الحلقة الثانية من سورة التكوير
الحلقة الثانية من سورة التكوير
الحلقة (33) الجمعة 9 رمضان 1396هـ - 3 أيلول 1976م
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فنعود اليوم إلى وصل ما انقطع من سياق الحديث عن سورة التكوير؛ بهدف التعرف على الأغراض التي أثارتها السورةُ الكريمة، وعلى الأوضاع المجتمعية التي واجهتها بهدف التغيير والتبديل.
نعود اليوم لذلك بعد انقطاع أسبوع كان حقاً علينا أن نقف خلاله عند بعض معاني الصيام مستقبلين بذلك شهر الصوم الكريم؛ ونحن إذ نشير إلى هذه الوقفة التي قطعت علينا ما كنا بسبيله، ينبغي أن نعلن اغتباطنا وحمدنا لله جل وعلا على أن تخوُّفنا الذي أبديناه في الأسبوع الماضي لم يكن كله في محله فقد يبدو أن قياس الحاضر على الماضي، وقياس المستقبل على الحاضر في مجال الإنسان والإنسانيات، لا يمكن أن يكون صادقاً الصدق العلمي المعروف، ففي ما يتعلق بالصوم لو قسنا هذه السنة على الماضية والماضية على التي قبلها، وقسنا السنة القادمة أو توقعناها؛ بناء على معطيات هذا العام لجاءت النتائج مختلفة عمّا هي عليه في الواقع، ولقد كنا نتخوف أن تكون الاندفاعة التي شهدها الناس نحو التحلل من قيود الدين وفرائض الله جل وعلا، تشكل ظاهرة مزعجة هذا العام ولكن الشيء الذي لا ينقضي حَمْدُ الله جل وعلا عليه، أن ظاهرة الصوم والصلاة في رمضان من هذا العام خير منها في العام الماضي؛ أذلك نتيجة تدبير وتخطيط وتصميم قام عليه الناس؟ ما أتصور فالجهود التي يبذلها الغيورون على الإسلام في هذه المنطقة لا تكفي حقاً لإيقاظ نائم، ولا يكفي صدقاً لتنبيه غافل، ولعلها أن تكون من باب رفع العتب والشيء الذي يُطمأن عليه إن شاء الله تعالى، أن هذه الأمة بعين الله، وأنها يوم اختيرت فلأمر ما قد اختيرت ولغايةٍ اللهُ حددها، وسوءٌ أخلص الناس أم فسدت دخائلهم؛ فإن ذلك لا يؤثر على الغاية النهائية، لأنها صناعة ربانية وليست صناعة بشرية.
أقول هذا وأنا أمقت الحديث في الغيبيات التي تفتقر إلى المنطق، ولكني في كل مراحل تاريخ هذه الأمة أرى إصبع القدرة متجلياً عند كل منعطف خطير من تاريخ هذه الأمة والأمر بعد واضح، فليس مشروطاً لتصحيح الاتجاه، وتعديل السير أن يتولى ذلك جمع من الناس لهم هيل وهيلمان، وان يتولى ذلك جمع من الناس لهم عجيج وضجيج، كلا فلعل أعمق التطورات التي تحصل هي تلك التي يشارك في صنعها آلاف ومئات الألوف من الرجال والنساء والشباب بل والصبية الذين لا يتصل بعضهم ببعض، والذين لا يعلنون عن غايتهم وأهدافهم؛ بل الذين قد لا يتبينون تماماً ما الذي يريدون، ربما يجد الإنسان نفسه ملهماً، بأن يساق نحو غرض معين.. ونحو طريق معين أرأيت الحجر تلقيها على صفحة ماء راكد، تتولد منها دوائر ما تزال تنداح ثم تنداح حتى تطبق النهر من حافته إلى حافته، كذلك أي عمل يعمله الإنسان في ساحة المجتمع في الحياة الدنيا، قد لا يكون له ضجيج، قد يكون خافت الصوت ضعيف النأمة؛ ولكنه ليس ضائعاً ككل شيء في هذا الوجود لا يضيع أية موجة تنطلق من صوتك أو أية حركة يحتفظ بها هذا الوجود، قد لا تطيق أن تحصل عليها ولكنها في الفضاء موجودة لم تغب ولم تضع، هذا العمل الصغير الذي قد لا يأبه له، يُولّد مع الزمن أنماطاً من القدوة، ويثير مع الزمن ألواناً من الحوافز، ويدفع مع الزمن كثيراً من الهمم، وهكذا تجد نفسك أمام ما يشبه الطفرة وما هي بالطفرة وإنما هي التسلل والتجرد المنطقي الذي لو صَبَّرَ كُلٌ منا نفسه على التعرف عليه، وفحصه وقياس نتائجه وآثاره؛ لوجد ذلك حقاً لا ريب فيه، فقد لا يكون التقدم باتجاه الناس، والتطور باتجاه الإسلام؛ صنع إنسان أو صنع مجموعة، قد لا يكون، - وأنا أقطع بأنه حتى لو كان كذلك - فصنعُ الإنسان أو صنع المجموعة؛ لا يبلغ أن يؤدي إلى شيء من هذا النوع.
نحن في هذا العام، نعالج الصيام ضمن حر شديد، وأيام مرهقات، ولقد كان معقولاً أن تكثر ساحة المفطرين، ولكن الأمر جاء على خلاف ذلك - بفضل الله - تَمُرُّ في السوق وفي الطريق، فلا تكاد عينك تتأذى بمنظر إنسان مفطر. كنا في العام الماضي نرى من هذه المناظر المشنوءة الشيء الكثير، فما أظن أن إنساناً يستطيع أن يقول: أنا صنعت هذا وما أظن أن جماعة تملك أن تقول: نحن صنعنا هذا، وضروري أن يعرف الفرد وأن تعرف الجماعة ما لها من هذا، كي تحمي نفسها من بوادر الغرور، وترد الأمر كله إلى الله الذي تتقلب القلوب جميعاً بين إصبعين من أصابعه جل وعلا إن شاء أن يقيمها أقامها، وإن شاء أن يزيغها أزاغها فالحمد لله كثيراً وإن كان لي ما أختم به كل شيء يتعلق برمضان وبفريضة الصوم في هذا العام فهو أن أرجو رجاءً مخلصاً وحاراً وأرجو الإخوة الذين تعرفوا على ظلال العبادة، وتفيؤوها في هذا الشهر الكريم صياماً وصلاة وقياماً وتلاوة مصحف؛ أرجو أن لا يكونوا أوكس الناس حظاً ونصيباً من حصائد هذا الشهر.
الدنيا يا إخوة كلها تدريب ومران، والعبادات أثر التدريب فيها واضح، وحين كان النبي عليه الصلاة والسلام يخاطب الناس قائلاً فيما يختص بالصبيان من أجل الصلاة: مروهم بها لسبع يعني إذا بلغ الطفل سبع سنين فأمروهم بالصلاة واضربوهم عليها لعشر، حينما يبلغون العاشرة ولا يصلون فاضربوهم من أجل أنهم يتركون الصلاة. علماً بأن الصلاة لا تجب على الطفل وهو في العاشرة، لا يخاطب بها قبل البلوغ، ككل الفرائض لأن مناط التكليف ومتعلق الخطاب، هو البلوغ، فقبل البلوغ لا يحاسب الإنسان، ومع ذلك فأمرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم واقع على مقتضى الحكمة. لو تركنا الإنسان يتصرف وفقاً لاندفاعاته العارضة، وفقاً للهمة المنبعثة في اللحظة المناسبة، لتأدى ذلك إلى ضياع الفرائض، بل لتأدى ذلك إلى خلخلة هائلة في البنى الاجتماعية البشرية. لا بد في الحياة من تدرب ولا بد في الحياة من تمرين؛ فإذا رأينا فرائض الإسلام تأتي في أوقات وفي أحوال تتقارب أو تتباعد، لكن يلحظ فيها دورانها على أزمنة معروفة، فإنما يراد للإنسان المسلم أن يشد إلى هذه الحقيقة الثابتة ما يكاد يفرغ من صلاة الصبح حتى يجد نفسه متهيئ لصلاة الظهر وهكذا فإذا صام رمضان فهو مترقب لرمضان أيضاً، فإذا أدى زكاة ماله فهو على شرف أن يؤدي زكاة العام القادم وهكذا قل في سائر الفرائض وسائر التكليفات، يراد من ذلك أن يبقى الإنسان ضمن التجربة تمرنه ويتمرس عليها ويستفيد من جوائها وأقلمتها له؛ حتى يكون قادراً على أداء الفرائض دون تململ ودون ثقل يشعر به، ودون أذى يحس به في نفسه، فالتكرار ودوران الفرائض في أوقات معينة يراد لها أن تذلل النفس على الطاعة، فالاخوة الذين يصومون ويقومون ويصلون ويقرؤون القرآن ثلاثين يوماً خلال شهر رمضان؛ ألا يكفي هذا أن يكون هذا الجو العطر المفعم بالطاعة وبالعبادة وبالجو النفسي الذي يسوده السلام والطمأنينة ألا تكفيه ثلاثون يوماً من أجل أن يتعرف على هذا الطهر وهذا السلام الذي توفره العبادة؟ أعتقد أنه يكفي للإنسان - تحت شرط واحد - وأظن أن كل عاقل عليه أن يؤديه تماماً.
إن العبادة كأداء كل عمل، إذا كان يُؤدَّى بغير اهتمام، وبغير محاولة للحصول على أي تأثير من فضى المعدة فلا يمكن أن يكون إلا شيئاً ضاراً، لأنك ستؤديه ضمن علاج مع نفسك وفي جو لا يوفر لك القناعة الكافية، بجدوى هذا الشيء الذي تؤديه فأنت إذاً سوف تكون في نهاية الحساب خاسراً. ولكنك إذا أديت الفرائض وقمت بالتكليفات الشرعية، وفي ذهنك أنك تريد فعلاً أن تتعرف على حقيقة هذه الفريضة، وأن تتوفر لنفسك فرصة الحصول على ما يمكن أن تعطيك إياه هذه الفريضة، فأنت في الواقع رابح..
أيام رمضان أيام شهر واحد من أحد عشر شهراً ستنقضي، وها نحن اليوم قد حذفنا ثلثها الأول ولن يأتي طويل زمن إلا ويكون الشهر الكريم في ذمة التاريخ، وككل أيام الإنسان وككل آناء حياته، فإنما هي ختام مرحلة وبداية مرحلة، ويوم يعرض الحساب ويوضع الميزان، فأنا أرجو الله أن لا تطيش موازيننا، وأن يكتب الله لنا فيما عملنا وفيما قلنا وفيما انتوينا في هذا الشهر أجراً عظيماً وأَنْ يثبتنا على أن نكون بعد رمضان خيراً مما كنا في رمضان، فلا خير في مسلم لا يكون يومه خيراً من أمسه، ولا يكون غده خيراً من يومه، لأن المسلم يفترض أنه دائماً وأبداً على زيادة إلى خير فالله جل وعلا نسأل أن لا يحرمنا وإياكم من ذلك.
نعود الآن إلى فواتح سورة التكوير، وهي السورة التي ودعناها قبل أسبوعين وأحسب أنني تكلمت لكم في الجمعة قبل الماضية عن المبررات الكافية التي تجعل التأكيد على موضوع اليوم الآخر، أمراً ضرورياً وحيوياً.
تذكرون أني قلت لكم إن الآيات التي تحدثت عن اليوم الآخر وما يتفرع عنه تبلغ ثلاثة أرباع ما نزل من القرآن، وأن هذه الظاهرة تعطي أهمية ملحوظة لموضوع اليوم الآخر؛ فمن أجل ذلك فإننا لا نستغرب أن نواجه عناية القرآن بموضوع اليوم الآخر.
من بدايات التنزيل منذ السورة الأولى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) جاءت الإشارات واضحة إلى اليوم الآخر، وهكذا فما من سورة من كل السور التي استعرضناها كما لا يخفى عليكم، خلت من حديث يقصر أو يطول عن اليوم الآخر. في العلق في القلم في المزمل في المدثر في الفاتحة في المسد في التكوير ولكن الشيء الذي يلفت النظر فيما يتعلق بسورة التكوير، ترتيب هذا الحديث عن اليوم الآخر.
سأعيد عليكم فاتحة السورة لأنها هي التي تحدثت أساساً عن اليوم الآخر يقول الله جل اسمه بسم الله الرحمن الرحيم (إذا الشمس كورت) عدوا معي الآيات التي تتحدث (إذا الشمس كورت) هذه آية وكل آية تتناول ظاهرة من ظواهر اليوم الآخر (وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت) العشار هي النوق التي تحمل وتكون في شهرها العاشر أي هي على شرف الوضع شرف الولادة وهي بالنسبة للذين يعتنون بالإبل أثمن مالهم واعزّه عليهم، وتعطيل العشار هو إلقاؤها ذات بطنها أي أنها تلقي ما تحمل أو أن يكون تعطيلها صرف النظر عن مراقبتها والاهتمام بشأنها انشغالاً بهول اليوم الآخر (وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت) وتزويج النفوس ليس عقد قران وأمر نكاح؛ وإنما تزوج النفوس برد الأرواح إلى الأجساد فنحن نقول هاتان الحبتان زوج أو زوجان كما هو الأصح من حيث أن كل حبة منهما تشكل زوجاً للأخرى، فالنفس والجسد اللذان هما قوام الحياة البشرية لا اتصال بينهما بغير انفصال، فالنفس أو الروح من عنصر والجسد من عنصر آخر، الروح نفخة من روح الله والجسد جثة من تراب فالعنصران متغايران فهما إذاً قابلان للانفصال فحين يحصل الموت كل الذي يحصل أن النفس أو الروح تفارق الجسد وأن الجسد يترك لمصيره من التحلل، وإذا كان يوم القيامة، فهذه الأفراد التي هي الروح من جهة والجسد من جهة؛ تزوج أي تعاد إلى ما كانت عليه زوجاً يُكوّنُ وَحْدَةً؛ فهذا هو المقصود من تزويج النفوس فقول الله جل وعلا (وإذا النفوس زوجت) أي أعيدت الأرواح إلى أجسادها التي كانت عليها في الدنيا (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت) للمرة الأول نواجه شيئاً من هذا التوازن في الحديث عن اليوم الآخر.
دعونا من النظر في الفواصل القرآنية ومن الدراسة البلاغية والفنية لآيات الكتاب عن اليوم الآخر.. اثنتا عشرة آية.. هذه الآيات الاثنتا عشرة مقسومة إلى نصفين نصف يتحدث عن بداية اليوم الآخر ونصف يتحدث عما يكون في اليوم الآخر، أي أن نصف الآيات تتحدث عما يعتري الكون من فساد نظام، وما يصيب الناس من هول وفزع وسائر الكائنات في ست آيات؛ فإذا جاءت الست آيات الأخرى تحدثت عما يكون بعد النفخ في الصور بعد حصول القيامة فالآيات الأولى (إذا الشمس كورت) ومتى يكون هذا؟ قبل النفخ في الصور (وإذا النجوم انكدرت) يعني انطفأت وذهب ضياؤها وذلك قبل القيامة (وإذا الجبال سيرت) وكذلك قبل القيامة، يعني قبل أن يقوم الناس لرب العالمين وأن يقفوا للحساب (وإذا العشار عطلت) فهذا كذلك قبل وقوف الناس لرب العالمين (وإذا الوحوش حشرت) أثناء الهول وأثناء الفزع حينما تنسى الوحوش غرائزها ورغبتها في العدوان ورغبتها بالافتراس من هول الموقف تسقط هذه الغرائز وتتعطل ونرى الوحوش مع بني آدم والأعداء بعضهم مع بعض كلهم يحشرون على صعيد واحد، قد نسوا لما هم فيه من فزع عظيم، هذه الغرائز التي كانت تحركهم يوم كانت الأمور في الدنيا أمناً وطمأنينة - فإذا تركت هذا - ثم أيضاً (وإذا البحار سجرت) هذه البحار ترونها في إطلاقات القرآن؛ فحينما يقول الله أو يتحدث الله عن البحار فإنما يريد كل مستقرات المياه والبحار والأنهار والبحيرات جميعاً كلها بحار وتسجير البحار مقصود به واحد من أمرين إما أن يكون من السجر الذي هو الملء نقول البحر المسجور أي الممتلئ ماء؛ فيكون من هذا الارتجاج الذي يحصل عند بدء يوم القيامة اتصال واختلاط بين منابع جميع المياه حتى تجد البحار القليلة المياه قد سجرت أي امتلأت؛ وقد يكون بمعنى آخر وهو السجر أو التسجير بمعنى الإحراق والحرارة الزائدة ولا ندري فقد لا يكون هذا المعنى الثاني مراداً لأن قيامة القيامة علامة أو نتيجة لفقدان الطاقة في هذا الكون فالكون ما يزال عاملاً ومتحركاً طالما أن الطاقة فيه حية فإذا انطفأت الطاقة - وكل الآيات في هذا المعنى تشير إلى هذا - فإن حظوة الحياة أيضاً سوف تنتهي على ظهر هذه الأرض، وفي الكون كله وانطفاء الطاقة يكون حينما تصل إلى حد الصغر المطلق في كل أجزاء الكون وحالة من هذا القبيل لا تسمح بتاتاً بأن تكون البحار مسجرة أي هي مشتعلة من شدة الحرارة، ولعل تأويل الامتلاء هو أشبه التأويلات بهذا إن شاء الله تعالى.
إلى هنا ينتهي عرض المشهد الذي يكون قبل وقوف الناس لرب العالمين، ولكن - وهنا يجب علينا أن ننتبه إلى حكمة القرآن وكيف يسوق أغراضه - يقول الله (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) تصور نفسك أمام هذه اللوحة أمام هذا المشهد في الدنيا وما كان من شؤون الناس وكل المآسي التي حصلت على ظهر هذا الكوكب فإذا أنت بالنداء الإلهي يقرع سمعك قرعاً شديداً (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) وتتعجب هل الأمر على هذه الدرجة من الأهمية؟ وترجع إلى الساحة التي كان يتحرك عليها محمد صلوات الله وسلامه عليه وتتقرَّى ما كان فيها، فما أنت واجد؟ أليس محمد عليه السلام هو الذي نشأ في مكة؟ أليست مكة البلد الذي تهوي إليه أفئدة العرب في الجاهلية؟ أليس العرب قوم محمد صلى الله عليه وسلم؟ أليس هذا الدين إشاعة لذكرهم وتنويهاً بفخرهم ونشراً لشرفهم؟ بلى؛ والله جلَّ اسمه يقول لمحمد عليه الصلاة والسلام وإنه أي هذا الدين أو هذا القرآن لذكر لك ولقومك أي شرف وسمعة عطرة لك ولقومك وسوف تسألون، أليس حقاً بعد هذا أن يكون حرص الإسلام بالغاً الغاية من أجل تخليص العرب الذين رشحهم الله جل وعلا لحمل رسالة الإسلام من كل ما يؤذي الإنسان؟ بلى. وفي أية زاوية، لا في الزوايا الأخلاقية ولا في الزوايا التشريعية ولا في الزوايا التي تمس النهايات البعيدة للتحرك والسياسة العامة ولكن فيما يتعلق بصميم الوجود البشري. إننا نتحرك ورأسمالنا الذي نتحرك به ورصيدنا الذي ننفق منه ماذا؟ هو هذا الإنسان؟ الإنسان أثمن شيء والله جل وعلا حين خلق هذا الإنسان أمر الملائكة أن تسجد لهذا الإنسان فسجدت تكريماً لما خلق الله من مخلوق ذي مزايا ليست موجودة في الملائكة، ولا في سائر مخلوقات الله تبارك وتعالى، وإذا ذهبنا نتعرف على الروح العامة التي تحرك الإسلام لوجدنا أن الإسلام ينطلق من الإنسان ليعود إلى الإنسان في إعزاز وفي حفاوة بالغة لو ذهبت تتعرف على آيات الله تبارك وتعالى في هذا المجال لكان حسبك قراءتك بضع آيات من سورة المائدة.
اسمع.. يقول الله جل وعلا:
)واتل عليهم نبأ ابني آدم إذ قرّبا قرباناً فتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين).
تلك هي اللوحة التي عرضت لأول جريمة اعتداء على الحياة في تاريخ الجنس البشري جريمة بين ابني آدم عليه السلام بماذا يعقب الله عليها؟ يقول الله جل وعل:
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل - وكذلك هو مكتوب علينا - أنه من قتل نفساًُ بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).
أرأيتم كيف أن هذا الإسلام يسد المنافذ والسبل التي تؤدي إلى إهدار قيمة الحياة البشرية؟ لأن الإسلام أعطى لحياة الإنسان اعتباراً عالياً جداً لم يجز أي عدوان على هذا الإنسان، لا فقط بالنسبة لحياته فذلك مفروغ منه من اعتدى على حياة أخيه وأزهقها بغير حق وبغير فساد أفسده هذا الإنسان، أزهقنا حياته عملاً بقانون التماثل المعمول به في الإسلام وفي سائر الشرائع والذي هو نداء الفطرة الإنسانية، ولكن الأمر في إعزاز الحياة الإنسانية يذهب إلى أبعد من هذا يذهب إلى توفير الأجواء والمناخات التي تجعل هذه الحياة الإنسانية ذات قيمة ذات معنى، مليئة فَعَّالة منتجة، من أجل ذلك فإن الإسلام حريص أبلغ الحرص على أن لا يساء إلى الشخصية الإنسانية بحيث تكون هذه الإساءة عاملاً في إنقاص فعاليتها حتى الشعور.
جاء رجل فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أُخِذَ بجلال النبوة ورهبة الرسالة فارتعد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: خفِّضْ عليك يا أخا العرب، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة.. اللحم المجفف على الصخور، لكي يذهب بهذا الروع عن نفس هذا الإنسان الذي توهم أن منصب النبوة منصب يولد الرعب، ويذيب الشخصية الإنسانية.
وفي كل موقف نجد الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يوفر هذا الامتلاء للشخصية الإنسانية كان ينهى عن إذلال الإنسان لنفسه. ويقول ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه وكان ينهى عن إذلال المؤمنين ويقول: ظَهْرُ المؤمن حمى، لا يجيز أبداً أن يذل الإنسان المؤمن بالشتم أو بالضرب لأن هذا سيكون انقاصاً للفاعلية المطلوبة من هذا الإنسان ويقول عليه الصلاة والسلام: صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما - ربما يلتبس النص على بعضكم الرسول عليه الصلاة والسلام - حدث في عدة مرات فقال أُرِيْتُ النار وقال أريت الجنة، أراه الله سبحانه وتعالى - إما حقيقة إما تمثيلاً - النار والجنة جميعاً، ورأى عليه الصلاة والسلام ما رأى من أحوال أهلها وأوصافهم من جملة ما رأى.. رأى النار وحدثنا في رؤياه عن مصير الزناة، وعن مصير شربة الخمر، وعن مصير المرابين، وعن أشياء كثيرة تحدث بها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي موجودة في كتب الحديث لكن النبي عليه الصلاة والسلام حين انكشف له أهل النار ورأى الأصناف الذين يتخبطون فيها يقول:
صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما.. يعني أنهم في عصره عليه الصلاة والسلام ما كانوا موجودين. من هما؟ قال رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس هذا صنف، صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله كيف لو رأيت اليوم من أهل النار نماذج خلفت السياط للتسلية. فقد استعملت الكهرباء وما في معنى الكهرباء لتعذيب عباد الله.. صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله.
والصنف الثاني الذي لم يره عليه الصلاة والسلام من أهل النار قال ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت.
هؤلاء النساء اللواتي يصففن شعورهن في المحلات المختصة بهذا، وهن كاسيات عاريات ترى الواحدة منهن فتحير أهي تلبس على جلدها شيئاً أم هي عارية تماماً، لأن الثوب مفصل لكي يلتصق بكل جزء من أجزاء الجسد، ويحكي كل مفصل، وكل عضلة في هذا الجسد، ومائلات مميلات يتخطرن كالغصن الذي تعبث به النسائم يميناً وشمالاً إذا مشين، مشين بتخلع ومشين بمجانة.
فهذا الصنفان من الناس من أهل النار لم يرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أي حال؛ فالشيء الذي يجب أن يؤخذ هو أن الإسلام بحرصه على الحياة لم يسد المنافذ على فوت الحياة وحسب، وإنما سد المنافذ على تفريغ الحياة من معناها كذلك ففي جو كهذا ينظر إلى العوائد وعوائد سيئة قد تكون نابعة عن الوسط وعن البيئة وقد تكون متخلفة عن عوامل اقتصادية وعوامل اجتماعية وقيم نشأت في هذا المجتمع القبلي الذي يعيش بين أعاصير الرمال المهم كان بين العرب ما يعرف بعادة الوأد, الوأد: هو دفن البنات وهن على قيد الحياة كراهة لهن من جهة ومن جهة أخرى كراهة أن يأكلن مع الآباء ومع الأهل كي لا يؤثرن على المستوى المعيشي للأسرة.
كان الرجل إذا جاءته بنت إما أن يدفنها حية مباشرة، وإما أن يتركها حتى تترعرع ثم يدفنها بعد ذلك، كان الوأد يجري كالآتي تهيئ الأم حفرة فإذا وضعت الوليد نظرت فإن كان ذكراً أخذته فاستحيته، وإن كان أنثى أهالت عليه التراب، وهو في الحفرة.
لكي نتصور إمكان أن تقوم الأم بدفن ولدها وهو حي؛ فيجب أن نعرف أن هذه العوائد بلغت من الرسوخ في المجتمع العربي المبلغ الذي يقضي على كل عواطف الأمومة - وهي أقوى العواطف وأشرف العواطف بإطلاق - وربما تترك البنت حتى تتغذى باللبن وتفطم، فإذا بلغت أن تمشي وتذهب وتجيء جاءها أبوها بجبّة من شعر فألبسها إياها - كما يفعلون بالرعيان - ثم أخرجها لترعى له إبله أو شياهه، فإذا أراد أن يقضي عليها ذهب فاحتفر لها بئراً في الصحراء، ثم جاء إلى أمها فقال لها جهزي ابنتك إلى أحمائها الإحماء من القبور، من هنا جاء ما يعرف بين الناس بما يقولون؛ نعيم الصهر القبر، من هنا جاءت؛ فإذا جهزتها أخذها أبوها حتى أوقفها على البئر الذي حفره في الصحراء وقال لها انظري فإذا نظرت كبها في البئر، وأهال التراب فوقها.
أسباب هذه العادة.. نتائج هذه العادة.. تحدثت إليكم به قبل اليوم أظن من ثالث جمعة ما أنا براغب أن أعود إلى هذا الحديث لكن أريد أن ألفت النظر إلى تأثير العادات الاجتماعية في العقائد، العرب تكره البنات والله جل وعلا أنبأنا في القرآن الكريم عن ظاهرة الكره هذه فقال جل اسمه (وإذا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى) ربما من لا يعرف عوائد العرب يقف عند هذه الآية ما دخل هذه الآية بالتي قبلها (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم) فنلفت أنظارهم إلى أن العرب كانت عندها أصنام من جملتها اللات والعزى ومناة هذه الأصنام تسمى بتسميات الإناث، والعرب كانت تقول: إن هذه الكواكب هي إناث، وإنها بنات الله، والعرب كانت تقول: إن الملائكة إناث وهنّ بنات الله وهكذا، فهم ينسبون إلى الله ما يكرهون وينسبون إلى أنفسهم ما يشتهون، يكرهون الأنثى فينسبونها إلى الله تبارك وتعالى، ولهذا قال الله أيضاً (وإذا بُشِّرَ أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً - يعني نسب الأنثى إلى الله - ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم). فكراهيته الأنثى انعكست على العقائد فأصبحت الأصنام تشكل على هيئات الإناث، وأصبحت تطلق عليها ألقاب الإناث ومع أن الله جل وعلا، خاض مع العرب حجاجاً طويلاً سوف نصل إليه وسوف نقف معه فنحن نريد أن نؤكد على هذه الظاهرة إن العادة الاجتماعية لا يمكن أن تكون منفصلة تماماً عن العقيدة بل نحن إذا أردنا الحقيقة نستطيع أن نعكس فنقول العقائد هي التي تشكل العوائد الاجتماعية أو هكذا ينبغي أن يكون؛ فالعرب بشدة كراهيتهم للبنات كانوا يئدونهن.. حين جاء الإسلام جاء بهذه الروح التي تستهدف استحياء هذه الأنفس، إنقاذها من الهلاك (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) لماذا؟ أذنبها أنها جاءت أنثى ولم تأت ذكراً؟ أذنبها أنها لا تحمل السلاح لتدفع عن القبيلة والذكر يحمل السلاح ويدفع عن القبيلة لا لأن المنطق يقضي أن يؤاخذ الإنسان بما يصنع، بما يكون ضمن طاقته، أما أن يكون الإنسان طويلاً أو قصيراً ذكراً أو أنثى أبيض أو أسود فكل هذا لا يرتب عليه مسئولية، لأن هذه الأشياء أشياء تخرج عن إرادة الإنسان ولكي ترتب مسئولية في أية ناحية، لابد من أن تدخل الإرادة الإنسانية لتحدد هذه المسئولية.
جاء الإسلام فكان فتحاً مبيناً للنساء اللواتي يتندرن اليوم هن وإخوانخنّ من المتحللين والفاجرين ومن المتحللات الفاجرات ومن الكاسيات العاريات ومن أحلاس الشهوات، ممن يزعمون أن الإسلام أذلَّ الأنثى مع أن الإسلام هو الذي أنقذ الأنثى - في التاريخ الإنساني كله - وهو الذي أعطى الأنثى كرامتها الحقة، وإذا كان ذنباً على الإسلام يُحْسَبُ أن تُنقذَ المرآةُ من بين يدي العابثين، وتجار الأعراض، ولصوص الأعراض، فالإسلام يعتز بهذه التهمة.
إن الإسلام في الوقت الذي يرفع فيه من قيمة الأنثى لا يرضى أبداً أن تكون الأنثى رقيقاً يباع ويُشترى في سوق النخاسة ولا يرضى أبداً أن تكون عفة الأنثى موضوعاً يتلعب به طلاب الشهوات وأحلاس الفجور والانحلال، الإسلام لا يرضى هذا من شاء فليرض بذلك ومن لم يرض فليكسر رأسه بالحائط رأي الإسلام في ذلك صريح، يحيي الأنثى وحياة الأنثى تقتضي المحافظة على شرفها والمحافظة على عفتها والمحافظة على كرامتها كي لا تكون سلعة رخيصة في أيدي التجار الذين يقلبونها اليوم وينبذونها غداً نبد النواة، فالإسلام إذاً حينما تحدث في فاتحة سورة التكوير كان يواجه حالة شاذة عالية الشذوذ، حالة إزهاق العنصر الأنثوي في الحياة الإنسانية فلا بد من أن يحشر هذا.. أين؟ في أهم الأحداث، حينما يتحدث القرآن عن أهوال يوم القيامة في الوقت الذي يصور لنا على أنه تذهل كل مرضعة عما أرضعت حينما ينسى الوحش غرائز العدوان، حينما يتعطل كل شيء يأتي النداء الإلهي متسائلاً: (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) هذا تساؤل ستكون له نتائج عملية ككل قضايا الإسلام؛ نحن نقرأ بعد في العصر المدني ومن سورة الممتحنة أن الله جل وعلا يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً:
(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن -قتل الأولاد الذي هو الوأد- ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن إن الله غفور رحيم).
فالإسلام ليس فقط دين توجيهات وإنما هو دين نظام وتطبيق وعمل وقد كشفت لنا هذه الفاتحة عن محاولة الإسلام لتغيير الواقع البشري في ذلك الزمان وفي تلك الرقعة المحصورة ولكنه مؤطر وموضوع في سياق يدعو إلى التأمل الشديد
ربما في الجمعة القادمة وقفنا وقفة أشمل عند هذه المعاني وربما وجدنا أنفسنا غير مضطرين إلى هذه الوقفة، المهم أن نتواصى إن القرآن كتاب الله، وأثمن شيء بين أيديكم جميعاً وإن عليكم وأنتم في ظلال رمضان أن لا تدعوا قراءة القرآن وأن تعايشوه وتتعرفوا على المعاني العظيمة التي نشرها الله في ثنايا هذا الكتاب تلتمع في آياته التماع الدر في العقد الكريم، فإياكم أن يتفلت من بين أيديكم رمضان - وحظكم من الكتاب لا شيء - إن هذا القرآن أعلى طبقة في البلاغة وأحفل كتاب بالمعاني السامية العظيمة وخير دليل يدل الناس ويرشدهم إلى طريق الهدى ومراشد الحق والصواب، فاعملوا أن لا يكون نصيبكم منه هيناً في هذا الشهر وفي سائر الشهور استوصوا بالكتاب خيراً، عدّتكم طريقكم سبيلكم.
أسأل الله تعالى أن لا يخلي أيامنا وليالينا ولا أيامكم ولا لياليكم من آية تتلى، وكلام يكون موضوع تأمل وتدبر، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين.