خواطر من الكون المجاور الخاطرة 131 : الطفل والسلام
قبل أيام رأيت مقطع فيديو في النت ، طفلان بعمر عامين أو ثلاثة ، يتشاجران مع بعضهما البعض ، وكانت المشاجرة ليست فقط عنيفة جدا ولكنها أيضا تحمل مستوى لا يصدق من الحقد والكره واﻹنتقام بحيث يجعلك تتصور بأنه كل واحد من الطفلين يود من أعماق قلبه أن يؤذي الاخر أو حتى
أن يقتله، والغريب في اﻷمر أن مصور الفيديو سواء كان اﻷب أو اﻷم - الله أعلم - كان على ما يبدو سعيدا وهو يصور الحادثة بدون أي تدخل ليحصل على مقطع مثير لينشره في الانترنت ويراه أكبر عدد من المشاهدين.... هذا الفيديو بصراحة ليس إلا عملية تشويه لكل ما يحمل في داخله مصطلح ( الطفولة ) ، لذلك لم أضعه في المقالة لكي لا أساعد في عملية تشويه عالم الطفولة في نفوس القراء والمشاهدين. فمن المؤسف له أن كثير من وسائل اﻹعلام والتواصل اﻹجتماعي ، يبحثون عن مثل هذه اﻷحداث وعرضها لتجذب أكبر عدد من القراء والمشاهدين. فنحن اليوم نعيش في عصر اﻹثارة والتي من خلالها يمكن تحقيق أكبر اﻷرباح المادية. وللأسف جميعنا وبدون أي إستثناء نشارك بدون أن ندري في زيادة مشكلة عصرنا . أكبر مشكلة يعاني منها منهج العصر الحديث في البحث العلمي هو الرؤية المادية السطحية التي تبحث في الأشياء واﻷحداث ، هذه الرؤية الفقيرة هي التي أدت إلى تحطيم الروابط بين اﻷشياء واﻷحداث لذلك ساد قانون الفوضى والعشوائية في جميع النشاطات الفكرية والبحوث العلمية ،وهذا بدوره دفع اﻷمور بشكل تلقائي نحو العنف والوحشية حتى وصلت إلى عالم الطفولة . إذا تمعنا مثلا في تاريخ مصر القديمة كما هو مذكور في صفحات الكتب التاريخية والمدرسية نرى أن تطور أحداثه عشوائي لا يظهر فيها أي معنى أو حكمة معينة تبرر ذهاب إبراهيم أو يوسف عليهما الصلاة والسلام إلى مصر ،ولا يفسر سبب ولادة موسى عليه الصلاة والسلام وحدوث خروج قومه من مصر ، وكأن بلاد مصر المذكورة في كتب التاريخ غير مصر المذكورة في الكتب المقدسة ، لذلك نرى أن كتب التاريخ لا تذكر شيئا عن هؤلاء اﻷنبياء، وهذا خطأ كبير يدل على ضعف معلومات هذه الكتب ﻷنها تنظر إلى هؤلاء اﻷنبياء وكأنهم عبارة عن أشخاص عاديين مثلهم مثل أي شخص آخر ذهب إلى مصر.بينما الحقيقة هي عكس ذلك حيث نجد - مثلا - أن ظهور عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام قد لعب دورا كبيرا في تغيير تاريخ تطور شعوب كثيرة ، والشيء نفسه حصل مع ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم. البحث العشوائي نفسه نجده أيضا في الكتب التي تتحدث عن تطور الكون أو الحياة أواﻹنسان ، وكأن القوانين الطبيعية التي أثرت على تطور الكائنات الحية مختلفة نهائيا عن تلك القوانين المذكورة في الكتب المقدسة والتي أثرت على تطور اﻹنسان والمجتمعات اﻹنسانية وكأن كل علم من هذه العلوم له إله خاص به خلق قوانينه بشكل مختلف عن قوانين اﻹله الآخر ، كل مادة دراسية لها إله مختلف يتبع قوانين مختلفة...و حتى شرح الديانات السماوية لطلاب المدارس يبدو وكأن اﻹله المذكور في التوراة غير اﻹله المذكور في اﻹنجيل وغير المذكور في القرآن وكأن كل دين ليس له علاقة بالدين الذي سبقه ،حتى قصص اﻷنبياء في الديانة الواحدة كما يشرحها علماء الدين نراها تبدو وكأنها قصص عشوائية لا ترابط بينها وكأنها حدثت بالصدفة دون هدف ...عشوائية وإنفصال تام في جميع العلوم كافية ﻷن تجعل الطالب منذ بدء تكوين قاعدته الثقافية أن يشعر بعدم وجود قوة واحدة تسيطر على الكون بأكمله ولكن قوى مختلفة عشوائية تدفع كل شيء إلى جهة مختلفة ومعنى مختلف . صفة حب السلام هي من أهم صفات اﻷنبياء ولكن بسبب الثقافة السطحية التي تعاني منها علوم العصر الحديث لم يستطع المنهج العلمي الحديث من توحيد القوانين ليفهم الطالب علميا معنى مصطلح ( نبي ) ،فمثلا حتى اﻵن المسلمين لا يعرفون حقيقة سبب وضع عبارة -عليه الصلاة والسلام -بعد ذكر إسم أي نبي من اﻷنبياء ،فالحكمة اﻹلهية من خلال وضع هذه العبارة توضح جهة التطور التي يجب أن تسلكه اﻹنسانية ،فكلمة (صلاة ) أصلها من المواصلة وأن ضرورة ذكر هذه الكلمة بعد إسم كل نبي هو لتأكيد على أن دور اﻷنبياء هو مواصلة تطوير روح اﻹنسانية وتأمين حاجاتها الروحية ، لذلك فالنبي يختلف عن بقية الناس بأنه يرى ما حوله برؤية روحية عميقة ترى روح اﻷشياء أي مضمونها، حيث رؤية المضمون يساعد في فهم علاقة اﻷشياء واﻷحداث مع بعضها البعض حيث رؤية هذه العلاقة يؤدي بشكل لا إرادي إلى ظهور عاطفة حب السلام. فتحقيق السلام العالمي هو في الحقيقة الهدف اﻷول لجميع عمليات التطور في الكون بأكمله ﻷنه بدون عاطفة حب السلام لا يمكن الوصول إلى الكمال. ولكن بما أننا نعيش خارج الجنة لذلك هناك قوة أخرى سلبية ( روح السوء العالمية ) التي تحاول تشويه القوانين فيحدث هنا نوع من الشذوذ ولكن حتى الشذوذ هنا لايحصل بشكل عشوائي ولكن ضمن سيطرة المخطط اﻹلهي، لذلك نجد أن الشذوذ في قانون الأنبياء دفع نسبة ضئيلة من اﻷنبياء إلى حمل السلاح مثل النبي داوود والنبي يشوع بن نون عليهما الصلاة والسلام ولكن كلاهما لم يكونا من الرسل الذين يحملون رسالة جديدة أو دين جديد، فنجد أن يشوع بن نون كان مساعد موسى عليهما الصلاة والسلام وإستلم قيادة الشعب اليهودي بعد وفاة موسى. ..وكذلك نجد أن التوراة تذكر أن الله عز وجل حرم على داوود بناء الهيكل (معبد الله لليهود) والسبب أن يد داوود كانت ملطخة بالدماء ،ولهذا السبب أمره الله أن يترك أمر بناء المعبد لإبنه سليمان عليه الصلاة والسلام ليقوم بهذه المهمة ﻷن معنى إسم سليمان في العبرية هو (المحب للسلام ) ويداه كانت بريئة من دم أي إنسان،أما بقية اﻷنبياء وخاصة المقصود بهم بأولو العزم (نوح...إبراهيم. .موسى. .عيسى. .محمد..) عليهم الصلاة والسلام الذين حملوا رسالة جديدة حيث أدى ظهورهم إلى تحويل هام في التطور الروحي للإنسانية فجميعهم كانوا مسالمين وأيديهم بريئة من دم أي إنسان...ومن المعروف أن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في بداية ظهور اﻹسلام رفض حمل السلاح رغم مطالبة بعض المسلمين بضرورة إستخدام السلاح لحماية أنفسهم ولكن الرسول أصر على رفض حمل السلاح وأمرهم بالصبر ، لهذا إختاره الله ليكون نبي ورسول اﻷمة اﻹسلامية ﻷنه مسالم وروحه خالية من غريزة القتل، فالرسول لم يقبل بتأسيس جيش للمسلمين إلا عندما نزل اﻷمر من الله عز وجل ولكن ورغم ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشارك بالقتال بشكل فعلي و لا يوجد حادثة تذكر أن رسول الله قد قتل. الله عز وجل ترك معجزة تكشف أهمية عاطفة حب السلام في تعاليم الدين اﻹسلامي حيث نجد أن أسماء الرسول ( محمد-أحمد) يغيب من أسماء قادة الفاتحين الذين حملوا السلاح لحماية اﻹسلام من جيوش الأمبراطوريات المجاورة ونجد شذوذا واحدا عن هذا القانون وهو إسم فاتح بلاد السند (محمد) ولكن ضمن هذا الشذوذ يحمل معنى يساعد في فهم دور وصفات محمد الفاتح الذي له قصة مختلفة عن قادة الفتح وتحتاج إلى شرح طويل. ..بينما نجد أن نسبة ظهور إسم محمد أو أحمد في أسماء علماء الحضارة اﻹسلامية الذين كان سلاحهم القلم والعلم في كافة العلوم وخاصة منها العلوم الروحية تعادل 42% تقريبا من أسماء جميع العلماء الذين ساهموا في إزدهار الحضارة اﻹسلامية، وهذا لم يحدث صدفة ﻷن منطق تفكير المسلمين في عصر إزدهار الحضارة اﻹسلامية كان فيه نور الله لذلك كانت روح المسلم ترى المنطقة الذهبية في سور القرآن واﻵحاديث الشريفة ،مثلا كان علماء الدين في ذلك الوقت يتحدثون كثيرا عن الحديث الشريف الذي يذكر ( حبر العالم أفضل عند الله من دم الشهيد) أو بلفظ آخر " وإن مداد العلماء في الميزان أثقل من دم الشهداء وأكثر ثواباً يوم القيامة " بينما نجد اليوم و بدلا من ذكر هذا الحديث الشريف الكثيرون يذكرون تلك اﻵيات التي تحرض على القتال وسفك الدماء. للأسف الرؤية المادية لا تستطيع مشاهدة هذه المعجزة في طبيعة أسماء علماء الحضارة اﻹسلامية ، لذلك لم يتكلم عنها فلاسفة وعلماء التاريخ والدين في العصر الحديث ليعلم المسلمون أن إسم نبي اﻹسلام ( محمد ) ليس صدفة ولكن حكمة إلهية تؤكد للمسلمين وغير المسلمين أن هدف تعاليم الدين اﻹسلامي هو الوصول إلى إنسان مسالم مشابه في صفاته لصفات الرسول نبي اﻹسلام وليس صفات أولئك الذين إضطروا إلى حمل السلاح ليدافعوا عن اﻹسلام، فهؤلاء كانوا يقومون بواجبهم في عصر كانت ظروفه مختلفة نهائيا عن العصر الحالي، فظروف المعارك والحروب اليوم قد تغيرت تغييرا جذريا وأشكال اﻷسلحة أيضا تغيرت ولم تعد تلك اﻷسلحة التي تقتل الشخص المعين، فأسلحة اليوم أسلحة مدمرة شاملة عمياء تصيب اﻷبرياء أكثر من الأشخاص المقصودين. في العصور القديمة كان الجيشان المتقاتلان يلتقيان في أماكن بعيدة عن تواجد اﻷطفال والنساء وكانت ضحاياه بشكل عام الجنود المشاركين في المعارك أما اﻵن فالمعارك قد تحولت إلى حرب شوارع والقتل والدمار يحدث أمام أعين اﻷطفال والنساء وهذه أخبث أنواع الحروب ﻷنها تقضي على براءة الأطفال وتجعلهم يشعرون بأنهم في عالم وحشي لذلك يولد فيهم شعور أنه يجب عليهم تنمية غريزة الدفاع عن النفس، هذا اﻹحساس في الطفل يكفي لأن يحول الطفل من مخلوق فيه روح الله إلى مخلوق حيواني تسيطر على سلوكه غريزة القتل. هذا النوع من المعارك والحروب تفتح باب عمل روح الشيطان على مصرعيه، فبفضل التكنولوجيا يستطيع أي طرف من اﻷطراف المتحاربة أن يقوم بمجزرة يقشعر لها الرأي العالمي ويتهم فيها الطرف الآخر ومهما حاول الطرف اﻵخر أن يثبت براءته سيبقى المذنب مجهول ،وسيبقى أتباع كل طرف يصدق قادة الطرف الذي ينتمي إليه ، وهذا هو المعنى الحقيقي للفتنة، لذلك الحروب ومعارك العصر الحديث تعتبر من أكثر الظروف الملائمة لنشر الفتن بين الطوائف واﻷديان والشعوب، لتجعلها على خلافات مستمرة ليزداد إنتشار صفات الروح الشيطانية في نفوس الناس وخاصة اﻷطفال (بغض كره..حقد.إنتقام) ، الرسول في حديثه الشريف يقول " إذا جاءت الفتنة إكسروا سيفكم وإقطعوا أوتاركم وإلزموا فيها أجواف بيوتكم وكونوا فيها كالخير من إبني آدم....." والمقصود هنا هابيل. اليوم جميع أنواع الحروب والمعارك ليست إلا عبارة عن شرارة بإمكانها إشعال الفتن بمختلف أشكالها فاليوم لا توجد منطقة في العالم إلا وسكانها ينتمون إلى عدة قوميات وعدة أديان ومن السهل جدا إشعال نار الفتنة بين هذه الطوائف المختلفة ﻷتفه اﻷسباب ليذهب ضحيتها عشرات أو مئات أو آلاف اﻷبرياء. ما يجب أن يفهمه المسلم من تعاليم دينه الحنيف أنه يوجد تطابق كامل بين قوانين القرآن الكريم وقوانين الطبيعة في تطور الحياة. فتطور الحياة في الكائنات الحية يتجه من البسيط إلى المركب ومن القبيح إلى الجميل ومن الوحشي المفترس إلى اﻷليف المسالم ، ولكن حتى نرى هذا التطابق في القوانين يجب أن نقرأ الكتب المقدسة برؤية روحية وليس برؤية مادية سطحية لذلك نقرأ في اﻵية 7من سورة عمران : (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) اﻵيات الموصوفة بـ " أم الكتاب" هي المناطق الذهبية التي من خلالها نجد تطابق في كل قوانين الكون والتي نشعر من خلالها أن الكون وكل ناحية من نواحيه منذ ولادته و حتى اﻵن يسير ضمن مخطط واحد وهو الوصول إلى السلام المطلق كما عبر عنه الله عز وجل في اﻵية 28 من سورة المائدة : (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) على لسان إبن آدم هابيل الذي قبل الله قربانه ليكون هو أول إنسان يعبر عن اﻹنسان الكامل . وليس من الصدفة أن في بداية هذه السورة في اﻵية 3 تذكر ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اﻹسلام دينا) المعنى الحقيقي لكلمة "اﻹسلام " هو فرض حب السلام على المؤمنين، عاطفة السلام هي أهم صفة من صفات الإنسان الكامل، لذلك نرى أيضا أن كتاب التكوين من التوراة يبدأ بخلق آدم وجريمة قتل قايين (قابيل) ﻷخيه هابيل وينتهي هذا الكتاب بقصة يوسف عليه الصلاة والسلام، والذي بدلا من أن ينتقم من إخوته الذين رموه في الجب وباعوه إلى التجار ليصبح عبدا في مصر نجده قد سامحهم وساعدهم،من يبحث عن تفسير معاني إسم يوسف يجد أنه يحمل معنى رجل السلام والمقصود هنا هو أن نهاية التكوين ( نهاية التطور الروحي للإنسان) هو أن يكون إنسانا مسالم خال من غريزة القتل. لذلك نرى أن رسول الله في حديثه الشريف يقول : ( الله يرسل مرشد كل مائة عام ليجدد الدين ) وأحد أهم أنواع التجديد هو تحويل معنى الجهاد من معنى مادي يقوم على حمل السلاح والقتل إلى معنى روحي يقوم بإستخدام القلم والمعرفة والطرق السلمية لحماية المجتمع و المؤمنين من الفتن و الفسق والشهوات، وقد أشار الرسول على ضرورة هذا التجديد في حديثه الشريف الذي ذكرناه في اﻷعلى (حبر العالم أفضل عند الله من دم الشهيد ) لماذا الكتب المدرسية الدينية أو البرامج الدينية في المدارس و الصحف والمجلات وجميع وسائل اﻹعلام لا تفسر اﻵيات القرآنية إعتمادا على طبيعة صفات الرسول ؟ هذا السؤال يجب أن يشغل فكر كل إنسان مهما كان مستوى ثقافته، والجواب الوحيد الذي يمكن أن نجده لحل هذا السؤال هو جهل الثقافة الحديثة وفقرها روحيا عند كبار مفكري العصر الحديث والذين هم أنفسهم يقودون اﻹنسانية إلى طريق مسدودة فوصلت اﻵن إلى اسفل السافلين حيث ظهرت وﻷول مرة في تاريخ البشرية ظاهرة الطفل المجرم. لو علم علماء الديانات في العصر الحديث ما معنى ولادة ظاهرة ( الطفل المجرم ) في عصرهم ﻷدركوا تماما بأنهم لا يعلمون شيئا عن دينهم الحقيقي وأنهم يعبدون إلها آخر مختلف عن إله دينهم.... ولكن للأسف علماء العصر الحديث بمختلف فروع علومهم لم يعطوا أي أهمية لهذه الظاهرة. ...هذه هي مشكلة عصرنا الحديث التي لا حل لها إلا عن طريق تنمية عاطفة حب السلام في كل طفل من أطفال العالم بغض النظر عن دينه أو عرقه ،فجميعهم ينتمون إلى عائلة واحدة تدعى اﻹنسانية.
وسوم: العدد 718