حكاية من وراء الباب
حلقة الأولى : (المراهقة)
ذات جمعة
06:55صباحا
((قبلة عزيزتي كل ما أتمنّى))
((لا لن أعطيك شيء قبل أن تقول لي أحبّك))
((أحبُّكي أحبُّكي )) قالها و أطبق بشفتيه ثم إشارة من إصبعه إلى فيه لتنفيذ وعدها ..
وبدلال متزايد ((لا أنت تقولها لكلِّ البنات،،! أريد كلمة أخرى خاصّة ، لم تقُلها لأحدٍ غيري ..)) سكتت قليلا ثم أرْدفت ((أعْشقُك ، تلك ..! أعشقُك بجُنون، هذه هي..! قلها ..!!)) ثم قاطعت نفسها قائلتا ((قلها بعطف ..! بكثير من العطف ..!؟ أريد أن أشعر بها ..)) وأخذت نفسا عميقا و بدأت تنتظر بفارغ الصبر ...
قاطعت الأمطار المشهد بهُطولٍ مُضْطرب ، شعرت سميرة بغرابة تلك الأمطار وقد كان الجوُّ صاحيا لا ينبّأُ بكلّ هذا التقلّب .
أكمل صوت دَويّ قويّ ، دويُّ برق ورعد معا .. وثلوج من هنا وهناك . وبدأ يتحول لونُ المطر إلى الأسود ويأخذ ملمسا لزجا .. غطّى وجهها بقطرات منها فتكبّد شعرها . أمّا الفتى فقد ذعر من المشهد ثم فُقِد من أمامها .. صعقة برق تليها رنّة غريبة من السّماء بدت لسميرة مألوفة ، و صعقة أخرى وتلك الرنّة بعدها أصبحت أوضح بكثير أشبه بمنبّه ،، وضربة أخف هذه المرّة طغى عليها صوت المنبّه ..
فتحت سميرة عينها على منظر الساعة الإلكترونية أمامها (Am07:02)
((هذا المنبّه اللّعين...)) قالت سميرة.. ثم تذكّرت وأردفت بتأسّي ((لم يقلها ..!)) . ضربت بكفّ يدها السّاعة أمامها توقفها أو تحطِّمها .. كان سواء لها تحطيمها في تلك اللحظة ولم تكن لتعِر بالا .. حتى إن كان تهوُّرها سيجرُّ عليها مصائب مع والدتها ، وخصما من مصروفها الشّخصي .. فهذه السّاعة منذ إقتحامها غرفتها ، أفقدتها كل اللّحظات التي إنتظرتها شوقا ولهفة لتنتعش بوجودِها مع حبيبها الإفتراضي .. أغمضت عينيها قليلا .. علّها تُرجع لحضاتٍ خلت ، ولكن لا شيء ..
نهضت متثاقلة من الفراش مُرغدة مزْبٍدة من سُوءِ حظِّها ، فهي لم تُسْتشعر لا في أحلامها ولا في يقظتها حتى أصبحت بعد الإستفاقة تُكمل بضع دقائق في أحلامِ اليقظة ...
أطلقت تثائبا مفزعا وفركت عينيها وهي في طريقها للحمّام . أشاحت للمرآة وحواراتٌ من أحداث أمس مازالت عالقة في ذِهنها . رغم بهوتِ تلك الحوارات وقلّتها ، إلا أنّ كلمات صديقتها المقرّبة والوحيدة سهى ثبتت في ذِهنها ثبوتا تام وأصبحت تُعاد وتُعاد ككلمات أغنية عالقة في مشط مسجِّل :<< يا سميرة أراك تائهة ، مابالُك يافتاة ما الذي أخذك منّا!؟.. أطرق الحبُّ بابك؟ >> .. تمعّنت في إنعكاس صورتها على المرآت ترتّب إجابة منطقيّة عن تلك التي أفرزتها .. إشتهت في تلك اللّحظة أن تُجيب صديقتها إجابة شافية .. بل و تقصَّ لها حكاية جميلة عنها وعن حبيبها المتهوّر الطّريف ، لكن إستبدل كل هذا بهمهمات تهرُّبية ..
أرادت أن تكون لها جُملها الخاصة وحياتها الخاصة وتجربتها الخاصّة . تمنّت حقا أن يكون سبب ذلك الهُيام شخص ، بل أيُّ شيء مفهوم ..! ولكن حتّى هيامها لم يكن له داعي واضح لها ، بل أصبح جزء لا ينفصل عنها و عن كيانها ...
نظرت ونظرت للمرآت ، ولكن ملامحُها لا تُوحي بشيء في الصّباح . غسلت وجهها بتشنّج حتى إندثر قليل من الماء على حافّتي جبينها ، فأبتلّ شعرها . وقبّلتْ بُسلات منها بشرتها ثم نظرت ثانية للمرآت .. ولكن لم تفهم التعبير الذي بدى على ملامحها ، أتعبتها سّحناتها المتصلّبة التي لا تُشبه أي سحنات .. ملامح لا توحي بشيء إلا بالذّهول . تنظر وتنظر وينعكسُ البصرُ خاسئًا وهو حسير !.. تريد أن تفهم نفسها ، تريد أن تكون شيئا ما ، كيان مفهوم .. يُصاحب ويُتعايش ويحب . تلك الكلمات أتعبتها ، خاصّة الأخيرة .. كانت تعلمُ أن شخصا ما كان قادر على إخراجها من وضعها الخفيّ الشفَّاف الضّبابي ... إلى الوضع البارز الجلي .
فقط يعامِلُها بجدّيّةً ..! كانت مستعدّة أن تبادِل نصف حياتها ذهبا وتهبَه حتى تُستشْعَر و تُعاملَ بجدِّية من أحدِهم .. عندها حتما ستكون تلك التي تُرِيد ؛ القويّة المتمرّدة التي لا يوقِفُها شيء ..
ولكن كيف ؟
سطّرت برنامجُها الخاص الذي يراد فقط منه أن يفعّل.. حدّدت له خُطواته بدقّة متناهية ، بداية من زميلاتها في القسم ، ثم كل من له علاقة بفصلها من قريب أو من بعيد ، ثم كل من نظر إليها ولم يُعِرْها إهتماما .. ستردُّ بكلِّ كلمةٍ المثْل ، وبكلِّ حركة تجاهلٍ بالمثل وأكثر . وتُصبح هي المتكبِّرة المُتجاهلة ... تخطِّط وتخطّط ... ولكن سرعان ما تدرِكُ بأنَّ التمرُّد لا يُناسبها ، فتقوم بتعديل ...
ترى دائما بأن مُجتمعها الصّغير يضعُها في زوايا لا تريدها ..! ، وترى نفسها تُحشر لا إراديّا بين أرذَل القوْم وأدناهم ، وتقاس بمقاييس فاحشة في نظرها وغير عادلة ؛ فهي لم تفهم جفاء الأصدقاء رغم محاولاتها العِدّة حتّى إقتصرت صُحبتها على فتاةٍ كثُر إختفائُها أو تهرُّبها .. وإثنين من الفتية من نفس الفصل ، رأت فيهما التّعاسة ذاتها حتًى خفّت عليها وطأةُ صُحبتِهما .
طالما وجدت إختلافا فيها عن باقي النّاس بدءًا بسحنات وجهها الغامضة إلى شكل جسمها الغريب ، حتى وصل بها الإختلاف إلى أعماق كيانها ..
أمِلت أن تفهم سرِّ عالمها الأجوف الذي لم يخترقْه أي ضوء يُنيرُ معالمه ، ولكن لم يُعنها أحد . حتّى الشّخص الذي وهبتْه نظراتها وإهتمامها ، حاولت إغْرائه بتعابير لا تجد حتّى هي عنوانا لها .. ولكن كلّما صادفته لا يبادلها سوى إحتقارا وتجاهلا . كأنّ رسائلها مبهمة و غير مختومة بطابع خِلقي تضمنُ وصوله .
وتلك الأيّام تمضي وتخترقها بغير مبالات ، أحسَّت بكبر سنّها وهُرومتها رغم أنها لم تتجاوز السادسة عشر . يساورها أحيانا شعور سيّء ، شعور بالخوف يتملّكُ تفكيرها ؛
تخاف أن لا تكون لها حياة كبقيّة الناس :
_ حياة تغوص في تفاصيلها ..
_ حياة تتذكر روعة لحظاتها ..
فتسأل نفسها عن المستقبل كيف سيكون ..؟ وكيف سترنو فيه لمزيد من تقدم بواقعها هذا الأجوف..؟؟
تشغِّل أحيانا أغنية قبل أن تنام وتريد الرّقص على ألحانها .. ولكن لا يُسعفُها جسدها فتسعى لفكِّ تشنُّجه ..! و تشعر عند المحاولة بالغرابة الشّديدة..! كأنها شخص آخر ليست هي فتوقف الأغنية وتُسرع بالنّوم .
لم تجد لهيكلها العام والخاص من تعبير تجاريه وتحدّد به معالم شخصيّتها ، كما لم ترى لحياتها معنى واضح ...
أخذت معجون الأسنان ، وهمّت بفرك أسنانها ناظرتا للمرآت ، ونفسها تخبرها بيوم جديد مفقد من الحياة ؛ من إبتسامة على وجه عاشق ، أو حكاية جديدة من شفاه صديق . سوى رُوتين الدِّراسة وكآبة الثّانويّة ...
إرتدت ملابسها بالإسراع تارة وبالخُمول تارةً أُخرى ، ثم توجّهت للدّرج بعدما صفعت باب بيتها ، وتركت ذلك السّرير دون ترتيب عقابً له !. تُريد أحيانا أن تخبر جميع من في المنزل عن عدم رضائها وأن تشعل إنتفاضها من هناك : بدءًا من أبيها الذي لم يعد يعرها إهتماما ، وأمّها التي تُعاملها بجفاء كبير كأنّها عبء ثقيل ويجب الخلاص منه ... تريد الإنفجار !! ولكن ترتدُّ الكلمات رجوعا في كلّ مرّة ، حتى أصبح صوتُها في الحوارات .. حوارات عاديّة جدّا أشبه بصوت غارق في إستغاثته الأخيرة .
إعترضها أخيها الصّغير وهو يتملْملُ في الرُّدهة ، إبتسمت وربَتت على رأسه ثم إتّجهت نحو السُّلَّم . نزلت الدّرجات الأولى مسرعَةً ثم أكْملت باقي الدّرج بتأنِّي شديد . وعندما إنعرجَت نحْو المطْبخِ وجدتْ أُختها آية صاحبة العشْرِ سنوات تأكُل بنهم ، وتغنِّي أُغنيتها المشهورة التي لم يكتشف أحد إلى الآن كلماتها الحقيقيَّة . ألقت عليها سميرة نظرة ، وتوجَّه بصرها بسرعة فائقة نحو أمِّها التي كانت تُرْغِدُ وتُزبدُ مع الهاتف مشيرتا إيّاها بفطورها في الطّاولة بجانبها ، ثم أطلقت صيْحة على إبنها بالنّزول و رجعت للهاتف تُزبد .. لم تتخيّل أن تحتضن أمّها يوما كما ترى وتسمع عن صديقاتها . فإشتهت الإبتسام لها ولما لا تحيّة الصّباح .. ولكن لم تُسعفها شفاهها بالإبتسام ولا بالكلام ، فأخذت لقمة على عجل ومصرُوفها الشّخصي القابع بجانب صحْنِ مربَّى التُّوت ، ثم أسرعت نحو الباب .
الحلقة الثانية : المظلوم
الساعة 17:20
يُسمع أزيز مفتاح من القفل الخارجي للباب وينفتح قليلا ، تسبق ساق في الدخول ، ويسمع صوت محسن ، الجار والصديق المقرب لكمال .. (( متى تأتي للمقهى ؟ )) قال محسن بكثير من الأدرينالين .. وأردف ((اليوم مباراة الحدث ..! الكلاسيكو يا صديقي..!؟ لا تقل لي نسيت ..!))
((لا أعلم .. لا أعلم !، سأعلمك إن قررت المجيء )) رد كمال بكثير من تعب وهو يخْلط ساقه الأخرى للمنزل ..
((كرسيك ينتظرك دائما ، تعلم ذلك ..! )) قالها محسن قاصدا المقهى..
دخل كمال المنزل بتثاقل ، رمى رُزمة المفاتيح فوق الطّاولة القابعة وسط غرفة الإستقبال ، ورمى بنفسه فوق أريكته المفظّلة التي لا يساومه فيها أحد . أخذ نفَسا ثم نظر وراءه يتفقد حال المنزل ، تمكِّنه تلك القاعة من التّجول بعينه إلى جميع أرجائها حيث لم يكن فيها جدر فاصلة بينها وبين باقي الغرف .. كانت في الماضي مجرّد ردهة أوليّة للمنزل تشرف على المطبخ والحمّام وقاعة الإستقبال على اليمين .. (بالإضافة إلى غرفتين في الطّابق الثاّني كان يتنحنح فيهما كمال قليلا بالتّكاء على أريكته كي يرى جزءًا من وميضهما) . أمّا بعد فقد تراءا له أن يحوّلها قاعة إستقبال أخرى ؛ بأريكة عريضة وكرسيَّيْن ذا طابع قديم . وحوّل التّلفاز من غرفة الإستقبال الأولى إلى هذه القاعة . رأى فيها مكان إستراتيجي يخوّله إستقصاء وسماع أي حركة تقام في المنزل . أمّا القاعة القديمة فظلّت فارغة لا يفهم لها مقصد ولا وظيفة .. فتارتا تنقل لها طاولة المطبخ وكراسيّها لتصبح غرفة معيشة ، وتارتا توضع فيها أفرش ووسائد بألوان متنوعة لتتحوّل غرفة نوم للضّيوف .. هذا بحسب تفاوضات الملكين ...
أمّا حاليّا فقد أصبحت غرفة للّعب حيث تتقولب فيها جميع الوسائد إلى كراة و تُقذفُ من هنا وهناك ، وتتحول فيها الكراسي بصورة إعتباطيّة إلى أعمدة مرمى تُخترق من قبل الوسائد .. تسمع أصوات نشوة تعلو من آية لتسجيلها هدفا حاسما ، وتُقابلها من الجهة الأخرى إحتجاجاتٍ بالرّفض من قبل أخيها أيمن ...
أخذ نظرة سريعة وراءه علم فيها عن عدم وجود أحد معه ؛ كانت غرفة المطبخ مطفأة ، وكذلك باقي الغرف بما فيها الحمّام وغرفة الجلوس ، (أو هي المعيشة ) ...
أطلق زفيرا من ثقبتي أنفه التي كانت تتّسع عندما ينعدم فمه عن الحراك وهو يمدّ يده نحو آلة التّحكّم بالتّلفاز ، وقد كانت على حافة الطّاولة أمامه . رفس أحد أزرارها بأبهام يده وهو ينزع حذاءه الأسود برجله الأخرى .. أنيرت التّلفاز على القناة الإخبارية ، تيقّن فيها كمال على عدم رجوع أحد إلى الآن ، خاصّتا آية التي لا تنفك من دوس عتبة الباب حتى تهرع لآلة التحكّم بالتِّلفاز وتُفرك أزرارها باحثتا عن قنواة الأطفال . إلى أن بُليت تلك الأزرار على مدار الأيّام ..
بلا وعي رفس بإصبعه زر خفض الصّوت فأصبحت المذيعة تهمس ، أضحت تؤرقه صخابة الأصوات ، وتشحن ذهنه شحنا زائدا عن حدّه . فترى المنزل أثناء حضوره ساكنا ، لا يُسمع له همسا . سوى من تلك الشقية آية التي لا يوقفها أحد من الغناء أو العويل في المنزل .. لا يجد كمال من سبيل لفكّ جماحها رغم محاولاته العدة للسّيطرة وفرض نظامه عليها .. باللّين تارة وبالشدّة تارتا أخرى . حتى يئِس من محاولاته معها وإلتجأ إلى مراودتها بالحلويّات لتهدئتها ، و بالمثلّجات لتخدير ذلك الجماح ..
لكن مع الوقت وجد متعة في تمرُّدها وعدم إنصاتها له ، ودلالها المتزايد عليه .. و وجد لذّة عجيبة عندما تقوم بإغاضته ، في عدم تلبية طلباته التي تكون دائما على شكل أوامر غير قابلتا للرّفض ، إلاّ منها بالطبع .. تلك المتمرّدة أحسّته بأنه مازال فرد من العائلة وله مكانة في قلب أحدهم رغم أنّه المُعِيل ... و تركت له ردًّا معنويّا على بقيّة أفراد الأسرة كحجّة عليهم لهجرهم له ، بأنّه لازال ليّن وديمقراطي ..
لا يعلم متى وكيف أصبح يشعر بنبْذه وإقصائه من فلذة أكباده . حتى لم يعد يعلم الكثير عن إبنته الكبرى سميرة ، ولا عن ولده الصغير أيمن ... رأى أنّ زوجته التي كثرت أسرارها عنه وتغيُّبها المستمر من المنزل ، السّبب الرّئيسي في كلّ هذا الجفاف .. أثار هذا إضْطغانهُ عنها وأشعل بينهما معارك عدّة تحوّلت بعدها لحربٍ باردة ،، ويبدو أن زوجته كسبت أكثر حُلفاء منه ، أو هكذا خُيِّل إليه .. بدءا من سميرة التي أصبحت تأخذ مصروفها من أمِّها بعدما كانت تقبع عليه كل صباح لأخذ حصِّتها .. وإبنه الصّغير المدلّل الذي لا ينفك من ذكر إسمها كلّما همّ بتحريك إصبَع . أمّا هو فلم يجد سِوى آية التي أطبق عليها كل النُّظم الديمقراطيّة لكسبِ ودّها ...
دخلت سميرة المنزل بفرقعة لا مبالات منها على الباب دون ترحيب ، بل دون حتى إدارة رأسها نحو أبيها . توجّهت مباشرتا إلى شقّتها . ألقى كمال نظرة عليها سرعان ماتحوّل فيها بصره نحو يدها التي كانت تمسك شطيرة "ملاوي" ، فعرف أنّ زوجته لم تطبخ ، بل وعلم أنها لن ترجع للمنزل قريبا : فذلك جزء من الإتفاق الذي يُدار بين الأمِّ وإبنتها عندما لا يكون هناك نيّة من الزّوجة العزيزة في الطّبخ . حتى أصبحت بمرور الوقت تتهرّب من المنزل بالعمل في أوّل النّهار و عند الجيران في بقيّته .. ((آه منها)) قال كمال وهو يأخذ نفَسا حادًّا ، ونفْسه تردّ عليه (( كيف ستصبر على هذه الحال)) .
هناك أحيانا تفاقم في المشاكل تصل لحد تصعب فيها الحلول ، بل وتنعدم في أحيان كثيرة .. رغم أن جلّها تكون مشاكل تافهة وفاقدة للمعنى .. ؛ تبدئ بنكات يلقيها أحد على الآخر ، أو نقدا على تصرف ما لفعل معين أو على فرد من أفراد الأسرة ... تظلّ بعدها الإبتسامة وتفترق فيها الأنفس مسافة أمان لضمان عدم تكرارها . حتى تبتعد المسافات شيئا فشيئا .. ورغم تفاهت تلك الحوادث العرضية التي تكون رهن إعتذارٍ صغير أو رهْن تذكير بكلمات تصحيح .. إلاّ أنّ الكبرياء يجد وقته المناسب لفرض نفسه في كل حوار .
لكن حالة كمال لا يدري لا هو ولا أي فرد من العائلة السّبب الرئيسي الذي جعلت كل هذه الفُرقة تصل إلى هذا الحدِّ بينهم .. أرهق عقله في كثير من الأوقات ليجد عيبا في تصرّفاته ألحق كل هذا الضّرر . ولكن عقله يُعْدم له أسبابا واضحة ، سوى من تفاهاتٍ يُفرزها من بطّاريّة ذاكرته المشحونة ، تفاهات يراها لا تجعل منه ظالما و لا يرى لها سببا لكل هذا الجفاف الأُسري . فيلقي بوابل من الضّغينة على زوجته لعدم فهمها له وطبيعة عمله الشاق الذي زاده عرفُه المتعجرف شقاوتا ، و أضفى لعمله شقاء على شقاء .
رغم أنّه لم يصارح زوجته يوما بطبيعة الإرهاق البدني والنّفْسي الذي يجده في شغله أو بالأحرى مع ربِّ عمله .. رأى في بادئ الأمر نقصا من هيبته بإخبارها ، ثم بعد سنوات حمِد اللّه على عدم إفشاءه للأسرار ، وإلاّ لوجدت ضعفا آخر تستغلّه وتُنهكُه به مع عنادها و مزاجها المتقلِّب في تسيير دواليب البيت ، في أبسط الأمور وأتفهها ..
فقد وجد كمال نفسه المهزوم الوحيد بعدما أضحى الحاضر الغائب ، وفُقدت صلاحيَّات هيبته في المنزل ، وتعمّقت الفوارق رغم حضور البسمة من وقت لآخر بينه وبينها ، وحوارات ضعيفة سرعان ما تأخذ شكلا دبلوماسيًّا زائدًا عن الحد ...
إشتدّ التّلاسن بين ربّ عمله وشخص بجانبه يؤيّده ،! (يبدو من شكله الهلامي الأشبه بالعين الذّراع الأيمن للعرف) والزًوجة من الجهة الأخرى يتوسّطهم كمال .. إحتدم النّزاع بينهم بتجسيمهم الإفتراضي في مركز الخلايا العصبيّة داخل عقله ، وأخذ كلّ خصمٍ التّفرّد بقضم نسج من تلك الأنسجة العصبيّة ، و كمال في الوسط يحذّر ويتوعّد بإجراءات ضارّة لكليهما .
شعُر بجفافٍ في حلقه .. نهض متعجّنا على أريكته مع إطلاق آهات تعبٍ بصوتٍ متذبذبٍ أخذ في الإرتفاع تدريجياًّ تزامُنًا مع نُهوضه .. إتّجه نحو المطبخ بخطى متكسّرة .. ألقى نظرة لا إراديّة إلى غرفة إبنته الكبرى ، وعندما وصل للمطبخ فتح الثلاّجة وأخذ قارورة الماء التّي كانت منتصِفة الإمْتلاء ، وأخذ في الشُّرْبِ بجُرَعاتٍ متتالية دون توقُّف ، صادرا صوتًا أشبه بصوتِ ضفْدِعة .. قاطعه أزيز البابُ الخارجي للمنزلِ فإتّجهت عدستي كمال آلياّ تستقصي الدّاخل ، حيثُ تلاقت عينُه مع عين زوجتِه سلوى .
الحلقة 3 بعنوان (المناضلة)
هل هناك ظالم أو مظلوم في هذه الأرض ، أم أنّ النّاس أصبحت في حالة هروب ، بحيث إلتبست المفاهيم ، وأصبح الظُّلم رداءً للعجز . وما أسمك ذلك الرّداء حيث تلقي بجميع أخطائك وعجزك على الآخر وتصبح أنت الضّحيّة الوحيدة وكل من يلمسُك هو الظّالمُ المستبد . أتصفّح المواقع الإجتماعية ولا أرى سوى المظلومين والمقهورين الذين سالت دماء وفائهم وإخلاصهم .. وفي المقابل لم أجد شخص واحد تفرّد برأيه وصارح بأنه كما ظُلِم ظلَم .. لم أجد من يقول أنا إنسان وأتحمّل مسؤولية أخطائي ..أم أن بحثي وإستقصائي كان ضعيف ؟..
لا أدري..؟!
لم أعد أومن بهذه التحاليل السطحية عن الظَّالم والمظلوم أو السّيد والعبد ... فنحن نخطئ في حق أنفُسنا أكثر ممّا يخطئ في حقِّنا الناس ... أم أننا إنقسمنا إلى قسمين : طائفة ملائكية لا تقوم بأي فعل ناقص ، بريئة ، فقط يقام عليها الخطئ ، وهذه الطائفة الشاسعة المرئيّة .. وطائفة أخرى صغيرة شفافة مستبدّة لاهمّ لها سوى هضم حقوق البقية وظُلمهم ودهسهم ..
على كلِّ حال يجب على كل واحد منّا أن يجد جواب لهذا السؤال : هل نحن الظّلمة ؟ أم نحن المظلومين ؟..
أم أنناّ المظاليم الذين كثر ظُلمنا لأنفسنا...؟
السّابعة صباحا
صعدتْ درج المنزل نحو الطابق الثاني إلى غرفة أيمن إبنها الصّغير . أوّل مهمّة تقوم بها الزوجة المناضلة ...
ترى نفسها آلة تعيد فيها جميع التحركات كلّ يوم حتى أصبحت تقوم بجلّها لا إراديا . لا تعلم في أوقات كثيرة متى بدأت وكيف إنتهت منها .. بداية من تفييق إبنها الصّغير الذي لا يريد النّهوض إلا على أسياط لسانها . وبمجهود أقل البنت الوسطى آية ، ثم التوجّه للباب المجانب لبيْت أيمن وآية ، حيث تقبع الميّتة الأخرى . حتى إجتهدت بعد تفكير طويل في شراء منبّه لها بصوت جوهري يستطيع إفاقة جيش وليس فرد . وقدّمتها في مناسبة خاصّة ، كما جعلت لتلك الهديّة البغيضة قيمة حيث أهدتها لسميرة في عيد مولدها ، وبهذا أضْفت لها طابع قدُسي لعدم التخلُّص مِنها ، خاصّتا بعد إخبارها بثمنها المحترم فور فتحها سميرة لهديّتها ...
رنّ هاتف المنزل الذي كان يقبع بين المطبخ وغرفة المعيشة ، في ثغرة بينهما مخصّصة لوجود شيئا ما للزّينة تسدّ تلك الثّغرة . هرعت سلوى نزولا فور سماعها الهاتف بعدما أتمّت المهمّة الصباحية الأولى في تفييق إبنيهما ، تاركتا الأخرى للهدية الخارقة .
نزلت مسرعتا ونفسها تخبرها بغرابة المكالمة في هذا الوقت المبكّر ، مع تخمين قريب على هويّة المتّصل . أخذت الهاتف المركون بين الغرفتين حيث مثّلت تلك البقعة صُرّة المنزل ومكان النّزاع بين الملِكين .. خاصّتا وأنّ منظر الغلاف الرخاميّ العتيق للحائط الخارجيّ للمطبخ لم يكن بنفس اللّون مع جدار غرفة المعيشة ، وكان اللّونان يتقاطعان في تلك الثّغرة التي كانت على شكل مجرى قائم ينتهي إلى السقف . فكان لا بدّ من شيء بينهما يفصِل نزاع الألوان ، ويُضفي على الحائط نوعا من الجماليةّ . أرادت سلوى في البداية أن تضع محبس رخامي من النّوع الكبير بعنق عشبيّّ محترم يفضُّ صراع الألوان نهائيّا . محبِس بلوْنٍ تفضّله هيَ ، كما أرادت تعديل العديد من الأشياء في المنزل إبتداءًا من تلك الثّغرة . لكن كمال كان له رأي مخالف حيث لم يكن يأبه لتلك الأمور التّافهة . بل تحوّل رأيه إلى إعجاب عندما علم عن تكلفة التعديلات ، وأصبح يجد ألوان البُيوت مبهجة للعين بتنوع الزّركشات الرّخامية الخضراء والزّرقاء اللذان يتخلّلهُما اللّون الأبيض في كلتا الجانبين . وصمّم أن يضع الهاتف في تلك الثّغرة وقد وجدها المكان الأءمن والأنسب لها .. فكانت سلوى بطباعها العنيد تُنقل الهاتف كلّما رنّ إلى المطبخ ، بحجّة أخذ خصوصيّتها في الكلام . رغم أنّ جل مكالماتها تُسمع على بعد ميل بصوتها الجوهري الذي لا يتحمّل أي رأي مخالف . وقد كسبه الزّمنُ حدّتا وقوة . ثم تترك الهاتف في المطبخ بعد إنتهائها كتعبير آخر على إعتراضها الشّديد لمكانه ، و حذّرت الأولاد على عدم إرجاعه ..
((ألو، منِ المتّصل !؟)) قالت سلوى شذرا ،كأنها تعاتب المتّصل لا ترحِّب ْ..
((صباح الخيْر أختي كيف حالُكِ )) ردَّ صوت من وراء السمَاعة بعطف متصنّع ..
(( أه ! .. حياة..! كان عليّ أن أحزِر.. ! ماذا تريدين مرّة أخرى ألم تجدي وقتا أنسب للإتّصال ، ثم إنّي أخبرتك أكثر من مرّة بمكالمتي على هاتفي النقّال ..)) زمجرت سلوى وهي تنظر خلفها تتفحّص باب بيت النّوم ثمّ مسكت ببقيّة الهاتف إلى المطبخ ..
توجّهت نحو الثلاجة وأخْرجت صحن الزّبدة و مربّى التُّوت ، وقليل من القوتة والحليب ، ووضعتهم بالتّوالي في الطاولة بجانبها دون ترك سمّاعة الهاتف .. فور إكمالها بقليل دخلت آية بفرقعة من أصابعها المعتادة مصبِّحة على أمِّها .. ردّت عليها سلوى بنظرة حادّة ، فتوقفت آية عن الفرقعة بأصابعها لأستيعاب الرّسالة . وأخذت قارورة الحليب وسكبت القليل ثم أخذت في الشُّرب ، و بهمهمةٍ لا تُتقنها سِوى هي عند الشّرب ، سرعان ما تتحوّل إلى أغنية بلحن واضح ، وكلمات مبْهمة فور إكمالها بلع الساّئل . ثم يبدأ اللّحْنُ يأخذ طبقاتٍ متشنِّجة تارتا ومتراخية تارتًا أخرى ، تزامنا مع قضماتها المتسارعة على الخبز الملطّخ بالمربّى والقوتة ، وسط نظرات أمِّها المتمعّنة في سحنات وجه إبنتها المتقلِّب والمريحة إلى نفسها...
تبدو آية الوجه الطبيعي للعائلة بملامحها الواضحة و الجميلة و روحها المرحة التي كسبت بها جل أفراد العائلة . بدءا من أبيها العبوس ، إلا منها بالطّبع . وأمّها رغم حدّة مزاجها إلا أنّ طاعت آية لها وإبتسامتها الدّائمة تشفع عنها جميع أخطائها ، كما وتجد ظالّتها في اللّعب مع أخيها الصّغير المتّسم بالتّململ والبُطئ في كل شيء . تتفوّق عليه آية في جميع اللُّعب بنشاطها الفائق وذكائها الذي لا تصرِف مِنه الكثير لهزيمةِ أخيها ..
أمّا أيمن الإبن الأصغر للعائلة فلا تُوجد كلمات كثيرة لوصفه.. إلاّ اللّهم بحركاته العشوائية وهُيامه الدّائم ، كأنّ أعراض مرض نفسي يلُوح في الأفق .. مع سحنات وجه لا توحي إلاّ بالغباء والذُّهُول ...
((أبي !؟ .. قلت لكِ بأنِّي لا أستطيع أخذه اليوم ، ثمّ إنّنا لنا جدْولٌ زمني مقيّدون به .. هذا ليس أسبوعي يا فتاة ، لا تجعليني أبدو مغفّلة ،، أنا أختك الكبرى أنسيتي..!؟)) قالت سلوى مُزمْجرة بسحنات وجهٍ غاضبة وهي تنظر لآية ، ثم إلتفتت للجهة الشّمالية تزامنا مع نفير نفس من ثقبتيْ أنفها يكاد يُشبه نفير ثور ..
دخلت سميرة للمطبخ على أعيُن أمِّها الجانبيّة الحادّة . أسكتت بها تملمُل شفاه ابنتها الكبرى .. دخلت سميرة بعد تجاهلها المفْتعل لأخْتِها الصُّغرى ،، نظرت لمائدة الطّعام المعدّة بأرتباك ، أخذت لقمة من قوتة وغمستها في صحن مربّى التّوت ، ووجدت بضع نقود بجانبِ الصّحن ، مع إشارة من أمّها بأخذ مصروفها الشّخصي الذي بدى أكثر من المعتاد لليوم الثّاني على التّوالي . فهمت البنْتُ الكبرى الرّسالة وأخذت مصروفها ثم خرجت .
(( سامحيني أختي ولكنّي مضطرّة للغياب كامل اليوم عن المنزل .. في الحقيقة لديّ أسبوع حافل ، وسأكون متغيبة طيلة أيّامه .. وتعلمين خلوّ المنزل وغباء زوجي وقلت صبره في التعامل مع أبي، أنتِ أختي الكبرى..! أنت السّلوى يا سلوى .. أمي الثانية ..! تعلمين ذلك ، أرجوكِ لا تخذُليني أمام زوجي.. )) ردّت حياة من وراء السّمّاعة بصوت أجشّ و أكثر تصنّع من المُعتاد ..
(( آه منك أنت ال... حسنا ، أمري إلى اللّه .. أشقُّ عليكِ اليوم ، ولكن ليس قبل الرّابعة عصرا ..)) صاحت سلوى وأغلقَتِ الخط .
أغلقتِ الخطّ تزامُنا مع صفع سميرة للباب ، إنتبهت سلوى لطريقة تعامُل إبنتها الكبرى مع الباب الذي عكس عدّة تصرُّفات كانت تراها تتطور للأسوء شيئا فشيئا ، مع قلّةِ حديث إبنتها وتواصُلها مع أفراد العائلة ، كأنّها تحتجُّ على شيء ما . لم يتبادر إلى ذهنِ الأم من تقصير سوى المادّيِ منه .. وقالت في إحتجاج بصوت منخفض ((مصرُوفها وتأخُذُه .. ماذا تُريد هذه الطِّفلة..!؟ )) .
كان لحياة سلوى تأثيرا مباشرا في شخصيَّتها ، حيث كانت الإبنة الكبرى للعائلة وأخذت زمام الكفالة على حداثة سنّها ، من مشاركتها الرّئيسيّة في دواليب المنزل ، وإعانة أُمّها . إلى أن إرتقت مهامُّها بالمشاركة مادياًّ .. بعدما كان حدث توظيفها في إدارة عموميّة ، حديثَ الساّعة أنذاك ... ثمّ إنتقالها من بيت أبيها إلى بيتِ زوجها ، فتطوّرت مهامِّها درجة أخرى إضافيّة ، لتصبح الأم البديلةّ لأِخوتها ، بعد وفات أمِّها . والزّوجة المتأدّبة المُطيعة لأوامِر زوجها التي لا تخلُص . فكان نظالها يأخذها إلى أنماط معيشيّة متضادّة : بالتّسلّط وحب الإمتلاك من جهة ، و الوديعة على نحو يائس في الجهة الأخرى . أخذ هذا التّضاد يستنزف تفكيرها إستنزافا حادًّا .. حتّى شارفت الأربعين وأرادت لنفسها الإستقرار وأخذ حرّيتها ... ! فأقامت الثّورات والثّورات وتتالت ، وكادت لها مكائد شتّى بما أخذته من رصيد نضالها حتّى لاتخرج مُنهزمة في معركتها الأخيرة . ووجدت لذلك مغْنما عندما حوّلتها إلى حروب باردة بالهجر المفْتعل ، وفنّ المخابرات والجوسسة التي أصبحت هستيريّة بمرور الوقت ، مع التّأريب والتّأويل لكلّ مستقصي حتّى تجعل نفسها مظلومة .. إلى أن تمكّنت من دائرتها الضيّقة من جيران وأصحاب وأحاطت بهم كحلفاء أزرى لها . وتشكّلت مملكتها المنشودة .
فكّرت بالذّهاب لبيْتِ النّوْم الذي يقبع وراء غُرفة المعيشة ببابٍ يُطلُّ عليه . وقد كان موقِعُه بعيدٌ شيئا ما عن باقي الغُرف ، كأنّها بُنِيتْ على عجل .. أرادت الذّهاب وفي طريقها تملْملت قليلا .. ! لابدّ أنّها تذكّرت شيئاً عاجلا ..؟ هل هي آخر الأحداث مع الزَّوْجِ المظْلوم ،؟ والتي بدأت بنظرات كبرياء منها وشذرًا منه تلاقاها عندما دخلت هي المنزل .! أو الحوار المُحتشم والمتشنّج الذي دار بينهما عن الطّعام ، ممّا أدّى إلى خروج كمال من المنزل فور حديثهما القصير ؟. أم عساها فقط لم تُرد إزعاجه في الصّباح الباكر بدخولها الذي يُصبح لتكراره مثيرا للأعصاب ؟ .. أو علّها تتّخذ خطواتها بدقة متناهية ، وتجعل بين كلّ خطوة وأخرى مسافة دقيقة ...؟
وقفت متأنِّية بإقترابها من بيت النّوم ، وقد عدلت عن الدّخول . وقفت ترتّب ما إختلط عليها من مهام ؛ ترى ما لها وما عليها وماهي الخطوات التّالية !؟.. نظرت للخلف فرأت آية قد نهضت من كرسيّها و بدأت في إستعدادها المعتاد للمدرسة فتذكّرت مهمّتها التّالية وأطلقت صوتا أشبه بزئير أسود وهي في طريقها للدّرج ، (( أيمن إلى الآن !؟ إنزل حالاّ ...! ))
الحلقة الرابعة : العائلة السّعيدة
11:21 صباحا
ْ سمعتْ أصواتاً متشابكة ، أصواتا تبدو لها مُزعجة ، ونشازٌ مقلقٌ لنومها .. أيّام الآحاد .. الأيّام التي تريد فيها سميرة النّوم كامل النّهار ، ولكن أُمنية رغم تجدُّدِها كلّ أسبوع ، إلاّ أنّها لا تتحقق ..! ، إقترب إلى مسمعها صوت أختها الصُّغرى آية ، الصَّوتُ الذي يزيد من حناقها ويأجُِّج بعفويَّة لحنه كآبتها . وضعتْ الوسادة فوق الشّقِّ الأيْمنِ لوجْهها، ولطخت بكفِّ يدِها تثبِّتُ الوِسادة فوق رأْسها وتزيدها عصرا كلّما إقترب الصَّوتُ أكثر . فبدأت الوسادة تتقلّصُ في المنْتَصَفِ كأنّها تُحْشُر قسرا في أُذُنها .
((أحضرت عرائسي .. ! )) قالت آية بعدما فتحت باب بيت أختها الكُبرى بإندفاعٍ صباحي ملوّحتا بلعبها ..
نظرت سميرة لملامح وجْه أُختِها المُشرق ، بذلك الحاجب المُتعرِّج البارز بروزا متناسقا مع شكل إبتسامتها ، وأنْفِها الذي يتفطّر بنسق موازٍ لدائرة وجهِها الصّغير .
نظرت سميرة نظرة معمّقة وسريعة لتفاصيل وجه أُختها الثّري المناقض تناقضا صريحا مع تفاصيل وجهها . وصرخت بصوت أجش وأكثر غرقا عند إستفاقتها ((أُخرجي أُريد أن أنام .! ) ..
تبدو العائلة عند إصطفافها في صورة جماعية منقسمة السّحنات ، بحسب جينات الوالدين ؛ فقد أخذت البنتُ الكبرى والإبنُ الأصغر سحنات وجه أُمّهما الباهت ، أمّا آية فتبدو كالبنت الضَّالّة المتطرّفة عن الحشد أو المتبنّية اللّقيطة لو فُقِد الأب من الصُّورة .. حيث أخذت كلّ سحنات أبيها البارزة بما فيها لون الوجه القمحي المشرق ، المخالف لبقيّة وجوه العائلة القفر الخالي من الدّماء . وقد أجّج هذا حناق البنْت الكُبرى وجُعلت تخزّن برامل غيض في سِرّها ، أثّرت على علاقتها بباقي شجرة العائلة حتى الموسّعة منها ، التي مع الوقت أصبحت مقتطفة من جلِّ أوراق نسل أبيها . وقد كانت علاقتها بأُخْتها الصُّغرى قاحلة كقحول بشرتها ... بما أنّها البنْتُ الكُبرى ، فقد كانت تجِدُ تذبذُبا بين طبيعة المستوى العائلي الذي فُرِض عليها في أن تكون الأولى ، وصاحبة التّجارُب في الحياة (وهي الخاليةُ من أيّ حياة ) ، وبين ما تراه هي من مُستوى نظوجُ شخصيّتها وما وصل إليه ، و الذي إلى الآن لم يتجاوز الصِّفْر بالمئة . ولم يُسنّى لها الحظّ بعد في أن تبلُغ به مراتِب أعلى من ذلك مع جفاف كلّ شيء محيطٍ بها ، فكانت تجدُ تناقضا صريحا في كلّ فعل أو ردّة فعل تقوم به . وقد بدئ تناقضها من أسرتها ، وهي التي لا تستطيع أن تفكّ نفسها من سلاسلهم الخانقة ، خاصّتا أمّها التي توحي كل تصرّفاتها معها بالملكية القهريّة والجفاء في المعاملة ، كأنّها جزء صغير من مملكتها المنشودة . تقاس فيها طورا بجارية ، و تتدهور في أطوار أخرى درجتها لتُصبح المتبنّية اللّقيطة ، لإفتقارها المهنيّة في أن تكون جارية ماهرة . فطبيعتها الإتّكاليّة وكآبتها المفرطة تمنعها من أن تكون متقنة لأي شيء ، فترى نفسها البائسة الوحيدة في تلك المملكة ، كأنّها طفيليّة مهدّدة بالإنتزاع لشدّة بؤس مالكها . لشدّ ما أرادت التّشجّع و مصارحة أُمّها بحقيقة مشاعرها ، وأنّها كبُرت ولم تعد تلك الجارية أو اللّقيطة التي لا تُسمع ، دائما ما حاولت أن تميل تعاطفها و أن تقول لها بأنّها إنسان ومن حقّها أن تُعامل كإنسان ..! ولكن كيف وهي التي لم تُستشعر لا من قريب ولا من بعيد ، فحتّى نظريّتها هذه تُصبح في أحيان كثيرة غير قابلة للتّصديق منها هي شخصيّا ، فما بالك من أمّها التي لها تصوّراتها الخاصّة عن الأمومة ، أو بالأحرى عن الأحقّيّة الملكيّة ... تبدئ إستغاثتها من هناك .. وتُكمِل أُختها الصّغرى في عصر ما تبقّى لها من جهد عبر حركتها الدّائمة والعفوية السّاخطة عندها ..حتّى أصبحت سميرة في حالة صدٍّ مستمر لأُخْتها بطرق متنوّعة ..
_ هذا وبقت تنتظر من يخلّصها من كآبتها ...
_ وألفت تنتظر رسالة من السّماء تخلّصها حقّا من عذابها وهي التي من كثرة كآبتها أضحت مستبعدة أن يتمّ ترمِيم ما بُعثِر من نفسِها برسالة واحدة ...
فصبّت جام تركيزها على شخصٍ يكون على مقاسها وفي سذاجة عقلها ..:
1_ شخصًا يُنسيها ماضيها المنسيِّ بطبعه ..
2_ويُملئ حاضرها الشّفاف الأملس الذي لا يستمرّ فيه أحد ..
3_ و لما لا يخلِّصها من كابوس المستقبل !..
فهل تجد..؟
أرجعت بقبضة يدها الوسادة بعدما أطلقت غرغرتها ، فخرجت آية من الغرفة وقد فشلت محاولتها الإستئناس بأختها القاسية ، وقد تجرّعت أنواعا من الصّدِّ الغير مبرّر ، حتى أصبحت مع الوقت تراقب نفسها وتُصلح من أخطاءها الإفتراضيّة علّ أنّها ترضيها ، ولكن سرعان ما تنسى مراقبتها وتأخذها غرائز براءت فكرها في اللّعب والغناء بصوتها الرّنّان .. رمت عروستها على فراشها وألقت نظرة لغرفتها المجانبة لغرفة أختها تستقصي عدستها أخيها أيمن .. ظالّتها لقتل الوقت . رغم أنّها أحيانا كثيرة لا تسشعر بالمتعة المفروضة بها أن تشعر عند اللّعب لقلة تجاوب أخيها معها ، حتى في أحلك أوقات اللّعبة وشدّتها، و ذروة الصِّراع ونشوة المنتصر ، تجد تجاوبا محتشما من أيمن بطبعه النيئ المنقوص من كل التّفاعلات الإيجابيّة...
هل هكذا يكون اللّعب مع الأولاد ، بتلك الدّرجة من الذبول والتّخاذل ..؟ أم أنّ النّموذج الموجود في الأسرة ليس بالنّموذج الصّحّي كي يُأخذ مثال يُقاس عليه ؟ .. أسئلة تتكوّن في عقل آية بتطوّر منتظم و بلا وعي تتحوّل إلى مواقف سلبيّة عن الجنس الآخر ، وفي الميل أكثر للبنات كلّما إستدرجتها الظّروف إلى اللّعب مع أخيها ، خاصّتا وأنّ ثقافة الأسرة لا تسمح معنويّا بخلق صداقات مختلفة ... إذا فاللّعب معهم ليست بالمُمتعة والعفويّة قياسا بمتعة اللّعب مع الأخت ، وخاصّتا إن كانت الكبرى : حيث النّشوة في ذروتها عند الإنتصار ، والتّقبُّل الرّحِب في الهزيمة . ولكن كيف السّبيل و جدار الصّد يعلو ببؤسه وكآبته ، تماما مثل الجدار الفاصل بين الغرفتين ؛ النّاصع بالبياض بطّبقات الطّلاء المتراكمة فوق بعض ، و صدع وشروخ يتخلّله من كلتا الجانبين ...
وقد توزّعت الشروخ في الحقيقة على كامل جدران المنزل أشبه بسدود فاصلة بين كلّ ضغط عالي وآخر ، ولولا التّعديلات المتفرّقة كلّ حين ، لبانت جميع الشّروخ بشكل أوضح وأكثر بروز . لكن طبقات الطّلاء تغطّي جزءا واسعا منها ، خاصّة في غرفة المعيشة حيث بُرزت فيها التّعديلات بشكل أوضح عن باقي الغرف بالفوارق الضّوئيّة لنفس لون الطّلاء في جميع جوانبه ، فلم يعد للأثاث أي قيمة في إضفاء جماليّة على القاعة مع خظمّ الإشعاع المنبثق شمالا وشرقا وبين الجنبين . فبدت الطّاولة و كراسيّها أو تلك الأريكة المتطرّفة في ركن القاعة بوسائدها الكثيرة كالشّيء المظلم وسط نور منبثق ، ولم تزد لسلوى سوى تعب عند تنظيف الوسائد بظربات إنتقاميّة لتنفضها تماما من الغبار ، أو في تعديل الأثاث عندما يتراء للملكة في إستعمالها . أمّا كمال فلم تضف له تلك القاعة سوى بعدا عنها وإشمئزازا كلّما مرّ من خلالها ..
كما يتناهى في خضمّ الأصوات التي تتكاثر في ذلك اليوم من كلّ شطر في المنزل ، ومن كلّ ركن في بيت ، ومن كلّ أثاث يحرّك ويجر .! .. يتناهى إلى كلّ مستمع مدقّق صوت جديد ، ليس ببعيد من لحن بقيّة أزيز الأثاث الموضوعة بطرق تشتّت أي عين معوّدة على تنظّم الأشياء . بل صوت يبدو في لحنه أكثر خشونة من خزانة عند جرّها أو خشخشة تلفاز بهوائي قديم كلّما فتحت على تذبذب ضعيف ..! صوت ليس بجديد على العائلة ، بل هو محفّز لبعض من أفراده ومنفّر للبعض الآخر ..! صوت يأتي مع صاحبه كلّ حين وحين حسب الجدول الزّمني ، ليغيّر شيئا من طباع الأم التّهرّبيّة ، ويعطي للأبناء نكهة التّجمّع على مائدة واحدة كأسرة عاديّة ، ويجد فيه كمال فرصة لإستنشاق نسيم هيبة الأب بدون عوائق وكلمة الزّوج المسموع في منزله .. هو المنصف أو كما يلقّبه زوج حياة "نصيّف" ، كُنية للجد الذي أصبح سائح بين المنازل تتلقّفه بناته ككرة فراء ينقُص من فروها كلّما رميت . هذا فقد أصبح له خيار صعب بين أن يبقى وحيدا في منزله كالجبل الشامخ وراء ضباب معتم . أو أن يرمي بنفسه بين عبيده ويرى كيف هي حال من كان تحت إمرته . فكان كالضّيف الغير مرحّبا به بين فلذات أكباده حتّى جعلو له جدول زمني يقيهم إستمرارية بعبع القيصر الذي لطالما أرقهم في الماضي ... ويقيهم أيضا سخط أزواجهم عنهم لعدم تفاهمهم معه . خاصّتا حياة فحياتها مع زوجها لا تحتمل أيّ تدخّل خارجي ، بالأخصّ إن كان أبيها الذي أضحى بعد تاريخه في السّبي حكيم المدينة بعقله الذي يبدو أنّه قد توقّف منذ زمن بعيد ..
ومع تفرّق الممالك قلّ إجتماع العائلة وقلّت موائدهم وأقتصر شملهم فقط على تعديل الدّستور المعد خصّيصا للجد . وقد شهد الدّستور منذ اقامته عدّة خروق في مدّة الإستضافة . وكانت كلّ مرّة تتحمّل واحدة عبأ الخروقات بالإبقاء على أبيها وقتا إضافيّا عندها . وإن قارنّا بين الواقع وما هو على الورق لوجدنا إختلافا كبيرا بينهما يكاد يصل حدّ التّناقض . كأنّهم يجسّدون القاعد المشهورة حول العرب بأنّهم إتفقو على ألاّ يتفقو إن أعتبرناهم ممالك إستقلّو من هيمنة الواحد في سبيل أن يكونو دول ذات سيادة . وإن معّناّ النّظر أكثر لوجدنا من بينهم مملكة أحيط فيها الرّأي على أن تكون المملكة التي تقام فيها الإحتفالات و المآتم و تجتمع لديها بقيّة الممالك كلّما دعت الضّرورة .. و تعيّن فيها الإجتماعت السرّية المغلقة أوالعلنيّة الزّائفة . ودائما ماتتحمّل تلك الدّولة خروقات جيرانها و تقوم بالسًتر أو بالتّشهير على أخطائهم حسب الظّروف والمعطيات...
وقد شهد بيت سلوى رغم وهن معماره العديد من الحلق السّرية في غرفه وزواياه ، وبعضا من النّدوات النّسائية الهامّة التي تدور جلّها حول مواضيع مصيريّة ، كأخبار الفنّانين والموضة عبر المجلاّت التي تأتي بها حياة من امكنة عدّة وترسو في الأخير في المملكة المتخاصم عليها ، بالتدقيق في غرفة سميرة : الضّحيّة الأولى في تلك المملكة . وقد وجدت بهم ملاذا إفتراضيّا وفسحة لإستكشاف الذّات والتّرقّي ... فتبدئ بواسطتهم بالبحث عمّن يشبهها.. شيئا تواسي به تفرّدها عبر الصّور الأسبوعيّة المختلفة للفنّانين . قد تبدو صفحات تلك المجلاّت مهترئة من كثرة ما أستهلكت في النّدوات قبل أن تُفضى إليها ، ولكن رغم ذلك تقوم بتخزينها بإستمرار لتخرج حسب الطّلب دون التّخلّص منها لسبب لا يعلمه أحد سوى هي . سرعان ما تفقد تلك المجلاّت رونقها فتلوذ بالأنترنت .. ولعلّها في عدم التخلّص من المجلاّت تحسبُ حسابا للظّروف : فلا يعلم أحد ما الذي يطرأ على الشبكة العنكبوتيّة من فقدان للخط أو إنعدام رصيد لشّحنه من جديد ..! وما شابهها من العراقيل ... فالغوص في العالم الإفتراضي يريح قلبها حتّى تتيقّن أنّ شكل جسمها ليس بذلك الغرابة وبأنّها ليست الوحيدة بهذه السّحنات ... سرعان ما يجرّها بحثها إلى أبعاد أخرى تختبر فيها أحاسيسها التي دفنت مع الوقت بالغوص في صور بألوان مشعّة عن الجنس الآخر و كأنّها تتحضّر لخطوة واقعية جريئة إلى العالم دون أن تخطوها بإغراءات تلك الصّور . تريد ان تصنع قضيّة وعنوانا يبرزها بين الناس .. و تكوّن لذاتها ذوقا خاص . فتذهب فرائس غرائزها لكلّ صورة مناقضة لصورتها وكلّ ملامح تكمّل ملامحها . كأنّها بذلك تفجّر دائرة عالمها المكبوت بالغوص في خيالها أكثر .. وسرعان ما تأخذ تلك الصّور أشكالا مثيرة في زوايا مخيّلتها .. كما هو نوع من الهروب والتّخفّي تحتسيه على مشارف دولة منازع عليها : بين نظام قديم لا يريد التّزحزح ، وثائر جاهل ضيّق الفكر لا يعتبر .
وما كان لبقيّة الرّعيّة سوى الهروب بطرق مختلفة ..
وما أحلى الهروب عندما يمتزج شدّة البؤس بنشوة تعادله وتحويه..! حتى أصبح لهروبها وقت لا تخالفه..!
بل وقت تنسى فيه كل شيء ولا تنساه .. !
تلك الدّقائق التي تراود فيها نفسها .. ثم تداعبها ...
الحلقة الخامسة : على مائدة الطعام
نظر إليها نظرة من وراء حاجبيه الصّارمين وهي تضع الصّحن الجديد على الطّاولة في الجهة اليمنى ، حيث مكان الجد . صحن غارق بزيت الزّيتون وبعض ممّن يشتهيه زوجها .. نظر إلى الصّحن بعينين غارقتين بالغبطة والغل كغرق الصّحن بالجبن و شرائح البيض .. وضعت المائدة بتفاوت في الأكلات بين شقّي الملكين وكانت القصعة في الوسط كفاصل بين الشطر الأمامي حيث الملك والشطر الخلفي أين تقبع المناضلة .. الثائرة التي تريد فك زمام الحكم . وإن كان لا يرى في إستيلائها لمقاليد المملكة من علامات خير للرّعيّة . كذلك النّظام المعتمد في المملكة من القدم بمكان ، و فيه هظم لحقوق وحرّيّات نتاجا لإحتياجات الملك المجحفة والأنانّيّة ... أمّا مخطّط الإطاحة أو الطريقة المبتذلة التي ركّزتها المناضلة في خلق الفتن وتأجيج النّفوس لخرق النّظام ، وما أعطت من إنقسامات داخل المملكة ، تظلّ تكبُر حتّى إن نجحت الثّورة وظفرت بالحكم ...
ثورة الكسكسي ..! إن نجحت وسمّيت بمسمّى القصعة التي نصبت وسط طاولة التّفاوظات بالمفهوم السّياسي للعائلة .. بما أنّ جل النّقاشات الدّبلماسيّة تظهر بأكثر وضوح عند حظور الجد .. فتواجده يعطي صبغة شرعيّة لكلّ قرار يُأخذ ، وإلاّ لأتُّهِم الأب بالشُّحِّ . وموقع الجد حاليّا هو جنب الملك في طاولة المفاوظات وخارجها . ويعتبر هذا التّقرب رسالة رضاء غير مُعلنة من حكيم المدينة في تفاني الملك وحسن الإعالة إلى حدّ الآن . بمفهوم الحكيم بالطّبع .. التي ترجع جميع مفاهيمه عن الإعالة إلى القرون الوسطى حيث الإمبراطوريّات و القياصرة .. حيث الهيمنة بأفضع تجلّياتها وإنعدام الحدود ، ولا بقاء للممالك الصّغيرة التّافهة أنذاك !. حيث السّبي والعبوديّة بمفهومها الحقيقي الصّريح ...
أمّا كمال فلا يريد إلاّ على الحفاظ على روابط المحبّة والأواصر بين سلالتين لطالما تقاربت مفاهيم حكمهم ، وإن تشوّه النّموذج الأخير لتغيُّر الأزمنة والقوانين مع تعنّته في التّسيير القديم .. على رغم نظج بعضا من رعيّته وإن كان نظجا محتشما يغلب عليه البلادة ...
إذن فكيف ستكون الثورة هي الأخيرة من عقل بليد لايريد التّطوّر متأثّرة هي الأخرى بتقاليد قديمة عفى عليها الزّمن ،!
كيف ستكون سوى أنّها ستخلق مزيد من الإنقسامات داخل المملكة...
رمت الصّحن الأخير أمامه بإسراع تاركتا إيّاه قبل أن يرسو على الطّاولة ببضع ملّمترات .. صحن متنوّع من الّسلطة النّيئة إندُسّت فيها وريقات الخسّ في الوسط ، سوى ورقة بقت واقفة عند الجانب بمفعول إصبع خيار أبى إلاّ أن يبقى في حالة خوزقة لتلك الورقة .
زمّ كمال بشفتيه ، ومحلّ نظره عند سوق الخضار أمامه .. أزاح الصّحن قليلا ورمى بيده إلى القصعة يغرف بضع ملاعق من الكسكس الحار وعينه تتفقّد ردّت فعل زوجته ..
يبدو شكل مائدة الطّعام بالحجم الذي تستطيع أن تمدّ يدك إلى وسطها وتغرف من أيّ طبق كان ، طاولة تسع ستّة أشخاص متحابّين : كرسيّين في الجانب الأيمن وكرسيّين في الجانب الأيسر وقد كانو ملتصقين لخصوصيّة الطاّولة ، وآخران في الأمام والخلف .
أُحتُلّ الأخيران من قبل الزّوجين كما هي العادة عند أصحاب القرار وطرفي النّزاع الرّئيسيّين .. حيث يكونا كلّ منهما على مسافة آمنة كي لا يشبّ شجار مادّي لحدةّ القضّيّة ، وأن تكون زاوية الرّؤية مريحة وملمّة منهما على بقيّة الأفراد الذين أنقسمو إلى دبلماسيّين وأوراق ضغط يُستعملو من أحدهما على الآخر .
نظرت للقصعة المعدّة بسهم يريد أن يوقف حصد الأب للكسكس ، ولكن مازالت لم تبلغ بعد القوّة الكافية لإقاف حركة يد شخص بنظرة واحدة .. لم تبلغ تلك القوّة بعد و إن كانت نظرتها بالحدّة الكافية لإيقاف شفاه تريد التّمرّد .. أثناء التّفوّه وأحيانا قبل النّبس بأي كلمة .. على الأقل نجحت مع إبنتيها .. خاصّتا الكبرى .. وإبنها الذي يبدو أنّه قد ولد مهيّء لها تماما وغير قابل للسّيطرة أكثر .. لكن نظرة تقف بها حركة جسديّة .. ليس بعد ..
و أما إن تمكّنت فلن تستطيع مع هيكل تعوّد إن وضع على المائدة أن يتحرّك بصفة دوريّة ملتهما دون إنقطاع .. عادة تتوارثها شجرة الأب من عرقها الأرضي إلى أعلى ورقة في غصنها .. انتهاءا بالإبنة الصّغرى آية التي لبّت نداء الواجب فور سماع صفّارة الأم عندما تحوّل صوتها إلى ناقوز خطر يُنذر بقرب إنتهاء المؤونة .. ليس من المائدة فقط بل من المملكة بكاملها ..
جلست آية قبالت جدّها قرب صحن الخضار ، يبدو أنّ ألوان ما في الصّحن تغري من في مثل سنّها ، راحت تقطف بضعا من ورق الخس وبعضا من شرائح الجزر وقليلا من خوازيق الخيار دون ان ينبس الأب بكلمة .. بل وفعل العجب عندما إلتقط عجلة من جزرة سقطت من يد آية على الطّاولة ووضعها في فيه بإبتسامة قاومتها بقيّة ملامحه الخشبيّة ، كأنّه يرسل ظرفا مختوما عبر إبنته للطّرف المقابل فحواه كلمتان فقط :
"مازلتُ بشرا "
لم تستلم الرّسالة ، كانت نظراتها إحتقاريّة تشيّان بإهتمام هستيري . أشاحت يمنة ويسْرة للكرسيْين الباقيين . ورقتا ضغطها لم يأتيا بعد . وصيحة ثانية ، أحرقت بها الرّسالة و نثرت رمادها على كامل الغرفة .. لازلت وحشا ، ذئبا يريد أكل العنزات ، شيطان تريد الغواية .. غول المملكة الذي يجب الإتّحاد من أجله وطرده مهما كلّف الأمر..
دخلت سميرة يليها أخيها أيمن بخطوات مهملة من الطّرفين ، إلاّ أن أيمن تدارك الموقف وأنعرج بسرعة نحو الكرسي الذي هيّأت له سميرة نفسها للجلوس عليه .. وقفت و أخذ سواد عينها يتحرّك في ثلاث إتّجاهات متتالية : شكل مثلث متقايس الضّلعين أو بالأصح شكل مثلّث برمودا .. مثلّث الموت .. عين على كرسيّها الذي أُخذ منها ، وعين على أمّها القابعة بجانبها ونظراتها التي لا تسمح برؤية شجار تافه عن الأحقّية الأولى في المجلس . وعين ثالثة متّجهة للكرسي المجانب للشّرهة آية ، فكّ الكمّاشة الثّاني .. وقد بدى الكرسي كمكان لإحتضان لوزة قبل تهشيمها .. أو ككرسي الإعدام المستعمل في القرون الوسطى و أمامه على الطّاولة منديل يشبه المناديل المعدّة لمسح رأس المجني قبل إعدامه بقضيبي كهرباء .. أتّصلا القضيبين سلفا بالمولّدان .. وقفت سميرة وقد لاحظت عيني أمّها التي تحوّلت نظراتها إلى إستغراب غير متفهّم لإضطراب إبنتها ، تلتها بقيّة العيون الأخرى التي بدأت تتّجه إليها . تحرّكت ساقيها بطريقة لا إراديّة نحو المنصّة مختلقة نوعا من السّكون تزامنا مع خطواتها البطيئة ، وقليل من الهواء الخفيف الذي أًثير عبر حركتها الدّائريّة وراء أمّها نحو الكرسيّ والعيون الغفيرة تتابع .
وصلت للمنصّة وهفهفت تلك المنديل بمفعول النّسمات المثارة أثناء جر الكرسيِّ و الجلوس عليه .. هفهفت المنديل مرحّبتا بالجثّة ومودّعة للرّوح ..
رمت بإضطراب سهاما جانبيّة تستطلع بها حال أختها وسط ذلك الخضم ، تكاد تكون نظرة صيّاد لا يستطيع مسك فريسته من كثرة إلتوائها . وأمّها في الجهة اليمنى تغرف لها حصّتها بعزم شغّيل مجِد وسط عمل شاق لا يستطيع أحد غيرها فعله .. يشبه جلوسها بينهما بجلوسها المعتاد في الفصل بين زميلتين نشيطتين رافعتا إصبعهما بإستمرار إلى الأستاذ ، وهي في الوسط كلغم محكم كبته ينتظر أن يستشعره أحد حتّى ينفجر .. أو كصندوق سحري لا يعلم ما يُخبّأ فيه حتّى تلمسه .. يبدو أنّ بؤس ذلك الإجتماع لن يُمحى بسهولة من ذاتها .. كما يظهر من طريقة جلستها و تشنّج ساقيها من كثرة إلتصاقهما معا كإستعدادها لإنتفاضة ليليّة فائقة الخطورة .. لا بدّ من الإطالة في المراودة هذه المرّة حتّى يتسارع نبظها من جديد .. و بالتّأكيد إلى أكثر من مداعبة ...
قاطع شيخ المدينة وحكيمها ضربات معول العامل على القصعة بسؤال جوهري للفرعون :
((كيف حال الشّغل معك ؟ ))
تفطّن المستبد لإنتباه العامل وتصنّته وهو العليم بمدى توسّع صيت الثّورة التي جمعت كل طبقات العمّال إلى أن وصل التّعنّت إلى الشحّاذين الطّالبين للقمة العيش .
((لابأس كالعادة ؟)) .. ردّ بدبلماسيّة هشّة لم تعد تُأتي أُكلها حتّى في العالم الثّالث ...
((ثمّا زيادات على قريب وإلاّ مازالو ما حنّش علاهم ربّي؟)) .. أردف الحكيم بسؤال آخر أبكم به الملك الذي كان يعلم تداعيات الإجابة في كلتا المخرجين . تظاهر إنشغاله بالأكل إيحاءا بعدم إرتياحه الحديث أثناء الطّعام ..
لبّت العاملة نداء الثّورة لمّا تراءت لها تهرّب المستبدّ من الإجابة وفسرّته ضعفا تستطيع الولوج منه ، فخاطبت أباها عن مشروعها الموقّف والغير مصادق عليه إلى الآن في التّرميم والتّعديل في المملكة . إلتفت الحكيم بدوره للملك يأخذ منه رأيا حول المقترحات المقدّمة وحسما إن أمكن بالقبول أو الرّفض ..
هناك نوعا من البلادة والمماطلة المفتعلة دائما من الدكتاتوريين والمستبدّين حتّى إن كان الأمر يستدع العجلة في إتّخاذ القرار والنّفر إلى التّنفيذ الفوري . لكن للسّلطة إغراءات عميقة لا يستشعرها إلا من سُلّطت عليه الأضواء وأصبح محل طلب وإستفسار ..
((تو نشوف .. عندي برشا حاجات ..؟ ))
إجابة مبهمة إكتظّت لها الثّائرة وهاجت سرائرها وأضحت تتيقّن مع الوقت أنّ الأمور تطال أكثر من اللاّزم .. ماج بحر عاطفتها وبدأت أمواجه تضطرب شيئا فشيئا.. وبإضطرابه تتوقّف السّفُن عن التّجارة وتتحوّل مع القوارب الصّغيرة إلى الميناء . كما يُحجّر المعهد الوطني للملاحة والصّيد البحري السّباحة وسط هذه الظّروف .. وإلاّ الغرقُ والهلاك ..
ويبدو في ظلّ هذه الدّول النّامية : التي تعاني دنوِّ المعيشة والفقر الرّوحي المدقع ، والجفاء والقحط في المعاملة . لا تقع في تلك الدّول ثورات نزيهة بحكم دناءة وجهل المجتمع .. سوى الإنقلابات المسلّحة والإغتيالات السّرّية وأسلوب العصابات الرّخيص .. ويبدو من شكل النّفوس التي تتراوح هيئة وإيابا حول الطّاولة تزامنا مع إيقاع نفير نفس أمِّ الدّنيا كما تتملًقها حياة عندما تريد منها شيء ..
لا يبدو من سبيل آخر تتجه نحوه الثّورة التي طالت زهاء عدّة سنين بمسيرة نضال محترمة ، بأن لا تُختم إلاّ بنجاح مهما كلّف الأمر وإلاّ لذهب زهاء النِّضال سُدى .. كما ستذهب مجلاّت تلك المملكة إلى وريقات صغيرة مع نجاحها ...
أمّا عندما تتعمًق في وجوههم فترى فيهم الإستسلام والإنسحاب بأيّ طريقة . لكنّ العناد والأنانيّة يجعل كلّ واحد منهم يرى الآخر بمظهر المنافس الشّرس وأحيانا العدو . ولا يتعلّم المرأ من مسيرة نضاله سوى شي واحد وهو ألاّ يُظهر ضعفه لعدوّه فيغتنمه .
وأيّ عدوّ ذاك الذي يطمس أهمّ ماتملك .. ذاتك .
وأيّ شيء أحبّ للمرء من نفسه سوى نفسه ..
وماذا يكون الذي يريد طمسها سوى أنّه ألدّ أعدائك . حتّى وإن كان صديق أو أخ أم عسى الأب له خصوصيّاته .. ! بل حتّى وإن كانت الأم فلا فرق بين قريب وبعيد إن كان محلُّ الأذى القلب .. فما رأيك بلُبِّ ما في القلب ..
لملمت أمِّ الدّنيا شتات مائدة الطّعام ، وأنفضّ المجلس .
وسوم: العدد 813