تفسير سورة إبراهيم 3
تفسير سورة إبراهيم
31 / 5 / 1985
(3)
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
بدأنا في الجمعة الماضية بإلقاء نظرة تفصيلية على سورة إبراهيم ، لأننا وعدناكم من قبل أن نقضي شهر رمضان نتنسّم أريج الوحي الإلهي ، ونعيش بصحبة كتاب الله تبارك وتعالى . وعلى ما كان من صعوبة المنهج الذي سلكناه في الجمعة الماضية والذي أعترف به ولا أعتذر منه ، فأنا أشعر أن ما بين أيدينا نحن المسلمين بل قل نحن العرب الذين أراد الله جلّ وعلا أن يرفع شأننا وينوه ذكرنا بهذا الكتاب .. أقول : مهما بذلنا من جهد فسنظل مقصرين في ذات الكتاب الكريم الذي رفع أمتنا في الماضي ، وهو مدعو الآن في هذا الزمن البشع أن ينتشلها من الوهدة مرةً أخرى .
لهذا قلت إنني أعترف بصعوبة المنهج الذي سلكناه في الجمعة الماضية مع أوائل سورة إبراهيم ، ولا أعتذر منكم ، وإذا كنا في تحليلنا للآية الأولى من سورة إبراهيم ، قد وصلنا إلى قضية تعد فيصلاً بين الرسالة المؤسسة على العلم والمنطق والمعرفة والعقل ، والتي تمتلك من اليقين والثقة بقدرة أسسهها ومرتكزاتها القدر الذي يدعوها إلى أن تنبذ أساليب القوة والعنف والإرهاب ، إذا كنا قد وصلنا إلى تقرير هذه السمة البارزة من سمات هذه الرسالة فنحن قد وضعنا أيدينا فعلاً على الفارق بين الإنسان المتحضر الذي صنعه الإسلام ، والإنسان البربري المتوحش الفاسق الذي تربى بعيداً عن تعاليم الإسلام . ولازم إن شاء الله أن نبدأ ببداية السورة كي لا ينقطع علينا حبل الكلام ويبدو نسيج السورة مفككاً .
يقول الله تعالى ( بسم الله الرحمن الرحيم ، الر كتاب أنزلناه إليك ) والخطاب كما ترون هنا موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسورة كما قلنا لكم مكية أي أنها نزلت قبل الهجرة وفي زمن الصراع المر بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرب الناس إليه وأمسّهم به رحماً قومه وعشيرته ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب أليم ، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد ، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء والله عزيز حكيم ) إذا عرفنا أن قوله تعالى ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) حين نعرف أن اللام في قوله تعالى ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) هي لام التعليل ، أي اللام التي تبين السبب والعلة والداعي ، فنحن نكتشف بكل سهولة كما فعلنا في الجمعة الماضية أن وظيفة الكتاب ووظيفة النبي هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، بأية وسيلة ؟ بالكتاب الذي أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم .
إذاً لا بالسيف ولا بالقوة ولا بالإرهاب ، لأن تشكيل الطبيعة البشرية وفاقاً لما يريد أولئك الذين يعتدون على حدود الفطرة الإنسـانية أمر مستحيل وغير ممكن ، إذاً لا بد من أجل أن نحافظ على خصائص الإنسان وألا ندمر معاني القوة والشهامة والرجولة والخير في ذاته لا بد أن نتعمد الوسيلة الإنسانية الوحيدة المقبولة والمعترف بها عالمياً وتاريخياً وهي القناعة بالحوار والقناعة بالعقل ، ونبذ القوة كوسيلة من وسائل التفاهم بين البشر ، ولهذا فنحن نجد الله جلّ وعلا يقول حتى في السور المدنية المتأخرة مما يوحي بأن هذا نهجاً ثابتاً مستمراً في الإسلام ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) وتحدد وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم تحديداً قاطعاً جازماً حازماً ، فما هو جبار في الأرض ( لست عليهم بمسيطر ) ( فذكر إنما أنت مذكر ) ويُرسَم له الطريق في صلب القرآن ، ومن عجب أننا نجد هذا الطريق متساوقاً مع كل التوجيهات التي جاءت في الإسلام ، ولعله أن يكون صدمة لدعاة الثورية الذين لا يعرفون من الثورة إلا جانبها الفج الخشن الغليظ ، ولا يدرون أن الثورة يمكن أن تحدث بأساليب إنسانية بحتة ، وينصدم بها أيضاً أولئك الذين يتغنون بالعنف الثوري ويتلذذون بمنظر الدماء التي تسيل بلا مبرر ، ويهدرون كل طاقة بشرية من أجل أن يتغنوا بشعارات استوردوها من الخارج ، من مجتمعات بربرية همجية غير متحضرة .
