تفسير سورة إبراهيم
24 / 5 / 1985
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
(2)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :
فهذه أول جمعة تمر علينا في رمضان ، وهذا أوان الوفاء بما وعدناكم به أن نخصص جمعات رمضان للعيش مع القرآن الكريم ، نتلوا آياته ، ونحاول جهد المستطاع أن نتعرف على الميسور من مدلولاتها ، ولقد عرضنا لكم في الجمعة الماضية سورة إبراهيم عرضاً إجمالياً لا يغني عن التفصيل بالضبط ، وقلنا إن التفصيل سيأتي من بعده ، وذكرنا أن هذه السورة الكريمة أعني سورة إبراهيم من القرآن المكي وهـي ليسـت من طوال السور ولا من قصارها ، اثنتان وخمسون آية ..
ونقول الآن : إن هذه السورة كسائر القرآن المكي يجري نسقها على محاور ثلاثة بسورة أساسية : مسألة الألوهية ، ومسألة النبوات ، ومسألة اليوم الآخر . وهذه السورة من حيث المحاور التي تتحرك عليها لا تخرج في هذا المجال عن القرآن المكي ، فهي أيضاً تدلي بالحجج من أجل تدعيم قضية الألوهية وتدعيم قضية النبوة وتدعيم قضية اليوم الآخر . وهذا التحديد الذي حددناه هو تحديد عام ، أي هو في الإطار العام ، لكن التفاصيل ـ كما سنرى وفي كل القرآن ـ تحتوي على قضايا يدركها المتأمل الذي لا يتعجل فيقرأ القرآن دون تمعن ودون تدبر ، فمع التدبر والتمعن ومع التفكير المستأني ، سنرى أن الكلمة الواحدة من الآية الواحدة تحوي من المعاني ومن الإشارات ما لا يحيط بعلمه إلا من يوفّقه الله تعالى إلى ذلك ، ونذلف إلى السور .
وقد سمعتم جوانب منها في الجمعة الماضية وأحسب أن الكثيرين منكم قرأوها ، تفتتح السورة بهذه الحروف المقطعة الحروف الهجائية التي بُدئت بها معظم السور المكية ( ألر ) حكاية عن حروف ثلاثة من حروف الهجاء التي يتركب منها الكلام : الألف واللام والراء . والملاحظ بصورة عامة أنه حيثما بُدئت السور بالحروف المقطعة فإن السورة ذاتها تحوي حديثاً عن القرآن الكريم وعن الوحي وعن إعجاز هذا القرآن الكريم ، مما يشعر بنوع من الرابطة بين الحروف المقطعة وبين قضية الإعجاز ، وهذا ما ألمحنا إليه في الجمعة الماضية فلا نعود إليه ..
يقول الله تعالى ( بسم الله الرحمن الرحيم ، ألر كتاب أنزلناه إليك ) والخطاب هنا لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، الله الذي لا إله إلا هو وويل للكافرين من عذاب شديد ، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد ، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء والله عزيز حكيم ) وبهذا الاستهلال الذي أخذ شكل الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أُفرغت عدة قضايا ، لكنا نريد أن نسير مع الآيات قبل أن نقف مع هذه القضايا واحدة واحدة ، آملين أن يتعوّد الإخوة تحميل أنفسهم شيئاً من العناء ، من أجل الفهم عن الله تبارك وتعالى .
تمضي الآيات بعد ذلك فيقول الله تبارك وتعالى ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكّرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ، وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ، وإذ تأذن ربكم لئن شـكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ، وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد ) وإلى هذه النقطة نلحظ أنه بعد إفراغ القضايا الهامة لفاتحة السورة عرج القرآن الكريم بالإشارة إلى بني إسرائيل .. ونحن نلاحظ من قراءتنا للقرآن ومن تتبعنا للقصص القرآني ، قصص الأمم الماضية ، أن قصة بني إسرائيل تتكرر وتتردد في ثنايا القرآن أكثر مما تردد أية قصة أخرى ، وذلك أولاً لقرب العهد ، وثانياً لوجود الرابطة وهي أن بني إسرائيل نسق من إسحاق ، والعرب المسلمون نسق آخر من إسماعيل ، وكلا الشعبتين ترجعا إلى ِأبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وثالثاً وليس أخيراً لأن تجربة بني إسرائيل في باب النبوات أغنى تجربة مرت بها أمة من الأمم ، فيها الصعود وفيها الهبوط ، فيها الجانب المشرق وفيها الجانب المظلم ، فيها خير ما يعتمل في الذات الإنسانية من دوافع وغرائز ، وفيها أحط ما يهبط بالإنسان إلا حضيض الشهوات المربكات . ولذلك فإن قصص بني إسرائيل كُرر وأعيد في القرآن لينفض للمسلمين عبرته في سياق تجربته مع النبوات .
ثم إذا انتهينا من قراءة هذا المقطع الذي يشير إلى شيء من شأن بني إسرائيل وفي زاوية تتساوق وترتبط مع أغراض السورة فنحن نسمع الله جلّ وعلا في هذه السـورة يلفت الأنظار ، أهو خطاب يجري على لسان موسى تكملة للكلام ؟ أم هو تذكير من الله جلّ شأنه للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وهم يتحركون في وسط المحنة والبلاء في شعاب مكة بين التشريد والتطريد والاضطهاد والتعذيب .. فسواء كان هذا أو ذاك فإن ذا لا ينزل بقيمة المقاطع التي جاءت بعد ذلك من حيث هي تذكير بقانون من القوانين الاجتماعية التي شهدت المجتمعات فيها مواجهة مكشوفة بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان . نحن نسمع ربنا جلّ وعلا يقول ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ) أمم جاء بعضها على أثر بعض ، كلما قضت أمة دورها على مسرح التاريخ خلفت مكانها لأمة أخرى هي أكثر فتاءً وأكثر شباباً وأكثر استعداداً لأن تتحمل تكاليف الحياة الجديدة . هذه الأمم ماذا كان من شأنها ؟ قال ( جاءتهم رسلهم بالبينات ) يعني قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود والذين من بعدهم ممن لا يحصيهم إلا الله ولا يعلمهم إلا الله ( جاءتهم رسلهم بالبينات ) وحين ينص القرآن هنا على البينات فإنما يقطع العذر ، فالذي يتردد والذي يتحير والذي يشك والذي يتلجلج هو الذي تلتبس عليه الأمور ، وهو الذي لا يرى أمامه حجة واضحة ، ولا دليلاً قائماً ، وإنما هي خطوط ملتبسة مختلطة . لكن شأن الأنبياء مع أقوامهم ليس بهذا الشكل ، فالنبي لا يأتي ليزيد الريب ويزيد في الشكل ، وإنما يأتي ليمحو الشك وليبعد الريب ، ولهذا فإن آيات الأنبياء كانت باستمرار آيات ساطعة ناصعة بينة ، ولهذا عُبّر عنها في القرآن الكريم حيثما أتت بأنها بينات . والذي تأتيه الحجة البينة ويبين له الصراط المستقيم غير ملتبس ولا مختلط بغيره لا يُعرض ولا يصد ولا ينأى ولا يبعد إلا إذا كان صريع مرض في داخله ، وأما صاحب الفطرة السوية المستقيمة فمن شأنه الخضوع للدليل والنزول على حكم البينة .
هذه الأقوام التي جاءتها رسلها بالبينات ، يعني بالحجج الواضحات الساطعات القاطعات كان المفروض أن يصدقوا وأن يذعنوا وأن يؤمنوا بما دعتهم به إليه رسلهم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر ، لكن الأمر كان على خلاف ذلك . اسمعوا ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ) ورد اليد في الفم تعبير من مجازات العرب ، تعبير عن الغيظ ، فالإنسان حين يشتد به الغيظ يعض على يده أو هو كناية عن إغلاق الفم كي لا يجيب الذي يدعوه بخير ولا بشر ، وأياً كان الأمر فإن المراد من قوله جلّ وعلا وفاقاً لمجازات العرب في كلامها هـو الصد والإعراض ( فردوا أيديهم في أفواههم ) يعني صدوا وأعرضوا عما دعتهم إليهم أنبياؤهم ( وقالوا ) يعني هذه الأقوام ( إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ، قالت رسلهم ) وهي في سياق المحاورة والمحاجة مع قومه ( أفي الله شك فاطر السموات والأرض ) فقد يشك الإنسان في أي شيء إلا وجود الله جلّ وعلا ، فهذا الشيء الذي لا يقبل الشك ولا يتحمل الريب ، فهو أظهر من أن يقام عليه الدليل ، لأن دليله حاضر في خلق السموات والأرض وفي ذات الإنسان .
ولذلك نجد الله جلّ وعلا في القرآن الكريم يلفت الأنظار ويوجهها دائماً إلى النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ، ويلفت الإنسان إلى أن يستبطن ذاته فيقول ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) لأن مسألة الألوهية أظهر من أن يقام عليها الدليل ، وفي كل شيء له آية تدل على أن واحد . ولهذا جاء تساؤل الأنبياء صلى الله عليهم ( أفي الله شك ) تساؤل يحمل معنى الإنكار ، لأن صاحب الفطرة السليمة لا ينكر وجود الله جلّ وعلا ، ولكن المريض في فطرته هو الذي يعتري الشك بوجود الله جلّ وعلا ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض ) أي خالقها ابتداءً غير مسبوق بذلك ( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد أباؤنا فأتونا بسلطان مبين ) يعني بحجة قاهرة ظاهرة ( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ) نحن فعلاً بشر كما أنتم بشر ( ولكن الله يمن على من يشاء ) يتفضل وينعم ، وهذا المن بالنسبة للأنبياء هو التكليف بالرسالة والنبوة ( ولكن الله يمن على من يشاء وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى فليتوكل المؤمنون ، وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) وإلى هنا ينتهي كلام الأنبياء في ردهم على أقوامهم بإعلانهم الالتجاء إلى الله والتوكل عليه وعدم السـعي في أذى أقوامهم .
وتأتي اللوحة الثانية لتعرض موقف المشركين المعاندين الضالين ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسـكننكم الأرض من بعدهم ذلك بمن خاف مقامي وخاف وعيد ) بطبيعة الحال أنا واصلت تلاوة السورة إلى هذا الحد ، لأن المسألة التي أريد أن أقف عندها الآن مترابطة بهذه الآيات ، تعرض نفسها من آية لآية بأشكال تزيدها رسوخاً ووضوحاً .
فلنعد إلى ما بدأنا به ( ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) لاحظوا .. لم يقل سلمناك قيادة الجيش ، ولم يقل وضعنا بين يديك سلاحاً فتاكاً تقهر به خصمك ، ولم يقل وضعنا بين يديك زمام الأمة وملك الأمة ، ولم يقل سـخرنا لك الإنس والجن والطير والرياح وما أشـبه ذلك ، وإنما قال ( كتاب ) . وقال ( كتاب أنزلناه ) لينفي عنه فكرة الابتداء والاختلاف ، ولكي يتضح لكم المعنى العظيم لكون الإسلام كتاباً فيجب أن أعيد تذكيركم بالحديث النبوي الذي رويته لكم في الجمعة الماضية في معرض الحديث عن هذه السورة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين ذاته الكريمة وخصائص رسالته العالية وبين الأنبياء من قبله فقال : ما من نبي من الأنبياء أرسله الله من قبلي إلا آتاه الله ما مثله آمن عليه البشر ـ أي أعطاه معجزة حسيةً قهرت الناس وجعلتهم يؤمنون أو يجب أن يؤمنوا وفاقاً لهذه الشروط ـ وكان الذي أوتيته وحياً يتلى ـ أي هذا القرآن ـ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة . تعلق رجاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون أكثر الأنبياء تبعاً سببه ماذا ؟ طبيعة ما آتاه الله ، طبيعة المعجزة التي أعطاه الله إياها والتي ينبغي أن يؤمن عليها الناس ، فمعجزات الأنبياء من قبله أحداث وآيات حسـية أولاً ، ومحكومة بشرط الزمان والمكان ثانياً ، فإذا نفعت فهي تنفع الذين يعايشونها والذين يعاينوها ويرونها ، وأما الذين يسمعون بها من بعد فإنهم قد يكذبوا في هذا الذي يسمعوه .
أما بالنسبة للإسلام ، فمعجزة الإسلام مستمرة باقية لا يغير منها شيئاً أن تنقرض الأجيال لتأتي أجيال أخرى ، لأن هذا الجيل يقرأ القرآن على نفس القاعدة التي قرأه عليها الجيل الذي سبقه ، والجيل الذي يأتي سيقرأ القرآن على نفس القاعدة ، وهذه الأجيال تحمل من الإمكانات ما يؤهلها للفهم والإدراك وما يؤهلها للمناقشة والموازنة ، فهي باستمرار قادرة على أن تقف مع الآية الإلهية التي جاءت تأييداً وتدعيماً للإسلام . وفي كل جيل هنالك إمكانية كالإمكانية التي وُجدت على زمن محمد صلى الله عليه وسلم أن يتكاثر المؤمنون وأن يزداد المؤمنون لسبب بسيط وهو أن هذا الإنسان تُرك حراً في مواجهة الكلام الإلهي ، يسمع ويفكر ويدرك ويناقش ويوازن ، ويقتنع حين يقتنع عن معرفة وبينة لا عن تقليد ولا عن ضعف . هذا هو ما نستخلصه من قوله جلّ وعلا في بداية وصف الرسالة ( كتاب أنزلناه إليك ) وتقييد الكتاب بأنه منزل فيه الرد على السفهاء من الناس الذين ادّعوا أن القرآن من كلام محمد أن هذا القرآن مما يتعلمه محمد من أهل الكتاب ، حتى إن الله جلّ وعلا رد عليهم في القرآن فقال ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) هذا من جهة الأصل ، ومن جهة أخرة فلعلي ذات يوم ولعلي لا أغادر السورة قبل أن أدرس هذه النقطة لكم ومعكم ، فإن الأمم طبقاً للدساتير والقوانين ونحن نستعرض خط المسيرة البشرية فنلاحظ أن التاريخ الإنساني للأسف مأساة وملحمة ، وإذا بحثنا عن السبب في هذه الملحمة فسوف نصل إلى تقرير قضية أساسية : إن الله جلّ وعلا خلق الناس متساوين لا يمتاز بعضهم عن بعض ، فليس لأحد أن يدعي حق الصدارة والوجاهة والملك والقهر والسلطان على الآخرين إلا إذا كان ذلك تكليفاً من الأمة التي هو منها . وإذا كان الأمر كذلك وكانت الدساتير والشرائع والقوانين الأرضية هي من صنع البشر بل قل تحديداً من صنع الطبقات الحاكمة ، وإذا كان لنا أن نأخذ بوجهة النظر التي تقول بأن الأنظمة والدساتير والقوانين في أية أمة وأية عصر إنما هي تعبير عن حاجات ومصالح الطبقات السائدة في المجتمع ، إذا كان لنا أن نأخذ بهذا وذاك فنحن سنضع أيدينا على السر الذي جعل التاريخ الإنساني كله مأساة وملحمة دامية . إنك تدعي لنفسك أن لديك من الفهم والإدراك والحصافة ما يسمح لك بأن تخطط للناس وأن تشرع للناس ، وتدعي لنفسك أنك تملك من المؤهلات ما يعطيك الحق في أن تحمل الناس على أن يفعلوا ما تريد وأن يسيروا وفقاً لما تريد ، قد يطيعك الناس يوماً أو يومين أو سنة أو سنتين ، لكن المسألة التي يجب أن لا تغيب عن البال هي أن الإنسان بما هو إنسان سواء أعلن عن ذلك أم لم يعلن لا يستطيع أن يتحمل قضية الامتياز من بني جنسه ، لا يمكن أن يتحمل ادّعاء البعض من بني جنسه أنهم يمتازون عليه ، فلذلك تسقط من هنا هيبة الدساتير وهيبة الشـرائع وهيبة القوانين حين تكون من صنع بشري غير ممتلك من عند الله ، هذا من جهة .
من جهة أخرى فتاريخ التشريع عندنا وعند غيرنا سلسلة مستمرة من التعديلات ومن التغييرات ، وهذا قانون مبني على الدستور وهذه تعليمات تلغي هذه المادة أو تقيم الإطلاق هناك وما أشبه ذلك ، ذلك بأن القانون البشري يكفيه لإبراز النقص أن نقول إنه بشري ، فالبشر لا يستطيعون أن يحيطوا علماً بكل حاجات البشر فهذا مستحيل ، ولذلك يأتي القانون ويأتي الدستور ويأتي التشريع يأخذ في حسابه إطاراً زمنياً ومكانياً معيناً ، أما الشمول والإطلاق فلا . من هنا كانت القوانين البشرية والدساتير البشرية عاجزة عن الوفاء باحتياجات المجتمعات الإنسانية ، فحين نسمع الله جلّ وعلا يقول ( كتاب أنزلناه إليك ) فينفي عنه أن يكون من صنع البشر ، فإنما يضمن له الأمرين الأساسيين ، الأول : ذهاب الحساسية التي يشعر بها الإنسان وهو يطبق القانون أو وهو يتهرب من القانون بأنه يطبق قانون وضعه إنسان كهيأته لا يمتاز عنه بشيء ، فهذه الحساسية تزول حينما يكون هذا الكتاب منزلاً من عند الله . والشيء الثاني هو تفادي النقص الذي يلازم التشريعات البشرية ، فتشريع الله كامل وتشريع البشر ناقص .
ما هو الهدف من إنزال هذا الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ الهدف موضح كذلك في سياق الآية الأولى ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ) وأنا أطلب إليكم مزيداً من الانتباه ، فصحيح نحن نقرأ كلاماً عربياً ونحن عرب وندعي أننا نفهم الكلام العربي ، لكن اسمحوا لي أن أقلل من هذه الكبرياء شيئاً ما لأقول لكم إن العقول مستعجمة وكذلك الألسنة مستعجمة ، وليس لأحد أن يدعي هذه الدعوى العريضة ، فلا أذهاننا صافية كأذهان أسلافنا العرب الأوائل ، ولا ألسنتنا مستقيمة كألسنة أسلافنا من العرب الأوائل . لهذا نحن بحاجة إلى التدقيق ، لاحظوا يقول ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ) نحن نعرف أن الإذن هو السماح والإجازة ، نقول استأذن فلان على فلان أي استسمح في أن يدخل إليه واستجاب ذلك ، وهذا هو المعنى العام للكلمة ، وهو المعنى الذي يُسقط قارئ القرآن في الالتباس وضياع المعنى المقصود من الكلام الإلهي .. الحقيقة أن الإذن من مادة أذن ، وأذن في وضعها اللغوي تعني القضاء والحكم والإعلان ، القضاء والحكم والإعلان ، في هذه السورة سمعتم أن الله يقول ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتكم لأزيدنكم ) أي قضى وأحكم وأعلن ، فحين نسمع الله جلّ وعلا يقول ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ) فنحن أمام عالم من المعاني والأفكار تتحرك وتستدعي الكشف ، ففي هذا المجال أو في هذا الموطن من فاتحة سورة إبراهيم نجد الربط المحكم بين هذا الدين ممثلاً بكتابه الذي هو القرآن أو الكتاب كما نص على ذلك في أول الآية وبين الإخراج من الظلمات إلى النور ، فلا خروج من الظلمات إلى النور إلا من هذا الباب الذي هو كتاب الله وهو القرآن ، وأي كتاب آخر وأي دستور آخر وأي نهج آخر فإنما يؤدي إلى زيادة الارتكاس في الظلمة والضياع وراء السراب ، وأما الخروج من الظلمات إلى النور فهو مرتبط بهذا الكتاب الذي هو دستور الإسلام هذه واحدة .
وأخرى حين يقول القرآن ( بإذن ربهم ) فليس معنى هذا بسماع ربهم وإجازة الله لهم أبداً ، هنا نقع في الخطأ الفادح ، وإنما معنى الإذن و التأذن كما ذكرنا القضاء والحكم والإعلان ، فحين يقول ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ) أي بقضاء الله جلّ وعلا وبحكم الله جلّ وعلا ، بمعنى أن الله قضى وحكم وأمر وأذن وأعلن أن الخروج من الظلمات إلى النور لا يكون إلا بكتاب ، وأن هذا الكتاب مشروط بأن يكون منزلاً من عند الله ، وأن هذا الكتاب أيضاً مشروط بأن يحوي من الدلائل والبراهين ما يزيل الالتباس وينفي الشك والريب ، وأنه إذا تحصل هذا فقضاء الله جلّ وعلا جاء بأنه حينما تحصل المواجهة بين الإنسان وبين هذا الكتاب الذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم فإن البداية تحصل وإن الخروج من الظلمات إلى النور تأتينا . إذاً فمن الخطر أن نقف عند المعنى العامي للكلمات ، لأننا حينما نقف عند المعنى العامي للكلامات تضيع علينا الفائدة المقصودة ، فبين الإذن وبين الحكم ضاعت علينا مسألة كبيرة ، نحن الآن إذاً على ثقة بأن هذا الكتاب الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قضى الله وأمر وحكم بأن يكون فيه سبب الخروج من الظلمات إلى النور ، وحين يكون الأمر في هذا مردوداً إلى الله فإننا ننظر بسخرية واستهزاء إلى محاولات البشر من أعداء الله وأعداء الذين آمنوا الذين يحاولون أن يصدوا عن سبيل الله وأن يبغوها عوجاً ، لأننا وفاقاً لإذن الله جلّ وعلا نحكم عليها بأنها فاشلة لا محالة .
فإذا أمضيت بصرك أيها الأخ إلى بقية الآيات التي تلوناها فأنا أسألك : أين في هذه المقاطع التي تلوناها ذكر القهر أو ذكر القوة أو ذكر الاستطالة في المال والأولاد أو الملك والجبروت على ألسنة الأنبياء صلوات الله عليهم ، طبعاً أنت لا تجد هذا ، وإنما تجد حواراً عقلياً ، وإنما تجد استناداً إلى كتاب يتلى ، وإنما تجد اتكاءً على قضية العقل وقضية الإدراك ، بعيداً عن عرقلة القوة وبعيداً عن زهو السلطان وبعيداً عن أي معنى من هذه المعاني التي قد تحمل معنى القهر بانفراجة البشرية مما يؤثر على حرية الاختيار . لم نسمع على ألسنة الأنبياء شيئاً من هذا ، اللهم إلا ما كان على ألسنة الذين كفروا فقط ( الذين كفروا قالوا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) وهذا هو النغم النشاز الوحيد ، لكنه يأتي من الصف المقابل من صف الكافرين المتعجرفين العاتين على الله جلّ وعلا ، أما الأنبياء فيقفون عند حدود قضية العقل .
هذه المسألة للأسف الشديد ضاق الوقت ، لكني لا بد من أن أشرح بعضاً من جوانبها ، لأقول وباختصار شديد : إننا نلاحظ من فاتحة هذه السورة ما يلي : أن السلاح الذي يرفعه الأنبياء والذين آمنوا ليس السيف ولا العصا ولا البندقية ولا المدفع ، فهذه المظاهر من مظاهر القوة إن أفلحت في تحقيق الإزعان والتسليم فهي ستفشل حتماً في الوصول إلى الاقتناع القلبي واليقين العقلي ستفشل .. وطريق النبوات لا يريد أن يكون السائق والدافع في أي عمل الرغبة أو الرهبة ، فالإنسان الذي يتحرك تحت الدوافع التي هي من هذا القبيل إنسان لا يصلح لا في الحالات العادية ولا في الحالات الاستثنائية ، وقادر أيضاً على الوقوف معها والتضحية من أجلها حتى النهاية ، فالثقة بالإنسان تلزملنا أن نرفع من الميدان قعقعة السلاح ولغة القوة .. وهذا هو سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم لم يأتوا ليقولبوا البشر ووضعهم في قالب معين فهذا مستحيل ، لم يأتوا ليكونوا جبارين ولا مسـيطرين فهذا مغاير لدعوة الحب والود التي تتسم بها دعوات الأنبياء جميعاً ، لم يأتوا ليقهروا الإنسان لأن هذا يؤدي إلى تشويه الفطرة الإسلامية ، والدين جاء لتزكية وتنمية الفطرة الإنسانية ، ولهذا كان لا بد من اللجوء إلى لغة العقل ولغة الحكمة وإلى الحوار لأية معضلة ، طالما نحن نثق بالإنسان ونثق بقدرة هذا الإنسان على تجاوز المشكلات في الحوار المنطقي الهادئ الهادف ، فنحن إذاً على طريق الأنبياء ، حينما ننحرف عن هذا الطريق لنأخذ بالتخاطب بلغة القوة فإن الحقيقة تضيع وإن المستقبل كله يصبح على شفا الخطر .
إننا في الواقع نقف عند هذه النقطة لنؤكد أمرين : الأول أن الدعوة إلى لغة العقل والحوار والتخاطب بالحسنة والنزول على أحكام المنطق في ذلك الزمن المبكر ، زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، قد تبدو دعوة في غير أوانها وفي غير مكانها أيضاً بين قوم عاشوا في الصحراء ، وقانون الصحراء الغدر والسلب والنهب ، وقانون الصحراء : إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ، في ذلك الوقت حينما تبطل لغة القوة لترفع لغة العقل يكون الأمر مدعاةً للدهشة والاستغراب ، يزيد الأمر غرابة أننا من استعراض التاريخ البشري نكتفي كما قلنا أن التاريخ البشري كله ملحمة دامية ، صراع بين الأمم والأجناس والشعوب ، لم تشهد الإنسانية فترات السلام ، نعم شهدت في زمن الرومان بما يسمى السلام الروماني وهو السلام المفروض بالقوة لصالح الأقوياء على حساب الضعفاء ، وهو سلام شبيه من كل وجه بالسلام الذي صُنع بعد الحرب العالمية لصالح الأقوياء ، ومفروض أيضاً بالقوة . السلام الذي نعيش في ظله الآن المصنوع لصالح أمريكا وصالح روسيا على حساب الشعوب المضطهدة الفقيرة المستغلة المستضعفة ، سلام من هذا القبيل لا توجد حروب شاملة وعامة ، توجد حرب هنا وحرب هناك يستعرض الأقوياء فيها عضلاتهم ويجربون فيها نتائج مخترعاتهم ، لكن حرب شاملة لا يسمح فيها ، لأن السلام مفروض بالقوة ، ما عدا هذه الفترات الشاذة وهي أيضاً في شؤونها شاذة ، فإن تاريخ الجنس البشري تاريخ صراع وحروب ودماء ..
حينما نعرف أن نبوات لا تزرع الحقد ولا تبث الكراهية ، وإنما تشيع الحب والود ، وتدعو إلى تحكيم العقل ، فنحن أمام نمط غريب وملفت للنظر من أنماط الدعوة . هذه الخصيصة الفارقة بين دعوة الأنبياء وبين حال البشر هي إحدى النقاط التي أردت أن أشير إليها .
النقطة الثانية التي لا بد أن أنبه إليها وأدعوكم إلى أن تنتبهوا إليها ، نحن الآن في أواخر القرن العشرين ، نعيش غاية ما وصلت إليه الحضارة البشرية من إنجازات ، ونقول بالطبع نحن ذروة الحضارة ، وبالطبع نحن نقول مرحلة متقدمة جداً من الحياة الإنسانية .. ما رأيكم إذا قلت لكم : إننا نحن في المستوى الحالي المتحضر المتقدم المتمكن أنزل بكثير مما كان عليه العرب حين خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة ؟ ما رأيكم ؟ نحن نتهم الناس بالرجعية وهذه سفاهة عقلية وسلوكية ستنتهي ، لأنها تتحطم على صخرة الواقع وسيتبين أن شعارات التقدمية وما أشبه حبائل من حبائل الشيطان يُضلَل بها الذين ليس من شأنهم أن يفكروا بإمعان ، ما رأيكم إذا قلت لكم إن بشرية اليوم دون ما كان عليه العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ إننا يا إخوة في هذه المرحلة نعيش مرحلة القهر بل السحق حتى العظم ، لا يوجد شيء هو أهون في سوق التعامل الاجتماعي من قضية العقل ، بل لا يوجد أخطر على الفئات الحاكمة من العقل ، لأنها تعيش على التهويش وتعيش على الغوغائية ، فهي من أجل ذلك عدوة العقل وعدوة المنطق وعدوة الإدراك السليم .. لغة القوة واستعراض العضلات هي السائدة ، وأبغض شيء إلى الناس اليوم أن تتحدث إليهم باللغة العقلانية ، حدّثهم بالشهوات ، حدثهم بالسوط والعصا ، يذعمون لك .. أما إذا تحدثتَ إليهم بالعقلانية فهم لن يستمعوا إليك .
ما رأيكم إذا قلنا لكم إن الصورة التي ذكرها شيخ المعرة رحمه الله قبل ألف ومائة سنة تحققت على الصعيد البشري ، إنه ذكر الطغاة وذكر الظلمة وذكر سلوكهم مع أتباعهم ، وبيّن أنه مبني على الرغبة والرهبة ، فقال :
تلوا باطلاً وجلوا صارماً ..... وقالوا صدقنا فقل نعم
تلوا باطلاً يعني تكلموا بالزور وبالباطل ، وسلوا السيف في نفس الوقت ، لم يقل لهم الناس صدقتم ، إنما هم قالوا صدقنا ، تحت بريق السيف وبريق الذهب قال هؤلاء الطغاة : نحن الصادقون قال الناس نعم .. هذه حال البشرية اليوم على امتداد الساحة الأرضية كلها ، هل كان العرب الجاهليون الحفاة العراة الجياع الذين خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل ؟ نعم حصلت بعض مظاهر التمرد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن من يستطيع أن يأتيني بشاهد واحد يقول : إن عربي ما من الذين خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم قُرئ عليه القرآن فرفض الانصياع للحكم بالعقل ؟ غاية ما قاله العـرب الجاهليون : إن هذا القرآن سحر يفرق بين المرء وزوجه وبين الوالد وولده وبين الولد ووالده ، أما أن يقولوا هو هراء ، أما أن يقولوا هو كلام ليست له قيمة في معايير العقل وموازين الفكر السليم ، فأعتقد أنه لا يوجد شاهد واحد يدل على شيء من هذا القبيل .. مما يدلكم على أن نزول القرآن بأخلاقياته ومجيء الإسلام باعتماده على لغة العقل ونبذه وطرحه للغة القوة ليخاطب قوماً في ذلك الزمن فيسمعون ويطيعون ويلتزمون بالأخلاقيات والمناهج الإسلامية يدلكم على أن أولئك الجاهلي في ذلك الزمن الموغل في القدم هم في السلم الحضاري خير منا بمراحل عديدة جداً . فنحن في الواقع لو أردنا أن ننصف أنفسنا قلنا نحن أعداء الإنسان ، لأننا لا نسمح لشخصية الإنسان أن تنمو نمواً حراً ، إنما نريد أن تنمو على كيفنا على مزاجنا ، ولا نسمح لإدراك الإنسان أن يعمل حتى النهاية ، وإنما هو يعمل بإذن منا طالما هو يخدمنا ، أما حين يتحول إلى سلاح ضدنا فيجب أن يحطم العقل يجب أن يدمر ..
لم يكن العرب في جاهليتهم بهذا الشكل ، كانوا يحترمون قضية العقل ويحترمون قضية المنطق ، ولا يهينونها بالشكل الذي نهينها نحن اليوم ، لا نحن العرب ولا نحن المسلمين ، ولكن الإنسانية بصورة عامة . من هنا سوف ترون أنه جدير بنا أن نعيد النظر في كثير من الشعارات المطروحة ، أن نعيد النظر في قضايا التقدمية والرجعية ، فالمسألة ليست مسألة زمن ، لكن المسألة مسألة شمائل ومسألة أخلاق ومسألة إمكانات ومسألة الدنيا أمامك فسيحة إن كنت تراها بشمولها فأنت تقدمي بالفعل ، وأما إذا كنت متقلقعاً متشنجاً لا ترى أبعد من أنفك فأنت لست رجعياً بل أنت حمار .. أنت أقل أيضاً من حمار .
عند هذه النقطة أريد أن أقف لأن المشي مع آيات القرآن الكريم مشي تدقيق وبحث وتنقيب شيء متعب بالنسبة إلي وإليكم طبعاً ، لكنه في العموم مشي طويل ، نحن لم ننتهِ من الآية الأولى ( ألمر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ) حتى ( إلى صراط العزيز الحميد ) هذان الاسمان من أسماء الله جلّ وعلا العزيز الحميد وما موجودهما على الحياة لم نتعرض لها . بعد الآن سندقق النظر معكم في ثنايا سورة إبراهيم على هذا النحو ، لكني تعمدت أن يكون الحديث الأول عن السورة على هذا النسق لكي أضع أمام أنظاركم ملامحٍ لمنهج في قراءة القرآن كثير النفع والجدوى والفائدة . أما في أحاديثنا القادم إن شاء الله تعالى فسوف نكتفي بلمس رؤوس المسائل ، سوف نتحدث عن القضايا الأساسية المحورية ، سوف نُعرِض عن التفاصيل والجزئيات ، بعد أن عرفنا كيف يكون البحث القرآني وكيف يكون النظر في كتاب الله جلّ وعلا عرفناه من هذه الوقفة مع بضع كلمات من الآية الأولى من سورة إبراهيم عليه السلام .
الحقيقة أنا لست مشفقاً على نفسي من هذه الورطة ولا مشفقاً عليكم من التعب ، فأنتم في رمضان ، لا غداء ينتظركم وتنتظرونه ، ربما كنتم بحاجة إلى النوم هذا صحيح ، لكن لا توجد مَشاهد تدعوني إلى أن أضع عامل الوقت في حسابي بالنسبة إليكم ، لكني أخشى أن أكون قد خرجت في تناولي لبعض الموضوعات التي تطرقت إليها هذه الآية الأولى من سورة إبراهيم .. أخشى أن أكون خرجت عن طاقتي أي حدود طاقة الكثيرين منكم ، فالمعذر لن يتكرر هذا إن شاء الله مرة أخرى ، سنتحدث إليكم باللغة التي تألفونها وتفهمونها وفي الخطوط العامة والخطوط العريضة ، هذه كما قلنا أول جمعة تمر علينا في رمضان .
اسمحوا لي أن أبارك لكم في هذا الشهر ، وأسأل الله جلّ وعلا أن يجعل صيامكم وصلاتكم من العمل المقبول من الله جلّ وعلا .. أيها الإخوة الأيام والليالي منشطات وموقظات ، صحيح لكن الأصح من ذلك أنها معوضات ، فالإنسان يقصر بالأمس ويقصر في السنة الماضية ويقصر في المرحلة التي مرت من عمره ، لكن طالما هو حي فعليه أن يعوض . والمسألة عندنا في الإسلام ليست هي أن تطيع بقدر ما تعصي ، لا ، فالإنسان يعيش عمره كله في الضلال ووسط المعصية فإذا كان آخر عمره وفي زمن قبول التوبة قال ربي إني تبت إليك وقال لا إله إلا الله فإذا هو قد ضمن لنفسه جنات النعيم . ففي الإسلام ليست المسألة أن تكون طاعة موازية للمعصية أو أكثر ، نحن نحتاج في مسيرنا في طريق الطاعة إلى نظافة القلب وصحة التوجه إلى الله جلّ وعلا ولا أكثير ، بقطع النظر عن عدد الركعات ، بقطع النظر عن عدد الأيام التي صمناها ، قد تكون ركعة واحدة ، قد يكون يوماً واحداً ، قد تكون سجدة يسجدها الإنسان يكون قلبه مع الله جلّ وعلا ستوازي عمل فئات كثيرة من الناس .
إن الله جلّ وعلا يقول ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً ) لماذا ؟ قلنا إن المسألة فيها إمكانية التعويض ، فالله جلّ وعلا يقول إنه جعل الليل والنهار خلفة ، أي يخلف أحدهم الآخر ، يأتي الليل بعد النهار ويأتي النهار بعد الليل وهكذا يتعاوران الدوران في مسيرة الزمان ، لماذا ؟ قال ( لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً ) الإنسان قصّر في الليل ، أمامه النهار يستدرك به للتعويض ، الإنسان قصّر في النهار يأتيه الليل يستطيع أن يستدرك به التقصير ويستطيع أن يعوض ما فات . مر علينا عمر مر علينا رمضان أفطرناه ومر علينا رمضان قبله لم نصلِ فيه شيئاً ، لا بأس ، لم تنقلب السماء على الأرض ، ما زال نظام الكون على ما هو عليه ، ها هو رمضان قد أقبل فالذي يريد أن يتزود مجال التعويض مفتوح له ، يستطيع أن يستدرك ويستطيع أن يتخذ من اختلاف الليل والنهار تكأة يتكأ عليها ليمحو غضب الله الماضي ويتعوض عنه برضوانه .
فهذا رمضان جاء وهو يوم من أيام الله جلّ وعلا ، إذا مضى لا يعود ، وأنتم تلاحظون أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما من يوم من الأيام ينشق فجره إلا وملك ينادي : يا ابن آدم أنا خلق جديد ـ يعني هذا اليوم الجديد ـ وعلى عملك شهيد ، فتزوج مني فإني لا أعود إلي يوم القيامة . الأيام تمر ونحن في غفلة ، تصوروا لو أننا عشنا الصحوة ، كم يمكن أن تكون حياتنا أفضل وأكثر بركة مما هي عليه ، تصوروا أننا نعيش غفلة يا أخوان ، هذه الغفلة يجب أن تنتهي ، والله جلّ وعلا جعل اختلاف الليل والنهار وتعاقب الشهور والسنين موقظات لكي يخرج الإنسان من الغفلة إلى الصحوة . أنا قلت لكم قبل أسبوعين على ما أظن : إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث يدعو إلى الله من بداية تبليغه إلى وفاته ثلاثاً وعشرين سنة ، وحين مات صلى الله عليه وسلم كانت الدعوة قد اكتملت وبناء الأمة قد تم ، وصيت الأمة أصبح يزلزل الجبارين في ذلك الوقت ، فارس والروم ، ثلاثة وعشرون سنة أقل من ربع قرن .
نحن نعيش في المشاكل منذ قرنين أو أكثر ، وكلما تحركنا كالذي يقف على الوحل في البركة ، كلما تحرك نزل إلى تحت ، نحن هذا حالنا ، منذ قرنين أو أكثر نحن نعيش المشاكل ، كل حركة نتحركها بأمل أن نخرج إلى العافية نزداد فيها انتكاساً ونزداد فيها توحلاً ، لماذا ؟ لأننا لا نعيش حالة متوازية ولا نعيش حالة صاحية ، في الواقع كثير منا بل معظمنا يعيشون على هامش الحياة ، لا يقدمون من عقولهم ومن قوتهم شيئاً لصالح إرساء دعائم التقدم والقوة في الحياة .. لو أننا تصورنا أن محمداً وأصحابه عاشوا على النحو الذي نحن نعيشه الآن أكانت ثلاث وعشرون سنة تكفي لإرساء دعائم الرسالة ؟ لا ولا ثلاث وعشرون ألفاً لا ، نحن الآن أيها الإخوة حينما يأتينا يوم الجمعة أو تأتينا أيام الأعياد أو يأتينا شهر رمضان أو يأتينا موسم الحج من المحطات التي تشكل محطات هامة في حياة الإنسان ، فإنما يجب أن نعتبرها موقظات توقظنا من هذه الغفلة ، من هذا السبات ، من هذه النومة ، لتعلمنا أن الحياة جد وكفاح ونضال ، وأن الذي يغفل في هذه الحياة لا يصنع شيئاً ، والذي يصنع هو الذي يصحو ، ونحن لكي نتصدى لمشاكلنا فإن علينا أن نتعلم الصحو .. ذهبت الأيام ، أفطرنا رمضانات ، وأضعنا الصلاة في رمضانات ، كل ذلك لا يجب أن يلقي بنا إلى التهلكات ، ولا يجب أن يضعنا على حافات الاستسلام ، طالما أن هذا النفس سيذهب ويجيء فالإنسان على خير وعلى خير كبير ، يستطيع أن يستدرك الذي فات .
الآن أهلّ شهر رمضان ، تستطيع أن تخط حياة جديدة منذ الآن ، بالعبادة والمداومة عليها ، في قراءة القرآن ومحاولة التمعن والتدبر فيه ، بكل عمل من أعمال البر والخير ، ثلاثون يوماً على نسق واحدة ، يعيشها المسلمون جميعاً ، حين تجلس إلى مائدة الإفطار تصوّر في ذهنك أنك عضو من ألف مليون من ربع البشرية يجلسون الآن كما تجلس ليتناولوا طعام الإفطار إيماناً واحتساباً لربهم جلّ وعلا ، فأنت من أمة طويلة عريضة ، لو أنها تكاتفت ولو أنها صحت ولو أنها وعت لأحدثت الشيء الكبير ، لكنها فرّطت وضيعت في الماضي . جاء الآن دور الجد ، ما مضى مضى ، ومن شأن النساء أن يتحسرن على الماضي ، أما الرجال فلا يتحسرون على الماضي ، ما مضى مضى ، نحن أبناء اليوم أمامنا مسؤوليات أمامنا مشاكل ، أمامنا أعداء ، أمامنا متاعب ن أمامنا مشقات ، مطلوب منا نحن أبناء هذا الجيل ، وهذا قدرنا أن نتصدى لهذا جميعاً ، فإذا تصدينا له بعين مفتحة وعين مغمضة فلن نفعل شيئاً ، وإذا تصدينا له بهمم فاترة وعزائم مبلولة فلن نصنع شيئاً ، وإذا تصدينا له بإضاعة لفهم معنى الوقت وقيمة الوقت فلن نستطيع أن نفهم شيئاً . إن رمضان يحمل إلينا الدرس الكبير الذي يجب أن نتعلمه جميعاً ، بضرورة أن يعيش الإنسان حياته واعياً صاحياً ، وأن يعيش الإنسان وهو يصنع الحسنة في عقب السيئة إذا مرت ، ولا يترك نفسه تتعود على المعاصي وعلى الذنوب ، لا .
نحن الآن في موسم من مواسم الله ، لنا رجاء بالله جلّ وعلا أن يقبل أعمالنا وأن يزكينا وأن يرفعها فيما يرفع من أعمال عباده البررة الصالحين ، فالله جلّ وعلا هو المسؤول أن يزكي قلوبكم ويطهر نواياكم ويصلح أعمالكم ويتقبل صيامكم وقيامكم ويجعل هذه الأيام والليالي شاهدة لكم لا عليكم ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .