اليمين واليسار وحديث الهجرة إلى الحبشة
الحلقة (18) الجمعة 5 ربيع الأول 1396 هـ 5 آذار 1970
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كان يمكن أن أؤجل هذا اللقاء لولا أن أخانا أبا محمود حفظه الله أنجز ما كان فيه من حديث عن الهجرة، ولولا الأصداء التي أثارتها آخر خطبة كانت لنا في هذا المكان لدى فريقين متباينين من الناس، كان هدفي من آخر حديث -وكان حديثاً على هامش الهجرة- أن أبين أن حادث الهجرة كان حادثاً طبيعياً جاء في سياقه الزمني، وفي مكانه من مراحل الدعوة دون اعتساف وبغير استعجال لخطوات الطريق فمن أجل ذلك كان مبارك الثمرات وكانت الهجرة نصراً مؤزراً للإسلام وفاتحة عهد جديد في تاريخ الإنسانية.
ولكن شعاب الكلام تأخذ الإنسان في مجاريها التي لا بد له من أن يتبعها -شاء أم أبى- ومن ذلك حديثنا عن تعليل الصبر الطويل الذي صبره ومحمد صلى الله عليه وآله وصبره المؤمنون معه في مكة المكرمة قبل الهجرة ولقد كان مما قلنا: إن هذا الصبر عنوان سلوك في الإسلام، هو سلوك عدم العنف في مواجهة المخالفين، وأحسب أنني طرقت هذه الفكرة قبل اليوم، طرقتها فيما أذكر حين كنت أخطب في -الجامع الوسط- قبل أن يكمل بناء هذا المسجد، وحينما كنت أتحدث عن المقدمات التي رأيتها ضرورية لتشكل مدخلاً لدراسة السيرة على ضوء مناهج علمية بعيدة عن التزمت وضيق الأفق كما هي بعيدة عن الغوغائية والارتجال فقد آن للمسلمين أن يعملوا عقولهم في كل شيء، وفي ضوء العقل عليهم أن يقرروا، وفي ضوء العقل عليهم أن ينفذوا، لهذا لم أجد سبباً يدعوني إلى إطالة الحديث حول هذه القضية، في خطبتنا الأخيرة ولكن الشيء المؤسف أنني فوجئت بتيارين أو بردود فعل إزاء الكلام الذي تحدثت به.
والشيء الذي أزعجني حقاً هو أن بعض الإخوة فهم من كلامي الذي يقرر رفض العنف والغلظة أن هذا أمر مرحلي هذا من بداية الكلام غلط فالواقع أن عدم العنف، في غير مدعاة إليه ولا ضرورة ملجئة؛ مسألة مبدئية في الإسلام، فالإسلام لا يريد أن يفني الناس لا يريد أن يقتل الناس لا يريد أن يميت الناس، الإسلام يريد أن يحيي الناس ولذلك فطالما وجد أي أمل في أن يستقيم الإنسان -أياً كان اتجاهه- فهو محل الرعاية الاهتمام والاحترام أما ما يدور اليوم في الساحة العالمية من ارتخاص لقيمة الإنسان وعدم اهتمام به فشيء غريب عن الإسلام إذاً فرفض العنف ليس مسألة مرحلية في الإسلام لكنه قضية مبدأ. هذه واحدة وهي واحدة ليست في الحساب الذي هو في الحساب أولاً الاستغراب الذي قابل به الكثير من الإخوة الذين يشاركوننا آراءنا واتجاهات؛ دعوتنا هذه إلى الحب والتسامح واللين والطيبة والمرحمة في مواجهة المخالفين هذا شيء في الواقع عجبت له، عجبت له لأن الله يقتص علينا في القرآن من وصف نبيه محمد صلوات الله عليه فيقول جل من قائل:
)فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر(.
الوصف الجوهري والرئيس لرسول الله صلى الله عليه وآله اللين، كرم الطباع، المرحمة، الشفقة، الطيبة التي لا تعرف حداً، كيف يغيب هذا عن بال الإخوة ومع ذلك فلقد وقفت أفكر طويلاً ثم عذرت الإخوة، عذرتهم لأننا نعيش في جو يشكل قوة ضاغطة على تفكير الإنسان وعلى سلوك الإنسان في الساحة المحلية وفي الساحة العربية.. في الساحة المحلية حيث انتزعت ودفعت إلى الخلف بعيداً كل معاني الإنسانية، وبقيت الناس تعيش على قوانين الغابة وأعراف الوحوش، بقيت الناس لا تسمع إلا أحاديث الدماء وإلا أحاديث القتل وإلا أحاديث الخطف وإلا أحاديث العنف الذي لا يريد أن ينتهي إلا أن يدمر هذه الحياة الدنيا كيف يمكن أن نطلب من المسلم أن يبقى بعيداً عن هذه التأثيرات لا بد له من أن يتأثر بها من هنا كان إخوتنا يستغربون دعوتنا إلى شيء يخالف المألوف في هذه الأيام فرأيت أن من واجبي أن أعالج المسألة علاجاً صحيحاً ونهائياً أن أقول في المسألة قولاً يقطع كل قول وقولاً موسعاً لا أحتاج بعد إلى أن أعيد الموضوع أبداً.
رأيت أن الله تعالى قال لنبيه في القرآن (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً) ورأيته قال له (فاصفح الصفح الجميل)، وقال له: (واصبر صبراً جميلاً) فرأيت أن من الواجب قبل كل شيء أن نعرف ماذا تعني هذه الأوصاف التي وصف بها الصبر، ووصف بها الصفح ووصف بها الهجر، ماذا تعني بانطباعاتها الأولى في نفس الإنسان العربي الذي خوطب بالقرآن يوم كانت فطرته سليمة لم تمس ولم تلوث بهذه العجمة المستحكمة على العقول والأفئدة والقلوب، ما تعني دلالة اللغة حين يوصف الصبر بأنه جميل، وحين يوصف الهجر بأنه جميل، وحين يوصف الصفح بأنه جميل، ورأيت أن الواجب يستدعي أيضاً أن أعالج المسألة في ضوء آخر ما انتهى إليه الفكر الفلسفي المعاصر في موضوع الجمال وتأثيرات الجمال في المسالك البشرية وفي الاتجاهات العقلية للناس بل رأيت أن أعتمد حتى مناهج البراجماتية الذرائعية الوصولية؛ لأبين أن العنف لا يجدي حتى عند أنصار (الغاية تبرر الوسيلة) أينما كانت ورأيت أن أستخدم قوانين علم الاجتماع في أعلى أطواره وأحدث ما وصل إليه الفكر الإنساني حتى الآن لأبين أن العنف طريق يوصل إلى تدمير المجتمعات الإنسانية ولا يوصل إلى إسعادها ولا إلى راحتها بتاتاً هذا من جهة.
من جهة ثانية ثمة فريق من الناس لا يشاركوننا آراءنا؛ تكلمت أنا أن العنف شيء مرفوض وأنه عدوى من عدوى الماركسية وقلت ما قلت وقال من قبل بعض الإخوة أنني أظلم اليسار العربي. واليسار العربي له سامعون عندي الآن يا إخوتي من أول الطريق يحسن بنا أن نتفاهم من بداية الأمر يجب أن يكون كل شيء واضحاً أنا لا أثق باليسار مفهوم لا أثق السيار رضي اليسار أم غضب هذا شيء لا يعنيني كما أنني من جهة أخرى لا أثق باليمين رضي اليمين أم غضب، أثق بشيء واحد بهذا الإسلام القضية عندي متعلقة بالإسلام فإذا مست اليسار فليغضب وإذا مست اليمين فليغضب أما اليمين فهم طلاب مصالح وطلاب مكاسب ونحن طلاب استقامة للحياة وطلاب آخرة فلا مجال للقاء بيننا على الإطلاق أفهم -لست غبياً- أفهم أن اليسار يتهمنا باليمينية هذا خطأ هذا خطأ، اليمين، ليس أرحم بنا من اليسار يجب أن يكون هذا مفهوماً، وقلت من بداية الطريق يجب أن نتفاهم لكن لماذا لا أثق باليسار. اليسار عندي يساران يسار متأثر بالماركسية فهذا عندي ليس محل نظر ولا محل وقوف لا يمكن أن أسمع الله تعالى يقول: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) ويأتي ماركس فيقول: (الله غير موجود فمن أصدق) أصدق الله أم أصدق ماركس؟ أسمع الله يقول: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا(. فيقول ماركس: (كذبت بل لتتصارعوا) فمن أصدق الله أم ماركس أسمع وأسمع وأجد مناقضة لا يمكن أن تحل بتاتاً بين المسلمين وبين اليساريين الماركسيين فكيف نتفق إلا إذا تخلينا عن الإسلام أما بالنسبة لنا فأحب للإخوة الماركسيين أن يعلموا بكل صراحة أننا لن نكون معهم ولن نهادنهم وسوف ندمرهم في الساحة التي نستطيع فيها؛ ذلك بأنه لا يمكن أن يتعايش الكفر والإيمان على صعيد واحد بتاتاً، أما اليسار الذي يدعو إلى العدل إلى العدل الاجتماعي فأحب أن أهمس في آذانهم كلمة بسيطة لولا انقلاب الزمان ولولا فوضى المفاهيم ولولا تزوير التاريخ وتزوير الواقع لكان اليسار العربي غير الماركسي آخر من يدخل معنا سوق المزايدة في العدل الاجتماعي، صح النوم بعد ألف أربعمائة عام من قيام محمد صلى الله عليه وسلم بكفالة العدل وكفالة القوت وكفالة الكرامة الإنسانية يأتي من يزايد علينا في قضايا العدل الاجتماعي هذا غريب بل هذه وقاحة، إذا كان اليسار العربي يؤمن القوت وأقيد – غير الماركسي- يؤمن القوت لقاء الحرية فالعدل الإسلامي يكفل لك المعيشة الكريمة دون أن يطلب منك أي شيء، ذلك بأنه يعلم أن معيشتك حق ومعنى كونها حقاً أنها لا تقتضي جزاءً ولا تطلب ثمناً.
في اليسار العربي غير الماركسي أنت مطالب بأن تصوت ومهازل التصويت التي تكون نتائجها دائماً تسعة وتسعين وخمسة وتسعين بالمائة مهازل لا تدخل في عقل. الإسلام لا يطلب هذا يعطيك قوتك ويعطيك بيتك ويعطيك كفالة معيشتك ولا يضغط على حريتك حتى حينما تكون مخالفاً له في الدين؛ اليهود النصارى المجوس عاشوا في المجتمع المسلم موفوري الكرامة موفوري القوت موفوري الحرية دون أن يضغط عليهم النظام الإسلامي بداعي أنه أمن لهم حاجاتهم الأساسية أبداً.. مرة أخرى صح النوم بعد ألف وأربعمائة عام يزايد علينا اليسار الغبي بهذا الشكل لا من أول الطريق يجب أن نتفاهم نحن المسلمين ندعو إلى طراز من الحياة لا يكون فيه الناس إمعات ولا تافهين ولا مستغفلين وإنما يكونون رجالاً يمشون على الأرض خطواتهم تدق ظهر الأرض قائلة: أنا هنا، لا يمشون مشي العبيد يمشون مشي الرجال الأحرار مشي الرجال الذين وجدوا ليخطوا للتاريخ اتجاهاً هم أرادوه لأن الله تبارك وتعالى أراده؛ أرادته الإرادة العامة التي صنعها الفرد العاقل المفكر المدرك المريد لم يردها زعيم ولم يردها متسلق ولم يردها متسلط وإنما أرادها الإنسان الذي شحنه الإسلام بمعنى الكرامة الإنسانية ومعنى العزة الإنسانية حتى جعلته يشعر أنه كون صغير قد انطوى فيه العالم الأكبر كله -فهمتم يا إخواننا جميعاً- تفصيلات هذه الأمور ليست الآن تفصيلات هذه الأمور تأتي؛ عندي الآن مهمة أريد أن أنجزها تتعلق بموضوع الهجرة.. في الأسابيع القادمة إن شاء الله سوف أتدخل في تفصيلات مستفيضة بكل هذه الأشياء لأنني كما قلت أريد أن أنتهي بالمرة من كل هذه الأمور بعض الناس الذين كتبوا في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي من مسلمين ومن مستشرقين غير مسلمين يربطون بين حادث الهجرة إلى المدينة وبين حادث الهجرة إلى الحبشة، بعض المسلمين ومن خيار الذين كتبوا في القضايا الإسلامية ذهبوا إلى أن الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة كانتا تهدفان إلى تأمين موطئ قدم للإسلام أي إذا أمكن فلتستقر الدعوة في الحبشة ولتنطلق من الحبشة وهذا فهم مؤسف، المستشرقون بعامة يقولون إن حادث الهجرة إلى الحبشة كان حادثاً فاصلاً في تاريخ الدعوة الإسلامية لأن المسلمين اتصلوا أول اتصال لهم بالنصرانية في الحبشة فأفادوا منها وتأثروا بالنصرانية هل الأمر كذلك يجب علينا أن ندرس الأمور تاريخياً وبدقة وأن نعطي للحادث التاريخي حجمه فقط لا ننفخ فيه ولا نخلق من الحبة قبة.
سأبدأ بآخر الاحتمالين؛ بكلام المستشرقين هل صحيح أن الهجرة إلى الحبشة كانت من دواعي تأثر الإسلام بالنصرانية؟ بعبارة أدق هل كانت الحبشة النصرانية قادرة في تلك المرحلة على أن تعطي شيئاً للإسلام أو لغير الإسلام؟ بعبارة أدق: هل كانت النصرانية عموماً في الحبشة وغيرها قادرة على أن تعطي الإنسانية شيئاً؟ لا؛ كان عمر رضي الله عنه يُقَالُ له القبيلة الفلانية اعتنقت النصرانية في الجاهلية والقبيلة الفلانية اعتنقت النصرانية فيقول رضوان الله عليه بسخرية ذات معنى عميق يقول؛ إن العرب ما عرفوا من النصرانية إلا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير؛ وعمر رضي الله عنه كان يتحدث عن العرب ولا يجهل أن النصرانية عموماً بين العرب وغير العرب ما عرفت في تلك الأيام إلا شرب الخمر وأكل الخنزير والاعتداء على المحرمات، هذا واقع يشهد به تاريخ الحبشة في ذلك الزمان، كيف كانت الهجرة متى كانت هجرة الحبشة الأولى كانت في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة، بينها وبين الهجرة العامة ثماني سنوات هاجر أحد عشر رجلاً أو ثلاثة عشر رجلاً وأربع نسوة فقط من المسلمين ووصلوا هناك، وظلوا شهرين عادوا بعدها فوجدوا أن الأمر قد شَرِيَ بين المشركين وبين رسول الله فانقلب من انقلب منهم من الطريق، راجعاً إلى الحبشة وهاجرت أرتال أخرى حتى بلغ الذين هاجروا في الهجرة الثانية أكثر من ثمانين رجلاً مع نسائهم ومع أولادهم ظلوا هناك، منهم من عاد بعدُ ومنهم من بقي إلى السنة السادسة أو السابعة للهجرة حتى عادوا في سفينتين من الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وكان يومها عليه الصلاة والسلام قد أتم فتح خيبر، عرفتم التاريخ السنة الخامسة من الهجرة، في السنة الخامسة من الهجرة ماذا كانت الحبشة بل قبل أن نجيب على هذا، نسأل لماذا هاجر هؤلاء الناس هل نستطيع أن نجد بين أيدينا وثيقة أدق وأصدق من تعليل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا.. حين اشتد البلاء في مكة على المسلمين ونال الأحرار والعبيد ونال الصغار والكبار رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفف الضغط على المسلمين فأشار عليهم مجرد استشارة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم شرح لهم الأوضاع وما يلقون وما هو قائم وقال لهم: لو ذهبتم إلى أرض الحبشة.. لم يكن هنالك أمر كان هناك رأي لو ذهبتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجاً فما أنتم فيه، حتى يجعل الله لكم فرجاً ممّا أنتم، فيه إذا فالأمر مؤقت مجرد رغبة في تخفيف الضغط عن المسلمين لا أكثر ولا أقل لكن ما الذي ضخم المسألة في نفوس الذين كتبوا حول هذا الموضوع؟ ما رافق هذا الحادث وما تلاه.. في الحقيقة أن الفوج الأول الذي هاجر لم تسكت عليه قبائل مكة المشركة أرسلت وفودها إلى ملك الحبشة النجاشي تطلب إليه رد المهاجرين، وذهب الوفد وقام بسفارته بعد أن رشى البطارقة ورشى الرهبان فطلبوا منه أن يعيد إليهم هؤلاء الفارين، فأهلهم أعرف بهم وأعلم بهم عيناً لكن الملك الذي لم يُخَيِّبْ فِراسةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك العادل قال:
لا.. حتى أستدعيهم فأسمع منهم فاستدعاهم.
فكان حوار بينه وبين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه شرح له جعفر مبادئ الإسلام وما دعاهم إليه محمد عليه السلام، وشرح له عدوان قريش وشراسة المشركين وقال له:
من أجل هذا اخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قال له: اذهبوا.
رفض أن يسلمهم للسفراء المكيين لكن الوفد عاد في اليوم الثاني ليكيد مكيدة بغيضة؛ قال له أي للنجاشي:
إن المسلمين يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً يقولون إنه ابن زنى فاستدعاهم مرة أخرى وسألهم ووقع على المسلمين فعلاً في تلك الأوقات بعد مضي ستة قرون على وفاة المسيح عليه السلام ورفعه وتطهيره من الذين كفروا..
قال جعفر: والله لا نقول إلا ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم.
سألهم عما يعتقدون في المسيح فقرؤوا عليه صدر سورة مريم وفيها:
)قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.(
قال النجاشي:
والله إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وانصرف الوفد خائباً فاشلاً.
هنا نقطة مع الأسف تعلقت ببعض الأذهان ونسج حولها المستشرقون كلاماً مستطيلاً ومستعرضاً ووقع فيها من قبل علماء كبار من علماء المسلمين وأدخلوها هي قصة الغرانيق ملخص هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أنزلت سورة النجم تلاها على المشركين وبينما كان يتلو (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر ولهم الأنثى). ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فيما ذكر، ذكر أصنام المشركين لما قال أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى قرأ بعدها (تلك الغرانقة العلا.. وإن شفاعتهن لترتجى) وسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وسجد المشركون من أهل مكة جميعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم بخير، سمع المسلمون هذا الخبر، فظنوا أن الأمور عادت إلى طبيعتها من الوئام والسلام بينهم وبين المشركين فعاد من عاد ووجدوا الأمور خلاف ذلك مع الأسف قلت لكم هذه الحادثة مثبته في تفاسير محترمة في الطبري مثلاً وتفاسير أخرى كثيرة لكنها تقول إن الشيطان ألقاها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ويدللون بذلك على أن الله قال (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً).
وهذا عجيب.. بين هذه السورة وسورة الإسراء مراحل تتقطع دونها أعناق المطي كما يقولون هذه في وقت وهذه في وقت آخر، المسألة في تقديري ليست كما دخلت في أذهان بعض علماء المسلمين القدامى، ولا كما دخلت في أذهان المروجين لها من المستشرقين عن غرض مقصود لإيجاد الصلة أو الاستعداد للمساومة والتنازل من النبي صلى الله عليه وسلم لصالح الشرك والمشركين، لا.. المسالة خدعة من خدع السفارة القرشية لا شك أن السفارة التي ذهبت إلى النجاشي فعادت فاشلة أطلقت هذه الشائعة؛ حينما أطلقتها بلغت المسلمين هناك وظنوا أن الأمر حقيقة فعادوا فقبضوا على من قبضوا منهم.. يبقى علينا أن نسأل لماذا هذا الاهتمام من المشركين في إعادة أحد عشر رجلاً وأربع نسوة لماذا؟ هل يعتبر حادثاً خارقاً للعادة أن تخرج من مكة أرتال وأعداد من الناس فلا تعود إليها بالمرة؟ لا، لكن بعض الناس ظن أن الأمر يتعلق بتمهيد لانتقال الدعوة إلى الحبشة وهذا كما قلنا خطأ والأمر الذي ينظر فيه أو الزاوية التي نظر المشركون منها إلى المسألة تتصل بالآتي؛ الرسول عليه الصلاة والسلام متى ولد؟ عام 570 للميلاد ماذا يصادف هذا العام يصادف عام الفيل ماذا يعني عام الفيل يعني هجوم أبرهة الحبشي على مكة لكي يهدم البيت الحرام ما هي معيشة القرشيين في مكة هي ما يدره عليهم مركز البيت في العرب لأن القرشيين كانوا يقيمون الأسواق والاحتفالات والمنتديات طيلة الأشهر الحرم الأربعة فيرتزقون بذلك ويعيشون من هذه الخيرات فتدمير البيت بالنسبة للعرب الجاهليين كارثة؛ لأنها تقضي على المورد الوحيد الذي يعيشون منه، تقضي على المبرر الوحيد الذي يجعلهم مرتبطين بهذا الوادي غير ذي الزرع، فالقرشيون المشركون معظمهم كان معاصراً لعام الفيل، وحديث الفيل وإنجاء الله تعالى للبيت ولمكة ما يزال حياً في الأذهان والله تبارك وتعالى استثار في المكيين هذه الذكرى إذ أنزل فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم:
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول).
القرشيون ما نسوا بعدُ أن الحبشة فعلاً تشكل عليهم تهديداً يتصل بوجودهم بالذات فأرادوا باهتمامهم هذا أن يحولوا دون أن تنعقد روابط ربما تحرض حكام الحبشة على الهجوم مرة أخرى على مكة وتحطيم البيت وفي ذلك إنهاء لقريش وإنهاء لمكانة قريش هذا واحد. الشيء الثاني سؤال لا بد أن يخطر في البال النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الناس كما قلنا في السنة الخامسة من البعثة كان الذي نزل من القرآن قليلاً وكان الإسلام بعدُ غضاً طرياً في النفوس ألم يخطر في بال النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء المسلمين الذين أرسلناهم إلى بلد نصراني يغاير دينه ديننا، وديننا لَمَّا يكتمل بعد إنزالاً ولما تترسخ بعدُ قواعده وهذه النفوس لم تنصهر بعد إلى الدرجة التي تعطيها المناعة الكافية التي تحول دون التأثيرات الضارة أليس في إرسالنا إياهم إلى الحبشة النصرانية مغامرة؟
سؤال لا بد أن يكون واجه النبي صلى الله عليه وسلم، لا بد.. النبي عليه السلام بحكمته بذكائه بعقله لا تغيب عنه مثل هذه الاحتمالات لكن السؤال الأهم هو هل كانت النصرانية في تلك الأيام قادرة على أن تشعر هذا الإنسان المسلم بأنها تملك منهجاً عقدياً ومنهجاً اجتماعياً ونموذجاً ومنظومة فكرية تفوق هذا القليل الذي جاء من الإسلام؛ أتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة كاملة بأن ما هو موجود في تلك الأيام من النصرانية لا يمكن أن يزاحم حرفاً واحداً من الإسلام لماذا؟ حين ابتعث الله عيسى عليه السلام ابتعثه في الناصرة في بيت لحم والمنطقة في ذلك الزمان تحت حكم الرومان، والرومان إمبراطورية هائلة إحدى قوتين في العالم معروفتين في العالم القديم على الإطلاق وأرض فلسطين في تلك الأيام في الأيام التي أرسل فيها عيسى عليه السلام كان يسكنها اليهود وعيسى عليه السلام يهودي الأصل والرسالة المسيحية شعبة من اليهودية بدون ريب، فلقي عيسى عليه السلام حرباً شعواء من اليهود اعتبروا دعوة المسيح عليه السلام انشقاقاً على العهد القديم الذي جاء به موسى وتعاونوا مع الرومان مطاردة المسيح وأتباع المسيح عليه السلام واستمرت المطاردة حتى كان عام 313 للميلاد فأصدر الإمبراطور الروماني قسطنطين المراسيم الشهيرة بمراسيم ميلانو التي اعترفت بحرية الديانات في أرجاء الإمبراطورية الرومانية ومن جملتها النصرانية وبعد أمد قصير، ولرؤيا رأتها أم قسطنطين؛ اعتنق قسطنطين النصرانية ومشت النصرانية في الإمبراطورية الرومانية منذ ذلك التاريخ لكن السؤال أين الأناجيل: الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام؟ أين هو..! ضاع إنجيل عيسى في المطاردة لقي المسيحيون الأوائل -والحق يقال من الأهوال ما تشيب لهوله الولدان- حتى الإمبراطور المجنون نيرون إمبراطور روما صور له اليهود بافتعال حريق في روما أن المسيحيين هم الذين أحرقوا روما فشواهم في النار وقتلهم وألقاهم للوحوش ودمرهم تدميراً.
الأناجيل ما كتبت في زمن المسيح كتبت بعد وفاة المسيح بما لا يقل عن ثمانين عاماً ثم خلال المدة الواقعة بين السنة الأولى لميلاد المسيح عليه السلام والسنة 313 عقدت عدة مجامع كنسية كان الهدف منها النظر في هذه السير التي كتبها تلامذة المسيح وتلامذة تلامذتهم كانت الدنيا تموج بعدد لا يحصى من الأناجيل؛ كل إنجيل يدعي أنه هو الحق وكان مجتمع خلقيدونا ومجتمع نيقيا وبقية المجامع التي تعقد من قبل الكنائس العامة أن -المسكونية كما يسمونها- تحرم أناجيل وتفرض عقائد معينة، ما أسلم قسطنطين إلا والمسيحية تعتقد في غالبيتها الساحقة أن الله ثالث ثلاثة؛ فهمتم ولاحظتم؛ الله ثالث ثلاثة الابن الذي هو المسيح الله الذي هو الأب جبريل الذي هو الروح القدس، وحصل نزاع أيضاً مريم أم المسيح ما شأنها أيضاً حصلت انشقاقات واستقر على أن مريم أيضاً إله، هذه التشققات في الكنيسة المسيحية رافقتها أيضاً تشققات أخرى على الصعيد السياسي تسمعون أن الله تعالى أنزل في المرحلة المكية:
)ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد(.
كانت الإمبراطورية الرومانية قد اكتسحت من قبل الإمبراطورية الفارسية في ذلك الوقت ووصلت إلى حالة من التمزق لا تحسد عليها أبداً أكثر من ذلك منذ ذلك التاريخ البعيد كان نزاع خفي يدور بين بيزنطة التي هي القسطنطينية وبين روما أو بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغريبة سأقول لكم تاريخين يوحيان إيحاء عميقاً يا إخوة لاحظوا هذين التاريخين 611، 614؛ 611 بداية التنزيل على محمد صلى الله عليه وسلم 614 بداية الإنذار (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر) بين هذين التاريخين منذ بدأ التنبؤ وإلى أن بدأ الإنذار اثنان وأربعون مجلساً كنسياً تعقد في العالم النصراني لإصلاح الفساد الذي استشرى في الكنيسة والذي استشرى بين رجال الكنيسة والذي جعل الرهبان هم الذين يميلون إلى الخمر ويميلون إلى الزنى ويميلون إلى الغناء واللهو والمتاع أيضاً رجال الدين المسيحي بالذات كانوا خولاً وخدماً وعبيداً عند أباطرة الرومان ولا ينسى من التاريخ أنه عام 800 ثماني مئة للميلاد حينما كرس الانشقاق بين الرومان الشرقيين والرومان الغربيين كان البابا ليون الثالث يقف في كنيسة القديس بطرس في مدينة روما ليضع التاج على رأس شارلمان أو شارل الكبير اسألوا لماذا قبيل هذا التاريخ اجتمع عدد من الرجال رجال الكنيسة وقدموا التماساً للإمبراطور شارلمان وكان ذلك الوقت ملكاً من ملوك الفرنجة... الإمبراطورية البيزنطية... كنيسة شرقية..
تتهم كنيسة البابا ليون الثالث بالزنى والكذب وشهادة الزور وبمفاسد لا حصر لها.
في 24 تشرين الثاني من سنة ثماني مئة للميلاد دخل شارلمان مدينة روما باحتفال مهيب في الأول من كانون الأول عقد عدة اجتماعات تحت رياسته للنظر في الاتهامات الموجهة إلى البابا ليون الثالث.
في 23 كانون الأول أصدر الإمبراطور أو الملك شارلمان في ذلك الوقت قراراً بتبرئة البابا ليون الثالث من التهم بعد أن فرض عليه حلف اليمين من كل ما نسب إليه؛ مع أن التقاليد المسيحية تمنع أن يتعرض البابا لحلف اليمين لأنه رأس الكنيسة، في عيد الميلاد من تلك السنة 25 كانون الأول عام 800 فوجئ شارلمان وهو يؤدي الاعتراف في كنيسة القديس بطرس بالبابا ليون الثالث يرد الجميل يضع تاج الإمبراطورية على رأس شارلمان وبذلك حدثت قصة الانشقاق نهائياً في الإمبراطورية الرومانية وأصبحت هناك كنيستان كنيسة شرقية تابعة لبيزنطا التي هي القسطنطينية، وكنيسة غربية مقرها روما أو الكرسي الرسولي (كنيسة القديس بطرس) وكانت الأوضاع بهذا الشكل وفي ظل حالة من هذا النوع تعج ببدع ونحل؛ منها نحلة بوزنوف ليس ابن الله في الحقيقة لكن ابن الله بالتبني...
ليس ابن الله في الحقيقة ولكنه ابنه الله بالتبني؛ تعرفون ما معنى هذا افترض أنك مشيت في الطريق فوجدت طفلاً ملقى في الأرض لا تعرف أمه ولا تعرف أباه ابن زنى فأخذته وتبنيته، ربيته فيقال هو ابنك بالتبني؛ المسيح بموجب هذه النحلة هو ابن بالتبني؛ الله وجد مريم قد زنت –حاشاها- من ذلك فتبنى ابنها وأرسله رسولاً للعالمين. في تلك الأوقات التي كانت تشيع فيها نحلة الآيوسيين؛ الذين يقولون إن المسيح من طبيعة واحدة هي من جوهر الله طبيعة إلهية بحتة في تلك المرحلة التي كانت المسيحية تشيع فيها آراء لا أغرب ولا أسخف منها؛ كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة في الوقت الذي أصبحت الكنيسة غير قادرة بتاتاً على أن تعطي أي شيء، أي شيء بتاتاً أصبحت الكنيسة معطلة، وأصبحت النصرانية قد استنفدت أغراضها منذ زمن بعيد فحين يشير النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة يأتي من لا يعقل أو أصحاب الغرض والهوى والذين يريدون أن يطعنوا الإسلام؛ ليقولوا إن هذا الاتصال الأول بين المسلمين وبين الحبشة كان فاتحة تطور كاسح بالنسبة للإسلام لأنهم لقحوا العقائد الإسلامية بالعقائد النصرانية يا سبحان الله أي لقاء وأي جامع بين عقائد الإسلام وبين عقائد النصرانية؟
يا سبحان الله أي إشعاع تملكه الحبشة وهي جزء من إمبراطورية ممزقة لكي تعطي مثل هذه التأثيرات؟
يا سبحان الله هل كان المسلمون الذين عايشوا محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة فرأوا من طهره ورأوا من عفافه ورأوا من صدقه ورأوا من أمانته ما رأوا هل هؤلاء يجذبهم فجور البابا ليون الثالث..
يا سبحان الله كيف تضل العقول، وكيف يشرد الذهن بصاحبه فيضل به ضلالاً بعيداً؟ لا.. ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغامر بإرسال هؤلاء النفر من المسلمين وما كان يخاف عليهم من أن تتأثر عقائدهم فالنصرانية موجودة في بلاد العرب قبل أن يولد محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ولكن كما قال عمر؛ ما عرفت العرب من النصرانية إلا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، أما النصرانية كعقائد وأخلاق وشرائع ومعاملات وآداب فقد ضاعت في ظلمات التاريخ منذ زمن بعيد، بعيد جداً.
النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف هذا كله؛ الحبشة على مرمى حجر من العرب ينبع وجدة ميناءان يؤديان إلى الحبشة، ومتجر قريش مع الحبشة ذاهب وجائي، وأجداد النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا الإيلاف لقريش من ملوك الحبشة يترددون عليها يعرفون.. أخبارها معلومة ليست مجهولة، كل يوم السفن تذهب وتروح تمخر عباب البحر الأحمر الذي هو بحر القُلْزُم وتأخذ البضاعة من الجزيرة العربية إلى الحبشة، وتعود ببضاعة من الحبشة إلى الجزيرة العربية، وهي فيما بين هذا وذاك تنقل الأخبار، وتنقل الحقائق، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم.. الذين تصوروا هذه التصورات الباطلة، كانوا يجهلون ما هو أهم من حقائق التاريخ كانوا يجهلون حقيقة النصرانية في ذلك الحين وقدرتها على العطاء وعلى الإشعاع لا شيء في النصرانية يمكن أن يقبله ذو لب؛ ما معنى الثلاثة في واحد والواحد في ثلاثة وهذه السخافة التي لا تنتهي ما معنى أن يكون البابا معصوماً وهو يتهم بالزنى ويشرب الخمر؟ ما معنى أن يكون البابا يحل شيئاً فتحله السماء. ويعقد شيئاً فتعقده السماء وهو يتملق شارلمان ويرد له الجميل بتتويجه إمبراطوراً على روما الغربية ثمناً لتبرئته من تهم خطيرة مخلة بالشرف والأخلاق والإنسانية أي شيء بقي في النصرانية يمكن أن يتهم الإسلام أنه اقتبسه منها؟
الإسلام جاء وقد كفت النصرانية عن العطاء وحين ذهب هؤلاء النفر ذهبوا لهذه الغاية بالتحديد التي ذكرها لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم اذهبوا إلى أرض الحبشة تخفيفاً عليهم من العذاب الذي يلقونه من القرشيين إلى ذلك الملك حيث كان الرجل معروفاً بالعدل ولذا ردّ وفد قريش ورفض أن يسلم المسلمين للمكيين وأعطاهم الحرية في أن يعيشوا في بلده قال لهم اذهبوا فأنتم (سيوني) أي أحرار من سبكم غرم، ومن ضربكم غرم، أي أنه سيعاقب أي إنسان من الأحباش يعتدي على المسلمين.. وإلى أي مدى؟ نهائياً؟ لا.. قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه وقد جعل الله تبارك وتعالى الفرج للمسلمين بأن هاجروا من مكة إلى المدينة هناك في الهجرة إلى الحبشة رأي (لو ذهبتم إلى أرض الحبشة) أما هنا في الهجرة إلى المدينة، فالأمر مختلف. في الأول أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يهاجروا لكن بعد أي شيء..! جمعهم وقال لهم: انتبهوا قال لهم إني أُرِيْتُ دار هجرتكم (مو) رأيت ولا فكرت ولا قدرت ولا أشرت؛ إني أُرِيْتُ دار هجرتكم أي أن الله تعالى أراني المكان الذي ستهاجرون إليه ليست المسألة بشرية إنما هي ربانية إني أريت دار هجرتكم وإنها أرض ذات نخل بين حرتين والحرتان هم اللتان تكتنفان المدينة المنورة وهي أرض بركانية ذات حجارة سوداء لم يسمِّ المدينة ما ذكر الاسم إنما شخص ووصف الموقع إنها أرض ذات نخل بين حرتين وانطلق المسلمون على هذا الأمل إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى وبعد بيعة العقبة الثانية وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يتربص ما الذي كان يمنعه صلوات الله عليه من أن يكون أول المهاجرين؟ ما الذي كان يمنعه من أن يرافق الموكب المسلم الذي هاجر إلى المدينة؟ كان يأتيه أبو بكر يستأذن بالهجرة فيقول له هون عليك اصبر لعل الله يجعل لك صاحباً، ويصبر أبو بكر وعدة مرات يأتي أبو بكر يقول أتأذن يا رسول الله أن أهاجر فيقول اصبر لعل الله يجعل لك صاحباً؛ وتحدثنا السيدة عائشة في الحديث حديث الهجرة الذي رواه الأئمة جميعاً قالت:
"طرقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهيرة في ساعة ما كان يأتينا فيها قط فلما رآه أبو بكر دهش قال له ماذا يا رسول الله قال إن الله قد أذن لي بالهجرة إن الله قد أذن لي بالهجرة قال الصحبة يا رسول الله قال نعم الصحبة".
إذاً فالمسألة هناك رأي أما هنا فوحي شيء إلهي استقرار الدعوة في المدينة بأمر الله أذن الله بالهجرة وأراه دار الهجرة فذهبوا إليها وهناك مجرد رأي ومشورة.. بين الأمرين فرق كبير ماذا بقي. بقي أن أقول إنني أمسكتكم طبعاً وقتاً طويلاً في هذا الجو الذي قد لا يناسبكم وأتعبتكم لكن أتعبتُ نفسي أكثر تأكدوا أن المسألة كما قلت تحتاج منا إلى أن نقول كل شيء ومرة واحدة وسوف نجزئ الحديث أجزاء وقد أصبحنا بحمد الله في حالة من الصحة نستطيع أن نواصل فيها الحديث جمعتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو أكثر، بقي علينا أن نلقي في موضوع الهجرة إلى الحبشة سؤالاً: هل في مبادئ الإسلام وشرائط الإسلام ما يشجع على أن تتخذ الحبشة موئلاً وداراً للإسلام؟ لكي نرد على الشق الثاني من الاعتراضات التي أثرناها في أول هذه الخطبة قلنا لا، ونقول الآن لا ونرجو من الله أن يوفقنا لكي نتحدث في هذا الموضوع فنبين أن قوانين الدعوة تمنع بصورة باتة أن تنطلق الدعوة من أرض غير عربية على الإطلاق واحد، وتمنع ثانياً أن تنطلق الدعوة الإسلامية وهي تحت كنف أية سلطة مهما كان لونها ولهذا تحتم أن تنطلق الدعوة من بلاد العرب وتحتم أن تكون الدعوة غير محكومة لا بقانون الرومان ولا بقانون فارس فإلى الجمعة القادمة أسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على إتمام ما بقي مما يتعلق بحادث الهجرة إلى الحبشة حتى نضعه في إطاره الصحيح ونعطيه حجمه الحقيقي وبعد ذلك نعرج على الموضوع الذي نعطيه أهمية بالغة، وهو موضوع السلوك الهادئ الرصين المحب الودود الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم وسلكه المسلمون مع الخصوم لنعود بعد كل هذه الجولة لا لنترك الأمر مجرد افتراضات وتصورات واستنتاجات وإنما نستعرض نماذج لا من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم -وسلوكه فوق الشبهات- وهو القدوة العظمى ولكن من مسالك الأصحاب رضي الله عنهم ماذا أعطاهم الصبر وماذا أثمر لهم صبرهم الطويل في حياتهم الخاصة في أخلاقهم الخاصة في بيوتهم في تعاملهم مع بعضهم في تعاملهم مع المجتمع المشرك حينما انتصروا وملكوا الدنيا في تعاملهم مع الأمم المغلوبة، مع العروش التي أصبحت تحت أقدامهم كيف كانوا يعاملون هؤلاء الناس؟ هل فقدوا فوائد الدروس التي تلقوها وهم يتلقون البلاء في مكة أم عاشت هذه الدروس معهم حتى جعلت الواحد منهم يا إخوة يا مسلمون يا أحباب -أميناً على سياسة الدنيا بكاملها. أقول لكم مستبقاً كل هذه النتائج إن الإسلام نجح نجاحاً منقطع النظير في جعل الإنسان سيد نفسه وأعني أن الإسلام أفلح في أن يجعل الإنسان الفرد قادراً على أن يحكم نفسه من هنا كان قادراً على أن يحكم محيطه وأن يحكم العالم من بعد لا أستطيع أن أمنع نفسي من المقارنة لأقول إن المغلولين والصغار التافهين والأوباش الذين يعجزون عن السيطرة على نوازعهم وعلى نفوسهم وعلى شهواتهم هم أحرى وأحرى أن يعجزوا عن حكم العالم ومن هنا نرى في القمة خيانات ورشاوى ومظالم في كل أنحاء الدنيا لأن الناس غير مهذبين، ولأن الناس بلا أخلاق ولأن الناس بلا تربية، فالإسلام يوم يشدد على هذه الناحية يريد من الإنسان الفرد أن يكون سيداً يمشي على الأرض يقول لها أنا هنا أنا هنا لأغير من معالمك ولأخلقك خلقاً جديداً ويريد من الإنسان أن يحكم الدنيا وفقاً لقانون الأخلاق لقانون الله الذي يعمل ويتحرك مفصولاً عن كل دوافع النفس، مفصولاً عن كل حوافز الذات حتى تكون الحركة خالصة لله تبارك وتعالى ومن هنا كان حكم الإسلام لا استغلال ولا سيطرة ولا استعلاء ولا ظلم ولا سرقات ولا ولا ولا ولا.... إلى آخره كان الخليفة تأتيه الأموال فتصب في المسجد صباً فيأتي بالديوان الذي دوَّنَ فيه الناس.. اذهبوا بهذا إلى فلان وهذا إلى فلان وهذا إلى فلان لا يمسي المساء إلا وبيت المال قد وزع كل قرش فيه ذهب إلى المستحقين ليعيش الإنسان عيشة كريمة ولا يقال له تعال انتخبني ولا يقال له تعال ادخل في السجن لأنني أنا سيدك ولأني أنا أطعمك لا ولكن لأنه إنسان بما هو إنسان ينال حق الإنسان ثم بعد ذلك يكنس بيت المال ويرشُّه ويأتي الخليفة فيصلي فيه ركعتين كذلك كانت تساس الأمور وبهذه الأخلاق تستقيم الدنيا وبغيرها لا تستقيم.. بغيرها دمار.. يا يمينيون يا يساريون بغير الإسلام دمار إن الإنسانية كلها إذا لم تفئ إلى قانون الله فسوف تدمر الدنيا على رأسها وإذا أرادت أن تعمر الدنيا وتتفجر بالخير واليمن والنماء والبركة فإلى الإسلام إلى الله إلى شريعة الله وبغير ذلك لا طريق لا شيء لا يمين لا يسار لا أي شيء من هذه التفاهات فهمتم؟ من لم يكن يفهم فليفهم الآن نحن نتكلم بعقل ونتكلم بلا غوغائية ونرغب إلى إخواننا جميعاً يميناً ويساراً، ماركسيين وغير ماركسيين، فقط أن يكونوا أوفياء لعقولهم فقط أن يفكروا كما يفكر الإنسان فقط أن لا يكونوا إمعات لا يكونوا تابعين لا يكونوا تافهين، يفكر بأنه إنسان عالم قائم بذاته يستطيع أن يأخذ وأن يعطي أن يقيم وأن يقعد أن يفعل أن يترك أما الإمعات والتافهون فعبء على الإنسانية عار على التاريخ سبة في جبين الإنسانية، نحن نريد هؤلاء وهؤلاء هم الناس، وبذلك فقط تعتدل اتجاهات الحياة نتكلم هذا الكلام وقد يسأل سائل ما قيمة هذا الكلام في بلد معزول لا تعرف عنه الناس شيئاً، وبين أمة مستذلة مستضعفة أمة المسلمين أمة العرب التي تتفجر الأحقاد من حولها فنقول؛ نحن لا نوافق أبداً على أن الأساس في الحضارة الإنسانية هو الشرط الاقتصادي وإنما كما قلنا نقرر أن الأساس في الحضارة الإنسانية هو الشرط الإنساني فمن أجل ذلك كانت الكلمة أقوى من كل شيء.. كانت أقوى من القنابل الذرية وأقوى من القنابل الهيدروجينية، الكلمة تبقى هي السلاح الفاعل وأنت اليوم تسأل لا تحقرن نفسك لا تدري غداً أين تكون ولا تدري أية مسئولية سوف تتلقاها وتعانيها وأنت بعد ذلك سوف تتذكر أن إنساناً ما مغموراً لا يعرفه أحد في مكان ما من زاوية من زوايا الوطن العربي والإسلامي قلما يخطر على البال قال كذا وقال كذا وتكون قد فرغت من أشياء الدنيا ورجعت إلى العقل فتجد نفسك مرغماً على أن تعتقد وعلى أن تأخذ فإذا أنت تطبق هذا الكلام، من هنا نحن نعول على الكلمة وحين نقول الكلام كل حرف نتحدث به نضع أمام عيوننا مخافة الله تبارك وتعالى.
لا نريد أن ندمر الأجيال ولا نريد أن نخرب الأجيال لو أردنا الدنيا ما كان أسهلها ما كان أقربها ولكن مضى من الله كتاب ناطق توعد فيه الضالين والمضلين بالعذاب المهين، مضى من الله كتاب ناطق وعد الصادقين والمخلصين بجنات تجري من تحتها الأنهار وبذكر مستمر لا ينقطع.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الذكر غير الممنون وغير المقطوع وأن يجعلنا أدوات نافعة في خدمة دينه وشرعة نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى الأسبوع القادم أرجو أن ألقاكم وأنتم على أتم استعداد لترافقونا في رحلة شاقة ولكنها مفيدة وممتعة وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.