الحلقة الأولى من سورة التكوير
الحلقة الأولى من سورة التكوير
الحلقة (32) الجمعة 25 شعبان 1396هـ-20 آب (أغسطس) 1976م
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون:
فنحن اليوم مع سورة التكوير يقول الله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم:
(إذا الشمسُ كورت. وإذا النجوم انكدرت. وإذا البحار سجرت. وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤودة سئلت. بأي ذنب قتلت. وإذا الصحف نشرت. وإذا السماء كشطت. وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت. علمت نفس ما أحضرت)
ولو كنا إنما نفسر القرآن، وننظر في آياته من أجل التفسير وحسب، لكان المنطق قاضياً أن نلج الموضوع مباشرة، وأن نعمد إلى هؤلاء الآيات، وإلى ما يتلوها من آيات السورة؛ فنشرحها وفقاً لدلالات اللغة، ثُمَّ نؤولها تبعاً للمعاني والأغراض التي سيقت لأجلها. ولكنا ننظر في بعض سور القرآن بهدف حددناه من قبل، ومن منظور خاص هو منظور السيرة النبوية، ووفاقاً لقواعد خاصة هي قواعد الحركة الإسلامية وقوانينها فمن أجل ذلك لا بد لنا أن نتعرف على الحوار الذي سيقت له هذه الآيات والسورة.
ولقد سمعتم الآن فواتح السورة الكريمة، وعلمتم من أجل أي شيء سيقت هؤلاء الآيات، وعلى أي غرض انصبَّ هذا الكلام الإلهي؛ فالمسألة كما رأيتم، تجسيم لهول يوم الفزع الأكبر، تصوير لجانب من جوانب اليوم الآخر يوم تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسموات، ويوم يجثو الكل بين يدي الجبار المتكبر - لا إله إلا هو - ولعلكم لكثرة ما ألفتم سماع تذكير المذكرين، وتخويف المخوفين، لعلكم لذلك لا تحسون ما ينبغي أن يحس به المسلم وهو يسمع هذه الآيات وأشباهها، ولكنكم خليقون أن تغيروا تفسيركم هذا إذا علمتم أنه لا يوحد في الإسلام شيء مقطوع الصلة ببقية الأشياء فالإسلام مخطط حياة ومنهج عمل، وصراط للسلوك، ومنظومة للعقيدة؛ وكل أولئك يتبادل التأثير بعضه مع بعض ثم كل أولئك يجتمع ليؤدي الغاية التي أنزل من أجلها هذا القرآن وابتعث فيها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لكي نزيد المسألة وضوحاً أكثر فلا بد من أن نؤكد أن مسألة اليوم الآخر وما يتبعها وما يكون فيها شغلت حيزاً كبيراً من القرآن الكريم لعله أن يبلغ ثلاثة أرباع ما أنزل من هذا الكتاب، وخليق بالإنسان المسلم حينما يعرف هذه الحقيقة الصغيرة الأولية أن يتساءل: هل الأمر على كل هذه الدرجة من الأهمية؟
ثم إذا كان على كل هذه الدرجة من الأهمية، فما عرض الله جل وعلا في القرآن وما نطق به رسول الله صلوات الله عليه في أحاديثه الشريفة مما يتعلق باليوم الآخر، أيقصد به أن تنخلع القلوب، وأن ترتجف الأفئدة، وأن يأخذ الناس رعب يلفهم من أقطارهم جميعاً؟ أم المسالة لها جوانب أخرى لا بد لدارس القرآن، إن كان دارساً، من أن يتبينها، ولا بد لصاحب الدعوة، إن كان يمهد للدعوة إلى الله، من أن يتعرف عليها، ولا بد للأمة حينما ترسم مناهجها وتحدد أهدافها، من أن تعرف هذا كله؟
لا بد لنا الآن من أن نمهد للأمر، وأن نضع هذه القضية في حاق موضوعها من سياق هذا الإسلام كي لا تضيع الحدود ولا تنبهم الغايات. إن هذا الإسلام كما عرفتم وكما رددنا على مسامعكم عشرات المرات جاء لغاية.. الله ليس بحاجة إلى سلوى يتسلى بها وليس بحاجة إلى وسائل للهو والعبث جل الله، وتعالى الله عن ذلك يقول الله: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ولو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) فالكون الذي صدر عن الله تبارك وتعالى ذو غرض ذو غاية ذو هدف وهذا الغرض لا يتعدى نطاق البشرية التي أنزل لها هذا الإسلام وواجب البشرية أن تتعرف على هذه الغاية بكلمة جامعة هذا الإسلام كله بما فيه من وصايا وتعاليم ينساق نحو غاية أولية هي أن يعاد تكوين الإنسان بما يتلاءم مع الناموس الكوني العام الذي يحكم الوجود كله والذي تدفعه صفة العبودية لله جل جلاله.
فالإنسان الذي مرت عليه الأحقاب وغبرت عليه الدهور وهو مؤمن بنفسه غير آبه لما هو فيه لما يستحق من أهبة واستعداد والإنسان الذي رضي من الحياة بهامش صغير يضطرب فيه، همه منه ما يشغل البهيمة من مطعم ومشرب ومنكح.. هذا الإنسان، مع تراخي الأزمان، ومع توالي القرون، تخرب كيانه تماماً لقد تركت عليه تأثيرات البيئة بصماتها الواضحة، وترك عليه الاسترسال غير المسؤول هذا التسيب الذي ترونه ضارباً أطنابه في كل، مكان ودفعت الغاية العليا للوجود الإنساني وللقافلة البشرية بعيداً إلى الخلف، وقدمت بين يدي الإنسان شهوات وقدمت بين يدي الإنسان رغبات وأشياء صغيرة أَوْلاهَا كُلَّ همّه، وأعطاها كل قيادته، فمزقته وقطّعت أوصاله، فالإنسان يعيش قطعة هنا وقطعة هناك وما لم تتجمع قوى النفس، وما لم تنسق الدوافع والمحركات، بلا أمل بتاتاً في أن يتحرك الإنسان في هذه الدنيا حركة صحيحة متناسقة - ما زل الجو بعيداً عن الآيات لا بأس - الإسلام إذاً جاء ليعيد التوازن إلى هذا الوجود.
أنت حينما تكون بين يديك آلة جهاز تكون فيه بعض الفواصل أو بعض الصمامات غير شغالة فأداء هذا الجهاز ناقص، حينما تكون لديك مجموعة من الأجهزة بينها ناظم ينتظمها لينسق أداءها جميعاً كي تؤدي غرضاً معيناً؛ فيكون بعضها شامخاً ويكون بعضهاً ناقص الأداء، فذلك يعني بالطبع أن الحصيلة التي كنت ترجوها من العمل كمّاً وكيفاً لن تكون على المستوى المطلوب، ولا بالكمية المطلوبة هذا شيء يعرفه كل الناس كذلك أنت وكذلك المجتمع البشري الذي تعيشه الآن والذي عاشته الأمم من قبل وتعيشه الناس ما دام على ظهر هذا الكوكب ناس. فالإنسان جهاز ذو قوى ذو إمكانات ذو غرائز ذو طاقات حينما يتحرك بكامل قواه يؤدي أداء عالياً، بشرط أن تكون الحركة متناغمة ومتناسقة، أن لا تصطدم في النفس قوة مع قوة، حينما يكون المجتمع ككل على هذا الغرار ففاعلية المجتمع تكون على مستوى عال.
هذا هو ما أراده الإسلام أراد للذات الفردية الإنسانية أن لا تعطل شيئاً من طاقاتها وأن تنسق وتنظم هذه الطاقات بحيث أنها تكون أثناء العمل غير مصطدمة ببعضها وأراد للمجتمع في نظامه العملي أن يكون تحركه كذلك على هذا الطراز. الكون كله متوازن منذ خلق الله الخلق وإلى اليوم وإلى قيام الساعة، تستيقظ في الصباح فترى الشمس تطلع من المشرق فإذا أمسى المساء غربت في المغرب فإذا جن الليل تبدت أمامك الكواكب تزين السماء الدنيا، بهذا النظام البديع هذا المشهد شهدته أنت وشهده أبوك وشهده جدك وشهده آدم عليه السلام وسيشهدْ الناس ما دامت الدنيا دنيا وما دامت الساعة لم تقم.
الكون كله لولا هذا التناسق وتوزيع القوى على نحو يمنع الصدام والخصام، لولا هذا لتخرب منذ زمن بعيد الكون كله في هذا التناسق العجيب المعجز. وهذا الإنسان العاتي وحده يخرج على النظام ويسيء إلى التناسق ويخرب التوازن المطلوب. وظيفة الإسلام أن يجعل حركة الإنسان داخلاً وخارجاً وحركة المجتمع متفقة مع هذا القانون الكوني العام كي يكون الأداء الإنساني من حيث النتيجة كاملاً ومؤدياً للغرض المطلوب.
هذه حقيقة أعتقد أننا فرغنا من تقريرها منذ أمد بعيد، وإن كان تقريرها على غير هذا النحو، لكن انظروا الأمر من زوايا أخرى، كي يتضح هذا الأمر تماماً. إن التناسق في عرفنا والتوازن متمثل في رعاية أوامر الله تبارك وتعالى، ما طلبه الله منك فافعله ما نهاك عنه فدعك منه لا خير لك فيه، جملة التعليمات التي أصدرها محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي أن توضع موضع التطبيق، لا يشذ عن التطبيق منها أي شيء، التوازن يحصل بالكيفية التي رسمت بالوحي، وشرحت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤدي غرضاً إنسانياً محسوساً.
إلى هنا لا أظن أن ثمة مجالاً للخلاف لكن بعض الناس يتساءل أو يجبك بالسؤال جبهنا مراراً عديدة أثناء التحدث ويقول: إن التناسق والتوازن في الحياة الإنسانية مطلوب لا ريب في ذلك لكن لماذا لا يمكن أن يتحصل هذا إلا بالإسلام، وألا يمكن أن تقوم المبادئ الأرضية وأن تقوم نتائج عقول الفلاسفة والحكماء والمشرعين والسياسيين والاقتصاديين، وهم أرباب المعرفة وأصحاب الاختصاص والذين يقررون الحقائق مفروغاً منها، تكاد تكون كلها حقائق علمية تلمس باليد وتشاهد بالعين وتسمع بالأذن؛ ألا يمكن أن يتحقق هذا التوازن عن طريق وضع المبادئ الأرضية موضع التطبيق؟ ويأخذون في كلام طويل من هذا القبيل.
أنا لا أريد أن أدخل مع هؤلاء بنقاش ولكن أسمح لنفسي معكم أن نتشكك وأن نتساءل.
لا شك أن أي منصف - وإذا أراد بعض الناس أن لا ينصف فيكفينا شهادة أرباب الاختصاص - فإن الساسة والاقتصاديين والشرعيين يشكون مُرّ الشكوى من عدم التطبيق الناتج عن عدم الالتزام، أنا أطبق الأمر حين ألتزمه وألتزمه، حين أشعر أنه يؤدي لي غرضاً حقيقياً يحقق لي منفعة حقيقية.. يحقق للمجتمع سعادة غير منكورة، الالتزام مؤسس على هذا، فالناس أرباب الاختصاص من قضاة إلى مشترعين إلى ساسة إلى اقتصاديين إلى.. إلى يشكون مُرَّ الشكوى كما قلت لكم، من محاولات الناس للتفلت؛ نحن إذا كنا مثلاً نعيش في ظل نظام اشتراكي، ومعلوم أن النظام الاشتراكي من الزاوية الاقتصادية يعتمد على مبدأ المؤسسات، فالمؤسسة لها مدير ولها موظفون ولها خبراء وثمة دراسات وما أشبه ذلك، ففي البلدان الاشتراكية وفي البلدان الرأسمالية وحيثما وُجِدَت المؤسسة ووجد المشروع، فالسرقات مستمرة والسلب والنهب يجري بلا وازع، ونتيجة ذلك تنعكس على المشروع وتنعكس على المؤسسة.
نحن إذا كنا نقيم نظاماً قضائياً، المقصود بالنظام القضائي أن يفصل في المنازعات بين الناس وفاقاً لقوانين العدالة ومبادئ الحق ومع ذلك فنحن والقضاة والمحامون وأطراف الدعاوى، نعرف تماماً أن الإنسان يتحايل على القوانين ويستأجر المحامين - لكي يزيدوا تحايله فاعلية - فتكون النتيجة تعطيل الروح التي وجد القانون من أجلها، وقس على ذلك سائر الأمور؛ فالمسألة ليست مسألة مبدأ يوضع وحسب.
هذه خطوة احفظوها عندكم ليست مسألة مبدأ يوضع فحسب؛ ولكنها مسالة الالتزام أنا حينما أشعر أن قانون البلد الذي أعيش فيه ويظلني قانون يتجاوب مع الغاية التي أكون لنفسي فكرة عنها فأنا سوف أحترم هذا القانون وسواء وجد القاضي أم لم يوجد فأنا أقف عند حد القانون لا أحاول مطلقاً أن أتخطاه لأنني في اللحظة التي أتخطاه فيها سوف أسيء إلى مصلحتي بالذات هنا تتضح معنا معالم الخطوة الثانية في طريق هذه التساؤلات، الخطوة التي تشير إلى المصدر.
نحن نقول لا بد في أية حياة اجتماعية من نظام يحفظ على المجتمع سلوكه غير المتصادم بل حتى المجتمعات الحيوانية لا بد لها من عصا تفرق بين الظالم والمظلوم، نحن جميعاً متفقون على هذا؛ ولكن مسألة المصدر ماذا عنها؟
نحن نقول: إن الذهن الإنساني بكل حصائل التجربة التي عاشتها الإنسانية من قبل، وبكل ما سوف يتاح لها من بحث أن تضيفه إلى هذه الحصائل سوف يظلّ عاجزاً عن إدراك الصالح المطلق لبني البشر؛ لا نقول هذا مجازفة ولا نقوله تبجُّحاً بل بكل تواضع نقول هذا الكلام:
إن المصدر الكامل الذي لا يمكن أن يضاف إليه هو هذا القرآن منذ أن ختمت آياته وإلى الآن تقرؤونه على النحو الذي كان عليه يوم أنزل فيه.
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
لكنك خذ إليك القوانين خذ إليك مبادئ السياسة خذ إليك مناهج الاقتصاد؛ تجد اللاحق يستدرك على السابق، هذا على صعيد الفكر وفي مستوى الذهن البشري، ولكنك في الحياة الإنسانية في الحياة الاجتماعية تصطدم بخاصية التصلب التي تأخذها المؤسسات والأنماط الاجتماعية والأطر الاجتماعية فهنا مسالة التناقض تأخذ شيئاً غير الاستدراك الفكري تأخذ شكل الصدامات وشكل العداوات، كي ينكسر الإطار القديم ليقوم من بعد الإطار الاجتماعي الجديد هذا الاستدارك المستمر لما كان في السابق والتطلع المستمر لما نستشرفه من أجل المستقبل يعطينا هذه الحقيقة البسيطة وهي أن مجهود البشر لا يمكن أن يفي بحاجات البشر.
ننظر الآن من المنظور الديني بعد أن نظرنا إليه من المنظور الواقعي فنجد أن الفرق بين نظام نازل من عند الله، ونظام مصنوع بأيدي البشر كالفرق بين الكمال الإلهي والنقص الإنساني كالفرق بين العلم المطلق الشامل المحيط الموصوف به ربنا جل وعلا وبين الجهل المزعج الذي يتخبط فيه الإنسان فمسالة المصدر لها قيمتها الحاسمة في هذا الموضوع لا يمكن أن ألتزم نظاماً ما لم أعلم أن هذا النظام صدر عن إنسان أو مؤسسة أو كائن يتمتع بكامل ثقتي، حينما تخدش هذه الثقة أي خدش؛ فإن الالتزام يتخلخل لأن هذا الخدش يعكس آثاره على مسألة الالتزام.
هذه خطوة ثانية.. من هذا الباب نقول: إن الإسلام بما جاء به في القرآن وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يستحق أن يلتزم وأن ينفذ على نحو مطلق بدون تردد لأنه صادر عن الجهة العالمة بكل شيء المحيطة بكل شيء التي خلقت الإنسان والتي هي وحدها تعرف ما يصلح الإنسان وما يصلح عليه الإنسان عند هذه النقطة تعترضنا ظاهرة وكثيراً ما قيلت لنا ولا بد من أن نشرحها بعض الشيء.
إن الظواهر يا إخوة تخدع، والإنسان إذا كان وفياً لعقله فعليه أن يكون صبوراً عليها أن يصبر على تحليل الظواهر كي لا ينخدع وكي لا يخدع الناس.
بعض الناس يقول لك لا ليس شرطاً أن يكون النظام صادراً عن جهة ربانية كي يكون واجب الالتزام، نحن نرى كثيراً من الأمم فيها ناس يلتزمون التزاماً لا حد له ونقول نعم بادي الرأي وفي ظاهر الأمر، نحن نعرف مثلاً أنه كان في زمن الحشاشين، وهم فرقة من فرق الشيعة في فارس، كان شيطان مارد اسمه الحسن بن الصباح يتزعمهم وهو الذي يسمى شيخ الجبل، وكان يعتصم في قلعة (ألموت) في فارس، وكان يتخذ من الأضاليل والحيل الشيطانية ما يوهم به أتباعه بعد تخديرهم بواسطة الحشيش، وإيقاظهم مرة أخرى أنه قادر على أن يدخلهم الجنة وقادر على أن يدخلهم النار؛ والناس فيهم عجائب في الدنيا بسطاء ومغفلون وسخفاء الدنيا مليئة بهذا الطراز من الناس، ولذلك تجد دائماً الدعوات الضالة والمنحرفة تتصيد زبائنها من هذا المستنقع الوسخ، فهذا الرجل اصطفى من ضعاف العقول ناساً أوهمهم هذا الإيهام، وكان إذا جاءهم تهديد من الدولة في ذلك الوقت، يأمر بعض أتباعه - وهو كما قلنا يسكن قلعة شاهقة ضاربة في السماء - فيأمرهم بأن يرموا بأنفسهم من فوق القلعة إلى الخندق ليموتوا، فيأمر خمسة أو عشرة أو أكثر أو أقل ويقول للرسول: بَلِّغْ سيدك ما رأيت، هؤلاء فعلاً ينفذون الأمر على الموت أقول هذا صحيح وأعرف أيضاً في اليابان ما يعرف عندهم بعادة "الهاري تاري" وهي أن الإنسان إذا ارتكب عملاً مخلاً بالشرف، طعن نفسه بخنجر ذي حدين وأنه إذا أمره الميكادو بأن ينتحر فسوف ينتحر وأعرف من حوادث كثيرة أن أناساً من أجل غاية معينة ينتحرون؛ هذا كله صحيح ولكني كما قلت لكم: أكرر.. أن واجب الإنسان العاقل أن يصبر على تحليل الظاهرة.
تعالوا.. نحن نعرف أن في الدنيا زعماء وقادة مطاعون، إذا قالوا سُمِعَ قولُهم وإذا أمروا نُفِّذَ أمرُهم هذا كله واقع مشهود ومع ذك فنحن أيضاً نعرف إلى جانب هذا أن التاريخ القديم وأن التاريخ الحديث ومنذ قال قيصر قولته الشهيرة - حتى أنت يا بروتس - وقبل ذلك وبعد ذلك نعرف أن القادة والزعماء والملوك جرت تصفيتهم على يد أقرب الناس إليهم، الزعماء في العادة لا يقتلون إلا بأيدي الأتباع المقربين الذين نظن كل الظن أنهم لا يمكن أن يرفعوا أيديهم إليهم بسوء ومع هذا فهذا واقع لماذا؟ صبراً أيضاً؛ لأن الإنسان قد يسمع منك الأمر فينفذ وثان وثالث ورابع وعاشر وألف وينفذ الكل، ولكنك لو أتيح لك أن تنصت إلى أحاديث قلبه بوسيلة ما، لرأيته يتساءل باستمرار: ما الذي يميز هذا الإنسان عني؟ لماذا هو يأمر وأنا أطيع؟ لماذا لا تنقلب الآية؟ لماذا لا ينعكس الوضع؟ فأكون أنا الأمر وهو المطيع؟ لماذا الإنسان لا يتحمل أبداً وبغير انتهاء أمر إنسان مثله؟ فالإنسان يسمع أمر إنسان أو أمر كائن أعلى منه وأقوى منه ولا حيلة له في التفلت من سلطانه وقهره، أما أن يأمره إنسان مثله فذلك شيء غير مقبول من حيث النتيجة تتساؤل على تساؤل شجب وراء شجب استنكار، وراء استنكار ستجد في النهاية الإنسان الذي كان بين يديك كالخاتم تديره في إصبعك يسمع ويطيع وينفذ بلا مناقشة ولا كلام تجد هذا الإنسان، ينقلب عليك في لحظة واحدة، فإذا هو يغتالك ويصفيك.
إذاً ففي مسألة المصدر ثمة جانب آخر، الإنسانية باستعداداتها بغرائزها بدوافعها بقيمها المستقرة في الفطرة لا يمكن أن تسلم لقوة مماثلة لها من كل وجه، لا بد من قوة أعلى هذه القوة الأعلى هي قوة الوحي النازل من عند الله تبارك وتعالى، ومن هنا كان الإسلام قادراً على تحقيق التوازن على غير النحو الذي تستطيعه أنظمة الدنيا وشرائع الناس ومبادئ الأرض.
هنا نأتي إلى الخطوة الأخيرة وهي صميم الموضوع: هل يكفي أن نضع النظام وينتهي كل شيء، أم لا؟
في الواقع لا بد في النظام من مواصفات، وهذه المواصفات يجب أن تبنى، وأن تؤسس على معطيات الذات الإنسانية، على معطيات الوجود البشري، الوجود غير المحدود، فنحن في الواقع نعرف أن كثيراً من الناس يعيشون في دائرة الحس، لا ينظرون أبعد من أنوفهم ولا تتجاوز هممهم مواطئ أقدامهم، ولا يفكرون إلا في ما تعطيه لهم هذه الحواس الظاهرة، ولكن الإنسان بما هو إنسان ذو فطرة مستقيمة، يعرف أن الموت ليس نهاية الرحلة أبداً، ليست نهاية الرحلة لمبررات عملية ولمبررات أخلاقية سوف نستعرضها في مقبلات الأيام إن شاء الله تعالى.
فالإنسان يتطلع من داخل نفسه إلى يوم يقوم فيه الناس لربّ العالمين فيحاسب الإنسان على ما جنت يداه، على ما قدم في الدنيا، هل يمكن لكم أن تتصوروا أيها الإخوة بكل إنصاف بكل صدق مع النفس ومع الواقع، هل يمكن لكم أن تتصوروا إنساناً يعتقد بأن الموت نهاية كل شيء. وأن لا شيء بعد الموت، وأننا بعد أن ندخل الحفرة لن نقوم منها أبداً، هل يمكن لكم أن تتصوروا إنساناً من هذا النوع قادراً على أن يعانق القيم العالية؟ لا أتصور ذلك.
إن الإنسان الذي يقول لك: لا شيء بعد الموت، ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، كهذه النبتة التي نبتت على ماء الربيع ثم طوحتها عواصف وأعاصير الرمال في الصيف لا شيء بعدها أبداً، هذا الإنسان يكون دافعه الأول ودافعه الأخير، أن ينهب من اللذات ما أمكن أن يعب منها حتى يرتوي ويخرج الري من أظفاره، هو إنسان أقرب إلى طبائع الوحوش، أقرب إلى سكان الغابة من أن يكون الإنسان المهذب، لكن الإنسان الذي يجد نفسه مشدود البصر والفؤاد إلى يوم تشخص فيه الأبصار إلى يوم توضع فيه الموازين القسط ليوم القيامة ولا تظلم نفس شيئاً، هذا الإنسان يرى حينما يقف أمام حدود الله، وحينما يقف أمام محارم الله، يتهيب وتأخذه قشعريره يخشى من فضوح الآخرة، يخشى من اليوم الذي يقال فيه له: ألم يأتك رسولي فأنبأك بالحلال والحرام فلا يملك إلا أن يقول نعم، ألم أمنعك من هذا فإذا حاول الفرار من الاعتراف بجرمه شهد عليه سمعه وبصره ونطق جلده والمكان الذي ارتكب فيه الجريمة؛ فهو يهتز فرقاً وخشية من أن يقارف ما يقارف إن أي نظام لا يضع في حسابه اليوم الآخروما يكون فيه من محاسبة ومناقشة سوف يفشل لأنه يأخذ جانباً واحداً – وأصغر الجوانب على الإطلاق – من الحياة الإنسانية فيعنى بها ويعنى بها على نحو مغلوط ويهمل الجانب الأكبر الذي هو جانب الروح وجانب العقيدة في الله وفي اليوم الآخر والعصام الذي يربط كل حركة الإنسان، فلا يضل ولا يخل بشيء مما طلب منه النظام الأرضي، بما أنه يهمل هذا يفشل والنظام السماوي بما أنه يضع هذا في اعتباره ينجح، ولو أننا جئنا نستنطق الحوادث ونستنطق القرآن لوجدنا مصداق ذلك على نحو يخجل الأفاكين ويخجل المغرضين ويفقأ عيون المتهجمين على هذا الإسلام كنظام شامل ومتوازن، وبذلك تكون آثاره دائماً آثاراً طيبة في المجتمع.
نحن نرى أن الإنسان يُساءُ إليه من قبل زيد فإذا ملك القوة نَكَّلَ بخصمه.
ونسمع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يوماً في مجلس الخلافة ما تتصورون مجلس الخلافة؟ بلاط لا حرس. لا. فناء المسجد ساحة المسجد؛ فدخل عليه رجل عرفه، عرف فيه قاتل أخيه ضرار بن الخطاب رضي الله عنه - قتل في اليمامة في حروب الردة - وعمر شديد الحنو على أخيه شديد الحب له رضي الله عنه، كان في الجيش عبد الله بن عمر فقتل أخو عمر وجاء عبد الله سالماً، لما جاء على أبيه نظر إليه نظرة استغراب قال له: ألا متّ كما مات عمك لماذا جئتني، إلى هذه الدرجة كان رضي الله عنه يحب أخاه، وجاء قاتل الأخ الحبيب ودخل وسلم على أمير المؤمنين، وقال له ألم تقتل ضراراً؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، قال له: والله لا أحبك؛ شنف الرجل أذنيه. قال: ذلك ينقصني شيئاً من حقي عندك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: لا آسى عليه إنما يأسى على الحب النساء.
مسألة الحب والكره لا قيمه لها عند الرجال، المهم أن يطبق قانون العدل هل بغضك لي سيدفعك وأنت الحاكم أن تسخّر قواك من أجل أن تنكل بي وتمنعني حقي؟ قال: لا. قال: إذاً لا بأس. إنما يأسى على الحب النساء.
كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى أين يبلغ التوازن في النفس المسلمة في النفس الإنسانية.
هناك امرأة يقال لها الغامدية، الغامدية هذه أضلها الشيطان فزنت، لما زنت أخذها ما يأخذ الإنسان المعذب إزاء جريمة ارتكبها، فوجدت أن شيئاً في نفسها قد اختل نظامه، وذهب توازنه حياتها أصبحت جحيماً لا يطاق أصبح الموت أحب إليها من الحياة، جاءت عامدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه من المسجديين أصحابه قالت: يا رسول الله، إني زنيت فطهرني.
قال: ويحك لعلك لم تفعلي.
قالت: يا رسول الله والله إني لحبلى من الزنى.
وجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب فأرسل إلى بعض أهلها، وقال له لتكن عندك حتى تضع وليدها، فلما وضعت الوليد جاءت تحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله ها أنا قد وضعت ما في بطني فطهرني.
قال: انصرفي حتى تفطمي وليدك.
فلما فطمته جاءت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم تحمله في حضنها.
أمّ، أمّ يا اخوة. الولد في يده قطع خبز يأكلها قالت: يا نبي الله ها هو قد فطمته وقد أكل الطعام.
فأمر بالطفل فدفع إلى بعض المسلمين وأمر بها فرجمت.
تصوروا هذا الأمر ليست المسألة بسيطة مر عليها زمن الزنى، ثم الحمل من الزنى تسعة أشهر، ثم بعد ذلك فطام الوليد ثلاثون شهراً، مرت خلال هذه المدة كلها لم يخطر في بال هذه المرأة أن تتراجع عما اعترفت به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تهتم بسمعتها ولم تهتم بما سيقوله الناس عن قومها.. وحسُّ الشرف تعرفونه عند القبائل، ولم تهتم بهذه الحياة التي سوف تفقدها.. تعرف جزاء الزانية تعرف تماماً ولم تهتم بالوليد ثمرة فؤادها، ثمرة أحشائها، قطعة منها، لم تهتم بذلك كله فعرَّضتْ نفسها للموت.
حينما رُجِمَت كان ممن رجمها خالد بن الوليد رضي الله عنه وحين بدأت عملية الرجم طار شيء من دمها على خالد فشتمها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا خالد. والله لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم.
هذه واقعة في التاريخ الإسلامي لها مثيل هي واقعة ماعز بن مالك الذي زنى وحاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده عن اعترافه فأصرَّ عليه وسأل قومه عن عقله، فقالوا هو كامل العقل ورجم أيضاً ومات.
حوادث تنظرون إليها ربما يقرؤها القارئ فلا يزيد على أن يقلب كفيه عجباً تقع الحادثة من نفسه موقعاً لكنك في التحليل الدقيق، تجد أن الإنسان لا يخترق كل هذه الأسوار، أسوار الحياة أسوار فَقْدِ الأصدقاء، أسوار المنافع، أسوار الشرف، أسوار السمعة لا يمكن أن يخترق كل هذه الأسوار من أجل لا شيء أبداً. لا بد أن الحياة الإنسانية أصبحت غير صالحة وغير قابلة للاستمرار، فالإنسان الذي يقدم نفسه للموت يشعر فعلاً أن الحياة فقدت عنده كل معناها لا يمكن للحياة أن تفقد معناها حقاً إلا إذا اختل توازنها وأصبحت بلا جدوى التوازن الذي حققه الإسلام بأي شيء يجعل النظام شاملاً لجناحي الحياة الإنسانية جناح الحياة الدنيا وجناح الحياة الآخرة التوازن أثمر الأمة المحمدية التي شهد الله لها بالخيرية:
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً).
هذه الأمة لم تصل إلى هذه المرحلة الباسقة التي استحقت بها ومن أجلها شهادة جبار السموات والأرض لا بالمنى ولا بالكلام الفارغ ولا بالتصفيق للزعماء ولا بالجري خلف المبادئ الوافدة الهزيلة؛ وإنما بالمعاناة بالجهد بالعمل المستمر بالوقوف وأَطْرِ النفس على أن تقف أبداً مع الله تبارك وتعالى حتى استقامت لها حركتها تجد الإنسان المسلم تتمثل فيه أعلى قيم الحياة الإنسان تجد الإنسان المسلم تتمثل فيه أعلى خطرات الملائكة تجد الشعب المسلم تتمثل فيه كل القيم العالية في الدنيا بلا تكلف بلا تعمد بلا افتعال لماذا؟ لأن هذا الإنسان درب نفسه بحيث شذب نوازعه وأقام نفسه - أرادت أم لم ترد - على ميزان الله وعلى صراط الله تبارك وتعالى، فالإنسان لا بد له في عرف الإسلام، من أن يبذل مجهوداً خارقاً من أجل أن يقيم نفسه أقول هذا وأنا أعلم وكلكم يعلم، وهذه الدنيا مستشفى كبير تعيش فيه زمرة من المجانين أعلم أن حركات قامت وتقوم في هذه الدنيا لا تكلف أتباعها أكثر من التصفيق ولا تكلف أتباعها أكثر من ترديد الشعارات واسرقْ واشربْ وازنِ ودمّرْ ولا عليك أنت من السلالة المختارة أنت من الرواد لا عليك افعل ما شئت، هذا الإنسان المتفلت من كل القيود لن يعمر دنيا - يا إخوة - هذا الإنسان المتفلت من كل قيمه لن يضيف إلى هذه الدنيا أي خير.
الإسلام لا يدغدغ العواطف ولا يستثير الرغبات ولا يداعب الشهوات الإسلام يقول لك: أنت تسير على الشوك، أنت في صراع منذ أن تعقل وإلى أن تموت بل أنت كلما وقفت مع الله بالصدق تكالب عليك الشيطان وسخر كل قواه من أجل أن ينحرف بك عن مرضاة الله تبارك وتعالى؛ فلا بد لهذا الإنسان المسلم من تدريب نفسه على رعاية أوامر الله تبارك وتعالى لا بد له من أن يعرف أنه منقلب إلى يوم يوقف فيه بين يدي الديان العدل الله جل وعلا ليسأل عما قدمت يداه، وهذا اليوم ليس أكذوبة من الأكاذيب ولكنه حقيقة ضخمة من حقائق هذا الوجود بل هي أضخم الحقائق على الإطلاق إن هذه الدنيا لا شيء والله تعالى يقول: (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) الحياة الحقة ليست هنا مجرد اختبار وهنا مجرد ابتلاء والحياة الحقة في الدار الآخرة إما نعيم أبداً وإما شقاء أبداً، من هنا كانت عناية الإسلام بالغة جداً بتجسيم اليوم الآخر، وما يقتضيه اليوم الآخر لكي يربي في نفوس المسلمين هذا الوازع الذي يزعهم للوقوف عند حدود الحقيقة الإلهية ولكي يربي في المسلمين هذا السائق الذي يسوقهم إلى رضوان الله تبارك وتعالى، ولكي يشد أبصارهم وبصائرهم إلى الله جل وعلا فإذا نطق فالله جل وعلا حاضر في قلبه وإذا سكت فالله جل وعلا حاضر في قلبه وإذا فعل وإذا ترك فالله جل وعلا حاضر - غير غائب - ذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" هذا التمهيد أيها الأحباب لا بد منه لكي نقع على مبررات العناية الفائقة باليوم الآخر أما أساليب الإقناع بهذا اليوم، أما المبررات التي قدمها الإسلام أخلاقية أو عملية أو تشريعية فكل ذلك سيأتي في حينه إن شاء الله تبارك وتعالى وأرجو أن نبدأ من الجمعة القادمة في النظر في السورة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.