حركة التاريخ بين النسبي والمطلق "في رسائل النور"(8)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق
"في رسائل النور"(8)
بقلم: أديب الدباغ
التاريخ والأبدية!
عرفنا من مضمون المقطع السابق أن " الحدث التاريخي" الذي يأتي به "الإنسان" من منطلق الرفض لواقع معين – أياً كان – إنما هو وليد "الواجب" الذي يحس به ويحفزه لاتخاذ موقف جديد منه، وفق ما تمليه عليه مبادئه ومعتقداته.
والإنسان المسلم لابد من أن يكون على وعي ذكي، وفهم دقيق لمجريات الواجبات التي ترى أمامه، وتحاصر وجوده من كل جانب.. فما لم يصنفها حسب أولويات أهميتها، وما لم يبادر فوراً إلى أداء أقربها إلى دائرة ذاته، وألصقها بمصيره الأُخروي، فإنه سيعاني الإرباك في زحمة الواجبات، فلا يدري من أين يبدأ وإلى أين ينتهي.
فالواجبات أكثر بكثير من الأوقات، وغالباً ما ينقضي عمر الإنسان في اهتمامات لا أول لها ولا آخر، قد لا تشكل – عند الفحص والتدقيق – أكثر من سراب يظنه الظمآن ماء، وما هو من الماء في شيء قليل أو كثير.
إن إيماننا نحن المسلمين – ومعنا كل المؤمنين من بقية الأديان الأخرى – بحياة أخرى نفضي إليها بعد موتنا، وهي حياة أبدية خالدة لا نفاد لها، ولا حد لامتدادها، أمر في غاية الخطورة، وهو مسألة المسائل، وكبرى القضايا، والمحور الأساس الذي ينبغي أن تدور عليه أفكار المؤمن وسلوكياته وأخلاقياته، وما يأتيه أو يدعه من أفعال:
فلو قدر لنا أن نحيا على هذه الأرض مليوناً من السنين السعيدة الخالية من المنغصات والآلام، فإن "هذه المليون" ليست أكثر من قطرة تافهة في بحر الأبدية التي تنتظرنا هناك...
فعليه فكم نكون مغفلين وسذجاً وبعيدين عن أدنى درجة من المعقولية إن لم نوجه اهتمامنا بالدرجة الأولى والأساس لكسب هذه الحياة، والحصول عليها بكل ثمن، واستنفاد كل دقيقة من أعمارنا المحدودة على هذه الأرض من أجل أن نشتري لنا فيها موضع قدم...؟.
فالواجب الأول الذي ينبغي أن يستأثر باهتماماتنا، وهو واجبنا نحن نحو خالقنا – صاحب الأبدية – وترسيخ الإيمان به، ثم استكشاف الوسائل التي يمكن بوساطتها أن نجلي هذا الإيمان للغافلين عنه من بني البشر، وندعمه ونقويه في النفوس بما يتيسر لنا من وسائل الدعوة والتبليغ، ثم تأتي الواجبات الأخرى تباعاً، المهم تلو الأهم..
والذي نخشاه أن يسبق إلى ذهن أحد من القراء، أننا بهذا الذي نقوله وندعو له سلبيون وانعزاليون، ومنكفئون على أنفسنا، ومنطوون على ذواتنا، لا يهمنا ما يحدث وراء جدران الذات من أحداث، ولا يشغلنا ما تضطرب به كرتنا الأرضية من شؤون وشجون.
فليس هذا الذي نريده أو نقصده من كلامنا آنف الذكر، فكيف يستطيع إنسان ما في هذا العصر – مهما أغلق على نفسه من أبواب، ووضع على ذاته من أقفال – أن ينجو من التأثر بأحداث الكرة الأرضية التي أصبحت – بما تملكه الحضارة من وسائط اختصار الزمان والمكان – مدينة صغيرة تهتز جميع أرجائها لأي حدث يقع فيها في أية زاوية من زواياها...؟
وكل الذي نريده إنما هو التذكير بأن واجب المؤمن الأول والأساس – في – عصر نضوب الإيمان هذا – هو خدمة "الإيمان"، وبعث جذوته، وإشعال مصابيحه في نفوس الناس، فلا ينبغي أن يفرط في هذا الواجب، أو ينشغل بغيره حتى لو أعطي كنوز الأرض، وسُلم قيادة العالم، وليضع نصب عينيه دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته"(18).
ثم إن الإسهام في "أحداث العالم" وفق متطلبات "الإيمان"، وصياغة تاريخه بمعطيات فكره، أمر لن يتيسر بالهزال الروحي الذي تعاني منه البشرية اليوم... فقد سقط العالم من زمان بعيد بأيدي "الدنيويين" الذين تشكل "الدنيا" مبلغ علمهم، وغاية جهدهم، وهم غير متحمسين أصلاً – إن لم يكونوا رافضين بالأساس – لأي عالم آخر يقع وراء عالمنا هذا كما كان قد بشر به المستكشفون الأوائل من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
لذا – الأمر كما وصفناه – فإن منافسة هؤلاء الدنيويين على دنياهم، وأخذ المبادرة من أيديهم – بهذا الهزال الإيماني المخيف – قضية محكوم عليها بالإخفاق، وغاية ما يستطاع عمله هو احتلال مكان هامشي باهت على مجمل أحداث العالم، لا يقدم أو يؤخر في مسيرة التاريخ العام.
فما لم تفعم الأرض من جديد بإيمان شبيه بإيمان أبي بكر وعمر وعلي والحسين وخالد وسعد وطارق وصلاح الدين والغزالي والجيلاني وغيرهم من أفذاذ الروح والعقيدة رضي الله عنهم جميعاً، فلن يتهياً للإيمان أن يقود التاريخ من جديد نحو غاياته السامية، وأهدافه الجميلة.
ولن يرى العالم إيماناً كهذا ما لم يمتلك "الإنسان المعاصر" حساً بالآخرة – إن لم يكن أعلى وأعظم من حسه بالدنيا، فهو - على الأقل – يساويه ويضاهيه، وما لم يمتلك بصيرة يرى من خلالها شواطئ الأبدية وهي تستقبل أمواج التاريخ البشري بخيره وشره... عند ذاك يتهيأ له قياد العالم، والإمساك بناصية التاريخ.
فإشغال "المؤمن" نفسه بمتابعة أحداث العالم، والتعليق عليها، والثرثرة حولها طوال يومه إلى حد نسيانه قضيته الأساس وواجبه الأول في إرساء قواعد "الأيام" وبناء صرحه في النفوس، عبث لا طائل من ورائه، وربما ظن المسكين أنه يفعل شيئاً مفيداً بهذا التلقي السلبي للأحداث، بينما هو – في الحقيقة – لا يفعل أي شيء سوى إضاعة وقته الثمين فيما لا يعود على "الإيمان" بالفائدة المبتغاة.
وقد سُئل "النورسي" رحمه الله – عن السبب الذي لا يجعله يتابع أخبار "الحرب العالمية الثانية" يومياً وتفصيلياً كما هو شأن علماء الدين في ذلك الوقت الذين قد يهملون واجباتهم الدينية من أجل الإصغاء ساعات طويلة إلى ما تنقله المحطات الإذاعية من أخبار الحرب عبر المذياع، فكان جوابه كالآتي:
(إن رأس مال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كُلفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز حول الإنسان.
فابتداء من دائرة القلب، والمعدة، والجسد، والبيت، والمحلة، والمدينة، والبلاد، والكرة الأرضية، والبشرية، وانتهاء إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم أجمع كلها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر، فكل إنسان له نوع من الوظيفة في كل دائرة من تلك الدوائر، ولكن أعظم الواجبات وأهمها، بل أدومها بالنسبة له هي في أًصغر تلك الدوائر وأقربها إليه، بينما أصغر الواجبات وأقلها شأناً ودواماً هي في أعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه.
فقياساً على هذا:
يمكن أن تتناسب الوظائف والواجبات تناسباً عكسياً مع سعة الدائرة، أي كلما صغرت الدائرة – وقربت – عظمة الوظيفة، وكلما كبرت الدائرة – وبعُدت – قلت أهمية الوظيفة... ولكن لما كانت الدائرة العظمى فاتنة جذابة، فهي تشغل الإنسان بأمور غير ضرورية له، وتصرف فكره إلى أعمال لا تعنيه بشيء، حتى تجعله يهمل واجباته الضرورية في الدائرة الصغيرة القريبة منه، فيهدر – عندئذ – رأس مال عمره، ويضيع حياته سدى...)(19).
ثم يستطرد فيقول:
(إن أمام كل إنسان – ولا سيما المسلم – مسألة مهمة وحادثة خطيرة هي أعظم من الصراع الدائر بين الدول الكبرى لأجل السيطرة على الكرة الأرضية...
تلك القضية هي:
أن يكسب الإنسان بالإيمان – أو يخسر دونه – ملكاً عظيماً خالداً ومساكن طيبة في جنات عدن عرضها السموات والأرض. فمن لم يفز بشهادة الإيمان ولم يرعها حق رعايتها فسوف يضيع حتماً تلك القضية ويخسرها (وذلك هو الخسران المبين(.
تمت
الهوامش:
(18) السيرة النبوية لابن هشام: 1/285 (تحقيق السقا والإبياري والشبلي) مطبعة مصطفى البابلي 1936.
(19) رسالة الثمرة، المسألة الرابعة – للنورسي – ترجمة إحسان قاسم الصالحي – مطبعة الزهراء الحديثة الموصل – 1985.