فنحن نسمع الله جلّ وعلا يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم لمعرفة وظيفته فيقول ( وأن أتلو القرآن ) يعني من وظيفته أن يتلوا القرآن ، أن يقرأ القرآن على الناس . ويخاطبه الله جلّ وعلا أن يتسلح في معاركه بهذا القرآن فيقول ( ولا تطع الكافرين والمنافقين وجاهدهم به ) يعني جاهدهم بهذا القرآن ( جهاداً كبيراً ) . لعل البعض ممن لم يتعمقوا دراسة النفسية الإنسانية ولم يحاولوا اكتشاف سنن الله في الاجتماع البشري .. يبتسمون ويقولون : وما تغني قراءة الآيات ؟ وكيف يتأتى أن يكون الجهاد كلاماً ؟ وهؤلاء بالفعل عرفوا شيئاً وغابت عنهم أشياء . في الكلام يجب أن نفرق بين نمطين ، ولا بد لكي لا نضل يجب أن نفرق بين الكلام المعجز المؤسس على المنطق والعقل والمتساوق مع الفطرة البشرية ، والذي يخاطب هذه الفطرة برمتها ، وبين الكلام المتهافت الذي لا يكاد يتماسك ، الكلام المتهافت البشري سخرية وأضحوكة تكتشف فيه كل يوم عواراً ونقصاً ، والكلام الإلهي نمط آخر .. إنك تستعرض القرآن من أوله إلى آخره فترى فيه هذا النمط المتساوق الذي يأخذ بعضه برقاب بعض ، وتلمح فيه هذه الطبقة العالية من الكلام التي لا تهبط ، وتجد فيه أكثر من ذلك هذه الهزة التي تحركك من الأعماق حين تقرأ أو حين تسمع القرآن .
وعبثاً تبحث عن التنافر أو الاختلاف أو التفكك ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً ) كلام من هذا القبيل تواجَه به الفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية هو أمضى سلاح في معارك العلم والإيمان . ولسنا معه بحاجة إلى أن نستعمل أي سلاح آخر ، ولعل البعض يتساءل فيما إذا انتشقت السيوف وأُفرعت الرماح في معارك الإسلام الأولى ؟ فنقول : إن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حين بادأ قومه بالدعوة ما طلب منهم أن يؤمنوا قسراً ، وإنما طلب منهم أن يتركوه والناس ، فإن آمن الناس فعز محمد عز قومه ، وإن لم يؤمن الناس واستطاع الكافرون أن ينالوا من رسول الله فإنه يكون الله تعالى قد كفاهم أمر محمد بيد غيره ، وكذلك مع غير العرب . إن الإسلام لم يخض حرباً اطلاقاً ليرغم الناس على اعتناق الإسلام ، بل نحن نعرف أن من مقررات الإسلام التي اتفق عليه علماء المسلمين سلفاً وخلفاً أن إيمان المكره باطل ولا يقبل ولا يترتب عليه ، وإنما كل ما هنالك أن الإسلام طلب من الناس أن يسمعوا له ، ثم بعد ذلك ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) لكن الدنيا لا تخلو بالقديم وفي الحديث وفي المستقبل من رؤوس عفنة فرعونية ترى أن من حقها أن تحافظ على الأوضاع الفاسدة الجائرة الظالمة ، لأنها مستفيدة منه ، وطالما هي قائمة أي هذه الأوضاع ففائدتهم منها مستمرة . فإذا تغيرت وتغيرت مفاهيم الناس لم يبقَ لهم مكان في سوق الزعامة والتقدم والرئاسة .
لهؤلاء الناس وجه الإسلام الرمح والسيف ، لأن هؤلاء جناة ، ولأن هؤلاء مجرمون ، لا في حق أنفسهم ولا في حق جيلهم ، بل في حق الإنسانية على مر العصور . من هنا فنحن نجد الإلماح والتلميح إلى هذا في أوائل السورة الكريمة توطئةً لتقرير حقيقة أخرى لا تقل كبراً وعظمة عن الحقيقة الأولى التي قررناها في أوائل الآية الأولى من سورة إبراهيم .
اسمعوا ، إن الله جلّ وعلا بعد أن ألمح إلى أن عدة النبي صلى الله عليه وسلم في جهاده مع أعداء الله هو هذا الكتاب ، أي هو العقل والحجة والمنطق ، بيّن أنه هو المتفضل ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ) أي بتقديرهم وبحكمه ( إلى صراط العزيز الحميد ) نحن نسمع في القرآن الكريم ورود أسماءٍ من أسماء الله الحسنى ، لكن الأسماء الحسنى ليست حبات مسبحة ، لا ، إنما هي أوصاف لله جلّ وعلا يرصّع بها كتاب الله وينزل كل اسم من أسمائه الحسنى في مكانه اللائق به ، ليؤدي الغرض المطلوب منه .. فها هنا رسالة ، وها هنا إعادة لاعتبار الإنسان بتقرير أن الإنسان يجب أن يُحاوَر في العقل والحجة والمنطق دون المساس بالأسس الشخصية الإنسانية هدراً وتدميراً . يأتي هذان الاسمان الكريمان من أسماء الله ( العزيز الحميد ) لتختم بهما الآية الأولى ، فلم ؟ لمَ لم يأتِ العفو الغفور بدلاً من العزيز الحميد ، لو جاء هذان الاسمان العفو الغفور بدلاً من العزيز الحميد لاختل النظم ولحصل حيف وظلم على المعنى الذي قصدت الآية الكريمة أن تؤديه إلى القارئ وهي سالمة . بالطبع نحن بشر ، وحين يفعل الإنسان للإنسان خيراً أو معروفاً فنادراً ما نتصور أن الإنسان يفعل الخير ويؤدي المعروف بدوافع إنسانية ومن غير خضوع لغرض شخصي ، نادراً ما نتصور هذا ، كلما رأينا إنساناً يعمل خيراً ويفعل معروفاً توقعنا أن وراء ذلك غاية خاصة تعود عليه بالنفع . نحن من ضمن هذا المنطق الإنساني عادة نسحب هذا المنطق على أفعال الله جلّ وعلا ، فربما تصوّر متصورون أن الله جلّ وعلا إذ نادى الخلق إلى الإيمان به وإلى عبادته فإنما يجر إلى ذاته نفعاً ، فالله جلّ وعلا بهذين الاسمين في هذا الموطن أن ينفي هذا الوهم وأن يبين أنه هو المتفضل على عباده من غير حاجة به إليهم على الإطلاق .
