الغزو الثقافي
خطبة الجمعة 5/ 8/ 2016م
2 ذو القعدة/ 1437هـ
ليس غريباً أن تجد من بعض العالم الغربي من يصر على قيم وسلوكيات محددة (شرب خمر، وأكل خنزير، واستباحة محرمات كالربا والاختلاط وغير ذلك من القضايا)؛ لكن العجيب أن تجد مسلماً موحداً وربما مصلياً يرفض مبدأ تطبيق الشريعة جملةً وتفصيلاً أو يرفض بعض أحكامه كالتي ذكرنا، بل وربما وصفها بأنها تخلفٌ أو همجية أو أمر تاريخي انتهى.
وللأسف عندما حاول بعض أهل العلم أن يبينوا قضية الحاكمية لله، وأنه كما قال تعالى: ﴿ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40]، وأنه يقابل أحكام الله أحكام الجاهلية انطلاقاً من الآية الكريمة ﴿ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
وانطلاقاً من قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ﴾ [النساء: 60].
لماذا يُتهّمُ علماء المسلمين؟!
فإذا تكلم عالمٌ بذلك قيل له ما علاقة الإسلام بالحياة العامة، أو تنظيم المجتمع أو القانون أو العلاقات الدولية، مع أن في القرآن أحكام ذلك كله.
وإذا تكلم عالمٌ مبيناً هذه القضايا اتُّـــــهِـــم أنَّــــه يكفِّـــر الآخرين أو يريد أن يفرض عليهم آراءً خاصة، أو أنه يفرق الأمة، ويحتكر الحقيقة، ويمنع حرية الرأي؛ مستندين في ذلك إلى استحضار الصورة الشوهاء أو المشوهة أو المزيفة الملصقة بالإسلام، مع أنَّ العلماء بينوا أن من أحكام الله ما هو قطعي ومنه ما هو محل اجتهاد، ومنه ما هو متغير، ومنه ما هو مسكوت عنه، ومنه ما هو تدريجي، ومنه ما يختلف باختلاف الأحوال.
ثم إن علمائنا وهم يبينون أحكام الله ويدعون إليها وأن الذي يقابلها هو حكم الجاهلية لا يتهمون أحداً بتكفير ولا يفرضون على أحدٍ رأياً، ولم ينفوا عن من يشهد الشهادتين إسلاماً، ولم يقبل العلماء أن يحمل على أحد سلاح لفرض حكم شرعي، وغاية ما يفعله العالِـم المسلم أن يبين مقتضى أنك تقول (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وأن من مقتضيات ذلك أن الحكم لله بالمراتب التي ذكرناها (القطعي، والظني، والمتغير، والتدريجي).
إنه كما قلت في البداية ليس غريباً أن تجد غير المسلم ينكر أحكام الله؛ لكن الغريب والذي لا يعقل أو يتصور أن تجد من يقول عن نفسه أنَّـــه مسلم؛ يرفض بعض أحكام الله أو يرفض تطبيق شرع الله، ولو كانت القضية مناقشة أحكامٍ ومدى ثبوتها لما كان هنالك مشكلة، وتجد البعض ينكر على المسلمين أن يطالبوا بشرع الله مجرد مطالبة !
من آثار الغزو الثقافي الفكري:
لعلَّ هذا من أخطر آثار الغزو الثقافي الذي جعل البعض يلتحق بثقافة الغرب في طريقة التفكير ومصدر التشريع والقانون، فجعل الإسلامَ محصوراً بالعبادات والمساجد.
وقد حذر النبي ﷺ من هذه الحال عندما قال: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ») صحيح البخاري، 3456.
لقد وصل الغزو الثقافي الذي يتمدد في فراغنا وتيه بعضنا وضياع آخرين مع ما يرافقه من غزو عسكري وإعلامي وصل هذا الغزو إلى عمق بعض المسلمين في بعض الأحايين؛ فهنالك من يسعى ليشكك بالقرآن، وهنالك من يشكك بالسنة جملة وتفصيلاً، وهناك من يشكك بالأحكام وصلاحيتها، وهنالك من يشكك بالحجاب ويشكك بتحريم الربا، أو يشكك بتحريم الخمر، أو يفتي بجواز الاختلاط الفاحش والفن الهابط، وهنالك من يهاجم القيم الأخلاقية وسموها؛ حتى وصل الانقسام في الأمة إلى الأعماق، فإذا فُــــتِــحت قضية العلاقة مع العدو الصهيوني وجدتهم مختلفين، وإذا فُــــتِـــحت قضية الموقف من الطغاة والدكتاتورية وجدتهم مختلفين، وإذا تكلمت عن خطر تدخل أمة خارجية وجدتهم مختلفين، وإذا تعرض بعض بلاد الإسلام إلى كارثة أو أذى وجدت من يتشفى.
من هنا واجبنا أن نسأل أين الخلل الحقيقي وأين العلاج؟!
أين الخلل وأين العلاج ؟
إنَّ جوهر القضية هي علاقتنا مع الله وعبوديتنا لله وخضوعنا لله ومن ثمَّ سلامة القلب، وسلامة التفكير، وطالما حذر القرآن من مرض القلب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10] .
ومن ثمَّ فإنَّ العلاج الحقيقي أن يستشعر الإنسان المشكلة والخطر، خطرَ الغزو الثقافي والقيمي والفكري ووجوب الإصلاح والتصحيح.
ثانياً: أن يقرر شكل علاقته مع الله هل هي حب وطاعة واستسلام وتسليم؟
ثالثاً: أن يقرر أن مصدر الإصلاح المطلق هو حسن التعامل مع كتاب الله تدبراً وهدايةً وتشريعاً؛ لئلا نكون ممن قيل فيهم ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85] ﴿ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46]
أو ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]
ولنكون متحققين بحقيقة ﴿ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾ [الإسراء: 9]
وحقيقة ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]
وحقيقة ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44].
وهذا يقتضي أن نبحث عن أسباب وحدة الأمة، وهي في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]
﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52]
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود:118- 119].
﴿إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، إذن بمقدار الإحسان.
أمّــــــا الذين يبحثون عن وحدة الأمة في ظل تشريعات أرضية فهيهات هيهات.
وهذا يقتضي رضا عن الله في أحكامه وأقداره فكيف تعيش حالة الرضا عن الله في أحكامه وأقداره؟ لتكون سعيداً مطمئناً هادئ البال، منشرح الصدر، تفوز في الدنيا والآخرة.
وسوم: العدد 680