑ أورا ) ومعناها وقت ، فمعنى جميل هو كل شيء عندما يكون في وقته المناسب ، والمقصود هنا هو عندما تكون عناصر تكوين الشيء في كامل إنسجامها مع بعضها البعض. فالثمرة مثلا تأخذ جمالها الكامل عندما تصل إلى أفضل مرحلة في نضجها. واﻷمر ينطبق على كل شيء في هذا الكون فكما هو معروف في علم التطور أن الحياة تطور نحو اﻷجمل ، فالجمال يزداد مع إزدياد نسبة اﻹنسجام وكلما زادت نسبة اﻹنسجام كلما كان الكائن الحي أكثر رقيا في التطور أي أكثر صلاحية للحفاظ على نفسه ضد العوامل البيئية التي يعيش فيها ،

علم الجمال يعتبر جوهر اﻷبحاث الفلسفية ﻷنه يبحث في طبيعة وتطور مضمون اﻷشياء واﻷحداث ، رغم أنه لم يشغل فكر الفلاسفة في العصور الماضية بشكل مباشر ، ولكن الفيلسوف اﻹغريقي سقراط وبسبب أنه كان في البداية فنانا ( نحات ورسام ) لذلك أعطى في أبحاثه أهمية لمفهوم الجمال ، فهو لم ينظر إلى الجمال بمفهومه الحرفي ولكن نظر إليه كمفهوم شامل، فالجمال كان بالنسبة له هو كل شيء فيه خير، صالح لمنفعة اﻹنسان ، فكان يعتقد أن الخير ( الجمال ) واﻷخلاق ليست إلا وجهين لنفس العملة ، فلا يمكن فصل الجمال عن الفضيلة ﻷن كلاهما مرتبطان ببعضهما البعض ومنهما يتم معيار فائدته للإنسان.

الفيلسوف سقراط حاول أن يعطي الجمال معناه الفلسفي و الفيلسوف اﻷلماني ألكسندر غوتيب حاول أن يوضح هذا المفهوم بشكل أفضل وكذلك فعل الفيلسوف هيجل ولكن بعد ذلك اﻷمور سارت بطريق مختلف تماما فمع ظهور الرؤية الماركسية وتيارات الفن الحديث المختلفة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر خسر ( الجمال ) معناه الحقيقي.

الروح هي أساس وجود كل شيء ، بدون الروح يعني الفناء المطلق ، كل روح تحاول أن تصنع لنفسها الشكل المادي الذي يعبر عنها ، فكلما كانت الروح نقية من الشوائب كلما كان هناك توافق وإنسجام أكبر بين الشكل والمضمون ، فكلما ازدادت نسبة اﻹنسجام هذه كلما زاد شعور اﻹحساس بجمال الشيء، فمهمة الفنان ليست محاولة تقليد الطبيعة ولكن دوره هو تقليد المضمون الموجود داخل عناصر الطبيعة ليجعله يظهر بشكل واضح يستطيع أن يشعر به أكثر الناس العامة ، ففهم المضمون يعني فهم سبب وجود هذا الشيء، ولتحقيق هذا الغرض نجد أن الفنان في العصور الماضية قد أضطر إلى إستخدام الخيال ليستطيع التعبير عن المضمون ، فنجد مثلا أن الفنان الذي صنع تمثال أبو الهول قد عبر عن الكائن السفلي للإنسان بجسد أسد ، ليحمل مضمونه أن اﻹنسان يتكون من كائنين سفلي وعلوي ، العلوي هو كائن مبدع والسفلي هو تعبير عن القوة.

فالجمال في الحقيقة هو معنوي وليس مادي ، فكل شكل هو في الحقيقة تعبير عن الفكرة التي يحويها هذا الشكل ، لذلك اﻹحساس بالجمال يتوقف على مدى قدرة فهم اﻹنسان لهذه الفكرة ،أو بمعنى أوضح يتوقف على قوة البصيرة في اﻹنسان ، كما ذكرنا في مقالات ماضية بأن بصيرة اﻹنسان الحديث ضعيفة جدا إذا قارناها مع بصيرة اﻹنسان الذي عاش في العصور الماضية ، فرغم تقدم العلوم المادية والتكنولوجيا في العصر الحديث ولكن للأسف كان هذا التقدم مصحوب بإنحطاط روحي شامل.

فمثلا أشهر شخصيات أفلام الكرتون المحبوبة للأطفال منذ ظهور فن السينما هو الفأر ميكي ماوس ، بينما وجب أن تكون هذه الشخصية أكثر بغضا بالنسبة للأطفال ﻷن الفأر ككائن حي هو كائن ذو روح سوء ( نجس ) وهذا ما دفعه ﻷن يعيش في اﻷماكن المظلمة والقذرة ، لذلك فهو يعتبر من أخطر الحيوانات الحاملة للأمراض التي قد تصيب اﻹنسان. ولكن بسبب ضعف بصيرة فناني العصر الحديث نجد اليوم أن الفأر قد أخذ مكانة عالية في قلوب اﻷطفال ، فالسينما اليوم بشخصية ميكي ماوس قامت بنوع من الغسيل الدماغي لعقول اﻷطفال لتجعلهم بدلا من الشعور بالقرف واﻹشمئزاز من رؤية الفأر إلى اﻹعجاب به ، فتحول القبيح إلى جميل في نظر اﻷطفال.

أيضا مسلسل الكرتون الشهير ( توم وجيري ) حيث نجد أن الفأر ( جيري ) هو البطل وهو الذكي وهو المحبوب ﻷنه يصنع اﻷحداث الطريفة والمضحكة في هذا المسلسل، بينما القط ( توم ) هو الغبي وهو الشرير في هذا المسلسل ، هنا أيضا يوجد عملية تشويه الجمال ﻷنه في الواقع القطة تعتبر حيوان ذو روح خيرة لذلك وجودها قرب اﻹنسان يعتبر شيء مفيد للإنسان ولهذا السبب بعض الديانات تعتبر القطة حيوان مقدس، وربما بسبب هذا المسلسل نجد بأن نسبة كبيرة في المجتمعات الغربية تكره القطط وتفضل تربية الكلاب بدلا منها.

أفلام باتمان ( الوطواط ) والتي أصبحت من اﻷفلام المحبوبة جدا للأطفال ، هنا نجد أيضا بأن شخصية بطل هذه أﻷفلام قد أخذت من حيوان ( الخفاش ) والذي روحه تعتبر أيضا رمز من رموز روح السوء ، لذلك نجد الخفاش بشكل عام يعيش في اﻷماكن المهجورة ويظهر فقط في الليل عندما يحل الظلام ﻷنه حيوان أعمى ، وعندما ينام ينام بشكل مقلوب كرمز لروحه التي تتجه في تطورها نحو اﻷسفل .

في الماضي كانت المرأة الجميلة في نظر الرجل هي تلك التي يتمناها أن تكون زوجته وأم أطفاله ، لذلك كانت الممثلات في السينما والتلفزيون اللواتي تلعبن دور البطولة وجوههن فيها ملامح الطيبة والبراءة والطهارة مثال على ذلك الممثلة فاتن حمامة ، شادية ، مريم فخر الدين وسميرة أحمد وغيرهن ، أما اليوم فاﻷمر مختلف نهائيا فالمرأة الجميلة في نظر الرجل أصبحت تلك التي تثير شهواته الحيوانية ، فممثلات اليوم الجميلات حسب رأي وسائل اﻹعلام هن التي يستحقن لقب ( رمز الجنس ) .

في الماضي كان الشاب الوسيم إما أنه يحلق ذقنه يوميا أو يتركها كلحية، وكانت ثيابه تحقق نوع من اﻹنسجام في الشكل وفي اﻷلوان لتعطي اﻹحساس بالنظافة والشخصية الجادة وكان تناسق جسمه يعبر عن إنسان محب للسلام ، ولكن اليوم وبسبب إختلاف معنى الجمال بالنسبة له أصبح يترك ذقنه من دون حلاقة وكأنه نسي أن يحلقها لأيام ، وبنطاله مشقوق في عدة أماكن ليعطي إحساس عام يعبر عن إنسان متسكع في الشوارع بلا مسكن وبلا مأوى أما تناسق جسده فأهم صفاته هي نفور عضلاته بشكل يعطيه مظهره وكأنه ملائم للقيام بأعمال العنف والمشاجرة .

أما بالنسبة للموضة وشكل الثياب وعلاقتها بالجمال، فربما وصف أحد كبار السن في اليونان يعبر تماما عن مدى إختلاف اﻷوضاع عما كانت عليه في الماضي. حيث قال لي ( عندما كنت شابا ، كنت عندما أدخل في شارع دور الدعارة دون أن أدري كنت أعلم مباشرة أن النساء الموجودات في هذا الشارع هن غانيات وذلك من نوعية الثياب التي ترتديهن، أما اليوم فمن الصعب أن تعرف إذا كنت تسير في شارع دور دعارة أو لا ، ﻷنه لا يوجد أي فرق في شكل ثياب فتاة عادية وفتاة من دور الدعارة) . فالموضة اليوم تفرض على المرأة أن تكون ثيابها مثيرة للكائن السفلي عند الرجل، ﻷن هدف الموضة اليوم ليس تقوية اﻹحساس باﻹنسجام والتوافق نفسه ولكن اﻹثارة الجنسية فقط.

قبل ظهور شكسبير على المسرح الإنكليزي ،كان المسرح اﻹنكليزي مسرح قبيح وقذر،حيث كانت مواضيع المسرحيات بشكل عام تتعلق بالزنى والعلاقة الجنسية ، وكان الحوار يستخدم كلمات بذيئة ، فكانت كل فرقة مسرحية تحاول أن تجد طريقة أقوى في إثارة المشاهدين جنسيا لتضمن أكبر عدد من المشاهدين وبالتالي بيع أكبر عدد من التذاكر. لذلك كان مشاهدي هذه اﻷعمال المسرحية من الطبقة الجاهلة ثقافيا والمنحطة أخلاقيا. لهذا السبب هاجمت الكنيسة المسيحية في إنكلترا هذه المسارح وطالبت الملكة باغلاقها ﻷن المسرح أصبح شكلا آخر من أشكال دور الدعارة ،مما جعلها أماكن قذرة بكل معنى الكلمة ، وكانت اﻷمور على وشك أن يتم إغلاق جميع المسارح. في تلك الظروف ظهر شكسبير ، وكتب روائعه الخالدة التي تستند على الجمال في كل شيء ،جمال الشخصيات ، جمال الحوار ،جمال المشاعر ،جمال المواضيع المطروحة ..... ليحول المسرح اﻹنكليزي من دور دعارة إلى مسرح إنساني حضاري يساهم في إزدهار الحياة اﻹجتماعية ويجذب نحوه مشاهدين من الطبقة المثقفة واﻷرستقراطية.

للأسف غياب الفلاسفة في عصرنا الحاضر وتحول مادة الفلسفة إلى نشاط فكري آخر ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بعلوم الفلسفة الحقيقية والتي دورها دراسة توافق الشكل مع مضمون اﻷشياء ، أدى إلى تحول الفن إلى شيء عشوائي بدون تعريف واضح ، فسمحت الظروف لكل معقد نفسي أو محتال أو دجال بأن يمسك الريشة أو القلم أو آلة موسيقية ليقوم بسرقة من أعمال فنية أخرى مجهولة في بلده ليعمل منها قطعة موسيقية أو لوحة أو تمثال أو قصيدة ولكن بطريقته هو ليخدع نفسه ويخدع اﻵخرين وليصنع من نفسه فنانا يجذب المعجبات ليشبع شهواته ولتنشر وسائل اﻹعلام فضائحه الجنسية فيعتقد الناس العامة أن تحقيق إشباع الشهوات الحيوانية هي التي تصنع من اﻹنسان فنانا.

كل شيء خلقه الله لم يخلق عبثا ولكن ليأخذ دوره في المخطط الإلهي في تطور الكون، لذلك أعطى لكل شيء هوية تعبر عن روحه وسبب وجوده، والفنان هو ذلك الإنسان الذي يستطيع رؤية روح هذه الأشياء وهو الذي لديه القدرة على عرضها على الناس بعد نزع جميع الشوائب التي شوهت هذه الروح ، عندما تظهر هوية كل شيء بشكله الصافي كما خلقه الله عز وجل ، يمكن للإنسان أن يرى حكمة قانون الخلق من خلال إنسجام وتناسق هذه الأشياء مع بعضها البعض وبالتالي تستطيع الإنسانية اختيار الطريق الصحيح في التطور لتصل إلى الصفاء الروحي و الجسدي.

في الماضي كان الجمال يظهر بشكل تستطيع روح اﻹنسان اﻹحساس به، وبهذه الطريقة ساهمت اﻷعمال الفنية في إزدهار الحضارات ، وجميع هذه اﻷعمال الفنية كانت تحاول إظهار كم أن اﻹنسان هو كائن مختلف عن الحيوانات ،لذلك كانت الإنسانية في تقدم مستمر نحو اﻷرقى. من يتمعن اليوم في اﻷعمال الفنية بمختلف أنواعها ، رسم ،موسيقى، نحت ،شعر ،سينما. ... يجد أن معظمها تحاول ان تظهر كم أن اﻹنسان مشابه للحيوانات، لذلك تحول الجميل إلى قبيح والقبيح إلى جميل .

ولكن مهما يكن ومهما حصل ستبقى سنة الله في الخلق تسير كما يشاء هو ، ويوما ما لعله قريب جدا إن شاءالله ، ستستيقظ اﻹنسانية من سكرتها ،وستنظف كتبها ومعارضها من جميع الأعمال القبيحة لترمي بها إلى سلة المهملات ، ﻷن اﻹنسان هو كائن يملك في داخله جزء من روح الله ، والله يعني الكمال والجمال.