تفسير سورة البروج (2)
تفسير سورة البروج (2)
الجمعة 26 ربيع الآخر 1397 / 15 نيسان 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
في الجمعة الماضية تحدثنا إليكم مطولاً عن فضل سورة البروج ، وهي كما لا يخفى سورة عظيمة وكريمة وإذا جاز لنا أن نتعرف على الأسس التي تأخذ هذه السورة أهميتها منها ، فإن من بين هذه الأسس بلا شك أن هذه السورة العظيمة أرّخت لمرحلة هامة وحاسمة من مراحل الدعوة الإسلامية زمن مؤسسها وقائدها محمد صلوات الله وسلامه عليه .
ولقد قمنا في الجمعة الماضية والتي قبلها بالبحث عن الواقعة التاريخية التي أشارت إليها السورة الكريمة إشارة عامة ، ثم عقبت بعد ذلك على هذه الواقعة بجملة من الدروس والمواعظ المنبثقة عن هذه الواقعة والمؤسسة عليها . وأنتم بطبيعة الحال في غنى عن إعادة الواقعة ، ولكننا جميعاً لسنا أغنياء عن دراسة الواقعة ، وعن محاولة التعرف على أهم ما فيها من دروس وحكم . إن مسألة المحنة والابتلاء في الدعوات مسألة طبيعية ، وأقصد أنه لا بد في كل نظام اجتماعي بشري حين تخرج من بين صفوفه دعوة تهز أركانه وتضع أسسه وقواعده موضع التساؤل لا بد لهذا النظام من أن يأخذ أهبته في الدفاع .
تلك ظاهرة معروفة وأظن أن أي دارس للتاريخ العام ولتاريخ الديانات ، وإن أي مطلع ولو بصورة سطحية على تاريخ الإسلام في صدره الأول يدرك بجلاء لا مزيد عليه أن المؤمنين أوذوا في الله ، وأن الشدة والبأساء والبلاء أخذتهم من جميع أقطارهم ومن البعداء والأقرباء والأعداء والأصدقاء على حد سواء .
لكن هذه الحادثة لها طعم خاص ، لها لون خاص ، لها مدلول خاص . ولكي لا نقفز من فوق القضايا التي ينبغي إبرازها والعناية بالتفكير بها فلا بد أن نشير إلى ما سبق أن قلناه قبل الآن ، إن سياق الآيات ودراسة وقائع التاريخ تشهد على الأرجح أن الحادثة وقعت قبل بعثة النبي عليه السلام وبعد ميلاد عيسى صلوات الله عليه ، أي في الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وعلى جميع إخوانهما من جميع الأنبياء والمرسلين .
فإذا نحن رحنا نتعرف على مسيرة الدعوة المسيحية بعد رفع المسيح عليه السلام فإننا نجد في تاريخ المسيحية منعطفاً خطيراً كان ذلك في بداية القرن الرابع الميلادي ، وكان ذلك بعد أن أسلم قسطنطين إمبراطور الرومان ، وكان ذلك بعد أن بذل هذا الإمبراطور محاولة جاهدة لتوحيد التيارات الدينية في مملكته ضمن تيار واحد . وهذا طبعاً شأن السياسة ، فالساسة في أي زمان وأي مكان ضد التطور وضد التقدم ، لا يمكن أن يوافقوا على العمليات الانفجارية ولا يمكن إلا أن يقفوا في وجهها . والإمبراطورية الرومانية في الأرض إمبراطورية وثنية ، أي أنها كانت تعبد الأصنام والتماثيل . وليست تماثيل اليونان المشهورة في التاريخ إلا أثراً من هذه الآثار الوثنية التي كانت عليها روما بعد أن ورثت حضارة اليونان .
لكن ضمن الإمبراطورية الرومانية كان يوجد يهود ويوجد المسيحيون ويوجد وثنيون ويوجد فلاسـفة ومفكرون مؤلهون ويوجد فلاسفة ومفكرون ماديون ، كما يوجد مجوسيون على مذاهب ونحل وآراء متعددة ومختلفة .
إن شؤون السياسة طبعاً لا تستقيم على حالة كهذه من التشتت وتفرق المنازع والآراء والأهواء ، فالمحاولة التي بذلها قسطنطين ظاهرة طبيعية في علم السياسة ، لا استنكار تستدعيه ولا شيء مما يخرج على مألوف الساسة في أي زمان ومكان . لكن المهم أن نقرر حقيقة يجب أن يستحضرها كل إنسان هي أن مسائل العقيدة ليست مما يصلح معها أن تبذل المحاولات لتوحيدها بقوة القانون وبرغبة السلطة ، فالقانون والسلطة يتناولان الأجسام ، ولكن لا شأن لهما بقلوب الناس ولا يستطيعان تغيير شيء من اتجاهات الناس العقلية ، إلا أنه حينما يكون الموقف من الجهة المعارضة متصلاً بالصلابة والرسوخ فبالسلطة في ذلك الحين موقف معروف أيضاً هو التناهي في الضغط والتناهي في الإكراه والتناهي في بذل الجهود لملاحقة الخارجين على القانون السائد والعرف المتبع . إن قسطنطين فكر في أن يجمع كل هذه الآراء والأهواء والمتجهات في مذهب واحد ، وجمع الأساقفة بعد أن انتشرت الديانة النصرانية في جزء كبير من أجزاء الإمبراطورية الرومانية وخرج بقرارات ، الهدف منها إيجاد صيغة يمكن أن تستوعب كل هذه الاتجاهات المتضاربة .
خرج بصيغة تقول:إن المسيح عليه السلام ليس رسولاً فحسب ولكنه هو ابن الله وهو التجسيد الحي لله خالق السماوات والأرض.وخرج بسلسلة من التصورات والمفاهيم جعلت المسيحية بعد أن كانت توحيداً وإسلاماً لله تعالى أصبحت ضمن الأديان الوثنية وليس مع الأديان الموحدة.
إلا أن حقائق الدين كما قلنا ومسـائل العقيدة ترفضان الخضوع كل الخضوع ، فخرج على قسطنطين ناس ، فلاحقهم في البراري والصحاري ، وشردهم في الأديرة ، فخرجوا فارين بدينهم . وبقيت عنده بعض حقائق الدين ، وكان من ضمن من خرج شرذمة من النصارى الذين فروا من قسطنطين وتوغلوا في جزيرة العرب واستوطنوا في وسط الجزيرة في منطقة نجران بين الحدود بين السعودية الحالية واليمن .
إن الشيء الذي يلفت النظر ليس أن تعمد اليهودية إلى امتحان النصارى ، لأن اليهودية في وطن النصارى في الشام ، حاربت المسيحية ، وسعى رجال الدين اليهودي لدى الإمبراطور الروماني لاستصدار حكم الصلب على السيد المسيح عليه السلام . وكانوا الساعد الأيمن في مطاردة المسيحيين . ليست المسألة التي تلفت النظر هي هذه أبداً ، ولكن الشيء الذي يلفت النظر هو أن شركاء العقيدة لا يمدون يد المساعدة لبعضهم ، حينما قال أحدهم بنشر اليهودية في اليمن ومضى ، ووقعت واقعة الأخدود التي تحدثت عنها سورة البروج في نجران ، وشقوا للناس الخنادق والأخاديد وملؤوها بالنيران المتأججة وألقى فيها اليهود المسيحيين وأحرقوهم وهم أحياء ، لماذا لم تكترث الدولة النصرانية في الشام ؟ ولماذا لم تتحرك الولاية الرومانية في مصر ؟ ولماذا لم تتحرك الدولة النصرانية في الحبشة ؟ علماً بأن مجال الإنجاد مفتوح ، لماذا ؟ إن هنا موضعاً للتأمل والتفكير الطويل .
نرجع إلى الآيات لنعرف ما أسباب المحنة كما شرحها الله تعالى ، ومعهودنا من الله أنه حينما يعرض الدرس الكبير ويتناول الموقف الخطير لا يلقيها إلى المسلمين مجرداً بل يبرز الأسباب . اسمعوا : ( والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قُتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) إلى هنا ينتهي عرض المسألة ، لنأتي مباشرة إلى استماع التعليل وإلى إبراز السبب الذي من أجله تعرّض هؤلاء المؤمنون إلى امتحان قاسٍ ، قال الله تعالى ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ) إذاً فنحن نستطيع أن نعرف السبب الذي من أجله تعرّضت هذه العصابة المؤمنة لهذا البلاء العظيم . أهي نزاع على الدنيا أو على السلطان ؟ لا شيء من هذا . لكن الجريمة التي ارتكبها المؤمنون هي أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد . ندع هذا الكلام مؤقتاً لنعود إلى صلب الواقعة التاريخية .
ونتساءل : ألم تكن نصرانية الرومان تؤمن بالله العزيز الحميد ؟ ألم تكن اليهودية تؤمن بالله العزيز الحميد ونحن ما زلنا في تاريخ الأديان المقارن نعتبر اليهودية من ديانات التوحيد ؟ إن إلقاء السبب بهذا الشكل مجرداً عن علائقه جميعاً يوحي ويطبع في الأذهان أن ثمة معسكرين ، معسكر يؤمن بالله العزيز الحميد فهو من أجل ذلك تعرّض لهذا البلاء الشديد ، ومعسكر آخر يظن كل هؤلاء الناس الذين أشـرنا إليهم لا يؤمنوا بالله العزيز الحميد . ولكن الآن تذهب وتقول لليهودي : أنت لا تؤمن بالله ، فسيقابلك بالإنكار ، سيرى أنك تجرح إيمانه وتعتدي على دينه . وتذهب إلى النصراني وتقول له : أنت لا تؤمن بالله العزيز الحميد . فسيقابلك بالإنكار ويرى أنك ألحقت به إهانة لا تُغتفر . لكن واقع الأمر يختلف .
إننا حين نضع قضية الإيمان في مجال التفكير فإن الإيمان ينحل معنا من حيث النتيجة ودون حاجة إلى بحوث مستفيضة ، إلى عدد من الأفكار ، أولاً : هذا الكون العظيم الهائل لا يعقل أنه نشأ هكذا مصادفة ، كما أنه لا يعقل أنه أنشأ نفسه (أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) إن العقل السوي السليم لا يستوعب هذين الاحتمالين أبداً ، لا يقر أن الكون وُجد من غير شيء ، كما لا يقر أن الكون أوجد نفسه ، فمحال أن يُجمَع الفعل والفاعل في آن لاستحالة أن يكون الخالق والمخلوق في آن واحد . وإذا فلم يبقَ في مجال الفروض إلا هذا الفرض الواحد الصحيح وهو أن هذا الكون الهائل الآخذ بالاتساع من صنع الله تعالى .
أنت أيها الإنسان جزء من هذا الكون يسري عليك القانون الذي يسري على الكون كله ، وحينما نقر أن هذا الكون مخلوق فنحن نقول بديهة أنك أنت أيها الإنسان الذي أنت جزء من هذا الكون أيضاً مخلوق . ومصيرك مرهون بهذا الخالق طالما أنت جزء من مخلوقاته . وكل مخلوقات الله تسير وفق القوانين التي وضعها الله لها ، فمن غير المعقول أن تكون أنت وحدك أيها الإنسان من بين مخلوقات الله أن ترفض أن تسير وفق القوانين والنظم التي شرعها الله لك . فمن غير المعقول أن تكون أنت أيها الإنسان الشاذ من بين مخلوقات الله .
انظر إلى نفسك .. انظر إلى قدراتك .. والله يقول لك ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) فستجد أنك من حيث العمر محكوم بقانون الولادة ثم النشأة ثم الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة فالموت ، أي أنك محكوم من الزمان من طرفين ، من البداية والنهاية ، وبالتالي أنت تدرك بضرورة الإحساس والمشاهدة أنك كائن طارئ في هذا الوجود ، ليس لك صفة الخلود ولا السرمدية ، فأنت من حيث العمر الذي نضعه أساساً للنظر مؤقت بزمن بسيط لا يساوي في عمر الزمان طرفة عين . فإذا نظرتَ إلى قواك والإمكانات والمواهب والحوافز والدوافع التي أودعها الله فيك والتي جبلك عليها فسوف تخرج بنهاية القياس أنك مستطيع بغيرك غير مستطيع بنفسك ، أي أنك كفرد ليستَ قادراً على أن تحصل الضرورات اللازمة لقوام عيشك ، فلا بد في صفاتك المعيشية من أن تستعين بإخوانك من بني البشر .
والناس كمجموعة ، مجموعة لهذه الطاقات ، صحيح أن مجموعة الطاقات أقوى وأعظم وأكبر من طاقات الأفراد ، ولنضربه بواحد واثنين وبعشرة وبألوف وبملايين ومع ذلك فسيظل معنا في نهاية المطاف أن الإنسانية عاجزة من حيث هي موكولة إلى قدراتها عن تحصيل أسباب السلامة والهدوء والطمأنينة في هذه الحياة . من الذي يستطيع أن يرشد الإنسان إلى سلوك السبيل الأقوى والأقوم لانتهاج الطريق المستقيم ؟ أنت في لقمة العيش لا تجد غضاضة ولا عيباً في أن تستعين بإخوانك من بني البشر ، فإذا كنتَ في لقمة العيش محتاجاً إلى الآخرين فأنت محتاج أكثر فيما هـو أهم من لقمة العيش مما يتناول استقرار الكائن البشري .. فيجب أن لا تحسّ بالغضاضة ولا تشعر بالعيب حينما يُقال إنك أيها الإنسان لا تستطيع من غير هداية الوحي ، ولا تستطيع من غير دعم من الله أن تهتدي إلى الطريق الذي يدلك إلى السعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة .
من هذا التحليل الموجز لأصول قضية الإيمان نصل إلى أنه لا يكفي في ميدان في عقيدة التوحيد أن يقول الإنسان أنا مؤمن بالله ، تلك دعوى يقدر عليها ويطيقها كل إنسان ولكنها ليست كل شيء بل ربما كانت في كثير من الأحيان لا تدل على شيء على الإطلاق . إن فيصل التفرقة بين من يؤمن بالله العزيز الحميد والذي لا يؤمن بالله العزيز الحميد أن المؤمن ملتزم بمنهاج الله تعالى الذي أنزله على أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم جميعاً والذي لا يؤمن بالله هو ذلك الإنسان الذي يكتفي من عالم الإيمان بالدعوى وبالتبجح ثم يضرب بكل مقررات الدين وبكل أوامر الله وبكل تعليمات رسل الله عرض الحائط ليتخذ لنفسه منهاجاً ونظاماً من اختراع نفسه ومن تصورات عقله لا ينتج عنه إلا الخلل والدمار والهلاك .
اليهودية لماذا حاربت النصرانية ؟ حينما نقول إن اليهود مؤمنون ، والنصارى مؤمنون بالله العزيز الحميد ، لنفترض أن النقيضة الأساسية غير موجودة وهي ضرورة إرسال رسول جديد ، لنفترض أن هذا غير موجود . فلماذا يتصارعون ؟ لأنهم يتصارعون على القواعد والأسس ، لخلاف على صورة الكون والحياة ومنزلة الإنسان في هذه الحياة ، إن اليهودية من بعد موسى ومن بعد هارون عليهما السلام انتكست في حياة عنصرية ومادية وقبلية ضيقة جعلت تعتمد مبدأ العدوان أساساً لكل تصرفاتها .
فمن أجل ذلك سقطت اليهودية في هذا التسلط وهذه الشراسة التي رافقت بني إسرائيل منذ عصر بعيد جداً . إن اليهودية فقدت كل الأسباب وكل المبررات التي تدعوها إلى أن تكون وسيلة هداية ، وأن تكون رسالة سماوية يفيء الناس إلى ظلها أو أن يجدون فيها الحلول لمشكلاتهم اليومية أو المستقبلية . فمن أجل ذلك جاء عيسى صلوات الله عليه رسولاً من الله تعالى لكي يبعث الرطوبة في هذا الجفاف الذي تسرّب إلى اليهودية . من الخطأ البين أن نتصور النصرانية ديانة قائمة بذاتها ، إن النصرانية هي تجديد للدين اليهودي . ولهذا نرى الإنجيل يخلو تماماً من التشريع ، لأن الله تعالى في ميدان التشريع ردّ الحقائق التي أنزلها في التوراة على موسى عليه السلام . ولكنه جاء بهذه الدعوة الروحية وجاء بشيء من التجديد ومن التسهيل لمرافق الحياة قال ( ولأحلّ لكم بعض الذي حُرّم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ، إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) هكذا قال المسيح عليه السلام لليهود .
