لا للتبدع والتضليل، نعم للحوار والاجتهاد
خطبة الجمعة 20/ 11/ 2015م 8 صفر/ 1437هـ
وجوب حفظ الأنفس والأعراض:
كان حديثنا عن خطورة التكفير، وأن منهج أهل السنة عدم التكفير بالخلل في العمل، وأن الأصل في من أعلن إسلامه، يعامل أنه مسلم.
ونؤكد هنا أنه لا يمكن أن يُخرَج عن الإسلام إلا بأمر قطعي ينقض إسلامه، ثم بعد أن يُساءل، وتقام عليه الحجة.
والقصد من ذلك كله الاتزام حكم الله، وضرورة الحفاظ على الأنفس وسلامة الأفراد والمجتمعات، والبعد عن كل أسباب الفرقة والتمزق والفتن والاختلاف.
ألا ترى إلى قصة أسامة بن زيد:
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ. أخرجه مسلم. فكانت تلك الضوابط لا تكفير إلا بقطعي، وبعد المساءلة والحجة، ومن ثمّ يكون حفظ الأنفس، انظر إلى فقه سعد رضي الله عنه.
العمل والإيمان:
ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان إلا إذا كان العمل في حد ذاته عملاً كفرياً أو دالاً على الكفر كالسجود للصنم وإهانة القرآن، وشتم الرسل، لكن لابد من البيان والمساءلة قبل إصدار الحكم.
ألاترى إلى قصة حاطب بن أبي بلتعة
ففي صحيح البخاري: ((.... فَأَرْسَلَ (أي النبي صلى الله عليه وسلم) إِلَى حَاطِبٍ، فَقَالَ: لاَ تَعْجَلْ، وَاللَّهِ مَا كَفَرْتُ وَلاَ ازْدَدْتُ لِلْإِسْلاَمِ إِلَّا حُبًّا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ، فَقَالَ: " مَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ "، فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَهُ))
إذن الولاء للعدو مكفر، لكنه لما سئل تبين أنه فعله عن ضعف لا عن كفر
والآن المشكلة الخطيرة التي نواجهها قضية التبديع:
البدعة أمرها خطير، وحذر منها صلى الله عليه وسلم:
عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ»خ2697، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلحٍ جَورٍ فالصلح مردود، م 1718، كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» ، وَيَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» ، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى، وَيَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ثُمَّ يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» .مسلم 867
لكن لا بد من ضوابط دقيقة جداً في التعامل مع البدعة:
1- الأصل في العبادات التوقيف، لكن ليس كل محدث بالضرورة بدعة، بل ما كان محدثاً ولا يندرج تحت أصل شرعي في أمور العقائد والعبادات، للأسف يورد بعضهم حديث العرباض بن سارية ويروون فيه ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.) وهذا ليس صحيح؛ فالصواب (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) أمّا باقي الألفاظ فلا تصح، ولذا نجد أن الصحابة كانوا يحدثون أموراً ، لا تعد بدعة لإنها تندرج تحت أصل عام، ولها دليلها الشرعي، من مثل الأذان الذي أوجده عثمان، أو جمع المسلمين على صلاة التراويح، أو ركعتي القتل التي بدأها خبيب بن عدي، وغيرها من الأعمال ... .
2- إذا كان العمل (محل الاتهام بالبدعة) مما أقره مجتهد متأهل وفق دليل لديه فلا يُعدُّ بدعة، وإنما هو اجتهاد يحتمل الخطأ والصواب، وهو مأجور في كل حال (من مثل قضية السبحة، والقنوت في الفجر، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، وسنة الجمعة القبلية).
3- الذي ترجح لديه أن أمراً ما بدعة فهذا مُلزم به في حق نفسه، ولا يُلزم غيره، فمن ترجح لديه أن احياء ذكرى المولد النبوي بدعة هو لا يفعل ذلك، لكن من ترجح لديه أنه جائز بقصد التذكير بشمائل المصطفى ومعجزاته وسننه، وأخلاقه،فلا حرج عليه.
4- نُفرِق بين البدعة ومن قام بها، فنقول: هذا بدعة. ولا نصف العامل بالمبتدع، لأنه هو يقوم بها عن دليل لديه، فمثلا الزمخشري إمام علامة في التفسير يقول بخلق القرآن، فنقول هذه بدعة، لكن لا نصف الزمخشري بالمبتدع لأنه إنما أراد البحث عن الحق، وهذا ما أداه إليه نظره، فننجوا من سوء الظن بالمسلمين ومن التنابز بالألقاب.
5- إذا ورد أمر ما في حديث ضعيف أو اختلف في صحته يُخرِجُ العمل من البدعة إلى الاجتهاد؛ من مثل صلاة التسابيح إذ اختلف فيها.
6- وقاعدة مهمة في هذا: لا يكون أمر بمعروف ونهي عن منكر في المختلف فيه بين الفقهاء، فإذا اختلف الناس في المسح على الجوارب، أ, طاء الوجه للمرلا يكون محل أمر بمعروف، ونهي عن منكر، لكن نبدي الرأي والنصح.
وبهذا يمكن أن تأتلف القلوب وتجتمع النفوس وتتوحد الكلمة ويمكن الحوار والوصول للحق والحقيقة والتفاهم، والله الموفق.
وسوم: العدد 643