فالعزيز في عرف اللغة التي نزل بها القرآن ونطقت بها العرب ، العزيز وفقاً لمعطيات هذه اللغة الشريفة هو الذي لا يناله شيء ، الممتنع ، تقول : عز الشيء إذا امتنع وندر وجوده ، وتقول : فلان عزيز في قومه ، أن له من يحرسه ويحميه بحيث لا يناله مكروه ولا يصل إليه كيد الكائدين ولا حسد الحاسدين . فالله جلّ وعلا لو افترضنا أنه أنزل هذا القرآن ترضية للناس وجاء بهذا الدين ترضية للبشر .. فلمَ ؟ أيخافهم قطعاً لا ، لأنه بذاته عزيز لا تناله أيدي الناس ولا تضره معاصي الناس ، لأنه أعز وأمنع من ذلك . وحين ندبهم إلى عبادته ودعاهم إلى طاعته فما ذلك لأن هذه الطاعة والعبادة تزيد في ملك الله شيئاً أو يصل إلى الله منها شيء ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) وشرح الله أنواع من العبادات فقال عن الحج والأضاحي والنسك الذي يكون فيه ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) فالله جلّ وعلا غني عن طاعة الطائعين وعبادة العابدين ، وفي الوقت نفسه لا يضره عصيان العاصين ولا فجور الفاجرين ، في الحديث القدسي يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . فترون أن الله فعلاً غني عن العالمين وهو عزيز حين يأتي إليهم بالخير لا يدفع بذلك عن نفسه سوءاً يتوقعه من العباد لأنه أعز ولأنه أمنع من ذلك بكثير .
فهذا هـو السر في مجيء هذا الاسم الإلهي في هذا الموضع ( العزيز الحميد ) والحميد كذلك ينفّذ إلى أنه في لغة العرب من الألفاظ المعدولة ، ما أدري إذا كنتم تعرفون ما معنى العدل في اللغة ، لكن سنمثل لكم بهذا اللفظ ، فالأصل هنا أن يأتي هذا اللفظ بصيغة المفعول يعني المحمود ، لكن الله جلّ وعلا عدل باللفظ من صيغة المحمود إلى صيغة الحميد ، لماذا ؟ إن العدل هنا وفاقاً لبلاغة اللسان الشريف الذي نزل به القرآن ينقل الوصف من وصف خارجي إلى وصف ذاتي ، آسف لا أستطيع أن أبسط الأمر أكثر من ذلك ، لكني من خلال التمثيل لعلي أستطيع أن أكشف لكم جوانب من المعنى المراد . لو افترضنا أن هذا عود ، وهو عود مائل ، فجئنا فعدلناه لقلنا : إنه عود معدل ، لماذا ؟ لأننا عدلناه نحن ولم يكن هو في الأصل معتدلاً ، لكن لو جئنا إلى عود فرأيناه معتدلاً بذاته قلنا إنه معتدل أي أن وصف الاعتدال وصف ملازم له ، لم يأتِ من خارجه . فالمحمود هو الذي يحمَده غيره على أفعاله ، أي أن وصف الحمد جاءه من الخارج وليس من داخله ، لكن الحميد هو المتصف بالحمد والذي تفيض عنه الأعمال التي يُمدَح ويُحمَد عليها طبعاً وذاتاً ، فهذا هو الفرق ما بين الحميد والمحمود . وهذه هي النكتة في لزوم قاعدة العدل في اللغة في هذا المكان ، لتبين أن الله جلّ وعلا إذ خلق الإنسان وكرمه على سائر المخلوقات وأسجد له الملائكة وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ، ليس لأن هذا شيء مستحق على الله للإنسان ، ولكن لأن الله بما هو الإله الخالق لا يأتي من العمل إلا الخير الذي يُحمد عليه . وهذا هو المعنى المراد في هذا الموطن ، أففلحت في تقريبه إلى الأذهان ؟ لا أدري ، لكن ثقوا أنني لا أستطيع أن أفعل من ذلك .
لهذا ترون أيها الإخوة أن أسماء الله الحسنى وصفاته العليا حين ترد في القرآن في فواصل الآيات أو في أي موضع في مواضعه .. لا تأتي جزافاً ، وإنما تأتي لتؤدي معنى وتخدم غرضاً كبيراً جاءت الآيات لتؤديه . ثم جاءت الأسماء الكريمة لتكون مسك الختام في هذا الأداء .
( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) والله جلّ وعلا ينص على أن ذاته العليا أنزلت إلى الناس ما أنزلت من كتب وأرسلت إليهم من أرسلت من رسل .. فذلك محض التفضل الإلهي ، والله جل وعلا ملكه واسع وهو غني بذاته ، و( الله له ما في السماوات وما في الأرض ) ثم تعرّج الآية إلى كلام يلفت النظر ( وويل للكافرين من عذاب شديد ) هذا الهجوم المفاجئ على الكافرين يلفت النظر ، نحن نسمع القرآن الكريم يذكر الكافرين ويشرح من أحوالهم ويذكر من شرورهم ويبرز أوصافهم وخصائصهم ويذمهم ، لكن في سياق يرتفع من الأدنى إلى الأعلى ، أما أن يُهجَم عليهم بهذا الشكل من غير مقدمات ، الحديث من أول الآية كما رأيتم إلى هذا الموضع حديث عن الرسالة وخصائصها وغنى الله جلّ وعلا واستغنائه بذاته ، فجأة نسمع الله جلّ وعلا يهجم على الكافرين هـذا الهجوم الشـنيع والمفظع ( وويل للكافرين من عذاب شديد ) وكلمة ( ويل ) في لغة العرب لا تقال في أقصى حالات الذم والغيظ ، ثم يصف الله جلّ وعلا هؤلاء الكافرين الذين لهم الويل بأنهم ( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) واحد ، اثنان ( ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ) أي يلتبسون المعايب لها أو يضعون العراقيل في طريقها لكي لا تكون طريقة مستقيمة بل تكون طريقاً معوجاً ( وويل للكافرين من عذاب شديد ، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك لهم عذاب شديد ، وما أرسلنا من رسـول إلا بلسـان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) .
أظن أن من الخيانة للقرآن أن لا نكون أمناء مع قضياه ، وأظن أن من الخيانة ليس لأمة الإسلام وحسب بل للإنسانية أن لا نكون شرفاء في مواجهة هذه القضايا مهما تكون الظروف .. إن القرآن جاء حاكماً ومهيمناً على كل شيء ، ولا يجوز أن يتخذ من انحراف البشر ذريعةً إلى هجران القرآن ، لأن الناس ليسوا حجة على القرآن بل القرآن هو الحجة على الناس إلى يوم القيامة . مع الأسف الشديد يبدو أن الإنسانية ترزخ تحت أعباء أدواء وأوجاع هي في صميم التركيبة البشرية .. تقليب صفحات التاريخ وإن كان تقليباً للمواجع لكنه مفيد ، إن الأمم التي عتت عن أمر ربها وعصت رسله أتت أفعالاً متشابهة على امتداد الزمان واختلاف المكان ، وكذلك فعلت الأمم التي جاءت رسلها بالبينات ثم عصت وانحرفت ، كذلك ظهرت منها نفس الأفعال ونفس الأعمال ، ولهذا يذكر الله جلّ وعلا في القرآن هذه الظاهرة ويبرزها على أنها خصيصة من خصائص الناس حين ينحرفون ، فبعد أن يعدد ما يفعله اليهود وما يفعله النصارى وما يفعله المجوس وما يفعله الذين أشركوا وما يفعله العصاة يقول ( تشابهت قلوبهم ) لأن الدافع إذا اتحد يعطي آثاراً متحدة بقطع النظر عن كونه الآن أو قبل ألف سنة أو بعد ألف سنة ، من الناس ناس كالخفافيش يكرهون النور ويحبون أن يعيشوا في ظلمة ، ولا يكفيهم ذلك ، لكنهم يريدون للناس جميعاً أيضاً أن يكونوا كذلك ، هؤلاء هم الكافرون حقاً ، ولذلك حين ذكرهم الله جلّ وعلا في مواضع من كتابه حذّر المؤمنين منهم وقال لهم إن هذه الخصيصة ملازمة لهم وإنهم لن يستريحوا ولن يهدأ لهم بال حتى يعم الفساد الناس جميعاً ، فقال ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء ) في الناس نماذج من هذا القبيل ، وللأسف يبدو أن هذه النماذج تزحم جنبات الدنيا أي أنها كثيرة ، وللأسف أيضاً يبدو أن هذا الفساد في القمم العليا ، في قمم المجتمع العليا ، حيث وجدتَ السلطان المطلق وجدتَ هذا الفساد ، حيث وجدتَ الغنى المفرط وجدتَ هذا الفساد ، فهو في قمم المجتمعات وليس بين سواد الناس . سواد الناس برآء وطيبون ، لكن الفاسدين والمفسدين هم أكابر المجرمين من رجال السلطان ومن رجال الثورة . هؤلاء الكافرون وصفهم الله جلّ وعلا بهذا الوصف الذي سمعتموه ، مقسماً إلى أقسام ثلاثة ( يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) وغني عن البيان أيها الإخوة أن المسلمين الأوائل في زمن نبيهم وبعد ذلك في عصور الازدهار والتقدم استولوا على الأمد وأخضعوا الدنيا بهوان الحياة عليهم ، ولو أنهم أحبوا الدنيا كما أحببناها ما خطوا للأمام خطوة واحدة ، ولكنهم أحبوا الموت وكرهوا الدنيا ، لأن الموت يعجلهم إلى ثواب لا يعلم عظمه وقدره إلا الله تبارك وتعالى . ومن المعلوم أيضاً أن فترات التدهور والانحطاط التي شهدناها في تاريخ أمتنا والتي ما زلنا حتى الساعة نعاني من آثارها وعقابيلها كان الدافع من ورائها والسبب الرئيسي أننا أحببنا الحياة الدنيا وكرهنا الآخرة . لذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المشهور : يؤشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، قيل : أو من قلة نحن يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله المهابة منكم من صدور عدوكم وليسلطن عليكم عدوكم حتى يستيقذوا ما في بعض أيديكم . وحين سئل عن العلة وراء ذلك قال : حب الدنيا وكراهية الموت . فسر الوهن ، قال : وليبلغن بكم الوهن . وفسر الوهن وهو غاية الضعف والانحلال لأنه حب الدنيا وكراهية الموت . فالذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة قوم لا يمكن أن يقوموا بجلائل الأعمال ، ولا يمكن أن يصلحوا لإعلاء كلمة دين ، بل لا يصلحون لكي يعلوا شأن الحياة بالذات ، الشأن البشري بالذات لن يعلنوه ، لأن حب الدنيا يولد الجبن والخوف والهلع ، والحياة مشقات ، ميدان كفاح وتعب ، لا يثبت فيه إلا الرجال الأشداء الشجعان ، أما الذين يحبون الحياة الدنيا ويسكن الوهن والخوف والخرع قلوبهم فهؤلاء لن يصلحوا لا في السلم ولا في الحرب جميعاً .
فهذا أول أوصاف الكافرين الذين ذمهم الله وتوعدهم بالويل والثبور أنـهم ( يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) وثانياً ( ويصدون عن سبيل الله ) وسبيل الله معلوم ، سبيل الله هو هذا الإسلام ، وغير الإسلام سبل من سبل الشيطان ، أي لباس لبست ، أي زي تزيت به ، فهي من سبل الشيطان ، وما نحن الذين نقول كذلك فاسمعوا ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يزايد عليه أحد لا في عروبة ولا في إنسانية ولا في اشتراكية ولا في أي شيء من هذا العلك الذي يعلكه الناس اليوم ، لا يزايد أحد على محمد ، أعرب العرب وخير الناس ، اسمعوه ماذا يقول : قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسـاً بين أصحابه ، فأخذ عوداً فخط به على الأرض خطاً مستقيماً ، ثم خط إلى جانبيه خطوطاً ذات اليمين وذات الشمال ، ثم أشار إلى الخط المستقيم فقال : هذا سبيل الله ـ أي الإسلام ـ ثم أشار إلى الخطوط المعترضة يميناً وشمالاً وقال : هذه سبل الشيطان ، على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه فمن أجابهم قذفوه في النار . ثم تلا قوله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفقرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) إذاً لسنا نحن الذين ندمغ كل المذاهب وكل الآراء وكل الاتجاهات وكل الأحزاب بأنها اتجاهات وآراء وأحزاب للشيطان وليس للرحمن منها نصيب ، لسنا نحن الذين نفعل ذلك لكن الله هو الذي يقول ، ومحمد الذي لا يزايد عليه في مكرمة من مكارم الدنيا هو الذي يقول هذه الكلمة .
فالذين يصدون عن سبيل الله هم أحلاس هذه الدعوات الفاسدة الضالة المضلة المربكة للمسيرة الإنسانية ، هم العصي التي توضع في العجلات حتى لا تأخذ الحضارة الإنسـانية مساراً صحيحاً ، هم هؤلاء المجرمون بل أكابر المجرمين . هؤلاء الذين ( يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ) وظيفتهم في هذه الحياة أن يعطلوا مسيرة النور التي جاءت بها النبوات ، أن يصادروا الدعوة إلى الله مصادرةً بقوة السيف وبقوة القانون ، أن يقتلوا الأنبياء والمرسلين ، وأن يقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس ، هؤلاء هم الذين يصدون عن سبيل الله ، ويصدون عن سبيل الله في هذا الشيء وبأمثاله .
والوصف الثالث ( يبغونها ) أي يبغون الرسالة عوجاً ، وكلمة ( يبغونها ) هنا تحتمل وجهاً من التأويل ، إما أنهم يحاولون أن يُدخلوا العوج والانحراف عليها بما يشيعون من تأويلات فاسدة وهذا هو شأن الذين دخلوا في الإسلام كيداً من اليهود والنصارى والمجوس والذين نفثوا في الحضارة الإسلامية بذور الفرقة والفساد مما لا نزال نعانيه حتى الآن ، أو أنهم يبغونها عوجاً يتمنون أن تكون طريقةً غير مستقيمة بل طريقة معوجة ، وأياً ما كان الأمر فالمؤدى والنتيجة واحدة ، هؤلاء الكافرون الذين هم بهذا الشكل .
( وويل للكافرين من عذاب شديد ، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك لهم عذاب شديد ) نسأل : أنفسنا لماذا هذه الهجمة الكاسحة ؟ نجيب بأن المسألة مرتبطة بالمستقبل الإنساني والمصير البشري ، أيها الإخوة كل أمة يتوقف نهوضها وتقدمها على مقدار الجهود التي يبذلها أبناؤها في الطريق الصحيح ، فاذا بذلوا الجهود بصورة مستمرة ووضعوها في مكانها الصحيح تقدمت الأمة بخطوات واثقة إلى الأمام كما كان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت الرسالة وتوثقت وتمت الفتوحات الهامة واستوى كل شيء على قراره خلال أقل من ربع قرن ، لأن الأمة أعطت كل ما تملك من جهد ، ووضعت كل ما تملك من جهد في المكان الصحيح ، ولذلك كانت المعجزة أن نشأت الأمة وقامت على سوقها في ثلاث وعشرين سنة فقط . لكن الأمة حينما تهدر طاقاتها وتعيش سلبية لا مبالية أو تضع هذه الطاقات في غير مكانها الصحيح فستمر مئات السنين دون أن تحقق لنفسها نقلة من الضلال إلى النور ومن التخلف إلى التقدم .
ولهذا فإن الإسلام ينظر إلى الكافرين ليس على أنهم شواذ ، لا ، ولكن على أنهم جناة ، على أنهم مجرمون ، وليسوا مجرمين بحق أنفسهم ولا بحق وطنهم ولا بحق جيلهم ، بل هم مجرمون بحق الإنسانية إلى أن تقوم الساعة ، لماذا ؟ لأنهم عرقلوا المسيرة البشرية السليمة .
هذا هو مبرر الهجوم ، لكننا نلاحظ أن هذا الهجوم مع تبريره يأتي قبل آية تستدعي المزيد من التأمل ، ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) وهذه القضية لن أقف عندها طويلاً ، فالذين يذكرون يعلمون أنني بحثت هذه القضية قبل خمس عشرة سنة ، ثم بعد ذلك في مناسبات متعددة ، فأنا لست بحاجة على أن أبحثها مرة أخرى بتفصيل وإسهاب ، لكني أحب أن أقول :
الناس عموماً يتصورون النبوة والرسالة شيء خارق ولذلك يجب أن يكون النبي أو الرسول شيئاً خارقاً ، لهذا نقرأ في القرآن تعجب الكافرين والمشركين من أن يكون النبي بشراً من البشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .. لقد كانوا يتصورون أن يكون الرسول ملكاً من ملائكة الله ، وردّ الله عليهم فقال ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) كما جاء في سورة الأنعام ، ورد عليهم أيضاً في سورة الإسراء فقال ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون لنزّلنا عليهم من السماء ملكاً ) فأراد للناس أن يستقر في أذهانهم أن الرسالة شأن بشري ، وصف بشري ، أن الرسول بشر ، ولا يمكن إلا أن يكون بشراً ، لأن اتحاد الجنس مقدمة للتفاهم ، ولا يمكن أن نتصور تفاهماً بين الملائكة وبين آدم ولا تفاهماً بين الجنس والإنس ..
الناس في ذلك الوقت ظنوا أن الله إذا تكلم إلى الناس بكلام فيجب أن يكون كلامه مغايراً لكلام البشر ، فرد الله عليهم ذلك ، وهذه الآية من آيات الردّ ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) وفي آيات أخرى قال ( ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ) وقال ( ولو نزلناه على بعض الأعجمين ما كانوا به مؤمنين ) فلا بد من اتحاد العنصر البشري ومن اتحاد اللسان وهو اللغة لكي يكون التفاهم والتبيين مفهماً ، فلو أن النبي كان من عنصر من غير عنصر البشر لاستحال التفاهم ، ولو أن النبي جاء بلسان غير لسان قومه لاستحال التفاهم .. فلا بد من أن تتحقق هاتان القضيتان ، لا بد ان يكون هناك اتحاد الجنس واتحاد اللسان .
لكنا في الوقت الذي نقول أن محمداً عربي جاء بكتاب نزل بلسان العرب وخاطب الأمة العربية بما هو معهود في تخاطباتها بينها ، لم يشذ عن ذلك ، في الوقت الذي نقول هذا ونقرره فيه حقيقة واقعة لا تلتبس في ذهن أحد علينا أن نتساءل : أليس الإسـلام هو خاتمة الديانات ؟ نعم . أليس محمد هو خاتم المرسلين ؟ بلى . أليس القرآن آخر كتاب أُنزل إلى الناس ولم ينزل بعده كتاب ؟ بلى . إذاً فهو الرسالة الخاتمة ، والنبي الخاتم ، والكتاب الخاتم أيضاً ، وهو جاء بلسان العرب ، والعرب أمة من الأمم ملقاة في فيافي الجزيرة العربية لم يكونوا في ذلك الوقت على قدر من النهوض والتقدم يجعل لهم صوتاً في التاريخ البشـري ، ولكن في ذلك الوقت نقرأ في القرآن ونعلم من مقررات الإسلام أن هذا الدين هو كلمة الله إلى الناس جميعاً إلى آخر الزمان ، أي أنه الدين الذي يُطالَب كل إنسـان أن يؤمن به بقطع النظر عـن الجنس وعن اللون وعن اللسان ( وما أرسـلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ) ( يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض ) وفي حديث الخصائص يقول النبي صلى الله عليه وسـلم : وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وأُرسلت إلى الناس كافة . فكيف نستطيع أن نوفّق إذا كانت قاعدة الرسالة أن يتحد اللسان من أجل تمام البيان ؟ كيف نستطيع أن نوفّق بين عالمية الإسلام وبين محدودية اللسان ؟ فالناس يتكلمون بألسنة شتى ويتفاهمون بلغات مختلفة ، واللغة العربية واحدة من اللغات الموجودة على الأرض وليس هي كل اللغات .. كيف يمكن لهذا الدين أن يتفاهم مع كل اللغات الأخرى ؟ فنحن في الظاهر أمام مناقضة بين عالمية الإسلام وبين محدودية اللسان ، لكن هذه النقيضة نقيضة ظاهرية ساعد عليها وعلى نموها وعلى ترسخها أن المسلمين الأوائل بعد أن خرجت أمور المسلمين عن أن تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة أصبحت ملكاً عضوضاً الهمّ منه أن يُرسّخ السلطان لأناس بأعيانهم ولعوائل وأسر بأعيانها ، أصبح السلطان محتاجاً إلى أن يسخر طاقات الأمة لتدعيم ملكه وتدعيم سلطانه ولشراء الأعوان والأنصار ولإفساد الضمائر والذمم . فالغاية التي مشت عليها ومن أجلها الخلافة الراشدة اتباعاً لعصر النبوة بتعميم كلمة الله إلى جانب تعميم لسان العرب انصرف الناس عنها ، فإذا عرفنا أن العباسـيين وهم في بدايات القرن الثامن من الهجرة اعتمدوا العنصر الأعجمي لتدعيم ملكهم وتدعيم سـلطانهم ، مـع أنهم في الذؤابة من قريش .. اعتمدوا الأعاجم لغةً وتدويناً ولساناً وترتيباً وتنظيماً .. اعتمدوا العجم ورفضوا العرب وخلائق العرب ولسان العرب . حتى إن سفيهاً من سفهاء خلافائهم يكتب إلى عامله فيما وراء النهر أن لا تدع إنسـاناً يتكلم العربية إلا وقتلته . إذا عرفنا أن سفاهة الحاكمين بلغت هذا المستوى أدركنا أية جناية ارتكبها أناس يذكرون الآن فيذكرون بالتبجيل وحقهم أن يوضعوا تحت النعال ، لأنهم أجرموا بحق الأمة جريمة لا يمكن أن تغتفر .
يا إخوة هذا الدين صحيح عالمي ، لكن يجب أن يُعلَم أنه دين عربي ، بلسانه وبشمائل أبنائه وبخصائصهم الذاتية ، وأن أي عدوان على هذه الحقيقة عدوان على صميم الدين ، من هنا رفضنا في الماضي ونرفض الآن وفي كل وقت أن يأتي الخميني أو غير الخميني ليزايد علينا في الزعامة الإسلامية ، ذلك بأن زعامة العالم الإسلامي حق لنا نحن العرب ، نعم ، نحن أبناء الدين ونحن أبناء اللسان ، وإذا كان الزمن العاثر قد أوجب أنظمة دائرة في هذا العالم العربي تجره إلى شرقٍ أو إلى غرب فإن أصالة هذه الأمة ، وإن حقيقة هذا الدين ، تدفع الناس إلى صيغة لا بد أن توحد بين العروبة والإسلام ، لأن المسلم الذي يكون بعيداً عن لغة الإسلام سيظل بعيداً عن أمة الإسلام ، فهمتم المعاني ، إذاً فنحن كعرب وكمسلمين وكأمة عربية نحن على غير الجادة ، وكمسلمين أيضاً نحن على غير جادة . نحن العرب أعزنا الله بالإسلام ، فمهما ابتغينا العز بغير الإسلام أذلنا الله .. روسيا بأساطيلها وصواريخها وأقمارها لا تنفعنا ، لأنه لا يمكن أن يأتي يوم تُعامَلون فيه معاملة الند للند ، لا بد أن تعاملنا معاملة التابع والمتبوع . وأمريكا كذلك ، فالطرفان متفقان على أن يظل العرب بعيداً عن حقيقة هويتهم وذاتيتهم ، لأنهم لو عاشوا من خلال هذه الهوية واكتشفوا هذه الذاتية ووحدوا قواهم ولمّوا شملهم لأجبروا الكتل الكبرى على إعادة الحسابات من جديد ، لأن كل الاستراتيجيات لا بد أن تتغير .
من هنا نلاحظ في الصغيرة وفي الكبيرة في الحرب وفي السلم أن كتل العالم الكبرى تضع كل جهدها من أجل أن لا نصل إلى المرحلة التي نكتشف فيها من نحن وما هي وظيفتنا على الأرض ؟ لكنهم كما ترون صراع بين الإرادة البشرية وصراع مع الذات الإلهية والإرادة الإلهية ، والمسألة في عرفنا محكومة ومحسومة ، وليست أكثر من مسألة زمن لا بد أن تصل الأمة العربية إلى حقيقة أنها أمة الرسالة وصاحبة المسـؤولية الضخمة العظمى عن المصير البشري برمته .
والشعوب المسلمة أيضاً على خطأ ، إنها حين تنازع العرب حقهم في السيادة على العالم الإسلامي ، وحقهم في نشر اللغة فإنما تصد عن دين الله .. يا إخوة أنا أعرف وكلكم تقريباً يعرف أن هناك أكراداً وأتراكاً وعجماً يحفظون القرآن بيننا ، ولكنهم لا يفهمون منه حرفاً واحداً ، يقرأ أمامك القرآن كأحسن ما يقرأه عربي ، ولكنه لا يفهم منه حرفاً واحداً ، لماذا ؟ لأن العربية ليست لغته ، فلذلك انعدمت استفادته من القرآن الكريم ، طيب لو حذفنا القرآن الكريم من الرسالة ماذا يبقى عندنا ؟ لا شيء ، إذاً لا بد من الناس أن يحذقوا الكتاب الكريم ، ولا بد لهم لكي يحذقوه أن يحذقوا لغة العرب وهذه إحدى الفرائض التي افترضها الله جلّ وعلا على كل مسلم . فأنتم ترون أن الصلاة فرض على كل مسلم ، ولا بد في الصلاة من قراءة القرآن وقراءة القرآن يجب أن تكون بالعربية إجماعاً لدى كل علماء المسلمين ، إن الإسلام افترض صلاة الجمعة ، والجمعة عنصران ، ركعتا الفريضة والخطبة التي تقوم مكان الركعتين ، والخطبة لا بد أن تكون باللغة العربية ، فإذا كانت الخطبة باللغة العربية لقوم لا يحسنون العربية أليست المسألة حوار فرشان ؟ لهذا السبب نحن نرتّب على أمتنا العربية أمرين يتلازمان : الأول أن يتعمق فقه لسانها ومعرفتها ببيانها حتى تحسن الإفادة على أعلى مستوى من كلمات الله تبارك وتعالى . والثاني أن تعمل كل ما أوتيت من طاقة لكي تصدّر هذا اللسان مع الإسلام جنباً إلى جنب ، إلى كل الذين لا يتكلمون اللغة العربية ، هل يعني هذا شيئاً من العنصرية بالنسبة إلينا ؟ بالطبع لا ، لا بد هنا أن أكشف النقاب عن جانب ، إن الدعوات إلى السلام العالمي دعوات مرفوعة منذ أكثر من عدة قرون ، لكن السلام العالمي شيء يفكر به المفكرون استناداً إلى واقع يتحركون عليه ، الواقع غلط ، التفكير لا بد أن يكون غلط ، وهكذا كان ، ذهبت كل دعوات السلام أدراج الرياح ، لم تثمر شيئاً .
حينما ننظر نظراً متأنياً عقلانياً فسوف نجد أن الناس لكي يتفاهموا لا بد أن تتحد بينهم وسيلة التفاهم ، ووسيلة التفاهم بين الناس هي اللسان هي اللغة ، فإذا اتحدت اللغة أصبح من الممكن أن أخاطبك وأن تخاطبني بكل سهولة وبكل راحة ، الذين ينادون بالسلام على أساس اللغات المتعددة والأجناس المتعددة والحضارات المتعددة فإنما نداؤهم صيحة الحوار ، من غير نتيجة ولا يمكن أن تؤدي ثمرة ، لأن اكتشاف الوحدة من خلال التعدد كلمة تقال ولكنها في الواقع شيء مستحيل ، لا بد أن نعمل على أن نوحد وسيلة التفاهم بين الناس ، وأن نوحد مفاهيم الحضارة البشرية ، إذا وصلنا إلى هذه النتيجة وحدة اللسان ووحدة الأسس الحضارية والمفاهيم الحضارية فنحن سنصل إلى تحقيق السلام العام والتام والشامل على ظهر الأرض ، وهذه هي الغاية النهائية التي جاء من أجلها الإسلام .
ومن هنا يظهر عظم الجريمة التي يرتكبها العرب حينما يقصرون في ذات لسانهم وفي ذات دينهم ، إن العرب الآن هم المدعوون لانتشال الإنسانية من الوهدة التي تعيش فيها ، لكني أتساءل : هل يستطيع العرب وهم في هذه الحال من التدهور والتمزق والتناحر والتعادي أن يفعلوا شيئاً ؟ أتساءل : متى تنتهي هذه السفاهة المقيتة من الساحة العربية ؟ متى يخلي السفهاء هذه الساحة ؟ متى يتقوا الله جلّ وعلا لكي يتركوا الأمة تمارس وظيفتها التي ندبها الله لها ؟ إن قول الله جلّ وعلا ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) يضرب على هذا الوتر ، ويضرب عليه ليكشـف للمسلمين أن لهم غاية وعليهم أن ينتهوا إلى غايتهم ، وأن هذه الغاية تتجاوز ذاتهم وتتجاوز محيطهم وتتجاوز جيلهم ، إنها الإنسانية برمتها ، إنها الأمانة التي طُوّقها المسلمون وطُوّقها العرب بالذات ؟
فهل نأمل أيها الإخوة ونحن في هذا الشهر المبارك ؟ هل لنا أن نأمل أن يستقل قومنا العرب بهذا الحمل الثقيل ؟ أنا أقول نعم وليس لدي في ذلك ريب ولا يداخلني أي تشاؤم من هذا القبيل ، أنا واثق أن أمتنا تتململ ، ونعم هناك صعوبات وهناك مشقات وهناك أعداء لا يستهان بهم ، ولكن قوة الله المتجلية في هذا القرآن الكريم الذي ذلّ به هذا اللسان العربي المبين كفيلة بأن تتغلب على كل الصعوبات وأن تتخطى كل المشقات .
يا أبناءنا ويا إخواننا ، أنتم تعيشون على مفترق طرق ، وبأيديكم أن تقرروا أي طريق تسلكون ، إن الزمان لا يرحم ، والركب البشري لا ينتظر المتخلفين والمتخاذلين ، إنكم اليوم يا أبناءنا تملكون أن تحطوا حروفاً في صفحة التاريخ ، وتملكون أن تحولوا النور هذا إلى سواد دامس ، لكن رجاءنا أن يمنحكم الله جلّ وعلا من الهمة ما يعيدكم على مساورة المشقة والتغلب عليها ، نسأل الله جلّ وعلا أن يعينكم على أنفسكم ويعنيكم على بلايا الدنيا وعلى مشقات الحياة ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.