المقدمة لسورة المدثر
الحلقة (14) الجمعة 27 شوال 1395هـ-31 تشرين الأول 1975
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
" تنبيه: الخطبة الأولى من سورة المدثر غير موجودة ضمن مجموعتنا لتسجيلات خطب الشيخ رحمه الله، لذا نضطر آسفين في تقديم الثانية من السورة مباشرة حتى نعثر على الأولى، وسوف نقدمها في حينها بإذن الله."
أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون؛ فهذا هو أسبوعنا الثاني؛ مع سورة المدثر رابعة السور التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي كما قلنا في الجمعة الماضية تؤرخ لمرحلة انطلاق الدعوة والجهر بها ومبادأة الناس جميعاً بتعاليمها، ولقد أتينا بالبيان على قول الله جل اسمه:
)يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر(.
وعند هذه الآية وقفنا في حديثنا الماضي مستوفين الكلام عليها بما أمكن فلننظر فيما هو بعد هذه الآية يقول الله تعالى والخطاب بعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
)ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير(.
ثم يعرض الله جل وعلا مشهداً هو الأول من نوعه في سياق الدعوة على ما استقرينا من السور التي مرت من قبل؛ هو مشهد ذلك الذي يجلس يعتصر ذهنه ويجيل فكره ليقول في رسول الله صلى الله عليه وآله وفي هذا الذي أتاهم به من عند ربه قالةً تشيع في الناس وتصد الناس عن الاستماع للرسول صلى الله عليه وسلم.
قلت إن المشهد هو الأول من نوعه في سياق الدعوة؛ وفقاً لما استقرينا في السور الماضية لا يعني ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبادَأ بعداء، ولم يقابَلْ بصد واستنكار، فلقد رأينا ونحن ننظر في أول سورة نزلت على رسول الله صلوات الله عليه وآله ذلك المشهد الذي يقول الله عنه:
)أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى(.
فهذا المشهد قصه الله علينا في أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن المشهد الذي نواجهه الآن مغاير نوعياً للمشهد الذي مَرَّ من قبل ذلك؛ موقف رجل غاظه أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج على أعراف قومه، ويخترق المعهود من مسالكهم وعوائدهم في عبادتهم وتقربهم إلى آلهتهم فتحدث حديث المستكبر العاتي فكان أبا جهل... وهنا موقف مغاير.. موقف الأمة التي لم تبتل بشخص ... وحسب، بل ابتليت بما هو أدهى وأشد عليها نكراً، وهو هذا الكلام البليغ المعجز الذي يختلب الألباب، ويستولي على العقول؛ لم تعد المشكلة عند المكيين مشكلة رجل منهم خرج على مألوفات قومه؛ ولكنها مشكلةُ التحدي لأبلغ ما تتفاخر به الأمة؛ بل لعنوان فخارها بإطلاق، فالأمة العربية تفخر بأنها أمة اللسن والبيان والبلاغة والفصاحة فجاء ما لم تعرف له رداً وما لم تستطع له وصفاً؛ جاءها هذا القرآن؛ أدارته على المعهود بينها مما تقول من شعر فخرج عليه، وقايسته على ما يقوله الخطباء في المواسم والمناسبات فبزَّ ذلك جميعاً وسما وعلا على ذلك جميعاً، وقايسته على دمدمة الكهان وسجعهم وكلامهم الذي لا يكاد يفهم فانماز عنه هذا القرآن بالفصاحة والجزالة والبلاغة وسهولة المأخذ وقرب التناول، بالنسبة للعقول والنفوس والقلوب جميعاً؛ فوقعت في حيرة: ماذا تقول؟ أتقول إن ما جاء به محمد شعر؟ ما هو بالشعر، أتقول إنه الكهانة؟ ما سلوك محمد بالذي يسمح بوصفه بالكهانة.. أهو رجز الشعراء ودمدمة الكهان؟ لا، ما هو إذاً ؟
جلس النبي وجلس الملأ من قريش يديرون الرأي بينهم فانتهوا إلى شعار وأقول شعار لأقرب المسألة من الأذهان، لأن الناس في هذه الأيام تعمد إلى الشعارات والشعارات لفظ موجز مختصر يحوي وراءه معاني كثيرة يمكن أن يثبت الشعار بلفظه في أذهان الناس وهو بطبيعة صنعه أي الشعار سهل الحفظ والاستظهار ثم يترك بعد ذلك للذهن أن تتداعى به المعاني واحداً وراء آخر لا أريد أن أحلل مسألة الشعارات، ولكن أريد أن أنبه إلى خطر الشعارات، فالشعارات دائماً سلاح ذو حدين يمكن أن تفهم منه الحق كما يمكن أن تفهم منه النقيض، ويمكن -وهذا هو وجه الخطر- أن تدخل في صياغته الفضفاضة الواسعة كل ما شئت من المعاني ولا عليك بعد ذلك أن تتناقض ويضرب بعضها وجوه بعض.
خرج المكيون بعد المداولة، وبعد اعتصار الأذهان، وبعد إدارة الرأي بين عقلائهم- إذا سمح لنا الموقف بأن نصف أحداً منهم بالعقل- خرجوا بأن محمداً جاء بالذي جاء به وهو سحر يؤثر، أي أنه سحر يأثره أي ينقله ويرويه ويحمله عن غيره وهذا السحر يفرق به محمد بين الوالد والولد، وبين الزوج والزوجة وبين القريب والقريب وبين الصديق والصديق فأدير الرأي وكانت النتيجة هكذا، ولخطورة هذه النتيجة ولعظم تأثيرها في صد الناس عن الاستماع إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخرج الله جل وعلا المسألة هذا المخرج الفذ مخرج ذلك الإنسان الذي تولى كبر هذه المسألة:
) ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر سأصليه سقر(. إلى آخر الآيات الكريمة فهو موقف من حيث هو موقف مؤثر شديد الخطورة وهو موقف لا يَنْصبُّ على شخص النبي؛ وإنما على القرآن الذي جاء به النبي، وهو موقف لا يعبر عن نزوة فرد كالذي كان من أبي جهل، واقتصه الله في أول سورة، وإنما هو موقف تنطبق عليه صفة المؤامرة، بكل ما تعطيه الكلمة من معنى الخبث والشر ومحاولة تحريف الحق وإلباسه ثوب الباطل.
ننظر الآن من أول الأمر بعد أن قال الله تعالى:
)يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر(.
قال لمحمد عليه الصلاة والسلام:
)ولا تمنن تستكثر(.
قبل أن أخوض في الحديث؛ أحب أن أعتذر لكم عن ناحية أنا أعرف الناس بصعوبة المنهج الذي نسير عليه وصدقوني أنني أول من يتأذى لهذا المنهج لأنني أعرف تماماً عسره وأعرف أن كثيراً من الإخوة الذين يكلفون أنفسهم مشقة الاستماع إلينا، يجدون صعوبة فائقة في متابعة هذا الذي نقول، ولكني مع ذلك لا أملك أولاً -نظراً لطبيعة تكويني العقلي- أن أفعل غير هذا ولا أملك ثانياً -وهو الأهم- أن أحيد عن هذا المنهج لسبب واضح أعلنته مراراً: هو أن مفتاح نهوض الأمة في هذا القرآن.. افهموا ما أقوله لكم.. يوم تفهم الأمة هذا القرآن ننهي كل شيء لا يبقى مجال لأن تختلب ألبابنا وتسحر عقولنا بأقاويل زيد وبتراتيب عمرو لأننا لو فهمنا القرآن حق الفهم لوجدنا أن كل ما دونه من الكلام لغو وباطل لا يستحق أن يشغل الإنسان به نفسه وعقله طرفة عين لكن مشكلة الشرود عن كتاب الله والبعد عنه تتركز في عدم الفهم عن الله تبارك وتعالى.
إن القرآن يوم أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كان له بين العرب دوي هائل وبعيد عن العدوّ والولي سواء؛ أما الولي فهو يتلوه مأخوذاً بسحره، مأسوراً بقوة بيانه وأسره عاملاً بكل ما أراد الله بعد وثوقه بأن هذا الكلام يعلو على مجهودات البشر، وأن العدو متوجس ومرتاب يخشى أن يسمع كلام الله ولقد اقتص الله علينا أن منهم من يجعل أصابعه في أذنيه كي لا يسمع القرآن، ولقد اقتصت علينا روايات السيرة أن العرب الجاهليين وخصوصاً منهم أهل مكة البلغاء والملأ الأشراف منهم كانوا يتواصون بعدم الاستماع إلى محمد صلى الله عليه وسلم بل لقد كانوا في أيام المواسم حين يفد العرب حجاجاً إلى بيت الله يأخذون السكك وأفواه الطرق ويوصون الوافدين من غير قريش بأن لا يسمعوا لمحمد صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأنهم يعلمون أن مجرد استماع العربي الذي صفت فطرته واستقامت سليقته اللغوية.. كاف لأن يحمل الإنسان العربي إلى الإصغاء، ثم إلى الاقتناع، ثم إلى الدخول في هذا الدين.
بلى لدينا من روايات السيرة أن الملأ الأشراف من قريش الذين كانوا يتواصون بعدم الاستماع إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يتسللون خفية تحت جنح الظلام دون علم من الآخرين لكي يستمعوا إلى قراءة محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن في صلاته في جوف الليل. بل إن عندنا في رواية السيرة أن أبا بكر حينما أجاره سيد الأحابيش كان من جملة الشرائط التي أخذت على أبي بكر أن لا يجاهر بصلاته وأن لا يبرز بصلاته أمام الناس كي لا يفتن النساء والصبيان وضعفة المشركين.
كل ذلك يدلكم على أن الإنسان بمجرد أن يحسن الفهم عن الله، بمجرد أن تستقيم سليقته اللغة سوف يقع لا شك تحت هيمنة وسيطرةِ وأسر هذا الكلام المعجز؛ فنحن مشكلتنا أننا نقرأ القرآن ولا نفهم القرآن، ولو أننا فهمنا القرآن لتهاوت مشاكلنا جميعاً. ولوجدنا أنفسنا في فريقين فريق يؤمن بالله وبهذا الذي جاء من عند الله فيعطيه كل نفسه بالرغم من الصعوبات والمشقات والأخطار والأهوال، وفريق الضالين المكذبين المنافقين المرجفين والمأجورين هناك وهم معرفون بسيماهم معروفون بلحن القول.
لهذا السبب فمن جملة وجوه المنهج الذي أخذت نفسي به أن أصل معكم إلى تذوُّق القرآن الكريم، أن أقرِّبَ القرآنَ إليكم بقدر الإمكان، بقدر ما أطيق من البيان، وبقدر ما أستطيع مخاطبة سلائقكم؛ تعالوا يقول الله جل وعلا:
)ولا تمنن تستكثر(.
ثلاث كلمات لكن هذه الكلمات الثلاثة تساوي ثلاثة عوالم ماذا تعني؛ لاحظوا أولاً أنها جاءت بعد ماذا؟ حين نأتي بجزء من الآية فنقطعه عن سياقه، أو نأتي بآية من الآيات فنقطعها عن سياقها؛ نكون قد أسأنا إلى عملية الفهم نكون قد ألغينا الفهم تماماً. انظروا يقول الله:
)يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر(.
ثم يقول له: ولا تمنن تستكثر، انظروا إلى الساحة التي عرضت في أول السورة يطلب إليه الله أن يتجرد لإنذار قومه ينذرهم بأنهم إن أخذوا أنفسهم بهذا الهدى الذي جاءهم به محمد عليه السلام، فسيصلحون دنياهم، وسوف تسلم لهم آخرتهم ثم يقول لهم (وربك فكبر) أي أحكم على هذه الآلهة وعلى هؤلاء الزعماء جميعاً بأنهم صغار وأن الكون كله لا كبير فيه إلا الله وهذا معنى وربك فكبر كما شرحناه بتوسع في الجمعة الماضية.
ثم يقول له (وثيابك فطهر) ومعنى تطهير الثياب كما شرحنا من قبل تطهير الأخلاق من درن الفساد والشهوات والأطماع والرغائب وما أشبه ذلك لأن العرب تكني بطهارة الثياب عن طهارة الأخلاق وإن كانت طهارة الثياب غرضاً مراداً ومقصوداً في شريعة الإسلام ثم يقول له (والرجز فاهجر) وقد انتهينا في تحليلنا لمعنى الرجز أنه هو كل ما يقلقل الإنسان ويزعجه عن قراره سواء كان ذلك سجوداً لصنم أو مقارفة لخطيئة أو عملاً يستدعي النقمة والغضب من الله تبارك وتعالى أي معنى (والرجز فاهجر) أن هجران الرجز يعني الاستقامة على أمر الله تبارك وتعالى والبعد عن مساخطه جل وعلا.
انظروا وقدروا بأنفسكم، أيُّ إنسان يفعل كل هذه الأشياء سواء في ذاته بأن يقيم أودها على أمر الله حتى تستقيم ذليلة طيعة كما أراد الله، وللناس يحملهم على الجادة، ولكل ما هو مخالف لأمر الله يلغيه، ويدعو هو أيضاً إلى إلغائه؛ أي مجهود يتطلبه هذا الأمر لو أن إنساناً منا قام بعشر معشار هذا الذي طلب من محمد عليه الصلاة والسلام لرأى أنه قد فعل شيئاً يمكن أن يغير السماوات والأرض.
إن الكبرياء تتدخل هنا؛ بل إن الحوافز الإنسانية والرغبات الإنسانية لتتدخل في هذا المجال، إن الشيطان -كما أخبرنا- الله، وكما أخبرنا الرسول عليه السلام، وكما أخبرنا الأخيار الذين مروا بتجارب الصراع مع الشيطان- إن الشيطان يتكالب ويستقتل من أجل إضلال الإنسان متى حينما يكون الإنسان في أوج الأحوال التي ترضي الله تبارك وتعالى؛ لأن الشيطان هنا يشعر بأن فريسته سمينة جداً تكاد تفلت من بين يديه فالإنسان حينما يعمل، حينما يقدم، حينما يقوم على أمر الله يكون قد أهدف نحره للشيطان، يكون قد واجه الشيطان مواجهة هنا لا بد من الحماية، لا بد أن يحمي الله عباده المؤمنين من أن تحبط أعمالهم، ومن أن يفسد عليهم الشيطان مسالكهم ونواياهم هنا يأتي موضع القول؛ في غير هذا المكان لا يصلح هذا الكلام، هذا يصلح بعد أن ينبه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ضرورة القيام بما مضى فإذا قام بما مضى جيء بهذا الكلام ليكفكف من غلواء النفس الإنسانية وليردها إلى مقام العبودية الذي لا ينبغي أن تَزِلَّ عنه ولا أن تتزحزح (ولا تمنن تستكثر) فهذا الكلام هذا محله.
لكن ما معناه في لغة العرب، واسمحوا لي أن أكثر عليكم من لغة العرب فإن هذه اللغة الشريفة تكون اليوم أو تكاد تكون اليوم مهجورة حتى من الناس الذين يزايدون علينا في قضية العروبة، ويَقيْنٌ أن هؤلاء المزايدين أعاجمُ، ولو كانوا عرباً حقاً لأعطوا ولاءهم لله ولمحمد صلى الله عليه وسلم، خير نتاج أنتجته الأمة وأعظم شرف يمكن أن تتقلده الأمة وتضعه فوق رأسها، ولكن المزايدين علينا في قضايا العرب والعروبة لا أشك ولا أرتاب في أنهم أعاجم، وفي أنهم أعداء ألداء لهذه الأمة التي أكرمها الله بمحمد فأكرمها برسالة الإسلام وشرفها بهذا القرآن الذي هو حجة الله على العالمين إلى آخر الزمان.
ماذا يعني قولنا (ولا تمنن تستكثر) ؟
المنُّ في لغة العرب ماذا يعني؟ للمنِّ في لغة العرب معان؛ المنُّ أولاً مكيال وميزان وزن وما يزال مستعملاً إلى الآن؛ ومن هنا يأتي من معاني المنّ: التقدير يقول الله جل وعلا: (هذا عطاؤنا فامننْ أو أمسك بغير حساب) ثم يقول: (إن هذا لرزقنا ماله من نفاد) امنن أي أعط عطاءً مقدراً موزوناً ومعلوماً، ومن معاني المنّ أيضاً: القوة. نقول نقصتْ مُنَّةُ فلان أي ضعفت قوته ومن معاني المن أيضاً: نقيض القوة وهو الضعف نقول: حبل منين أي ضعيف، ومن معاني المن أيضاً: القطع. نقول انقطعت مُنّة فلان أي انقطعت قوته وقدرته؛ لاحظوا هذه المعاني التي ذكرناها والتفتوا إلى معنى قوله جل وعلا (ولا تمنن تستكثر) أول ما يتبادر إلى ذهنك أنك بقولك ولا تمنن تستكثر أي لا ترى أن ما قدمته من خير ومعروف ومن خدمة بلغ الغاية فتقطع خدمتك، فالمن في أول معانيه قطع المجهود، قطع العطاء، قطع التضحية، ترى أنك قد فعلت كل ما يتوجب عليك ثم من معناه التقدير كما قلنا فيقول الله (ولا تمنن تستكثر) حينما أشعر أنني أنا المعطي من قوتي من قدرتي بفعلي بجهدي بصنعي، لكني حينما أعطي للغير فالموضع موضعي أنا في القضية يختلف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد تعليقاته على تكالب بعض الناس على الحصول على المغانم:
"إنما أنا قاسم والله يقسم" فالرسول عليه الصلاة والسلام يضع نفسه هنا في المكان الذي يجب أن يوضع الإنسان فيه لا غير؛ إنما أنا قاسم والله هو المعطي، أقرب إليكم هذا نحن على أبواب الشتاء أنت مثلاً محتاج إلى كساء ما عندك كساء جئت أنا فكسوتك فحصل لك بهذا الكساء الدفء واندفع عنك العري والمرض، وما أشبه ذلك. هل يجوز لك عقلاً وبداهة أن تقول إنك أنت الذي أدفأت نفسك؟ لا. أنت لم تدفئ نفسك؛ الذي أدفأك هو الذي أعطاك الكساء وهو الذي وضع هذا الكساء على بدنك. انقلوا المسألة إلى ما يعطيه الله جل وعلا إلى ما يفعله الإنسان أنت أيها الإنسان مطالب بعمل، مطالب بأن تقوم بالإنذار بالدعوة إلى الله ما مكانك في العملية هنا يجب أن يكون الجواب قاطعاً وصريحاً عن مكانك في هذا العمل.
هل أنت الذي أنفقت وَجُدْتَ؟
هل أنت الذي أعطيت نفسك القوة على الدأب والمثابرة والمصابرة؟
لا؛ من الذي أقدرك؟ الله تبارك تعالى الله هو الذي أعطاك القوة، وهو الذي منحك الصبر على القتال والجهاد، وهو الذي حبب إليك التضحية والبذل والعطاء، وهو الذي هيّأك لكي تكون إنساناً عاملاً في ميدان الدعوة.
إذا كان الأمر كذلك فلماذا تنظر إلى هذا العطاء الذي تعطيه نظر التقدير، وترى أنك اليوم اشتغلت ساعة أو ساعتين وفي هذا الشهر، عملت يوماً أو يومين وترى بعد ذلك أنك قضيت الذي عليك؛ لا يجوز لك هذا بتاتاً لأنك أنت لم تنشئ في نفسك القدرة على ذلك، وإنما أنت أداة، خادم، لا أكثر ولا أقل، هنا ماذا يفيدنا هذا، يفيدنا ربط الإنسان العامل لله جل وعلا في قاعدة العبودية لله تبارك وتعالى كي لا تشره النفس إلى تجاوز هذا الحد لأن في التجاوز خطراً وأي خطر.
تعالوا ننظر للمسألة من جانب آخر ننظر إلى الإنسان العامل، هذا الإنسان الذي لم يوفر لنفسه ولقلبه الحماية الكافية من شرور الشيطان ومن نزغات النفس الأمارة بالسوء، كم من الناس يتقدم للحقل العام سواء كان في مجالات البر والإحسان، أو في مجالات الدعوة إلى الله أو في مجالات القضايا العامة، يفعل ويتصرف ويدعو ويتحمل؛ فإذا فعل هذا الذي فعل، وخرج من هذا الأمر يظن أنه قد علق على صدره وساماً، هنا يُقْتَلُ الإنسان دون ريب، يُذْبَحُ بغير سكين لمجرد أن يشعر الإنسان بأنه يفعل شيئاً يسوغ له التطاول على الناس، ورؤية نفسه أكبر من الناس لقد ذبح نفسه بسكين.
إن الإنسان العامل ولا سيما في مجال الخدمة الإسلامية يجب أن يلغي ذاته، يجب أن لا ينظر إليها بأي منظار من المناظير، ولهذا تركزت الحماية هنا بهذا الكلام الذي قاله الله: (ولا تمنن تستكثر) لا تمنن على أحد بهذا الذي تعمل بكل الجهاد الذي جاهدته، بكل العمل الذي عملته بكل الصبر الطويل المر الذي صبرته لا تمنن على الناس ولا ترَ أنك فعلت شيئاً يسوغ لك التطاول على الناس. لماذا أيظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لا؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقْسِمُ ويقول: "والله إنني لأعرفكم بالله وأشدكم له خشية" وكيف لا يكون ذلك وهو يعاين من أمر الله ما لا نعاين، وهو يأتيه خبر السماء في آناء الليل وأطراف النهار لماذا لا يكون كذلك بل كل أنبياء الله كانوا كذلك.
قال الله تعالى في سورة آل عمران يقتص علينا وصفهم اللازم لهم:
)ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون(.
فإذاً الوصف اللازم للأنبياء أنهم يعرفون مقام العبودية، ولا يأذن أحدهم لنفسه أن يتجاوز هذا المقام قيد شعرة واحدة، ولكن الكلام من خلال النبي موجه إلى الدعاة، إلى كل الدعاة إلى الله لأنهم غير معصومين من أن تتحرك في نفوسهم نوازع الاستطالة والكبرياء على عباد الله تبارك وتعالى، وفي ميدان الدعوة يجب أن يظل هذا المعنى حاضراً لأن الشيطان حين يستولي على نفس الداعية ينفخ في أنفه فإذا هو صريع هذه الخنزوانة التي تجعل الإنسان يرى أنه هو السيد، وأن كل من في الأرض له تبع، وأنه إذا قال فينبغي أن يسمع، وإذا فعل فينبغي أن يتبع وأنه لا ينبغي لأحد أن يرد عليه قولاً أو يسفه له رأياً، هنا ينتهي الداعي إلى الله بصورة نهائية كما قلت لكم يذبح نفسه بغير سكين.
لهذا فالله جل وعلا يحذر هنا (ولا تمنن تستكثر)، وتستكثر هذه الجملة واقعة موقع الحال الذي يصف هيئة وحال الداعي إلى الله أي لا تمنن لا تقطع عطاءك ولا تستطل على الناس بذلك ولا تمنَّ عليهم به ترى أنك قد استكثرت من فعل الخير لهم وأنك قضيت الذي عليك لاحظتم كيف تقع هذه المعاني الدقيقة والعظيمة تحت هذه الكلمات الثلاثة لاحظتم كيف يتوجب علينا حينما نقرأ هذا الكلام ونحن نأخذ طريق الدعوة إلى الله أن نتأدب بهذا الأدب الرائع الذي أدب الله به عباده المتقين.
إن الأمر لا بد فيه من إنكار الذات، ولا بد فيه من العطاء بغير حدود، طالما يتردد النفس بين جنبيك فأنت مطالب بأن تخدم هذا الإسلام، وبأن تخدم هذه الأمة، وبأن تعطيها كل ما تملك من طاقة، إياك أن تشعر بأنك فعلت شيئاً لك فيه فضل أنت لا فضل لك الفضل كله لله، والمنُّ كله لله، ومن الخير لك بدلاً من أن تستشعر هذا الهاجس الخبيث أن تخضع بالشكر والعرفان لله الذي ساق على يديك سبب هداية الناس ألم تسمع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في الجنة.
"لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت".
ثم ماذا بعد (ولربك فاصبر)؟ ماذا يعني قولنا ولربك فاصبر؟ نلاحظ أولاً أن الله جل وعلا استعمل هذه اللام التي هي اللام الجارة وندري طبعاً أن العرب تضع حروف الجر بعضها مكان بعض بلا نكير ولا تمانع بينهم في ذلك؛ فماذا يعني ذلك؟ ننظر النظرة الأول (لربك فاصبر) تقول لأخيك اصبر لهذا الأمر معنى اصبر على ما يأتيك من هذا الأمر اصبر عليه وإن كان شديداً هل يجوز أن نؤول المسألة هكذا في هذا المكان؟ لا أظن. لماذا؟ لأننا لو أخذنا الكلام بظاهره ونقول اصبر لله فمن ذا الذي يقوم لله؟ من ذا الذي يستطيع الصبر لله؟ لا أحد ولا شيء: )فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً(.
إن الصبر لله أمر لا يتصور في قضية العقل فلا بد إذاً أن في الكلام محذوفاً هذا المحذوف واحد من شيئين بل هما شيء واحد يؤول بعضهما إلى بعض إما أن يكون المراد ولثواب ربك فاصبر، وإما أن يكون المراد ولأمر ربك فاصبر، فعلى كل حال فالغالب من الناس الذين يصبرون على أمر الله إنما يصبرون على أمر الله طلباً لوجه الله وطلباً لثواب الله تبارك وتعالى بعد أن حصل لدينا هذا المفهوم وتقدر عندنا أن في الكلام محذوفاً لا بد من تقديره نأتي لنتناول لماذا بل هل من اللازم الوفاء بالصبر في هذا المقام؟ نعم لا بد من ذلك، الدعوة إلى الله ليست شيئاً يتفاوت مع أعراف الناس، ولا شيئاً يتفق مع حوافز الناس، الله جل وعلا في جملة الأديان أراد أن يهذب الإنسان، عملية التهذيب والتأديب عملية شاقة على النفس وعملية عسيرة في حنايا المجتمع الواسع، لا بد إذاً ونحن ندعو إلى الله في ظل آلهة شتى وبين زعماء كل منهم يرى أنه خلق من طينة أخرى، وبين قبائل كل قبيلة تفخر بنفسها وترى الناس دونها، وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا كما كان يقول شعراؤهم المغاليق لا بد للدعوة إلى الله في ظل أمور وأحوال كهذه أن تكون شيئاً عسيراً، لماذا ليس من السهل أن يخرج الإنسان عما ألف إن الإلف يثبت الأمور تثبيتاً شديداُ ويرحم الله المتنبي فلقد كان يعلل الموت بأنه صعب على النفوس لأن الحياة مألوفة وإلا فالموت شيء لا ضير فيه ولا صعوبة فيه فيقول:
إلف هذا الهواء أوقع في النفس أن الحمام مر المذاق
الموت ليس مراً كما نصور لأنفسنا، ولكن المُرَّ هو الخروج عن الأمر المألوف فليس من السهل أن نسوق الناس في طريق لم يألفوه؛ والعبادة.. تجريدها لله شيء يصعب. نحن ندعو إلى الله بين قوم ينكرون وجود الله أصلاً فلا بد من صد ورد ونحن ندعو إلى الله بين قوم شابت عقائد الألوهية عندهم شوائب كثيرة فلا بد في الأمر من صعوبة فعملية الدعوة إلى التوحيد بمجردها، بقطع النظر عن أي شيء آخر تقتضيه عملية التوحيد، شيء لا بد من أن يلاقي فيه الإنسان صعوبة. هنا واجه الصعوبات من الناس رجلان؛ رجلٌ أوتي عزيمة الصبر فهو قادر على مغالبة الحوادث قادر على أن يكفكف مزاجها، قادر على أن يصبر نفسه على الصعوبات مهما كانت، ورجل جبان خائر متهافت لا يستمسك.
الثاني لا يصلح للدعوة ليقعد في أخريات الصفوف، لا يحاول أن يتصدر، لا يحاول أن يقود القافلة؛ لأنه سيقودها إلى الفشل والانهيار والذين يقودون القافلة هم الشجعان، الرجال الذين صبروا نفوسهم لله تبارك وتعالى، الصبر لمن؟ لله ابتغاء وجه الله، ابتغاء رضوان الله، لا ابتغاء المحمدة عند الناس ولا التصدر بين الناس هذا الطبع هذه الخليقة هي خليقة الرجال وهي الخليقة اللازمة للدعاة إلى الله تبارك وتعالى حين نريد التغيير لا بد من صعوبات فإن كنا نريد التغيير فلنصبر ماذا يقول الله جل وعلا لرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى في سورة الأنعام مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أن استعرض الله تبارك وتعالى نبأ كثير من المرسلين مع أقوامهم وأممهم:
)قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون( أنت كذاب. يقولون أنت ساحر يقولون أنت شاعر. يقولون أنت تنقل هذا الكلام عن غيرك:
)قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك(.
العرب يوم بادأت محمداً عليه الصلاة والسلام بالعداء المر وبالمحاربة المنكرة ما كانوا يجرؤون على اتهامه بالكذب كانوا متفقين على أنه الصادق الأمين:
)فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية فلا تكونن من الجاهلين(.
فالله جل وعلا يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام الجامع المانع تأكيداً لأهمية الصبر في ميدان الدعوة حينما قصصنا عليك نبأ الأنبياء من قبل وقصصنا عليك بما قوبلوا وكيف بادأتهم أممهم وأقوامهم فصبر الأنبياء وأوذي الأنبياء فإن كنت لا تستطيع أن تصبر فإن كنت تريد أن تأتيهم بآية فابتغ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، ثم يقول إن هذا من شأن الجاهلية؛ لا بد إذاً في سياق الدعوة من الصبر فالذين يظنون أنهم يخدمون الإسلام بالمجاملات وبالتربيت على الظهور وبمسح الأجواخ والذين يظنون أنهم يخدمون الإسلام بالنوم على الحرير وعلى الريش، والذين يظنون أنهم يخدمون الإسلام من وراء الأطعمة اللذيذة والأشربة السائغة، الذين يظنون أن الدعوة إلى الله كلام يقال في الهواء هؤلاء جميعاً واهمون غرباء على طريق الله تبارك وتعالى.
إن الدعوة إلى الله عمل لا يصبر له إلا أولو العزم من الرجال والله جل وعلا من إحسانه للإنسان ومن إشفاقه بالإنسان حين أمره بأن يقوم فينذر لم يترك له أن يتصور عواقب هذا الأمر رخاءً وسهولة ويسراً بل شرح له الأمر على الطبيعة، بيَنَّ له ما في الطريق من أشواك، وما في الطريق من عقبات، ليأخذ الآخذ عن بينة، وليقعد القاعد عن بينة، ورحم الله امرأ عرف حدوده فوقف عندها، ولم تشره نفسه إلى أن يضع نفسه في المكان الذي لم يخلق له، ولم يخلق هو لذلك المكان وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.