وحينما تحولت النصرانية على يد قسطنطين ومن بعد قسطنطين إلى ديانة محرّفة فيها كثير من عوامل الوثنية لم يقف الأمر عند هذا الحد . إن النصرانية بهذا الاعتبار الذي شرحناه ديانة مدعوة إلى تحكيم شرع الله الوارد في التوراة ، فإذا طرحنا على أنفسنا هذا السؤال : بماذا كانت تحكم الدولة الرومانية التي كانت تدين بالمسيحية ؟ بماذا كانت تحكم الولاية المصرية التي دخل أهلها الأقباط في الديانة النصرانية ؟ بماذا كان يحكم الأحباش ؟ فسنجد أن شرائع الله معزولة وأن الناس يتحاكمون إلى قوانين وإلى أعراف هي من صنع أيديهم .
حينما وُجدت هذه الجماعة المؤمنة الذين هم أصحاب الأخدود والذين تلقوا هذه الصدمة .. ماذا كانت النتائج ؟ كانت النتائج هـذا البلاء المستطير . لأي سبب ؟ لأن هذه الصفوة والبقية كانت تحمل شعلة الإيمان الحقيقي في نفوسها ، كانت تدعو إلى الاحتكام إلى شرع الله في وجه من يتحاكم إلى شرائعهم الخاصة التي صنعتها من ذات أنفسها وفاقاً لتصوراتها وأفكارها .
فنحن فـي هذه الصورة أمام نوعين من التديّن ، لون صحيح ، ولون محرّف ، أو لنصطلح على أن نقول أنه مزيف . حينما يتقابل في ميدان العقيدة الزيف مع الدين الصحيح فإن الزيف لا يقلّ عنفاً وشراسة وخصومة وفي الحرب والعنف عن الأعداء الأصليين . نحن من هنا نستطيع أن نفسر وأن نحل كثيراً من المشكلات التي تحيّر كثيراً من قصار النظر . إن التاريخ عرف حركات دينية تحمل الصيغة الدينية الصحيحة ، فحُوربت من أبنائها ، لماذا ؟ لأن هناك أناساً تزحزحوا عن قواعد الوحي ووقفوا مع الذي لا يؤمنون ، أي انسحبت الصالح ، أي الخطر على مصالحهم ، فمن أجل ذلك وقعت الواقعة .
إننا نقول هذا وفي الذهن أمور ، ما أريد أن أنظر إليها لأنها في الواقع أمور مؤلمة ، في الذهن أمور وصور ، جعلتنا عبر تاريخنا الطويل نقف في مواجهتنا بعضنا بعضاً ، ويحمل بعضنا السلاح في وجه الآخر ، برغم من أننا ننتمي إلى دين واحد . وبرغم أننا نسجد لرب واحد ونبي واحد ونستقبل قبلة واحدة . إن المسألة بسيطة وواضحة ، إن الزيف والأصالة يتقابلان ، وكلما تقابل الزيف والأصالة حصل هذا الصراع ، وإن هذا الصراع مؤسس على هذه الحقيقة التي عرضتها هذه الآية ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) لو أنك أُتيح لك أن تضع التاريخ في صفحة واحدة تستعرضها بلمحة عين لعرفتَ أن رجالاً أتقياء قاموا يدعون إلى صراط الله العزيز الحميد حُرّض عليهم من قبل السلطات .. وقيل فيهم أشياء كثيرة .. قيل أنهم طامعون في الجاه أو في المنصب أو في المال .. وهم ليس في هذه أبداً .
إن المؤمن من حيث هو مؤمن لا يكون في نفسه كذلك وهو في نفسه شره إلى السلطة أو شره إلى المال أو الجاه ، ولا يكون مؤمناً وهو يحاول أن يكثّر من حوله الأنصار ليصل إلى السلطة . إن هذه النوازع والتطلعات الرديئة متى وُجدت في نفس الإنسان كفّ المؤمن أن يكون مؤمناً . إن المؤمنين قوم نصحوا لأنفسهم ولعباد الله تعالى ، لا يمكن أن يغشوا بحال من الأحوال ، لا يريدون إلا استقامة الأحوال وإلا أن تنصلح شؤون الناس ، ولكن أنت إذا رأيت إنساناً مفسداً يرى إنساناً آخر صالحاً ، إن هذا المفسد يرى في هذا الصالح شهادة بينة وواقعية على هوانه وعلى خساسة قدره ، فمن أجل ذلك هو ينتقم لخسته ولهوانه بالتنكيل بالناس الصالحين وبالناس الطيبين . هذا على صعيد الأفراد .
فإذا نقلت إلى الصعيد العام وأخذت شريحة من التاريخ البشري تحاكم إليها هذه القاعدة ، فاسأل نفسك : من الذي دعاه محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدين ؟ ما هو جوهر الخلاف بينه وبين الناس ؟ قال للناس : إن ما تعبدون من أصنام وأوثان باطلة ، فاعبدوا الله الذي خلقكم والذي إليه ترجعون ، وإن ما تتحاكمون إليه من أعراف وتقاليد هي بالية وعتيقة ضارة وتقولون وجدنا عليها الأباء والأجداد ، لن تنفعكم شيئاً ولن تسهم أي إسهام في حل مشكلات الحياة ولا في تذليل الصعوبات الموجودة في وجه هذه الإنسانية المعذبة ، فتعالوا إلى كلمة الله الجامعة غير المفرقة ، وتعالوا إلى الله الذي يردوا الحقوق إلى أربابها ، لا كعدل البشر الذي يسلب الحقوق ويمكن للظالمين من الظلم ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله )
إذاً هي صيحة الإسلام . فثارت عناصر الشر والفساد في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن كان قد ربى أصحابه ، وكان قد قطع الشوط الذي كان الخطر فيه ماثلاً على القلة المؤمنة ، وخرج بالمؤمنين إلى رحابة الإيمان ، وبقيت المسألة في قانون النبوة والرسالة مسألة وقت لا أقل ولا أكثر ، إن أسس الحياة الجاهلية قد تهاوت ولم تبقَ إلا سنوات وسينقض هذا البناء برمته لتقوم على أنقاضه أمة الإسلام ولتقوم دولة الإسلام .
ومضت الأمة المسلمة ثم أدركها ما يدرك الأمم من الفتور في الهمم والعزائم والانغماس في الشهوات جرياً وراء الدنيا وأخذاً بأسباب اللذة ، فأصابها ما أصابها ، وتذكر يا رسول الله ـ بأبي أنت وأمي ـ ألم تقل : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه ) كذلك فعلت هذه الأمة نفس الأدواء نفس المشكلات نفس الصعوبات نفس المتاعب قابلت هذه الأمة المسلمة ، ومع ذلك فإن أمتنا كما ذكرت لكم من قبل تمتاز عن النبوات السابقة بميزتين لم تتوفرا في جيل من الأجيال ولا في أمة من الأمم ، أولى هاتين الميزتين أن الله جل وعلا حفظ حقائق وحيه المنزل على نبيه المكرم صلوات الله وسلامه عليه وآخر السورة التي نحن بصددها يشير إلى هذا الحفظ ( بل هو قرآن مجيد ،في لوح محفوظ ) وكم بُذلت من محاولات عبر التاريخ وعلى اختلاف العناصر والأجناس والألوان لكي تغيّر حقيقة بسيطة من حقائق الوحي فما أمكن ذلك ، لأن كفالة الله لا تثقبها محاولات الآدميين ، والله قد تكفل بهـذا الدين بالحفظ ، كم من أبالسة ، كم من شياطين ، كم من أفاكين ، كم من كذابين حاولوا أن يزيدوا في كلام الله أو ينقصوا منه فباءت محاولاتهم بالخسران .
