ذكريات دمشقية..
دمشق هي الفيحاء ، تغنى بجمالها الشعراء ، فيها نهر بردى يزيدها جمالا وبهاء ، جوها ربيع دائم لا حر ولا قر !
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يادمشق
إحدى أقدم المدن في التاريخ ، دمشق مدينة الياسمين ، عاصمةالدولة الأموية لي فيها ذكريات :
١/ سكنت أول ماوصلت إليها مع اخينا المرحوم إن شاء الله الدكتور عبد الباسط عباس ابن الرجل الصالح الشيخ أديب العباس ، كان البيت في القصاع وعليّ يوميا أن أمشي ٥ كم لأصل إلى الجامعة مخترقا شارع بغداد ، وأحيانا أفضل طريقا يعبق بالذكريات الخالدة :
أدخل من باب شرقي حيث دخل منه قادة الفتح الإسلامي أبو عبيدة بن الجراح وسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنهما ، ومن باب شرقي إلى باب توما ، إلى سوق مدحت باشا وهو عثماني من القادة العظام ، فباب الجابية : وهي نقطة إلتقاء ومنطلق الجيوش الإسلامية ، حاصره أبو عبيدة بن الجراح ، واليها وفد سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه ، وخطب فيها خطبة مشهورة ، ومن الجابية ندخل شارع القنوات ، فشارع خالد بن الوليد وندخل البناء الذي بناه السلطان عبد الحميد واسمه الثكنة الحميدية .
صار بعدها مقرا لجامعة دمشق وفيها كلية الشريعة إلى جانب كليات أخرى ، وفيها مسجد صغير حجما كبير اثرا كان يخطب فيه أعلام الفكر والدعوة كل أسبوع ، منهم الداعية الكبير أحمد مظهر العظمة رئيس جمعية التمدن الإسلامي رحمه الله ، وكان من قادة الفكر الاسلامي في دمشق
ويخطب أحيانا عصام العطار فيلهب أجواء الشباب ببيانه ، وأحيانا يخطب الشيخ مصطفى السباعي فكأنك تسمع سحبان بن وائل ، وكأن حجارة المسجد تهتف الله أكبر ، ويأتي في أحد الأسابيع الأديب البليغ ، أديب الفقهاء ، وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي فتعيش في دنيا الأدب والشعر ، ثم يقف على المنبر الداعية الموفق أديب الصالح ، وفي أحد الاسابيع رأينا شابا مصريا بطربوش تنطق الحكمة من لسانه إنه الداعية الدكتور سعيد رمضان بأسلوب جذاب ، وهو صهر الإمام البنا فجاء إلى دمشق ولوحق فطار إلى جنيف وأسس المركز الإسلامي وتابع إصدار المجلة العظيمة ( المسلمون ) كان من كتابها أبو الحسن الندوي ومصطفى السباعي وعلي الطنطاوي رحمهم الله .
وتظل أصداء خطبة الجمعة في اذهاننا حتى يأتي الأسبوع القادم فنرى علما من أعلام الفكر الإسلامي كأبي الحسن الندوي ، الذي جاء استاذا زائرا لكلية الشريعة وألقى على مدرج الجامعة أمام أكثر من ألف إنسان ، محاضرات عنوانها رجال الفكر والدعوة في الاسلام .
والندوي من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طاف العالم داعيا إلى الله ، وهو يتقن أربع لغات ومنها العربية يكتب فيها ببلاغة يحسده عليها أدباء العرب ! اقرا إن شئت كتابه ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ) قدّم له الشهيد سيد قطب رحمه الله ، وله كتب تطارد وتمنع من مكتبات بلادنا ؟ رأيته في مركزنا في شارع اسكندرون بحلب ، وهو نحيف جدا يلبس ثوبا ابيضا ، تجول في شوارع دمشق ووقف متأملا ثكنة معاوية بن أبي سفيان فأخذه الأمن واوقفوه وظنوه جاسوسا !
حياه الله وبياه وجعل الجنة مثواه ، وهو مؤسس ندوة العلماء في الهند نضر الله وجهه .
٢/ كنت أعمل مراقبا ليليا في مدرسة أيتام السعوديين التابعة للسفارة ، ولما حضر الأمير فهد بن عبد العزيز أقامت له السفارة حفلا دعت إليه قادة دمشق ، وكان منهم السباعي والدواليبي رحمهم المولى ، وطُلب مني أن أُحضر طلاب المدرسة ، صففتهم في طابور ، وهم من أصول سودانية صرت بالنسبة لهم غزال ، كرّمهم الأمير فهد وكان وزيرا للمعارف في بلاده ، ومدت له موائد الكرم ، منها مالذ وطاب من حلويات دمشق المبرومة والبلورية وسوار الست وغيرها شيء يزيغ البصر ، قال لي مدير المدرسة وهو لبناني خذ حاجتك ! فأخذت قطعة من مبرومة يسيل لها اللعاب ، كانت الموائد ملأى !
أتى مدير المدرسة وعبأ الكرتون وقال خذها حلال زلال ؟ حملتها على كتفي وسرت بها إلى غرفتي في جادة عرنوس أو الشهداء ، أخذت مايملأ صحن لي وحملت الباقي إلى إخواننا الدراويش ساكنو جامع النقشبندي ، غرفة كبيرة فيها قبور سكنت فيها سابقا مع المارعي وفرهود وخير الله وعبد الرحمن الرشيد وغيرهم ، اكلوا ماتيسر ورفعوا الباقي لأيام قادمة فهي من أفخر الأنواع ومصنوعة من السمن العربي .
وكما قالوا محروم وقع في كروم ، وكان الموسم موسم امتحانات ، نام إخواننا وظل أحدهم مستيقظا ساهرا ، فلما اطمأن لنوم اخوته اقترب من الحلوى وطاب له المذاق فالتهم مايقرب من كيلوين ، استيقظ اخونا عبد الغني المارعي رحمه الله ورأه فنظر إلى الكرتونة فإذا قد ذهب ربعها واخونا المارعي سليط اللسان قال لزميله : ولك هذه بالسمن العربي بتقتل الجحش ، ولكن أخانا وقد صار مفتيا لادلب تقبل النقد وهو يضحك ، اطمأن أن المبرومة صارت في بطنه وليكن مايكون !
٣/ كان من زملائنا في الجامع بصير وضرير ، كان البصير يقرأ المقررات للضرير، وهم يدورون حول بركة ماء المسجد ، رأيت هذا الضرير على مقعد في حديقة الجامعة وبيده أوراق يلمسها ذات ثقوب ، قلت له ماذا تفعل ؟
قال اراجع المقرر علينا في الفقه ، وماكنت أعلم أن هذه الصحف هي خاصة بالعميان اوجدها عالم بصير ، وتسمى طريقة بريل !
ومن الصدف الرائعة أن البصير الذي كان يقرأ للضرير رسب ، ونجح الضرير ؟
والضرير يعوضه المولى بذكاء خارق ، فقدكان لي جد ضرير له خان خشب في سوق النجارين كان يمسك الخشبة ويقول هذه حور ، ويمسك ثانية ويقول هذه سنديان !
ومن العميان أعمى صنعته دوائر الاستشراق في باريس ؟
إنه الدكتور الأديب طه حسين ، وهو أديب من الدرجة الثالثة لكن الأضواء سلطت عليه ومنح لقب باشا ، بل صار وزيرا للمعارف ؟
وله كتاب ( الشيخان ) فيه غمز بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وله كتاب جيد اسمه الأيام ، وألفّ في الشعر الجاهلي .
( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ال عمران ١٤٠
والله أكبر والعاقبة للتقوى
( الصورة باب شرقي / دمشق )
وسوم: العدد 711