سورة القلم(1)
سورة القلم (1)
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
الجمعة 15 شعبان 1395هـ -22 آب 1975 الحلقة السادسة
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون. فلقد قضينا الجمعتين السابقتين في الحديث عن سورة العلق وكنت أشعر أن من الضروري اللجوء إلى شيء من التفصيل في البداية، وقد طلبت إليكم جميعاً قبل أن أبدأ هذه السلسلة من الأحاديث أن تقرءوا السور الأربعة التي هي أول ما نزل من القرآن، ولا شك أن قدرات الناس تختلف وليس كل قارئ للقرآن قادراً على أن يقرأه على النحو المنتج فرجوت بالتفصيل الذي عمدت إليه في الجمعتين الماضيتين أن أعرض طريقة في القراءة والفهم والتدبر تعين الإخوة جميعاً على حسن الوقوف عند مرامي كتاب الله جل وعلا. أما الآن ونحن نستقبل الحديث عن بقية السور فلست أرى داعياً للإغراق في التفاصيل فما مضى يكفي فيما أقدر.
نحن اليوم نستقبل سورة القلم بعد أن أنجزنا الحديث عن سورة العلق فماذا في هذه السورة مما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون؟ يقول الله تبارك وتقدس:
(ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
هؤلاء الآيات هُنَّ فاتحة السورة الكريمة فلننظر فيها على سبيل الإجمال والاختصار؛ أما قوله تعالى ن: هذا الحرف المفرد فلن نختار فيه إلا ما اخترناه قبل ست سنوات أو سبع سنوات حينما تعرضنا للحديث عن سورة البقرة وشرحنا الأقاويل التي أوردها المفسرون في قوله تعالى ألف لام ميم أ.ل.م. رجحنا ما رجحنا آنذاك.
وخلاصة ما انتهى إليه رأينا بعد طرح كل الآراء المتهافتة التي لا يسندها عقل لا نقل أن هذه الحروف المقطعة التي جاءت في بعض أوائل السور إنما هي أشارات تنبيه لجذب انتباه السامع كما تقول في فاتحة كلامك ليستجمع المستمع إليك شوارد ذهنه وعقله ويتهيأ لمعرفة ما سوف تلقي إليه من القول هذه واحدة، ثم هي تنبيه لكن من زاوية أخرى فهي تنبيه ولفت نظر إلى اعجاز هذا الكتاب الكريم الذي بُهتت العرب وهم يسمعون محمداً صلوات عليه وآله يتلوه عليهم كأن الله جلت قدرته يشير بهذه الحروف المقطعة إلى أن هذا القرآن الذي جذب ألبابهم وحير عقولهم مؤلف من ذات الحروف التي يتألف منها كلامهم ومنطقهم؛ الحروف التي نستعملها في ترتيب الكلمات التي نتفاهم بها في خطابنا فيما بيننا هي نفس الحروف التي استخدمت ونفس الأداة التي استعملت لتأليف هذا القرآن الكريم ومع ذلك مع أن المادة الأولية في الكلام الإلهي وفي الكلام البشري واحدة فالفرق واسع جداً بين طبقة الكلام الإلهي وبين طبقة كلام الناس الفرق يشبه أن يكون كالفرق بين الخالق والمخلوق.
منذ أن نزل هذا الكتاب على رسول الله صلوات الله عليه وألقى في وجوه العرب فرسان البلاغة وأرباب اللسن والفصاحة بالتحدي أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله وهذا التحدي قائم لم ينقطع، والطاقة البشرية تقر على نفسها في كل جيل بالعجز عن الإتيان بمثل هذا الكلام وكفى بذلك دليلاً على تنزه المصدر الذي نزل منه هذا الكتاب الكريم.
ولا عجب فإن معجزة محمد صلى الله عليه وآله هي هذا الكتاب الذي عمل في زمنه -بأبي هو وأمي- وما زال يعمل على توالي الأحقاب والأجيال لم ينقطع تأثيره ولن ينقطع تأثيره، بحال من الأحوال والرسول عليه السلام يقول في هذه الناحية:
ما من نبي أرسله الله قبلي إلا وأوتي من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً يتلى، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة.
معجزات الأنبياء من قبل؛ من فَلْقِ؛ البحر وقَلْبِ العصا حَية وإبراءِ الأكمة والأبرص، وإحياء الموتى معجزاتٌ محكومة بظروفها وبشرائطها التاريخية لا تتكرر، ثم إن تأثيرها مقصور على الذين شهدوها في لحظة زمانية معينة، وفي مكان معين لا تتعداهم إلى سواهم لكن هذا القرآن يفعل في الناس فعل السحر يقرأه العربي فينتفع، ويقرأه الأعجمي فينتفع، ويقرأه ابن القرن الأول فينتفع، ويقرأه ابن القرن الرابع عشر فينتفع، ويقرأه الناس إلى ما لا يعلمه إلا الله فلا يزيد الإنسانية إلا هداية وتقى.
وترون أنتم أن كل أمم الأرض التي كانت لها في الماضي حضارات وكانت لها مبادئ وأهداف تفور فورة، ويكون لها مد وتنتشر بين الناس ضمن شرائط محددة ثم يدركها جنوح حتمي نحو الانحلال فتتقلص وتتراجع سوى هذا الإسلام منذ جهر به رسول الله يشهد مداً متصاعداً وتقدماً مستمراً لا يعرف نكوصاً ولا تراجعاً.
منذ سنوات كان المسلمون في حدود خمس مئة مليون وهم اليوم يكادون يقربون من المليار وكل يوم تطلع فيه الشمس على الدنيا يشهد هذا العالم أناساً يدخلون دين الله وحداناً وجماعات بفضل القوة والديناميكية التي أودعت هذا القرآن الكريم هذه الفاعلية الخارقة مسحة ربانية وليست صناعة ألفاظ ولو كانت صناعة ألفاظ لكان كلامي وكلامك مؤثراً كتأثير الكلام الإلهي، ولكن الكلام الإلهي يفعل وكلام الناس لا يفعل هذا إعجاز محمد صلى الله عليه وسلم، معجزته العظمى وآياته الكبرى هذا القرآن.
ن.. إشارة لحرف إلى أن ما تلفظون به من قول فمؤلف من هذه الحروف ومع ذلك فأنتم عاجزون عجزاً مطلقاً عن أن تأتوا بمثل هذا القرآن أو بقريب من هذا القرآن ثم قال: (والقلم وما يسطرون) وتعرفون أن الله جل وعلا استجاش الهمم والدواعي نحو العلم في فاتحة سورة العلق:
)اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم(.
في السورة الأولى إشارة لهذه النعمة السابقة، وهي تعليم الإنسان بالقلم وتعليمه ما لم يعلم، وفي السورة الثانية من القرآن في سورة القلم إشادة بالقلم وبآثاره إشادة بالعلم وبالمعرفة، لكن هاهنا دقيقة يجب أن نتفطن لها لا يجوز أن يغفل عنها قارئ لأنها تتعلق بالكشف عن بعض أسرار الكتاب الكريم صياغة الآية (والقلم وما يسطرون) الواو واو القسم وما بعد الواو مقسم به والقسم واقع على شيئين على القلم وعلى آثار القلم على السطر على الكتابة كأن الله جل وعلا يقول: والقلم وما يكتبون بالقلم القسم بماذا يكون عادة لماذا يأتي القسم، يأتي القسم ليشد من عزيمة الإنسان على الفعل أو على الترك، إن أردت أن أفعل شيئاً فأنا أقسم على فعله لأزيد موقفي في الفعل ثباتاً ورسوخاً وإن أردت أن أترك ولا أفعل أقسم أن لا أفعل لكي أكف نفسي بزيادة عن الفعل فالقسم من أجل الفعل ومن أجل الترك يشد عزيمة الفاعل أو التارك.
وبماذا يقسم الإنسان هل يقسم الإنسان بكل ما هب ودب من حقير وجليل؟ لا القسم لا يكون إلا بما له مكانة وبما له منزلة وقداسة، ولذلك فنحن نقسم بالله والله أكبر شيء وأجل شيء، وأعظم شيء، فحينما نلحظ أن الله يقسم بالقلم ويقسم بالكتابة نستدل بداهة على أن للقلم ولآثار القلم منزلة عالية وقدراً رفيعاً، عند هذه النقطة نتمهل لنرى إذا كنا نقرر أن القسم لا يكون إلا بالأشياء العظيمة، الأشياء ذات الآثار القيمة الظاهرة في السماوات والأرض، إن أقسمنا بالله فلما يغذونا به من نعمة وإن أقسمنا بالكواكب والشمس والنجوم -وقد وردت الأقسام بها في القرآن- فلما تدل عليه من آثار رحمة الله جل وعلا بهذا الخلق وتسخير الكون لمصلحة الإنسان.
حينما يقسم ربنا جل وعلا بالقلم وبالكتابة فنحن نعلم أن القلم أداة ككل أداة في هذه الدنيا يستخدمها العاقل البر الخَيِّر فتكون أداة رحمة وَبِر، ويستخدمها الفاجر الشقي وتكون أداة تدمير وتخريب، كل أداة يمكن أن تستعمل في الخير فتنتج خيراً وبركة، ويمكن أن تستعمل في الشر فتنتج شراً وفساداً ودماراً، فإذا كان الله يقسم بالقلم وما يسطر أي يكتب بالقلم فالقلم يكتب به كتاب الله، وتكتب به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكتب به الدعوة إلى الخير والبر والرحمة، كما تكتب به سائر السفاسف والمؤلفات والأشياء الضارة والدعوات الفاسدة وما يحدث التخريب الهائل الخطير في المجتمعات البشرية.
فهل يتناول قسم الله جل وعلا آثار هذا القلم حتى وإن كانت فاسدة وشريرة؟ لا لأننا قررنا أن القسم لا يكون إلا بما له منزلة عالية، والباطل الذي يكتب بالأقلام كسائر ما تسود به الصحف وما تقيئه المطابع وتقيئه الإذاعات وتقيئه الجرائد على رؤوس الناس دماراً وتخريباً فباطل لا يجوز أن يتناول القسم لأنه في موضع المهانة والحقارة يجل قسم ربنا جل وعلا عن أن يقع عليه وأن يتناوله بحال من الأحوال.
بعد ذلك نقول تأويل الآية لمن يريد أن يدرك كيف يقرأ (نون والقلم وما يسطرون) أي يكتبون به من خير وبر ورحمة بين الناس لا ما سوى ذلك فما يحدث الشقاق والبغضاء والفتنة والدمار بين الناس هكذا ينبغي أن يتناول كلام الله جل وعلا لكي تستخلص منه زبدة ما أراد الله جل وعلا للإنسان أن يفهمه منه ثم تتابع الآيات (ما أنت) والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم:
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
ارجعوا بذاكرتكم إلى بواكير الدعوة أوائل الوحي حينما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يبادئ قومه من العرب. بما أنزله الله إليه من كتاب، وبما حمله إياه من أكلاف ومهمات كان يتلو عليهم هذا القرآن فيسمعون كلاماً لا عهد لهم بمثله.
لا شك أن الأمة العربية في إبان البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم بلغت من نصاعة اللغة وقوة البيان والخلق بأساليب الأداء الذروة التي ليس بعدها شيء والعرب كانت تفخر بأنسابها وتفخر بما تقوم به من مكرمات من قرى للضيف وفكاك للأسرى وعتق للرقاب وحمالات للديون وما أشبه ذلك ولكنها ما فخرت أبداً بشيء كفخرها باللسن والفصاحة وقوة الحجة، فخر الأمة العربية حينما تنزل الكتاب الكريم كان يتركز في الحقيقة بهذا اللسان حينما ينبغ في القبيلة شاعر أو خطيب مصقع كانت تقام الحفلات والولائم وتقام الزينات وتشعر القبيلة أنها حازت فخاراً ما بعده فخار بلى حتى لقد تحول هذا الفخار مع الزمن إلى وسيلة للذم والهجاء فلقد قال شاعرهم يذم بني تغلب بعد أن غالوا بشاعرهم عمرو بن كلثوم:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
مع أن العرب تفخر أكبر فخرها باللسان فلقد بهتت وهي تسمع القرآن، عرفت الشعر بكل أجناسه وبكل بحوره وعرفت أقاويل الخطباء ووعت في ذاكرتها الجبارة الشيء الكثير، مما تاه به خطباؤها في المناسبات وعرفت ما يسجع به الكهان فما انطبق هذا القرآن على لون من أفانين القول التي كان العرب يعرفونها تحيروا فيها، هذا واحد والشيء الثاني أن محمداً صلى الله عليه وسلم قام يدعوهم إلى أمور صغيرها وكبيرها يخالف المألوف عند العرب ابتداءً من العوائد اليومية وانتهاء في العقيدة في الألوهية جاء محمد عليه الصلاة والسلام ليقول لهم يا قوم أنتم لستم على شيء، أنتم على باطل مستحكم، وفي ضلال عريض وطلب إليهم أن يغيروا تغييراً جذرياً وحاسماً كل الأشياء التي درجوا عليها وألفوها وتلقوها متحدرة إليهم من طريق أسلافهم.. فماذا كان موقف العرب؟
أمن المعقول أن يقوم إنسان فرد ليست له عشيرة بذلك المكان التي تمنع وترد البغي والعدوان على أحد أفرادها؛ ليس من المال بالكثرة التي يشتري فيها الأعوان والأنصار من الإمعات والمهازيل، وليس صاحب ملك وسلطان يستخدم ملكه وسلطانه ليغير من مجرى الحياة الإنسانية لم يكن على شيء من ذلك أبداً ومع ذلك فكان يقول لهم بملء الفم لا بد أن تغيروا ما أنتم عليه، وستغيرون وستدخلون في هذا الدين طائعين أو كارهين، مَنْ قَبِلَ منكم فبقبول الله قَبِلَ، ومن لم يقبل فسيدخل الإسلام داخراً ذليلاً مكرها على ذلك لأنه سيجد أنه لا سبيل أمامه سوى الإسلام.
أية ثقة بالنفس هذه، أيقول هذا الكلام عاقل، من هنا كانوا يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون، كانوا يرددون هذا الكلام ويلصقون به تهمة الجنون، هل كانت العرب أو القرشيون الذين نشأ بينهم محمد صلى الله عليه وسلم يعتقدون بجدية ما يقولون، بالتأكيد لا، الدعوة جاءته عليه السلام وهو في الأربعين من العمر مضى زمن طويل؛ الصبا والشباب والكهولة حتى إذا شارف الشيخوخة صلى الله عليه وسلم جاء للناس بهذا النداء الإلهي.
كل الوقت الذي مضى كان محمد صلى الله عليه وسلم مهوى أفئدة الشباب ومحط إعجاب الشيوخ، يكبرون فيه الخلق النبيل، ويكبرون فيه الاستقامة الرائعة، ويكبرون فيه العفة المتناهية، ويكبرون فيه من الأخلاق ما لا يجتمع في أحد من خلق الله جل وعلا لم يكن عليه مغمز ولا سبيل إلى أن يلحقه مطعن، إجماع من أهل مكة جميعاً أنه الصادق، وأنه الأمين وأنه المَرْضِّيُ في جميع أخلاقه ذلك رأي العرب، رأي خصوم محمد بمحمد صلى الله عليه وسلم فأية قيمة لتهمة سخيفة كهذه التهمة يلقيها العرب في أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مع ذلك فلا بد لاستكمال الصورة من أن نفكر قليلاً، ومن أن نرجع أيضاً رجعة بسيطة، إلى الوراء تجربة الوحي ليست من التجارب العادية؛ بلى هي شيء خارق للعادة قلما يتعرض الناس إلا الآحاد في الأزمان بعد الأزمان لهذه التجربة؛ تجربة الاتصال بالملأ الأعلى وسماع الخطاب الإلهي وتحمل الرسالة التي تأتي من بارئ الكون؛ هذه التجربة في وقعها الثقيل الشديد على النفس خَيلت لمحمد صلى الله عليه وسلم أن هذه الغرابة في الحالة وراءها شيء حينما فجأه الوحي في حراء جاء مرتعد الفؤاد عليه السلام إلى زوجه خديجة؛ وقال لها يا خديجة: لقد خشيت على نفسي ظن عليه السلام أنه خالطه شيء من الجنون وحين فتر الوحي جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يذهب يحاول أن يتردى من شاهق، يريد أن يرمي نفسه من جبل من هذه الجبال ليتخلص من هذه الحيرة التي تثقل على ضميره وعلى قلبه وعلى عقله، لماذا لأن الهاجس الذي وقع في نفسه أول أمر؛ تنامى وتزايد حينما انقطع عنه الوحي رُجِّحَ لديه عليه الصلاة والسلام أن ما رآه وما سمعه ليس من الملك وإنما هو قد يكون من الشيطان، فالنبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في وضع شعوري ونفسي وعقلي يحتاج معه إلى أن يُشَّدَ من عزمه وأن يثبت على أن هذا الذي جاءه لا طريق له إلا الله ولم تحمله إليه إلا ملائكة الرحمن وأنك يا محمد بالفطرة التي فطرت عليها، بالاستقامة التي نشأت عليها أبعدُ ما تكون عن الجنون فقوله جل وعلا (ما أنت بنعمة ربك) يعني بحمد ربك وتوفيقه إياك (بمجنون)، تحمل أولاً هذا الرد التثبيت لشخص النبي صلى الله عليه وسلم بغية طرد الوساوس التي يمكن أن تنتاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذه الحالة التي يشعر معها بأن شيئاً ما غريباً عما اعتاده الناس قد جاءه.
وهذه التهم التي تنثال عليه من قومه قريش، فتشكل ما يشبه ضغط الرأي العام تقول له باستمرار أنت مجنون أنت مجنون أنت مجنون، فإذاً أول غرض لقول الله جل وعلا ما أنت بنعمة ربك -ونعمته هي هذه الرسالة- ويستحيل عقلاً وعادة أن يكلف المجانينُ بحمل الرسالات الإلهية بل يستحيل عقلاً ومنطقاً، وعادة، أن يُكلَّف المجنون بحمل كلام عادي ليوصله إلى أحد من الناس، (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) ولكن هذا الكلام له مرجع آخر يعود على قومه المشركين ما هو الجنون اسألوا أنفسكم ما معنى أن يكون الإنسان مجنوناً؟
الجنون بكل بساطة؛ انفلات زمام العقل حينما يفلت من يدك زمام عقلك فأنت مجنون وإذا دخلت في هذه الحالة فما هي الآثار التي تترتب على الجنون؛ غيبوبة في العقل تؤدي إلى تصرفات لا واعية. ولا محسوبة؛ كذلك يكون الجنون، التفتوا إلى العرب هؤلاء الذين يتهمون محمداً عليه السلام بالجنون -إذا كانت العبرة للآثار- فأي الناس أولى بوصف الجنون آلنبي الذي يدعو إلى صحوة لا صحوة بعدها، وإلى محاسبة دائمة ومرهقة وإلى أن يزن الإنسان كل قول وإلى أن يزن الإنسان كل تصرف، وإلى أن يحسب حساب النتائج ما أطاقت القدرة البشرية هذا الحساب أم هؤلاء السائبون الغافلون الذين تدفع بهم أمواج الحياة إلى حيث لا يدرون.
أي فرق بين المجنون الذي لا يفكر في عاقبة قول ولا فعل وبين أمة أطبقت على الجنون لا تفكر في غدها، ولا تفكر في واقعها، ولا تفكر بتصرفاتها، وإنما هي تسير مدفوعة بقوة العادة والاستمرار، لو نظرنا إلى الآثار والنتائج لوجدنا محمداً صلى الله عليه وسلم يمثل قمة الصحوة الإنسانية قمة الوعي البشري قمة الحساب الدقيق لكل ما يصدر عن الإنسان من قول ومن عمل ومن نية وإرادة.
وواقع والأمة العربية التي أصرت على عنادها واستكبارها وتأديها على الحق هي أولى بأن توصف بأنها مجنونة. المجنون الذي يسفه نفسه فلا يحسب حساب واقعها ويومها وغدها وعقباها وكذلك كانت هذه الأمة كما تتقاذف موجات الرياح كثبان الرمال في هذه الجزيرة العربية تنقل الكثيب من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنالك كذلك كانت موجة الزمن، ودوامة الحياة، تدفع هؤلاء العرب إلى حيث لا يفكرون ولا يقدرون، فهؤلاء أولى بأن يكونوا هم المجانين (ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون) الأجر الممنون هو المقطوع والضعيف نقول حبل منين أو ممنون إذا كان حبلاً ضعيفاً يكاد ينقطع فمراد الله جل وعلا: أن لك يا محمد - جزاء ما حملتَ من أمانة وجزاء ما كُلفت من رسالة- أجراً من الله جل وعلا دائماً لا ينقطع، كثيراً لا يدركه ضعف، وهذا الوعد من الله جل وعلا لنبيه عليه السلام بالأجر المتتابع الكثير، على حمل الرسالة، وعدٌ قائم لكل من نهج نهج محمد وسار على طريق محمد صلى الله عليه وسلم دعوة الخير التي هي الإسلام ولا شيء غيرها، ولا شيء غيرها يا ناس ولا شيء غيرها أجرها دائم لا ينقطع لأن خيرها مستمر ما دامت السماوات والأرض.
الكلمة الخيِّرة تفعل فعلها إلى آخر الدنيا وإلى آخر الزمان قد لا نحس آثارها ولكنه واقع تقع مسؤولية عدم إحساسِنا بآثارها على ضعف الوسائل التي ندرك بها هذه الآثار.
(وإنك لعلى خلق عظيم).
أي خلق سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل:
"الستَ تقرأ القرآن؟ قال بلى قالت فإن رسول الله كان خلقه القرآن".
انظر إلى محامد الصفات، إلى كامل الخلال، التي وردت في القرآن يتصف بها الكائن الأسمى؛ تجدها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أريد أن أقف عند هذه الناحية لأن أحاديثنا المقبلة سوف تتضمن بإذن الله نماذج كثيرة من هذا الخلق العالي الذي مهد طريق محمد صلى الله عليه وسلم نحو قلوب، الناس وعقول الناس فستبصر يا محمد ويبصرون هؤلاء المعاندون من قومك بأيكم المفتون، والمفتون هو المجنون، سوف ترى في أي الفريقين أنت أم هم، الجنون والمجانين.
وفعلاً لقد أبصر رسول الله وأبصر المشركون أيضاً حوالي فتح مكة أن محمداً عليه السلام كان في منتهى العقل وأنهم هم كانوا في منتهى السخافة والجنون:
(إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
سبيل الله عند من؟ عند رسول الله. سبيل الشيطان عند من؟ عند أعداء الله من المكذبين والزائغين فاثبت يا رسول على النهج الذي وضعك الله عليه ولا تلتفت إلى ما يقوله،مَنْ حولك، قومك وما يرمونك به من تهم باطلة وأكاذيب لا معنى لها.
عند هذا الحد أريد أن أقف ولقد كنت أتصور بكل صدق أنني سأفرغ من السورة بكاملها في هذه الوقفة ومع الأسف لم يمكن ذلك فالقول في كتاب الله يُفَتَّحُ آفاقاً يشهد الله ما كنت أتصور أنني سوف أطرقها وسوف أتحدث عنها ومع ذلك فلا بأس آمل في الجمعة القادمة بإذن الله أن أفرغ من السورة كلها لنفرغ بعد ذلك للسورتين الباقيتين ثم نخلص من بعد إلى فحص دقائق السيرة وقياس ردود الفعل لدى المشركين والتعرف على المواقف التي اتخذها المسلمون حتى يكون كل عامل على بينة من أمره.
وفقنا الله وإياكم والمسلمين لما يحبه ويرضاه, وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.