وهذه إسرائيل طبعت قبل سنوات من المصحف نسخاً بمئات الألوف تزيد منها وتنقص وتوزعها في بقاع الأرض فيتلقى المسلمون النبأ ببرود ، لأن النسخ جميعاً تأخذ طريقها إلى الحرق ، لأن الله تعالى لم يسمح ولم يأذن لحقيقة واحدة من حقائق الوحي أن يتطرق إليها الخلل .. فهذه الكفالة لم تتوفر لدين من الأديان في الماضي ولكنها توفرت لهذا الدين الذي هو الإسلام .
الميزة الثانية التي توفرت لهذه الأمة ولهذا الدين وحُرمت منها الأمم الأخرى جميعاً أن سبيل الإسلام في العمل سبيل بشري وجماعي ، أي أن حقائق الوحي كانت تنزل منجمة ومفرقة على رسول الله بالآية وبالعدد من الآيات فيأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام بتنظيم الجماعة المؤمنة وفاقاً لحقائق هذه التوجيهات الربانية . فالوحي كان يوافقه عمل بنائي جماعي تنظيمي جعل الأمة المسلمة أن قوام حياتها وحياة مستقبلها تتمثل في هذا العمل الجماعي الذي لا يجوز التفريط فيه .
ومع أن الأمة تعرضت لأسباب شتى من ألوان التدمير المقصود والمتعمد ، وتعرضت إلى ألوان من الدعاوى والدس فإن أمة الإسلام ما تزال حتى الساعة بالرغم من تفرق الحدود وبالرغم من تعدد الألسنة والألوان والأجناس تشعر أنها أمة واحدة تجمعها رابطة العقيدة في الله ، ويشدها إلى الأرض من جهة وإلى الجنة من جهة أخرى نداء الله تعالى المتمثل في آيات الله تعالى .
إن شئت مصداقاً لذلك فاذهب إلى الحج ، وانظر إلى هناك كيف يتجمع الناس في المشاعر في تلك البقاع الطاهرة .. الزنجي والهندي والعربي ومن كل لون ومن كل ملة .. لا تفرق بينهم الألوان والأجناس والألسنة ، لأن الجامعة الدينية ربطت بينهم جميعاً .
ولهذا فنحن نجد على ألسنة الدهاقنة من الاستعمار وتجار السياسة وزبانية التلفيق والملاحدة في كل جيل كلمة واحدة تتردد على ألسنتهم جميعاً : ما دام هذا القرآن موجوداً وما دامت مكة موجودة فلا سبيل إلى السيطرة على العالم الإسلامي بحال من الأحوال . اسألوا أنفسكم ، لماذا هذه الخصومة ؟ ألسنا نحن أمة نعيش على أرضنا وفي بيوتنا وبين أبنائنا ومن حقنا أن نتمتع بخيراتنا ومن حقنا أن نكون آمنين وادعين . لماذا إذاً ؟ ترمينا الأمم جميعاً عن قوس واحد . لماذا إن تحركنا لكي نزيل عن أمتنا لعنة التفرق والتمزق التي صنعت في ديار الغرب فجعلت الأمة الواحدة أمماً والدولة الواحدة دول ؟ لماذا حينما نتحرك نحو الدولة الجامعة تنطلق الدعوات من أقطار الأرض جميعاً لتحطم هذه الوحدة ؟ لماذا حينما ننادي بوضع شـرائع الله موضع التطبيق أذلك شـأن يخصنا أم يخصهم ؟ يخصنا ولا يخصهم . لماذا جميعاً ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور ؟ لماذا ينادونا بالرجعية والتخلف وعدم المساير ركب التقدم . لماذا ؟
إن مسألة عناد كما قلنا لكم ، ثم جوهر الصراع بين هذه الأمة وبين أعدائها في القديم وأعدائها في الحديث وأعدائها في المستقبل يتمثل في هذه الحقيقة البسيطة أننا أمة تؤمن الله العزيز الحميد وأن هـؤلاء لا يؤمنون بالله العزيز الحميد . إن الشرق سابقاً حاربنا ، وإن الغرب حاربنا بالرغم من الغزل الرخيص الذي يقوم الآن بيننا وبينه ، ولم يدخر وسعاً في تحطيمنا وابتغاء الدمار لأمتنا ، ولا أعرف أمة من الأمم لا في القديم ولا في الحديث وقفت موقفاً قاسياً مع أمة الإسلام . إن الكل متفقون اتفاقاً لا ريب فيه ولا شبهة على ضرورة تحطيم الإسلام ، ولكن الله من ورائهم محيط .
أيها الإخوة ليس القضية هنا ، في الواقع خصمك إن لم يكن بهذا الشكل فلن يكون خصمك . الاستعمار إن لم يكن بالصورة التي عرفناها فلن يكون استعماراً. والصليبية العالمية إن لم تفعل هذا بنا فما هي بصليبية ، ستكون إيماناً وستكون إسلاماً . العدو هو العدو . ما نحن هنا ؟ نحن فقط عند أصوات النشاز ،عند أصوات المنكر ، تصدر من أناس لهم دائماً مكان الصدارة في ميدان التديّن الرسمي ، وأقول ميدان التدين الرسمي إن هؤلاء حملة الشباك وصيادون في الماء العكر وأجراء خسيسون ، رخيصون ، يعملون على ذبح أمتنا ويعملون على التضحية بدينهم ويعملون على إغضاب ربهم جل وعلا . إن هؤلاء موجودون ، وموجودون في كل مكان كما وجدوا في كل مكان ، وسيوجدون في كل زمان كما وجدوا من قبل في كل زمان ، وإن سبيل الخلاص من شعور الآثمين والظالمين سواء في الداخل أو في الخارج التمسك بهذه الحقيقة التي هي عقدة العقد بيننا وبين أعداء هذه الأمة جميعاً الإيمان بالله العزيز الحميد .
إن الناس يناصبوننا العداء لأننا مؤمنون ، فلكي نتخلص منهم ولكي نتغلب عليهم لنحقق هذا الإيمان في نفوسنا . كيف ؟ كيف يتحقق كذلك ؟ بالقاعدتين اللتين أشرت إليهما سابقاً ، بما حفظ الله به محمد عليه السـلام وما حفظ به القلة المؤمنة ، باعتماد القرآن منهجاً في السلوك والاعتقاد والتشريع وفي كل شيء والتحاكم إلى الله في كل ما يحدث بين الناس من شؤون وشجون . ثم في ترابط الجماعة المؤمنة تضامنها تناسقها شعورها بأنها في وجه خطر مستشرى إن لم تدرأه عن أنفسها في هذا التضامن الذي لا حدود له ، لهذه الأخوة التي يفرقها شيء ، بهذه الصفاء الذي لا يعكره أي معكر فنحن ثائرون إلى هناء ، ولكن كما قلت هذا قبل مدة طويلة إن الله باق ليس لأحد سبيل عليه ، لكن الذي يحدث أن الله يغضب على جيل من الأجيال فقط فيسلبه شرف خدمته تعالى ويسلبه شرف الانتماء الصحيح إليه جل وعلا ، ثم يستبدل من بعده قوماً آخرين .
فاتقوا الله أيها الإخوة واعملوا على ترسيخ الإيمان في قلوبكم وسارعوا إلى تلاوة قرآنكم والتعرف على أحكام ربكم من خلال هذا القرآن ، ومن خلال سنن النبي عليه الصلاة والسلام ، واتقوا الله في هذه الوحدة الجامعة في هذه الأخوة العظيمة التي عقد الله عقدتها بيمينه بين قلوبكم لا تفرطوا فيها . إنها عصمتكم يوم تزيغ الآراء ويوم تتفرق السبل وإنها عدتكم وجُنتكم إذ يدلهم الخطر، إن الشيطان لا يمكن أن يتسلل إلى الصف المتناسق ولكنه يجد طريقه واسعاً حينما يكون الصف مخلخلاً .
فأسأل الله العلي القدير أن يرسخ معاني الإيمان في قلوبنا وأن يحبب إلينا هذا الإيمان وأن يكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان وأسأله جل وعلا أن يُلزِم قلوبنا تعرف معنى هذه الأخوة ، إنه هو المسؤول وهو الملجأ حين تدلهم الخطوب وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .