تقديم لدراسة الـ (51) سورة المكية
تقديم لدراسة الـ (51) سورة المكية
الحلقة (25) الجمعة 6 رجب 1396هـ - 2 تموز 1976م
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
فلقد كان الوعد أن نبدأ اليوم بدراسة أوليات الوحي على نحو جديد، ولا بد أنكم تنتظرون هذه الدراسة، ولكن الأمور بيد الله -ومما له دلالته البالغة- أن يكل الإنسان ما هو من شأن المستقبل إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الإنسان لا يدري فقد يبدو له بداء وقد تتغير وجهات نظره، وكل ما هو لازم أن يبقى الإنسان أميناً على قناعاته الفكرية؛ نقول هذا ونحن نحمد الله تعالى على أن هذه القناعات لم تتغير، ولم يطرأ عليها أي تعديل؛ ولكن أسلوب الدراسة فيما يبدو كما وعدناكم به من قبل قاصر وغير كاف بأداء الشيء الذي نريد أن نؤديه إليكم وإلى الناس.
خلال الأسبوع الماضي كنت أراجع بعض حوادث السيرة النبوية وعلى الأخص بواكيرها الوقائع الأولى، وكنت أستهدف من ذلك أن أستعين بهذه الوقائع بملء بعض الفراغات التي قد تلحظ مجزوءة ومختصرة في آيات الكتاب الكريم التي ندرسها، ويشاء ربك أن نسترسل في تقليب هذه الوقائع ومع أني كنت أعرف تماماً أن دراسة السيرة النبوية؛ تثير مشكلات ضخمة مشكلات في الأسلوب وطريقة المعالجة، ومشكلات في النتائج والأحكام التي ربما يصل إليها الدارس، ونبهت إلى هذا قبل اليوم ومن هذه المشكلات؛ مواضيع ذات حساسية خاصة؛ كموضوع تحديد السرية في الدعوة أو عدمها، وإن وجدت فتحديد المدى أيضاً. أنا حريص على أن لا أثير منها شيئاً في المراحل الأولى من الدراسة ولكني عموماً لا أملك أن أقفز من فوقها قفزاً؛ لا بد من الإشارة إليها أما دراستها وتقويمها والحكم لها أو عليها؛ فتلك أمور أرجو إن شاء الله تعالى أن أتعرض لها بعد الفراغ من عملية المسح الكاملة لبواكير الدعوة، مع أن هذا كان وارداً في ذهني تماماً لم يغب عني لحظة واحدة، ومع خطر ماثل، وهو أن بعض الناس لا تستوعب عقولهم الأشياء الجديدة فهم أشبه بالذين يجدون أنفسهم مشدودين بحبال لا تنقطع إلى مألوفاتهم، كأولئك الذين (قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) ومع أنني أيضاً أعلم أن ثمة خطراً آخر وهو أن من الناس من يذهب به التعجل وضيق الصدر وعدم القدرة على الصبر، إلى الحد الذي لا ينتظر معه فراغك من أداء الفكرة؛ فهو يتصيد أطرافاً ليبني عليها قصوراً يتخيلها ويتوهمها ويتخذ منها ذريعة لمهاجمتك وتشويه تفكيرك؛ ومن أسف أننا لا نملك شيئاً إزاء ظواهر من هذا النوع فليس لنا أبداً أن نصب الناس في القالب الذي نختار؛ فربك يخلق ما يشاء ويختار، مع كل هذا فلا بد لنا من أن نمضي على ما في الطريق من أشواك، وعلى ما فيه من عقبات، وعلى ما –ربما- أثار من بعض الزوابع التي لن نرد عليها ولن نأبه بها ولن نقيم لها وزناً؛ حتى نفرغ مما نحن فيه فإذا استقامت الفكرة واستبانت معالم النظرية التي نأخذ بها وندعو إليها ونحاول استنتاجها الآن نظرية العمل الإسلامي، فحين ذاك ليكن واضحاً للولي والعدو وللقريب والبعيد أنني لن أسمح بحال من الأحوال، لأي إنسان مهما تبلغ منزلته عندي أو عند الناس؛ أن يتعرض لآرائنا بالتشويه والتشويش.
حين ذهبنا ندرس بعض الوقائع صادفنا الخلاف العريض؛ في بدء عملية الدعوة الإسلامية -وهي مرحلة كما قلت لا يمكن القفز من فوقها- فكما تعلمون وكما شرحنا لكم من قبل بعد أن قابل النبي صلى الله عليه وسلم ملك الوحي جبريل عليه السلام في غار حراء لأول مرة، وتلقى منه أوائل التنزيل وكلف النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الناس، هذا هو المعروف لكنك حين تقلب وقائع السيرة تجد أنك أمام روايات تتناقض وتذهب في تناقضها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ فالمقطوع به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استمع من جبريل عليه السلام إلى أول الوحي، فتر عنه الوحي؛ وفترة الوحي هذه؛ شأنها شأن معظم مرويات السيرة، يختلف الرواة في شأنها بين مطيل ومقصر، منهم من يقول إنها كانت ثلاثة أيام وهم المقلون، ومنهم من يقول إنها كانت ثلاث سنوات، وهم المبعدون؛ وبين ثلاثة أيام وثلاث سنوات مسافة زمنية طويلة، ومن الناس من يحاول تقليل المدة فيذهب السهيلي في الروض الأنف) إلى أن فترة الوحي كانت سنتين ونصف السنة، ويذهب بعضهم إلى أنها كانت أقل من ذلك كانت خمسة أشهر، وشيئاً أقل من ستة أشهر، وبعضهم يقول إنها كانت خمسة عشر يوماً، هذا التضارب في المرويات أوجد اتجاهاً في السيرة النبوية اتجاهاً يفصل بين مرحلتين؛ كأنما أخذوا بالقول الذي يقول؛ إن فترة الوحي دامت ثلاث سنين، فهم يقولون إن الرسالة كانت بصورة أساسية تنقسم إلى فترتين؛ فترة نبوة وفترة رسالة، والفارق أن فترة النبوة بلاغ لذات النبي فقط، أي أن النبي غير مكلف بأن يبلغ الناس هذا الذي جاءه من عند الله تبارك وتعالى؛ لكن فترة الرسالة فترة تحمل وتكليف وبلاغ إلى الناس والذين ذهبوا إلى هذا المذهب قالوا إن رسول الله صلوات الله عليه قرن بنبوته أولاً إسرافيل عليه السلام؛ فكان يعلمه الكلمة ونحوها، ثم قرن برسالته جبريل عليه السلام وواضح أن هذا شيء لا يمكن قبوله لأنه يصطدم مع جملة الحقائق المعروفة عقلاً من معطيات الرسالة هذا أولاً؛ ولأن هذه الرواية يرويها الشعبي وهو من التابعين دون أن يسندها إلى أحد من الصحابة رضوان الله عليهم فهي رواية ضعيفة، فإذا اجتمع ضعف الرواية مع تصادمها بجملة الحقائق المعروفة من السيرة فقد أصبحنا في حل من رفضها.
ونحن نقرأ في البخاري عن فترة الوحي أن رسول الله صلى الله عليه كان يتحدث عن هذه الفترة فيقول؛ فتر الوحي ولم أعد أرى جبريل عليه السلام فضاقت نفسي فكنت أذهب لأتردى من شواهق الجبال أي ليلقي نفسه من رأس الجبل ليتخلص من هذه الأزمة النفسية الطاحنة التي تعرض لها بعد أن شم روائح الوحي واتصل بالملأ الأعلى ثم قطع عنه، فلا أكاد أفعل ذلك، يعني لا يكاد يهم بأن يلقي بنفسه من الجبل؛ حتى يتبدى لي جبريل عليه السلام فيقول يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله فهذه الكلمة، كلمة رسول الله؛ قاطعة الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن نبياً في فترة من الفترات، أي لم يكن مكلفاً بأن يأخذ حقائق التنزيل ليقيم بها أود نفسه فقط؛ وإنما هو من البداية كان رسولاً إلى الناس فنحن إذاً في حل من أن نرفض فكرة البداية بفترة النبوة، لا تكليف معها بالبلاغ وبالبشارة وبالإنذار، هذا واحد.
الشيء الثاني؛ أننا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما شرحت لكم ذلك من قبل؛ حين عاد من غار حراء بعد أن قابله ملك الوحي جبريل عليه السلام جاء بأوائل سورة العلق إلى زوجه الوفية خديجة رضي الله عنها يرجف بها فؤاده، كان مرتعباً من هذه التجربة الغريبة عن بني البشر فأخذه من الروع ما يأخذ الإنسان، حين يقابل شيئاً جديداً عليه كل الجدة، لكن خديجة رضوان الله عليها وهي اللبيبة الحصيفة والعاقلة الشريفة -بعد أن ثبتتْه وطمأنته إلى أن الله لن يخزيه، وأن الله لن يسلط عليه الشيطان؛ فيبتليه بالوساوس والتخاليط أخذت بيده وذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان من المتحنثين في الجاهلية الذين يطلبون دين إبراهيم عليه السلام ثم تنصر وقرأ الإنجيل والعهد القديم وكان يكتب الكتاب الأول بالعبرانية، فهو رجل له اطلاع على جوهر النبوات السابقة؛ فلما قص عليه الخبر وطمأنه ورقة عاد إلى بيته.
ضعوا أنفسكم في ذلك الجو البعيد، جو قلة البلد الصغير الجو العربي السهل البسيط، الجو المفتوح بعضه على بعض لتروا أن من المعقول جداً أن حادثة غريبة وعجيبة وضخمة من هذا النوع، لا يمكن أن تبقى طي الكتمان.
هذا واحد والشيء الثاني؛ أننا نعلم قطعاً أن خديجة رضي الله عنها ما لبثت أن آمنت بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانت تعرف زوجها الصادق الأمين الوفي العفيف الشريف، وتعرف أنه لا يمكن أن يكذب على الناس بله أن يكذب على الله تعالى؛ فما لبثت إذ سمعته يحدث عن لقائه بملك الوحي وعن تحمله للرسالة؛ أن آمنت به وصدقته وآزرته وكاتفته على أمر الله تعالى؛ فلو كانت المسألة مسألة نبوة لما كان للنبي عليه الصلاة والسلام أن يأذن لزوجه بأن تؤمن به، لأن الأمر لا يتعلق بها بل يتعلق به بالذات؛ فلهذا أيضاً يمكن لنا بكل ثقة أن نرفض فكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ حياته في الدعوة نبياً ولم يبدأها رسولاً هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإيمان خديجة رضي الله عنها ليس حادثاً عادياً فخديجة في الجاهلية قبل الإسلام وقبل أن يبني بها محمد صلى الله عليه وسلم؛ امرأة معروفة بأنها عاقلة حازمة شريفة برزة يعني أنها كانت تقابل الرجال على المعهود من شريفات النساء في عرب الجاهلية، حتى إن منهن من كن يجلسن في المنتديات العامة يمارسن الشئون العامة ويمارسن التجارة وما أشبه ذلك، فخديجة من الصنف الذي كان يستأجر الرجال ويرسله في قوافلها التي تغدو وتروح بين مكة والشام فهي لم تكن امرأة مجهولة، والحادث الذي تتعرض له ليس مما يخفى فليس معقولاً أبداً أن تذهب خديجة فتكشف لورقة ابن نوفل أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم تؤمن به هي، ثم يبقى هذا الأمر مكتوماً؛ فنحن كما نرفض أن تكون بداية الدعوة بداية نبوة يمكن أن نرفض أن تكون بداية الدعوة بداية سرية، اذكروا أنني هنا أعرض المشكلة لكي أصور لكم المشكلات التي يتعرض لها دارس السيرة، ومدى الصبر الذي يجب أن يتذرع به الإنسان حين يتصدى لعمل من هذا النوع؛ فكيف سارت الدعوة بعد ذلك سارت الدعوة طبعاً من بيت النبوة وهكذا طبائع الأمور تقتضي هذا الشيء فالنبي عليه الصلاة والسلام من الذي سيؤمن به، أولى أن يؤمن به أهل بيته من كان في بيت محمد صلى الله عليه وسلم.
سنعود إلى الجاهلية قليلاً لكي أحاول الكشف عن بعض الأمور؛ في الجاهلية كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم امرأ شريفاً مطاعاً في قومه، وإذا قلت إنه كان سيد البطحاء لم أكن مبالغاً أبداً، فالمركز الاجتماعي والديني الذي كان يتمتع به أبو طالب لم يكن أحد من زعماء قريش يبلغه أو يساويه فيه، ومع هذا فأبو طالب كان قليل المال فقيراً وأصابت قريشاً في تلك المدة أزمة أمحلت السماء وأجدبت الأرض وجهد الناس جهداً شديداً؛ فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه العباس رضي الله عنه، وكان العباس امرأ تاجراً ومن أغنى رجالات قريش، وقال له يا عم إن الناس قد أصابهم من الجهد ما ترى وإن أخاك أبا طالب في قلة من المال فهل نساعده لآخذ أنا واحداً من بنيه ولتأخذ أنت واحداً من بنيه نخفف عنه من عياله حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه قال أفعل؛ ومضى الرجلان حتى جاءا أبا طالب فذكرا له ذلك فقال إن تركتما لي عقيلاً فافعلا ما بدا لكما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فضمه إلى عياله، وأخذ العباس رضي الله عنه جعفراً فضمه إلى عياله.
نشأ علي في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من عياله ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين يبادر بعملية مساعدة كهذه لا يعني أنه كان كثير المال موفور الثراء؛ فجملة ما تركه له أبوه عبد الله إذ توفي من الميراث؛ أربعة أبعرة وجارية، هذا كل ميراث النبي صلى الله عليه وسلم من أبيه؛ لكنه بعد أن تزوج خديجة رضي الله عنها اطمأنت أوضاعه المالية بعض الشيء، وحين جاءت الدعوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علي رضي الله عنه في التاسعة من عمره؛ أو في العاشرة من عمره كان في سن التمييز لم يكن قد بلغ مبلغ الرجال بعد؛ فلما نبئ النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت خديجة رضي الله عنها عرض النبي صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه؛ وعلي كما قلنا صبي مميز يعني يفرق بين الخير والشر، وبين الحق والباطل.
صبيان مكة وصبيان الجزيرة العربية وأبناء البادية من الذين حافظوا على سلامة الفطرة ليسوا كصبيان هذه الأيام الذين ابتلوا بالبلادة وضعف الأحاسيس؛ صبي ذلك الزمان في سن علي رضي الله عنه يدرك من حقائق الدنيا ما لا يدركه كثير من الرجال الذين جلل الشيب رؤوسهم مع الأسف؛ عرض النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة على علي فقال له:
"يا محمد هذا أمر ما كنت لأفتات به على أبي طالب" يعني لا بد من أن يستشير أباه في الأمر.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا كنت تريد هذا فشأنك ولكن اكتم عليَّ هذا الذي قتله لك".
لكن علياً جاء في اليوم الثاني فقال له:
"ماذا عرضت علي بالأمس يا محمد؟
قال له: أن تعبد الله وحده وأن تهجر اللات والعزى وسائر ما يعبد من دون الله.
قال: فإني أشهد أنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقاً.
قال: هل استشرت أباك؟
قال: لا أرى ما يدعو إلى استشارة أبي.
ومضت أيام ليست بالكثيرة يومان أو ثلاثة وعين أبي طالب تلاحظ محمداً صلى الله عليه وسلم وتلاحظ ابنه علياً رضي الله عنه تلاحظ هذا الشيء لأنه علم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبئ من قبل الله ولأنه علم بمضمون كلام ورقة وتنبُّؤ ورقة بأن قومه سيؤذونه وسيخرجونه، فستأخذه إذاً عاطفة الشفقة على ابن أخيه هذا الشاب الذي أينع الآن وسوف تذهب الذكريات بأبي طالب إلى تلك الأيام الخوالي التي كان فيها أخوه عبد الله والد محمد صلى الله عليه وسلم شاباً يافعاً تبتسم الحياة في وجهه، وعلى معهود العرب فيما بينها يسارع الأولياء بتزويج الشباب يرجون الولد والعقب ودوام الذكر، ثم يزوج عبد الله من آمنة ثم يموت الأخ الشاب الذي كان في عمر الزهور، ومحمد صلى الله عليه وسلم جنين في بطن أمه، فلا يكاد يخرج إلى الدنيا حتى يكون قرة عين الجد عبد المطلب وقرة عين الأعمام جميعاً وينشأ محاطاً بالرعاية، محاطاً بالحب يحاول كل واحد من ذويه أن يرد عنه السوء لو استطاع بنفسه؛ فأبو طالب عينه على محمد صلى الله عليه وسلم يخشى أن يصيبه المشركون بأذى، وعينه على ولده علي يخشى أن يجر الأذى إليه أيضاً فما لبث أن اكتشف أبو طالب منظراً جديداً رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعْب من الشِّعاب يصلي وإلى جانبه علي يصلي بصلاته، واذكروا أن الصلاة كانت مفروضة في بواكير الدعوة قال له:
"يا محمد ما هذا الذي أراك تصن؟"
قال: يا عم هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم أمرني الله تعالى به وأن أبلغه إلى الناس، وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة.
قال يا بن أخي ما أقبلني لما تقول، ولكنَّ نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب، ولكن والله لا يخلص إليك شيء تكرهه طالما أنا حي.
فهذا عليُّ إذاً أسلم أيضاً، من بقي في بيت النبوة؟ بقي في بيت النبوة عبدٌ. حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها كان عندها عبد، هو زيد بن حارثة، فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ما قصة هذا العبد؟ هذا العبد في الحقيقة؟ رجل عربي صميم من قبيلة كلب، عدا عليه لصوص الصحراء في الجاهلية، وكان عمره يوم ذاك ثماني سنوات فجاءوا به حتى أقدموه مكة فباعوه وصار إلى خديجة رضي الله عنها، فلما تزوجها رسول الله صلوات الله عليه وهبته له، هذا الإنسان معروف النسب أحس أبوه بفقد ولده فذهب والهاً حزيناً متألماً يجوب أطراف الجزيرة العربية يفتش عن ولده وثمرة فؤاده، وما زالت الأماكن تتقاذفه وما زالت القبائل تسلمه بعضها إلى بعض، حتى انتهى به المطاف إلى مكة إذ قيل له إن ابنه هنا فجاء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه وعرفه ابنه أيضاً. الوالد عرف الولد والولد عرف الوالد؛ فقال له:
"يا محمد هذا ابني".
قال: نعم.
قال: وإنني أريد أن آخذه.
قال له: ل، حتى أخيِّره -انتبهوا إلى العدل- حتى أخيّره إن اختارك فهو لك دوني، وإن اختار البقاء عندي فهو لي.
قال له: أنصفت.
فجاءوا بالولد زيد بن حارثة وقد بلغ مبلغ الرجال فعرض عليه أبوه أن يعود إلى أهله وإلى قبيلته فرفض الولد قال:
"لا إنني رأيت من هذا الرجل شيئاً فأنا لست مفارقه أبداً".
إلى هذه الدرجة يبلغ الحب والتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل غريب لا رابطة تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه تعلق به لما رأى من كرم العنصر وطيب الأخلاق وسمو السجايا؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله زيد قام فأخذ بيد زيد وذهب إلى مجالس قريش وقد كانوا يجلسون حلقاً حلقاً حول الكعبة فطاف به على حلقات قريش يقول لهم:
"يا معشر قريش؛ اشهدوا أنَّ زيداً ابني أرثه ويرثني".
وتلك كانت عادة معروفة في الجاهلية، وهي عادة التبني فلما رأى أبوه هذا الشيء طابت نفسه، وقرت عينه وترك ابنه عند رسول الله ومضى منقلباً إلى قبيلته بني كلب؛ وظل الناس يعرفون زيداً بأنه زيد بن محمد واستمر الأمر كذلك طيلة المرحلة المكية وجانباً لا يستهان به من المرحلة المدنية؛ حتى نزل في المدينة قول الله تبارك اسمه:
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين).
ثم خاطب المؤمنين:
(أدعوهم لآبائهم) فصار يسمى زيد بن حارثة بعد أن كان يسمى زيد بن محمد. زيد هذا كان من جملة عيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك يحدثنا يحيى بن عفيف قال:
"كنت زمن الجاهلية أتردد على العباس بن عبد المطلب وكان صديقاً -لي تربط بين الرجلين روابط التجارة- قال فكنت عنده يوماً فرميت ببصري فإذا أنا بشاب يافع أقبل حتى كان بجوار الكعبة، فرمى ببصره إلى السماء وذلك في الصباح، فاستقبل الكعبة وأخذ يصلي قال فلم يمض غير يسير؛ حتى جاء غلام فوقف إلى يمينه ثم جاءت امرأة فوقفت خلف الغلام، فقلت: يا عباس ما هذا الذي أرى؟ قال؛ أما هذا الذي رأيته أولاً فابن أخي محمد بن عبد الله وأما الغلام الذي إلى يمينه فعلي ابن أبي طالب، وأما المرأة فزوجه خديجة يزعم أن الله أرسله والله لا أعلم على ظهر الأرض من هو على هذا الدين غير هؤلاء.
فالرواية التي وردت عن يحيى بن عفيف تشير أن هؤلاء أول الناس إسلاماً؛ وذلك أمر معقول فالمعقول أن تتحرك الدعوة في بيت النبوة أولاً ولكن هل المعقول أن تستمر الفترة طويلاً لكي تخرق هذا الحاجز، حاجز البيت وتنطلق إلى الناس؟
سوف نأخذ رواية أخرى نقولها ونحن نردُّها فقد ذكر أن علياً رضي الله عنه كان يقول والله؛ إني لأول خلق الله إسلاماً.. ما يردّ هذا علي إلا كاذب، لقد صليت قبل الناس سبع سنين، لاحظتم مؤدى هذه الرواية، أول الخلق إسلاماً؛ ونحن نقطع أن خديجة أسلمت قبله، فخديجة أسلمت لأول بديهة من بديهات الوحي حين أخذته إلى ورقة وهو في حالة الروع آمنت به وصدقته وشدت من عزيمته وثبتته، ثم صليت قبل الناس سبع سنين –كلام علي رضي الله عنه- لا يمكن أن يكون هذا؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث على رأس أربعين سنة من عام الفيل، فإذا أضفنا إليها سبع سنين هذه التي تنسب إلى علي ولا تصح يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبدأ الدعوة إلا حين كان في السابعة والأربعين، ونحن نعلم يقيناً أن حادثة الإسراء والمعراج كانت في السنة الخامسة من المبعث، وأن الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت في السنة السادسة من المبعث، فإذاً وفقاً لهذه الرواية فعلي رضي الله عنه صلى قبل الناس سبع سنين ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس إلا الإسلام غلا بعد أن هاجر المسلمون بسنة هذا كلام لا يستقيم ولكن أذكر لكم هذه الرواية وأشباهها لتروا أي حرج يتعرض له دارس السيرة لأن ثمة مشكلات ناشئة عن طبيعة جمع الروايات عند مؤرخينا القدماء رضي الله عنه ورحمهم وسامحهم، كما أوقعونا في مشكلات من هذا النوع ثم نمضي مع الروايات بعض الشيء فنجد أن ثمة كلاماً ينسب إلى ابن إسحق يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ يدعو إلى الله سراً؛ كلمة بدأ يدعو إلى الله سراً؛ ليست آية في كتاب، وليست نص حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هي كلام من كلام ابن إسحق رحمه الله تعالى؛ ابن إسحق كما ذكرت لكم قبل اليوم هو راوي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم متى كتب ابن إسحق سيرته؟ في سنة مئة وخمسين للهجرة في منتصف القرن الثاني؛ وظلت رواية تتناقلها الشفاه حتى جاء ابن هشام في منتصف القرن الثالث للهجرة فدَّون السيرة المعروفة عندنا اليوم مائتان وخمسون سنة تمر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ تدوين السيرة؛ لا بد أن يدخل الروايات شيء كثير مما يعقد مهمة دارس السيرة ويزيدها صعوبة إلى الصعوبات التي تركها عليه الأوائل؛ فكلام ابن إسحق رأي ليس رواية، يقول:
إن رسول الله دعا إلى الله سراً لنقل نعم. فماذا يكون؟ يكون أننا أمام روايات قاطعة أن هذه السرية التي يدعونها شيء ليس على النحو الذي نتصوره من الإخفاء المطلق، وتكوين الخلايا وقبر العمل في الأقبية وبين الجدران هناك شيء يتعلق بالضرورات العملية من الناس الذين أسلموا عبيد وهؤلاء العبيد بحكم الرق المضروب عليهم مضطرون إلى أن يظلوا عند ساداتهم ومضطرون إلى أن يخفوا أمرهم لا سيما وأن المسلمين الذين اكشف أمرهم كانوا يتعرضون إلى عذاب شديد وإلى أهوال رهيبة فالذين أسلموا من هذا الصنف من الناس ومن ضعفة الناس كانوا مضطرين لضرورات عملية؛ لا لشيء متعلق بصلب منهج الدعوة إلى أن يخفوا أمرهم حتى يجعل الله لهم فرجاً مما هم فيه، وأما الناس الآخرون فما هي السرية التي كانت تطلق عليهم؟ الروايات تقطع بأن هذه السرية كانت تتعلق بإقامة العبادة فقط انتبهوا إقامة العبادة، المشركون كانوا لا يسمحون لأحد من المسلمين بأن يجاهر بالصلاة على النحو الذي جاء في الإسلام، وكانوا يكافحون هذا أشد المكافحة لماذا لأن الصلاة ليست مرفوضة من حيث هي قيام وقعود وركوع وسجود ولكنها مرفوضة عند المشركين من حيث هي قراءة من حيث أن المسلمين كانوا يقرؤون فيها ما يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن وأخشى ما تخشاه قريش أن يسمع الناس هذا القرآن.
(وقال لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون).
فلقد كانوا يكافحون بشدة إذاعة هذا القرآن على الملأ ولقد تعلمون أن أبا بكر رضي الله عنه حين أراد أن يهاجر بعدما مسه من عذاب وبعد أن ضاقت عليه الدنيا بما رحبت وأجاره ابن الدغنّة سيد الأحابيش وأعاده إلى مكة كان من جملة الشرائط التي اشترطها المشركون أن لا يصلي أبو بكر رضي الله عنه على باب داره لأنه إذا صلى اجتمعت عليه النساء والصبيان فافتتنوا بصلاته وافتتنوا بقراءته؛ لأنه كان رجلاً رقيقاً بكّاء إذا قرأ القرآن لم يملك عينيه فبكى وفتن الناس فالعبادة إذاً كانت مطاردة مرفوضة لأن المشركين كانوا يحذرون على ضعفتهم وعلى نسائهم وعلى صبيانهم أن يتأثروا بهذا الكلام الذي يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فالعبادة إذاً هي التي كانت مطاردة؛ وعلى ضوء هذا نستطيع أن نفسر ما جاء من روايات صحيحة من أن المسلمين كانوا إذا أرادوا العبادة أبعدوا وذهبوا في الشعاب، ومن هذا القبيل الرواية التي تروي أن سعداً بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يوماً يصلي مع نفر من أصحابه في شعب من شعاب مكة؛ فظهر عليه بعض المشركين فتقاولوا وحصل بينهم عراك وحمل سعد لحى جمل واللحى هو عظم الفك فضرب به أحد المشركين فشجه فكان ذلك أو دم أريق في سبيل الله تبارك وتعالى؛ فإذاً قريش كانت تكافح ظاهرة العبادة لماذا لأن ظاهرة العبادة تحوي القرآن والقرآن هو الشيء الذي كانت تكافحه قريش وكانت تتواصى بأن لا تسمعه وبأن لا تأذن لأحد بأن يسمعه بحال؛ وكانت تتلقى الركبان الذين يفدون في المواسم إلى مكة فتحذرهم من الدنو من محمد صلى الله عليه وسلم، ومن استماع ما يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم، زاعمة أن هذا الذي يتلوه سِحْرٌ يفرق بين الولد وأبيه وبين المرأة وزوجها وبين القريب وقريبه هذا شيء يجب أن يتضح.
الشيء الثاني الذي يجب أن يتضح أن كل المسلمين يمكن أن يكونوا خضعوا فترة ما لعملية مطاردة أثناء العبادة لكن شخصين لن يكونا كذلك وهذا الذي أقوله له دلالته الخاصة التي يجب أن لا تغيب عن ذهن مهتم بشؤون المسلمين راغب في أن يقيم العمل الإسلامي على قاعدته الصحيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المسلمين ورأس الدعوة لم يكن ينطبق عليه هذا، أبو بكر رضي الله عنه وزيره وصاحبه لم يكن ينطبق عليه هذا كل المسلمين مروا بفترات كانوا يستخفون فيها بالعبادة إلا رسول الله وإلا أبا بكر رضي الله عنه فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يأتي فيصلي في الكعبة لا مستخفياً ولا خائفاً؛ وإنما هو مجاهر وكان يصلي فإذا فرغ من صلاته ذهب يجول على منتديات قريش، وأماكن اجتماعهم فيدعوهم إلى الله تبارك وتعالى؛ لماذا إن نحن أخفينا رأس الدعوة وقائد الدعوة والذي تتمثل فيه سجايا الدعوة وأخلاقيات الدعوة وصورتها المثلى فما الذي نستطيع أن نفعله؛ هذه الدعوة التي هي الإسلام دعوة تعتمد على القيادة المثلى فما الذي تستطيع أن تفعله هذه الدعوة التي هي الإسلام دعوة تعتمد على القيادة إلى حد بعيد لأنها تعتمد ببساطة على القدوة والقيادة طبعاً لا يترشح لها إلا الذين تمرسوا بأساليب النضال في سبيل الله وتمرسوا بما ينبغي أن يتمرس به الداعي إلى الله من خلائق الصبر، وتعودوا على سعة الصدر وتحمل الأذى والإعراض عن الجاهلين، فحين يكون قائد الدعوة ورأس الدعوة بهذه المثابة من السجايا والمزايا فشخصه الكريم وحده جيش كامل يقاتل في سبيل الله تبارك وتعالى إن صبره في الميدان وإن تحرقه في الساحة ليجذب إليه من الاهتمام ما لا يجذب إليه مئات الألوف من المحاضرات ومن المنتديات ومن الخلايا ومن الاجتماعات.
وهذه واقعة أذكرها لأنها ذات دلالة بالغة فقائد الدعوة يجب أن يقود الناس تحت وضح الشمس ومتى اختفى فقد حقه في الامتياز وكذلك أبو بكر رضي الله عنه أبو بكر لا بهذا السبب ولكن بسبب أنا ذاكره الآن أبو بكر حين أسلم وأسلم قديماً ولعله أول الناس إسلاماً بعد خديجة رضي الله عنها، ولا نريد أن نخوض في ترتيب الأوليات بينه وبين خديجة وبين علي وبين زيد بن حارثه فهذا شيء لا ينفع وعلماؤنا القدامى جلوا هذا الإشكال بأن قالوا أول الناس إسلاماً من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثه وحلت المشكلة وخرج نظري طبعاً؛ لكن لا نملك إلا أن نقول هذا القول منذ ذلك التاريخ وأبو بكر رضي الله عنه يرفض بإصرار أن يستخفي بعبادته، كان يذهب إلى الكعبة فيصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوم فيخطب داعياً إلى الإسلام في جماهير قريش الكافرين؛ فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى في الإسلام.
خذ مثلاً آخر حين أسلم حمزة رضي الله عنه فحمزة دخل دار الأرقم بن أبي الأرقم ولم يكن إسلامه مكتوماً؛ جاء فشج رأس أبي جهل، وقال له أتشتمه؟ يعني أتشتم محمداً، وأنا على دينه؟ ثم شهد شهادة الحق، وانصرف بعد أن عُرف أن حمزة قد أصبح مسلماً ولم يعد من المشركين؛ لا مجال لتمييع الموقف ولا مجال للف والدوران مسلم وكفى؛ لكنه ذهب ليقعد مع المسلمين في دار الأرقم بن أبي الأرقم ويكملهم أربعين رجلاً -طبعاً عدا النساء وعدا الصبيان الذين لا يستطيعون الحضور- ولكن عمر رضي الله عنه حين كمل الأربعين وأسلم وتداركته رحمة الله وهذا شيء سوف نفصله ونذكره في المستقبل بعد أن شهد شهادة الحق وأسلم لله رب العالمين وصَدَّق بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ قال: يا رسول الله والله لنخرجنّ حتى نصلي عند الكعبة، وبالفعل خرج المسلمون في صفين في الأول منهما عمر وفي الثاني منهما الحمزة رضي الله عنهما؛ وخرج المسلمون من دار الأرقم بن أبي الأرقم حتى إذا جاءوا إلى الكعبة صلوا، هل يكتفي مثل عمر بأن ينتهي الأمر معه عند حدود الصلاة؟ لا. عمر حين أسلم أقسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لن يدع مجلساً أذى فيه رسول الله وآذى فيه أحداً من المسلمين إلا آذى فيه المشركين؛ بعد أن فرغ من صلاته ذهب يتحرش بالقوم وهو القوي الشديد؛ فابتدر إليه المشركون؛ لكن عمر تَجُولُ عيناه يفتش عن شخص، يفتش عن عتبة بن ربيعة حتى إذا لمحه؛ أخذه فصرعه على الأرض ونام فوقه كأنه بَكْرٌ راغٍ؛ أرأيت البعير حين يهيج كذلك نام عليه أهو الضرب؛ لا ليس الضرب وإنما وضع إصبعيه في عينيه ثم مضى وعاد المسلمون إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم. على مَ تدل هذه الوقائع؟ تدل على أن الاستخفاء وعدم الاستخفاء ليس شيئاً يتعلق بصلب الدعوة وبصميم الدعوة؛ وإنما هو يتعلق بالضرورة العملية تبعاً لطاقة الشخص إن وجد من نفسه قدرة على المواجهة فله أن يواجه ولو كان الأمر أمر حكم شرعي؛ لكان النبي صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر ومنع عمر ومنع غيره مثل أبي ذر حينما قال له بعد أن أسلم:
"اذهب فبلغ قومك ولا تأت إلى هنا حتى أحدث لك أمراً".
قال له: لا والله يا نبي الله حتى أَسوءَ بها المشركين.
فذهب عامداً إلى نوادي قريش حول الكعبة، فأعلن إسلامه وقال لهم:
"شاهت الوجوه".
وثار عليه المشركون يضربونه؛ ولولا أن العباس رضي الله عنه تداركه لفتكوا به قال لهم: ويلكم إنه من غفار -من قبيلة غفار- وهي في طريق متجركم إلى الشام فخلصه منهم ومضى.
لو كان المسألةُ مسألةَ حكمٍ شرعي لمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم من إعلان هذه المواقف؛ ولكنها مسألةُ قدرةٍ وعدم قدرة؛ مسألة ضرورة عملية لا قضية حكم شرعي وقد كان المسلمون يتفاوتون منهم من يجد في نفسه القدرة على تحمل الأذى فهو يتعرض للمشركين معلناً إسلامه ومنهم من لا يجد في نفسه هذه القدرة فلا بأس عليه ولا حرج والله لا يكلف نفساً إلا وسعها فإذاً؛ موضوع السرية كان يتناول العبادة فقط أما مبدأ الإعلان عن الإسلام فمعروف والمكان الموجود فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف وربما يذهب بعض الناس استناداً إلى رواية صحيحة إلى أن المكان لم يكن معروفاً دار الأرقم بن أبي الأرقم بالرواية التي جاءت في البخاري عن إسلام أبي ذر، فأبو ذر سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاء هو وأخوه حتى إذا كانوا في مكة أرسل أخاه وقال له اذهب فتعرَّفْ لي خبر محمد فلما عاد أخوه قال إنه يأمر بمكارم الأخلاق وبالصلة قال له: ما فعلت شيئاً اجلس، فجلس حول الكعبة وذهب أبو ذر يتقصى حتى إذا كان قريباً من دار علي رضي الله عنه لمحه علي؛ فعرف أنه غريب فدعاه إلى بيته شأن العرب؛ فلما كان من الليلة الثانية جاء فوجده في نفس المكان مساء قال له أما آن لضيفنا أن يعرف منزله؛ فأخذه: لما أخذه إليه سأله ماذا تريد؟ فكشف له عن مراده؛ قال له سنخرج صباحاً واذهب أنت من ورائي: تعال من ورائي فإذا رأيت شيئاً أخشاه عليك، انتبهوا أخشاه عليك، فسوف أصور لنفسي أنني أقضي حاجة أو أعمل شيئاً فأجلس في الأرض إذا رأيتني جلست فانصرف راشداً حتى إذا وصلوا إلى رسول الله وكان ما كان.
ما الذي كان يخشاه علي؟ هل كان يخشى انكشاف مقر النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا .. وإنما كان يخشى أن يلحق أبا ذر الأذى الذي كان يلحق بالذين يعلنون إسلامهم لا سيما إذا كانوا غرباء عن مكة. فالنبي صلى الله عليه وسلم معروف مجاهر بالعبادة أصحابه كلهم معروف عنهم الإسلام، إلا ما كان من بعض العبيد والمستضعفين الذين لا حلية لهم وهم مضطرون إلى أن يرتبطوا بسادتهم وبأماكنهم حتى يجعل الله لهم فرجاً مما هم فيه؛ عبادة الرسول عليه الصلاة والسلام علنية. دعوته إلى الله علنية؛ الأقوياء من المسلمين يعلنون الدعوة إلى الله أبو بكر عمر الحمزة أبو ذر وغير هؤلاء كثيرون؛ وظل المسلمون على هذا إلى أن خرجوا من دار الأرقم بن أبي الأرقم –طيب-. متى كان ذلك؟ ما عندنا تاريخ مضبوط؛ ولكن بالتقريب... نحن إسلام حمزة رضي الله عنه لا نملك تحديده بالضبط؛ ولكن في كتب التاريخ يقال إن حمزة أسلم قبيل إسلام عمر متى أسلم عمر..؟ عمر أسلم بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة لأننا نعرف أن عمر رضي الله عنه لقي بعض نساء الذين يريدون أن يهاجروا إلى الحبشة، وقال لها إلى أين يا أم فلان قالت إلا بلاد الله آذيتمونا وضيقتم علينا فنريد أن نفرَّ بديننا؛ كان عمر على شركه إذاً فالهجرة الأولى إلى الحبشة تمت وعمر على شركه في ذلك التاريخ هجرة الحبشة كانت في السنة السادسة للمبعث.
لنضع توقيتاً لإسلام عمر السنة السادسة للمبعث؛ ولنقل إن السنة السادسة هي التي شهدت خروج المسلمين من دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ معظم الدارسين للسيرة النبوية يقولون إن خروج المسلمين كان بعد أن أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم آيتين واضحتين بالإنذار أولهما قول الله جل وعلا:
(وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين).
وعلى أثرها دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين قال لهم:
(والله لو كذبت الناس كلهم ما كذبتكم؛ إن الرائد لا يكذب أهله -الرائد هو الذي يرسله القوم ليتعرف على الماء أيوجد في المكان الفلاني ماء أم لا يوجد، هذا الرائد لا يكذب أهله- لو كذبت الناس كلهم ما كذبتكم، والله إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها للجنة أبداً أو النار أبداً".
فانتدب له أبو لهب وقال له: "تباً لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا". فأنزل الله:
(تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب).
هذه آية نفذها الرسول عليه السلام؛ ومؤرخو الإسلام يجعلونها مرحلة من مراحل الدعوة مقصورة على عشيرته الأقربين، وهذا ليس بشيء.
والآية الثانية هي ما جاء في سورة الحجر وترتيب سورة الحجر من حيث النزول هي الواحدة والخمسون أي أنه نزل قبل سورة الحجر خمسون سورة ما بين قصيرة كسورة الناس أو تبت يدا أبي لهب، وما بين طويلة كسورة الأعراف.
خمسون سورة نزلت من القرآن حتى نزلت سورة الحجر والله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول من سورة الحجر (فاصدع بما تؤمر) وهنا لا ذكر للعشير:
(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون).
لا يقول أحد أنه بعد هذا التاريخ كان شيء له صفة الخصوصية أو صفة المحلية؛ بعد هذه الآية علنية كاملة ودعوة موجهة إلى الناس عامة.
قلت لكم في الجمعة الماضية إننا فرغنا من دراسة السور الأربعة وإننا لذلك سوف نعمد إلى دراستها دراسة أخرى على وجه تركيبي لنستخرج قضاياها في الأسبوع الماضي وفي أواخره وحينما كنت أفكر في الموضوع على هذا النحو وجدتني مضطراً إلى مراجعة السور الواحدة والخمسين قرأت كل السور وأنا أفكر هل أضافت هذه السورة شيئاً آخر؟ نعم أضافت، أضافت أشياء وأموراً لابد لنا من دراستها ولابد لنا من معرفتها ولابد لنا من تجليتها؛ ونحن في صدد أمر عظيم كل هذه الدراسة كما ذكرت لكم قبل اليوم بهدف واحد.
كل هذه الدراسة التي يمكن أن تستمر خمس سنوات أو أكثر لا هدف لها إلا شيء واحد هو إنقاذ الدعوة الإسلامية المعاصرة من حيرة السبل وتحرير نظرية العمل الإسلامي بكل تكاليفها وبكل تبعاتها. وأنا أعرف ماذا يترتب على هذا من أجل ذلك رأيت أن أطوي صفحة عن كل الكلام الذي قلته عن الوعد الذي قطعته لكم في الجمعة الماضية وأن أعود مرة أخرى لنقوم بسياحة عامة في هذه السور الخمسين لنرى:
ماذا قال الله؟
ماذا طلب الله من رسوله ومن المؤمنين لأنفسهم؟
ماذا طلب إليهم أن يقولوا للناس؟
ماذا طلب من الناس أن يغيروا وأن يبدلوا؟
ما هي القواعد التي وضعها لهم؟
حتى نتمكن من أن نصور نظرية العمل الإسلامي تصويراً لا خلل فيه ولا نقص فيه.
أذكر قبل أن أغادر هذا المكان وقبل أن أختم هذا البحث أننا حتى في هذا المجال أمام صعوبة خطيرة فمن المعروف أننا نأخذ السور وفقاً لترتيب النزول على ما جاء في الروايات القديمة؛ والروايات القديمة تقول مثلاً إن أول القرآن نزولاً سورة العلق. وثانيها سورة القلم وثالثها المزمل ورابعها سورة المدثر وخامسها سورة الفاتحة وسادسها سورة المسد وسابعها سورة الليل وهكذا الفجر والضحى والغاشية وما أشبه ذلك إلى آخر هذا الترتيب تقريبي لأنه لا توجد روايات قاطعة في الموضوع؛ وإنما نحن نأخذ ما استقر عليه جمهور الناس.
هذا واحد الشيء الثاني حينما نرى رواية تقول أو إجماعاً ينعقد على أن السورة الفلانية أول ما نزل من القرآن فهل يعني هذا أن كل السورة نزلت أول شيء؟ لا نتصور...
خذوا أول سورة مثلاً.. ما هي؟ سورة العلق، تبدأ السورة بعد بسم الله الرحمن الرحيم
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).
رواية البخاري وسائر الصحاح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى خديجة بهؤلاء الآيات تُفْهِمُ الرواية أن هذه الآيات فقط هي التي نزلت أولاً، لكن هل يمنع أنه نزل معها شيء آخر. لو قلنا نزل معها قول الله:
(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى).
لما كان ثمة من مانع لأن الأمر في هذا المقطع كله -وانتبهوا جيداً- أمرٌ يتعلق بخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، بتكليف ولا شيء يمنع عقلاً ولا رواية من أن ينزل هذا كله في موقف واحد ودفعة واحدة؛ لكن اذهب مع الآيات أيضاً تجد أن الله يقول:
(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى، أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن الله يرى، كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية).
فالمقطع الثاني من السورة يقص موقف مشادة ومعارضة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ هل يستقيم عقلاً أن يكون هذا المقطع نازلاً مع ذلك المقطع الأول؟ لا يمكن، لأن المقطع الثاني يدل على أن فترة ما؛ مضت على أثر تكليف الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وأن هذا النبي الكريم عليه صلوات الله مضى يدعو الناس، وأنه مضى يصلي، وأن صلاته أثارت المشركين، وأن بعض سفهاء المشركين وقفوا في وجهه كي لا يعاود الصلاة ولا يكررها مرة أخرى؛ فلابد من افتراض فاصل زمني مثل ذلك عند كل سورة من السور.
نحن إذاً حتى أثناء عملية الارتياد الأولى أمام مشكلات خطيرة، لكنا نرجو بشيء من النقد الداخلي للنصوص وبشيء من فضل التأمل الزائد في الوقائع، أن نتغلب إلى حد ما على هذه المشكلات فليكن موعدنا الجمعة القادمة إن أحيانا الله وإياكم، وأن يأذن لنا لنقوم بهذه السياحة الجديدة قد تطول عليكم هذه السياحة؛ لكني والله لا أعلم أمتع ولا أطيب للقلوب منها ولا أكرم للنفوس منها ولا أكثر منها فائدة؛ فأنا أرجو إن شاء الله أن تكون هذه السياحة الطويلة سياحةً مباركةً في كتاب الله؛ فيها الأجر وفيها المثوبة وفيها الفائدة العظمى التي نتوخاها جميعاً؛ فإذا فرغنا منها فسنفرغ لمواجهة المهمات الأساسية التي دفعتنا لسلوك هذا الطريق الطويل الطريق الشاق الطريق الذي سيمتعكم؛ ولكنه سيشقيني مع نفسي، الطريق الذي سيفيدكم ولكنه سيعرضني لأشد المتاعب الجسدية والفكرية على سواء وأنا أرجو من الله تعالى أن لا أكون أشقى الناس بهذا الذي أقول وأسأله تباركت أسماؤه أن يجعلنا جميعاً خدماً لهذه الحقيقة الإسلامية الإلهية وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.