خطبة العيد
مناسك الحج : دروس وعبر
أحمد أحمد عبدالجواد
موجة اللغة العربية بالفيوم
أهم العناصر :-
1- مقصد كل منسك علي حدة
2- المقاصد العامة للحج
3- مقاصد العيد
الحمد لله رب العالمين والصلاه والسلام علي أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين وبعد
فان مناسك الحج ذات دلالات وعبر بالغة من تأملها ملأه شعور فياض بالحب لربه والخشوع والخضوع له والإحساس بكمال وجمال وجلال شريعة الإسلام ، فهي ليست طقوساً لا مفهوم لها ، بل هي عند التأمل حكم كلها ، عدل كلها ، رحمة كلها ، خير كلها ، ولم لا ؟ أليست صبغة الله ؟ ومن أحسن من الله صبغة ؟ لا أحد أيها المسلمون .
ونحن إذ نتعرض لهذا الموضوع الهام نتناوله في ثلاث نقاط :
الأولي : عرض لمناسك الحج من زاوية المقاصد الخاصة لكل مقصد علي حدة ، والثانية :
إطلالة علي المقاصد العامة لفريضة الحج ، والثالثة : مقاصد الحج ...
والآن مع النقطة الأولى :
حين ينوي الحاج أو المسلم حج بيت الله الحرام ويعقد العزم على ذلك فإنه لا ينوي رحلة ترفيهية سياحية وإن كان الحج سياحة لكنها سياحة تعبدية ، حين ينوي المسلم ويعزم فلابد من أمرين هامين يراعيهما وهما :
1- تحري الحلال في النفقة التي سينفق منها علي الحج وإلا كان عمله غير مقبول ، فاذا وضع رجله في الرحل وقال لبيك اللهم لبيك قيل له لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك ، ارجع مأزوراً غير مأجور .
2- حراسة النية والارادة خشية أن يعروهما السوء والظلم وهو متوجه للبيت الآمن ، فمن نوي الشر في رحابه عوقب علي مجرد النية وإن لم يفعل بعكس أي مكان آخر وهذا من خصوصيات وعظمة البيت الحرام ، قال تعالي " وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ " ، فإذا أحسن المسلم نيته وطهر من الحرام نفقته وحان موعد السفر لبس ملابس إحرامه وهي عبارة عن رداء و إزار يستر بهما بدنه ، فثوب يستر به العورة المغلظة وآخر يستر به بطنه وظهره وصدره فهو يرمز للحياء من الخالق سبحانه بستر العورة .
وينبغي للحاج أن يحرص علي ستر عورته الظاهرة وعورته الباطنة ، وفي ملابس الإحرام معني التجرد من زينة الدنيا وزخرفها ، فهو ثوب غاية في التواضع وهو مذكر بالكفن الذي يخرج به العبد من دنياه ، فهو رمز الاستعداد للقاء الله تبارك وتعالي ، مذكر بحقيقة الدنيا وتفاهتها ، فلم نتقاتل عليها ؟ ولم العداء من أجلها ؟ .
- فإذا طاف الحاج حول الكعبة كان طوافه مذكراً له بسنن الله الكونية ومنها أن الأصغر يطوف حول الأكبر كما يطوف الألكترون حول النواة في عالم الذرة ، ويطوف القمر حول الأرض ، كذلك نحن نطوف حول الكعبة تعظيما لرب البيت سبحانه وتعالي فهو الأكبر الكبير المتعال ، وفي الطواف تحقيق للعبودية في أجلي صورها وتنفيذ لقوله تعالي : " وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ " ، كما أنه تعبير عن الحب الصادق لله من خلال الطواف حول بيته العتيق الذي هو أول بيت وضع للناس … كل الناس .
- وفي تقبيل الحجر تجديد للعهد والبيعة مع الله عز وجل ، فالحجر الأسود يمين الله في الأرض ، فتقبيله رمز لتجديد العهد والبيعة مع الله على مواصلة العبودية له سبحانه ، ونصره دينه وإعلاء شريعته .
- فإذا سعي الحاج بين الصفا والمروة استرجع الذاكرة ليرى السيدة الكريمة هاجر وهي تسعي بين هذين الجبلين باحثة عن الماء لولدها الذي كاد يحرق العطش كبده ، فهي تجتهد وتأخد بالسبب وفي النهايه ينفجر الماء من تحت قدمي إسماعيل بأمر الله ، لقد سعت ولكنها لم تحضر الماء معها ، وهذا الدرس عظيم يؤكد أن الأخد بالسبب مطلوب سواء أبلغ الساعي مقصده أم لم يبلغه ، فحسبه أنه سعى ، فعلي المرء أن يسعي إلي الخير جهده وليس عليه أن تتم المطالب ، ومن الدروس في ذلك الحدث أن الله لا يضيع عملاً ولا يبدد جهد المجتهد ودليل ذلك مكافأة الله لهاجر – رضي الله عنها – بتفجر الماء . وفيه درس عظيم يشير إلي مكانه المرأة وعناية التاريخ بها وأنها مصدر من مصادر التعلم والتوجيه إذا أحسن المجتمع صناعتها وتربيها ، وفي السعي من جبل إلي جبل تدريب للأمة على أن تحدد مقاصدها وأهدافها وألا تكون حركتها في الحياة عبثية ، فالعبثية لا تليق بالمؤمنين .
- فإذا شرب من زمزم تذكر قدرة ربه في تلك العين المستمر ماؤها من قرون متطاولة ومئات السنين ، ثم تذكر سر الله فيها فهي طعام طعم وشفاء سقم وهي لما شربت له ، فسبحان الله الذي جعل لبعض الماء فضلا علي بعض وأعطاه مالم يعطه غيره من جنسه ، وهنا يسقط القول بألوهية الطبيعة ذات المطبوع الواحد الذي لا يختلف .
- فإذا وقف الحاج بعرفات الله تذكر يوم البعث والنشور حيث كل بهمه مشغول كل يرجو النجاة ويفكر في السلامه من النار ، فالحجيج بالملايين تراهم ضارعين باكين خاشعين ملبين لربهم مخبتين ، كما أن هذا المشهد الممتد الواسع وهذه الأعداد المتعددة اللغات والجنسيات والوطنيات فرصة للتعارف والوقوف عند سنة الله وحكمته في التعدد : " إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا " .
- فإذا رمي الحاج جمرة العقبة في اليوم العاشر ورمي بعدها يومين أو ثلاثه حسب تعجله أو تأخره تذكر مع هذا الرمي معاني عظيمة منها :
1- مواجهة الخليل إبراهيم للشيطان الرجيم في تلك المواضع حيث كان يحاول ثنيه ومنعه من تنفيذ ما رآه في منامه من ذبح ولده ورؤيا الأنبياء حق ، فكان يرميه في هذه الأماكن ، فهو درس لأتباع إبراهيم أن يقتدوا به في عدم الخضوع لوسوسة الشيطان.
2- في الرمي إعلان الانتصار علي الشر والفساد ومطاردتهما فلا يليق بعد ذلك أن يعود المسلم أداة طيعة في يد الشيطان من جديد .
3- إظهار معني التعبد لله ، فنحن مرة نقبل حجراً في الكعبة ومرة نرمي حجراً بحجر طاعة لله واقتداء بسيد البشر وهذه هي العبودية الخالصة .
- فإذا أخذ الحاج ينحر الهدي في حج التمتع والقران تذكر مع ذبحه الهدي من المعاني ما يلي :
1- ذبح الرذائل وكل ما يعوق سيره إلي الله سبحانه وتعالي فكما ذبح بيده أو شاهد ذبح هديه فينبغي أن يذبح كل فساد ورذيلة كانت عنده تريد أن تحول بينه وبين صفاء نفسه وطهاره وجدانه وأعضائه .
2- كما يتعلم الحاج معني التضحية بالنفس والمال في سبيل الله تعالي فإذا كانت غايه المسلم رضوان ربه سبحانه وهي أكبر من الجنة ونعيمها كما في قوله تعالي " وَرِضْوَان مِنْ اللَّه أَكْبَر " فينبغي ألا يبخل العبد بل يبذل ويبذل وقد قيل " من عرف غايته هان عليه ما يبذله " وقيل أيضا " ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر " .
3- كما أن الذبح يذكرنا بمعني هام جداً وهو مكأفاة الله للمخلصين الصادقين من عباده في الدنيا قبل الآخرة ، فحين هم إبراهيم بالذبح جاءت المكافأة والفرج ، قال تعالي " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " الصافات 103 – 107 , فإذا وعي الحاج هذا الدرس حرص علي الصدق والإخلاص والإحسان أقول قولي هذا وأستفغر الله لي ولكم .
الحمد لله وكفي وصلاة وسلاما علي عباده الذين اصطفي وبعد : وصلا لما سبق نقول إن للحج مقاصد عامة ودروساً مجملة هامة كما لمناسكه لكل منسك دروس وعبر ، ولا نزعم أننا استوفينا أو وفينا .
والآن نحن على موعد مع المقاصد العامة والدروس الهامة في الحج كركن من الأركان التي قام عليها بنيان دين الإسلام فنقول وبالله التوفيق :
1- الحج يربط بين الروح والمادة التي هي جسد الإنسان فهو غذاء الروح بالطواف والسعي .. الخ . وهو اهتمام بحاجات البدن كما في قوله تعالي " لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ " الحج 28 . ومن عجب أن يقدم القرآن شهود المنافع علي الذكر حتي يعلم الناس أن الإسلام لا يهمل الدنيا ولا يدعو لاعتزالها .
2- الحج فرصة عظيمة لكل المسلمين على مستوي القيادات والدول والجماعات لتبادل الخبرات وتناقل ما عند الآخرين من المسلمين من تجارب في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، كما أنه فرصة لحل المشكلات بين الدول والاتفاق على القضايا الهامة المشتركة وهكذا فهمه الخلفاء الراشدون ومن بعدهم وهكذا ينبغي أن يفهمه المسلمون اليوم وكل يوم ، فهو رحلة تعبدية شعائرية روحية جسدية اجتماعية سياسية واقتصادية وعلمية ، والحج بهذا المعني يحمل طابع هذا الدين طابع الشمول الذي جهله كثير من أبناء المسلمين .
3- الحج دليل علي عالمية هذا الدين وأنه عولمة طوعية لا تفرقها سلطة ولا دولة كبري كما يقول الدكتور عبدالله بن بيه .
4- تأكيد معني المساواة ، فالناس علي اختلاف رتبهم العلمية والسياسية والاجتماعية في ساحة عرفات عبيداً لرب الأرض والسموات لا تمايز بينهم ، فالكل عابد والكل ضارع والكل خاشع يرجو رحمة الله ويخاف عذابه .
5- تأكيد دعائم الأمن والأمان للإنسان ، قال تعالي " وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً " فهذا أخلر في معني الإنشاء أي أمنوا من دخله ولا تروعوه ولذلك كان الرجل في الجاهيلة يري قاتل أبيه داخل الحرم فلا يستطيع قتله لهذا المعنى .
6- الرقي بالسلوك الإنساني الاجتماعي بحيث يكون الإنسان طيب الكلام يجود بما لديه على إخوانه من طعام ، عف اللسان بعيداً عن الفسق بالقول أو الفعل ، وقد سئل النبي عن بر الحج فقال : " طيب الكلام وإطعام الطعام " أخرجه الحاكم في المسند . وقال صلي الله عليه وسلم " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " أخرجه البخاري في كتاب الحج .
7- الحج أكبر الشواهد علي أن هذه الأمة لا يجمع شتاتها ولا يلم شعثها إلا الإسلام العظيم ، فما جمع هذه الملايين إلا الرغبة في طاعة الله استجابة للنداء القديم المتجدد بتلاوة القرآن : " وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ " الحج 22 . وهنا تسقط النعرات الجاهلية والدعاوي القومية العنصرية ويبقي الإسلام روح الأمة وشريانها وسر حياتها ولا شئ غير الإسلام فكل وحدة قامت من قبل على غير الإسلام وروابطه لم يكتب لها الدوام ، فهل آن لنا أن نعي هذا المعني ؟!
أيها المسلمون عباد الله : إن للعيد مقاصد عظيمة ونحن في يوم العيد نوضح لحضراتكم بعضاً منها فنقول وبالله التوفيق :
- إن من مقاصد العيد التقاء المسلمين واجتماعهم وهو مقصد من مقاصد الحج كما سبق يقوي رابطة الأخوة والمحبة والتواصل بين المسلمين ، وما أحواجنا إلي ذلك الأمر .
- ومن مقاصده إسعاد الفقراء بايصال الخير اليهم ومد يد العون لهم فيلبسون كإخوانهم ويأكلون كإخوانهم الأغنياء وهذه عظمة الإسلام الذي يحث علي التكافل .
- ومن مقاصد العيد فتح أبوابه امام صلة الأرحام التي انقطعت قبل العيد ومحو آثار الجفاء من خلال التزاور والتواصل والسلام وطيب الكلام وإطعام الطعام .
- ومن مقاصد العيد الاستمتاع باللهو المباح وهذا يدل على مافي ديننا من السعة ، وقد أقر النبي الاستمتاع باللهو المباح من غناء الجاريتين حين أنكره أبو بكر لما رآهما في بيت السيدة عائشة فقال النبي "دعهما" وعلل الأمر بأن هذا اليوم يوم عيد .
فما أعظم هذا الدين وما أجمله ، نسأل الله أن يعيد هذا اليوم على أمتنا وهي في أحسن أحوالها بالعدل والحق ممكنة بالنصر المبين وسيادة الإسلام لربوع العالمين .. اللهم آمين ….. والحمد لله رب العالمين .