القوقعة (الجزء 2)
8 اذار
كالعادة أخرجونا اليوم الى الساحة ، أوقفونا أمام مهجعنا ، وهكذا بقية المهاجع ، إذاعة السجن تصدح منذ الصباح بالأغاني التي تمجد رئيس الدولة وتتغنى بحكمته وشجاعته وبطولاته ، اعطوا ورقة مكتوبة الى احد السجناء بها بعض الشعارات والهتافات يصرخ بها ونردد نحن وراءه : سنفدي الرئيس بالروح والدم ، يسقط الاخوان المسلمون عملاء الامبريالية ...
لم يكن السجناء يرون أي غضاضة بالهتاف ضد انفسهم ، او على الاقل لم تبدر منهم اية اشارة او ممانعة تدل على ذلك ، كانوا يهتفون باصوات عالية جداً لا يستشف منها أي شيء من هذا .
هذه الاحتفالات تجري كل عام مرتين او ثلاث مرات ، واحتفالات هذا العام تختلف عن غيرها في ان السجناء اليوم كانوا لا ينفكون يحكون ويهرشون اجسادهم : انه الجرب. بين تصفيق وتصفيق ، بين هتاف واخر ، يمد السجين يده ليحك جسده .
بدأ الجرب منذ خمسة اشهر تقريباً ، وكنت قد نجوت من التهاب السحايا ومن السل الا انني كنت من اوائل المصابين بالجرب ، الذي سرعان ما عم وانتشر ليشمل السجن كله ، والغريب في الامر ان الاختلاط بين المهاجع ممنوع منعاً باتاً ، فكيف يمكن ان ينتشر وباءٌ ما يبدأ في احد المهاجع ليعم السجن كله !!.
والاغرب من هذا ان مستوى النظافة هنا يعتبر جيداً ، فالمساجين عموماً يهتمون بالنظافة كثيراً ، خاصة نظافة الجسد والثياب لانها شرط ديني للطهارة والصلاة ، فكيف يمكن لاشياء مثل القمل والجرب ان تنتشر بهذه الكثافة ؟!.
بدأالجرب فجأة عند بضعة اشخاص وانا منهم ، ظهر اول ما ظهر بين الاصابع ثم امتد الى ثنيات الجسم الاخرى ، كان عذاباً مضنياً كالنار عندما تسري في الجسد ، كل يوم يمر يزداد عدد المصابين ، وواضح منذ البداية ان اية عملية وقاية لا جدوى منها ، مهما كانت الاحتياطات المتخذة من قبل الشخص السليم فهي عبث لا طائل تحته .
منذ اليوم الاول حدد الدكتور غسان الامر ، هذا الدكتور وهو زميل البورد الامريكي للامراض الجلدية ، له مؤلفات كثيرة ويعتبر عالماً في اخصاصه على المستوى العالمي ، شخص محترم هنا كثيراً ، لا يتدخل في أي مسألة لا تعنيه ، يترفع كثيراً عن الصغائر، وهو المرجع الاخير في الطب لكل الاطباء الذين في المهجع .
فحص الحالات الاولى للمرض ، قام بهدوء من مكانه واتجه لعند ابو حسين ، وقف بين فراشي وفراش ابو حسين ، القى التحية :
- السلام عليكم يا ابو حسين .
قفز ابو حسين احتراماً وهو يرد التحية :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، اهلاً وسهلاً ... اهلين دكتور ... تفضل ... تفضل ... استريح .
جلس الدكتور غسان ، وبمنتهى الهدوء بلغ الامر لابو حسين ، ختم حديثه قائلاً :
- هذا الجرب سريع العدوى ، خلال ايام راح نكون كلنا جربانين اذا ما عالجناه ، والعلاج بسيط ، اخي ابو حسين ... خذ اجراءاتك ... بس انا خليني بعيد عن ه الساقط طبيب السجن !، ماني طايق احكي معه ولا كلمة ... مفهوم ؟.
اومأ ابو حسين برأسه موافقاً ، عندها قام الدكتور فوراً الى فراشه الذي لا يغادره ابداً ، فهو لم يشاهد جالساً عند احد ، وهذه هي المرة الاولى التي يقوم فيها بالجلوس على فراش سجين اخر وكان ذلك للضرورة .
فيما هو يغادرالتفت نحوي ، سار خطوتين ثم توقف ، اتجه نحوي ، جلس على فراشي وهو يقول :
- السلام عليكم ... يا اخي .
لا ادري كيف اجبته مبهوتاً وبصوت انا نفسي لم اسمعه :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
- ممكن ... يا اخي من بعد فضلك... تمد ايديك حتى افحصهم .
بحركة الية مددت كفيّ الى الامام ، امسك بهما، باعد بين الاصابع ثم التفت الى ابو حسين وقال كانه يتابع حديثاً انقطع :
- شايف ابو حسين.. وهاي الاخ جارك كمان مصاب !، وانا ماشي شفته عم يحك وعرفت انه مصاب .
- لا حول ولا قوة الا بالله ... اللهم اعنّا على تحمل كل هذه المحن ، اللهم لا تعطنا حملاً خفيفاً ولكن اعطنا ظهراً قوياً ، يارب انت السميع المجيب .
بعد ان انهى ابو حسين الدعاء قال الدكتور : آمين ، ثم التفت اليّ :
- يا اخي حاول الا تحك ... مهما حكك جسمك حاول لا تحك ، وحتى يفرجها الله ويتأمن الدواء حاول انك تغسل ايديك دائماً بالماء والصابون ، وارجو لك من الله الشفاء ، ولا تخاف هذا المرض مزعج بس مانو خطير .
وذهب .
( ياالله ... ما هذه العذوبة ؟... ما هذه الرقة ؟... ما هذه الانسانية ؟... هل هو لا يعرف من انا ؟... اذا كان كذلك ، فهذا يثبت انه انسان كبير !... اما اذا كان يعرف من انا ... فهذا يثبت انه انسان كبير ... كبير ... ولايخشى احداً ) .
مرت الايام ، ثم الاسابيع ، وابو حسين يحاول مع ادارة السجن وطبيب السجن ان يؤمنوا لنا العلاج ولكن دون جدوى ، وآخر مرة قدم فيها الطبيب قام بزجر ابو حسين وتهديده :
- العمى بعيونك ... صرعتنا ، ايه هو جرب ! ... شوية حكة وينتهي الامر ، ايه ولاك ... قاعدين لا شغلة ولا عملة ... اكل ومرعى وقلة صنعة ، خليهم يتسلوا بالحك ... احسن ما يملوا !.
وذهب .
كانت قد مرة اربعة اشهر على بداية المرض ، وظل ابو حسين يحاول .
" اما انا فقد شفيت بعد حوالي الشهر من بداية مرضي ، كيف ؟ ... لا اعرف ، كنت الحالة الوحيدة التي شفيت ، فقط اتبعت ما قاله الدكتور غسان ، كنت كل نصف ساعة اقوم الى المغاسل اغسل كل الاجزاء المصابة بالماء والصابون جيداً ، ثم اصبحت اعمد الى كشط الصابون الرطب اللين واضعه على اماكن الاصابة وأتركه الى اليوم الثاني ، لم أحك جسمي أبداً ، حتى عندما أنام أحضر سروالي النظيف وأضع كل يد في طرف من السروال ، وأظل الفه متعاكساً إلى ان يصبح السروال كالقيد ، وبذلك أتأكد انني لا أحك حتى وأنا نائم. وكما ظهر المرض عليّ فجأة اختفى فجأة. واغتنمتها فرصة بعد ان تأكدت من الشفاء لمحادثة الدكتور غسان ، ذهبت اليه وابلغته انني شفيت ، اكتفى بهز رأسه !.
تطور مرض الجرب كثيراً ، سمعت حديثاً للدكتور غسان مع مجموعة من الاطباء بحضور ابو حسين وكان حديثه موجهاً للاطباء ، فاحتوى على العديد من التعابير الطبية واللاتينية التي لم افهمها ، وبعد ان عدد انواع الجرب خلص الى نتيجة انه لا يوجد عبر تاريخ الطب ان سجلت حالات كالحالات التي يرونها هنا ، وذكر ان اقسى انواع الجرب هو ان يكون لدى المريض حوالي / 300/ بثرة ، بينما هنا سجل حالات احتوت على اكثر من /3000/ بثرة تغطي كامل الجسم ، وان هذا هو احد الاسباب التي ادت الى حدوث وفيات بالجرب ، ونبه الى حالة خطرة وهي انتشار المرض داخل الاليتين وعلى فوهة الشرج ، وانه نتيجة للحك القاسي في تللك المنطقة والذي ادى الى حدوث جروح عديدة بعدد البثرات الموجودة حول فتحة الشرج ، ونتيجة لتقارب هذه البثرات فان الجروح قد الصقتها ببعضها بعد تخثر الدم مما ادى الى انسداد الشرج ... ومن ثم الى الوفاة لاستحالة طرح الفضلات من الجسم ، وتمنى لو ان هناك امكانية لحضور احد معاهد البحث الطبي المتطورة لمراقبة ومعاينة هذه الحالات الشاذة .
طلب الدكتور غسان من ابو حسين تشكيل فرقة تمريض مهمتها ربط المرضى الذين ينتشر الجرب لديهم في الشرج من ايديهم لمنعهم من حك انفسهم ، ثم طلب منه معاودة جهوده مع ادارة السجن .
منذ خمسة ايام وفي الصباح كان أبو حسين مستغرقاً بالتفكير ، فجأة انتفض وذهب الى الدكتور غسان ، تحدث معه قليلاً والدكتور يهز برأسه ، بعدها جال أبو حسين في المهجع كله وهو يردد :
- شباب ... كل شخص اتته زيارة مدعو للاجتماع عندي ، كل اربعة ... خمسة يجوا سوا .
كان هناك حوالي ثلاثين شخص من مهجعنا قد اتتهم زيارات ، ولمعرفة الاهل ان هذه الزيارة قد تكوت استثنائية ويتيمة فانهم كانوا يحاولون تزويد سجينهم بما قد يحتاجه ولزمن مستقبلي طويل ، خاصة لجهة الالبسة والنقود ، وتبين لي أن اهالي المساجين الاسلاميين عموماً هم من الفئة الميسورة في المجتمع ، ولهذا فان أقل مبلغ أعطي لسجين كان مئتي الف ليرة ، والبعض أكثر من ذلك بكثير، ولذلك اصبح في مهجعنا ملايين الليرات ولا مجال لشراء أي شيء ، وقد استمرت الزيارات حوالي الستة اشهر ،" كان بعض الحفظة يحصون ويحفظون عدد الزيارات لكي يعرفوا كم كيلو ذهب اصبح لدى مدير السجن ، وفي الإحصاء الاخير بعد توقف الزيارات كان العدد قد وصل الى ستمائة وخمسة وستين كيلو ذهباً ".
وقد توقفت الزيارات نتيجة لانتقال مدير السجن وحلول نائبه محله في الإدارة ، ولم يكن توقف الزيارات هو النتيجة الوحيدة لانتقال مدير السجن بل كان هناك نتيجة أخرى ، اذ وردت برقية مورس من المهاجع الأولى تقول :
" لقد جمع مدير السجن الجديد جميع عناصر ورقباء الشرطة العاملين داخل السجن وابلغهم انه اعتباراً من هذا اليوم لا يحق للعنصر العادي – الجندي أن يقوم بقتل أي سجين اذا لم يكن أحد الرقباء موجودا في الساحة ، التعذيب ، الضرب ، السحل ...كل هذا ليس مشكلة، لكن الموت لا يجوز إلا بحضور أحد الرقباء "
اعتبر الجميع عندها ان المدير الجديد أفضل وأكثر انسانية من المدير القديم .
أتت أول مجموعة من خمسة أشخاص لعند أبو حسين ، بعد التحية والسلام والمجاملات وكأنهم يزورونه في بيته دعاهم للجلوس وبادرهم فورا بفتح الموضوع دون مقدمات فيما الجميع يهرشون ويحكون :
- بدنا منكم يا شباب .. تبرعات في سبيل الله .
سكت الخمسة قليلا ، ثم قال أحدهم :
- يا أبو حسين ... أرواحنا وأموالنا في سبيل الله ، بس أشرح ، قول أولا شو بدك تعمل بالأموال ، المبلغ المطلوب ... مولازم نعرف ؟!.
- طبعا لازم تعرفوا ... لكن ما بدها ذكاء كثير ، الله خلق الأموال وأعطانا إياها منشان نصرفها ونشتري بها .
- طيب شو بدك تشتري ؟.
- بدي اشتري طبيب ... دكتور .
- دكتور...؟!!
وضحك الجميع .
- نعم دكتور ... بدي اشتري طبيب السجن ..! ما في غير هذا الطريق ... وبسلامة فهمكم بهذه الدولة ومن فوق لتحت كل واحد له سعر ، وما بظن ان هذا الدكتور غير شكل ، كلهم عم يلهطوا ، ونحن خلينا نملي جيب ه الدكتور منشان يجيب لنا دواء للجرب ، ونخلّص أمة محمد من هذه البلوة .
وافقه الجميع وتتالت الاجتماعات وأصبح بحوزة أبو حسين مبلغٌ محترم، عندها طلب من الرقيب عندما فتح الباب مجيء الطبيب لأمر هام !.
كان الطبيب حانقا عندما فتح الباب ، وصاح بوجه أبو حسين :
- اذا كنت طالبني منشان الجرب ... بدي كسّر عظامك يا كلب ، صار ألف مرة قلت لك ما عندنا دواء جرب ، هات لشوف ... شو بدك ؟.
- يا سيدي ... منشان الله ... بس طول بالك واسمعني شوي ... يا سيدي متل ما بتعرف نحن بالفترة الماضية اجتنا زيارات وصار في عندنا مصاري كتير ... ومثل ما أنت شايف ... نحن هون المصاري ما تلزمنا لأنه ممنوع نشتري أي شيء .
كان هذا هو الطعم الذي ألقاه أبو حسين للطبيب ، وبدأ الطبيب بالتقاط الطعم فالتفت الى الشرطة الذين كانوا يحيطون به وأمرهم بالابتعاد ، قال :
- ايه طيب ... وأنا شو علاقتي بكل ه العلاك ... اذا كان عندكم مصاري أو ما عندكم ... شو ممكن أعملك ؟!.
- يا سيدي ... اخدمنا هالخدمه لوجه الله ... انت رجل كلك انسانية ، وساعدتنا كثير لوجه الله ... هذه المرة كمان ساعدنا ... اشتري لنا الدواء على حسابنا ... حتى لو كان من السوق السودا ... ومعليش اذا كان الدواء غالي ، نحن مستعدين نشتريه بضعفين أو حتى ثلاثة ... خدمة لوجه الله يا سيدي .
وتحولت لهجة الطبيب فورا من الحنق والغضب الى اللين الثعلبي :
- لكن ... انت تعرف أن هذا الدوا غالي كتير ؟
- معليش يا سيدي ... مهما كان غالي الثمن ، بس يكون كافي لكل ه الناس ، لأن الكل جربانين .
- طيب ... تعال لهون شوي .
أخرج الطبيب أبو حسين الى خارج المهجع ، تكلما بصوت خافت ، وتمت الصفقة .
بعد يومين أتى الدواء بالصناديق الكرتونية ، ومنذ ثلاثة أيام وجميع الناس سواء كانوا مصابين أم لا وأنا منهم بدأوا العلاج ب البنزوات " بناء على تعليمات الدكتور غسان المشددة ، وتحت رقابته الصارمة " .
تم تهيئة خمس مقاصير بالبطانيات يدخل الواحد خلفها ويبدأ بفرك كل جسمه ب البنزوات .
خلال هذه الفترة القصيرة بدأت تظهر النتائج الايجابية .
تم ابلاغ المهاجع الأخرى ، والجميع أتم الصفقة مع الطبيب الذي أصبح مليونيرا، وعلق أحد الأشخاص :
- اذا سألوا طبيب السجن شي مرة ، كيف صرت مليونير ، لازم يقول : الجرب حولني من شخص جربان الى مليونير .
- بس يا أخي لاحظ ان الفساد في بعض الأحيان يكون مفيد وكويس .
23 تموز
رغم مرور كل هذه السنوات بقيت قابعا في قوقعتي أتلصص على الداخل والخارج ، داخل المهجع وخارجه ، ولكن مع مرور الأيام قل أهتمامي بكثير من الأشياء نتيجة لمعرفتي التامة بها .
حفظت القرآن جيدا ولطالما رددت بشكل عفوي آياتٍ وسوراً طويلة منه ، حفظت الصلوات كلها حتى الطارئة منها كصلاة الخوف ، صلاة الجنازة ، وصلاة التراويح ... استمعت الى خلافات الجماعات المختلفة حول الأحكام الشرعية ، آلية تفكيرهم ، ردود أفعالهم ، طموحاتهم ... آمالهم ... لكل هذا لم أعد أركز ذهني كثيرا عندما أنظر من خلال فتحة القوقعة .
كذلك عندما أطل بنظري من خلال الثقب الى خارج المهجع ، مرأى تنفس المهاجع الأخرى ... العقوبات ... التعذيب ... كله أضحى عاديا ... يوميا .
لكن كنت أداوم يوميا على النظر خلال الثقب انتظارا وتوقعا لما هو غير مألوف ... لشيء جديد ، وكان على الأغلب يوجد شيء جديد ، فالتعذيب وان كان ذا نمط معمم والكل قد تدرب عليه في مدرسة واحدة ، الا انه يبقى هناك شيء له علاقة بالذات ، ذات كل فرد ، فكل رقيب ... كل شرطي يضفي من ذاته شيئا خاصا على العمل المتشابه ، فيخلق شيئا جديدا نستطيع ان نضيفه الى خانة الإبداع ، " مسحة ابداعية بالتعذيب !! " .
منذ أكثر من سنة وخلال تنفس أحد المهاجع ، كان أحد الرقباء واقفا في ظل الحائط ، مرت فأرة من أمامه فهرسها ببوطه العسكري ، معست الفأرة وماتت ، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها ، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة ، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة ، ابتلع السجين الفأرة .
منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها ، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره " ابداعه " عائد لأول رقيب قام بهذا العمل .
حتى الإعدمات ، رغم أنني أدمنت مراقبتها الا أنها لم تعد تحمل نفس الشحنة من التوجس والرهبة .
يقاد المحكوم عليهم بالاعدام الى أمام المشانق ، يقيدون بعد أن يتم تثبيت اللاصق العريض على أفواههم ، كل دفعة ثمانية أشخاص ، ترتفع المشانق ، تنحني الرقاب ، ارتخاء الجسد ، انزال الدفعة الأولى ، صعود الدفعة الثانية ...
كنت أراقب الجميع ، شرطة وبلديات ومعدومين ، تطورت مراقبتي من مراقبة الأفعال الى الوجوه ، الانفعالات ، ردود الفعل ... ما يرتسم على الوجه من خوف ، هلع ، حقد ، تشف ، سرور ، استمتاع ، لذة ...
"الوحش" ...
الجميع ابتداء من رفاقه البلديات الى جميع عناصر الشرطة حتى المساعد كانوا ينادونه الوحش ، شاب في الخامسة والعشرين تقريبا ، قد لا يتجاوز طوله المائة والستين سنتمترا ولكن عرض أكتافه قد يتجاوز المائة والعشرين سنتمترا ، سماكته قد تبلغ الستين أو سبعين سنتمترا ، من الأمام والخلف يبدو كمربع ، من الجانب يبدو كصندوق ، مفتول العضلات ، شاهدته في احدى المرات يرفع سجينا بيد واحدة الى ما فوق رأسه ، قوي جدا ، لا يغيب أبدا عن أية اعدامات ، ويلعب دورا فعالا فيها ، جميع عناصر الشرطة يعتمدون عليه .
في أحدى حفلات الأعدام وبعد أن أنزلو الدفعة الأولى وضعوا الحبال في رقاب الدفعة الثانية ورفعوها الى الأعلى ، سبعة معدومين من ثمانية ارتخت أجسادهم ، وبقي الثامن يصارع ، كان يأبى أن يموت ، جسده متدل ويلعبط ، انتظر الجميع دقائق ولكن روحه كانت عنيدة ، أبت أن تخرج ، يحرك رجليه يحاول أن يرتفع بجسده الى الأعلى ، وطال الإنتظار ، احساس بالإختناق وضيق التنفس ينتاب الجميع ، المساعد تلمس رقبته بيده اليمنى وفركها ، الجسد المعلق في الهواء يصارع ، أخذت ألهث تحت البطانية ... وصاح المساعد :
- يا وحش خلصنا من ه الشغلة !.. خليه يرتاح .
تقدم الوحش ، وقف تحته وأمسك برجليه وأخذ يشده الى الأسفل ، كان السجين المعلق – كالعادة – يلبس ثيابا رثة .. أسمالاً ، ولذلك عندما شده الى الاسفل انشدت الثياب واصبح السجين عارياً بجزئه السفلي ، تابع الوحش الشد ، يشد ... ويشد ... ونجح اخيراً ، مات السجين ، لكن فور موته يبدو ان مصرته الشرجية قد ارتخت نهائياً فأفرغ كل ما في امعائه فوق الوحش الذي لا زال يشد ، وكانت كمية الفضلات كبيرة وسائلة ... غطت الوحش ، رأسه ، وجهه ، صدره ، ... رجع الوحش الى الخلف واخذ ينظر الى الجميع ، قهقه المساعد وكان اول من استوعب الامر ، قال وهو يضحك :
- كان اسمك الوحش ... بس هلق صار اسمك الوحش ابو خريه !.
ضحك الجميع كثيراً ، حتى انا ضحكت بصوت مسموع .
من يومها اصبح للوحش اسمان ، رفاقه الذين يخشونه ويخافون بطشه ينادونه الوحش ومن لا يخشاه والجنود والرقباء ينادونه ب " ابو خريه " .
الجنود والرقباء اغلبهم من المجندين الذين يؤدون الخدمة العسكرية ومدتها سنتان ونصف ، الاغلبية الساحقة منهم هم من ابناء الجبال والساحل ، لهجتهم ثقيلة وتصرفاتهم غليظة وجلفة ، ويستحيل ان يوجد بينهم واحد من ابناء المدن الكبيرة والرئيسية ، وكونهم مجندين فانهم يتغيرون بشكل دوري ، في السنة الواحدة يتم تخريج دورتين من مدارس الشرطة العسكرية ، لهذا فكل ستة اشهر تأتي دورة جديدة ويتم تسريح دورة قديمة .
منذ اربعة اشهر اتت اخر دورة ، كانوا ثلاثة عشر عنصراً ، ثلاثة رقباء وعشرة جنود ، عندما دخلوا ساحتنا هبط قلبي بين قدميّ ، ففي المقدمة كان يسير اخي الاصغر سامر بلباس الشرطة العسكرية ، عنما اقتربوا اكثر تبينت انه شخص يشبه اخي كثيراً ، اسميته في سري " سامر" بينما السجناء الاخرون سموه " الاعوج " لانه كان يميل برأسه دوماً الى جهة اليمين .
في البداية لا تطلب الادارة من العناصر الجدد القيام بأي عمل على صعيد التعذيب او الاعدامات ، يتركونهم حوالي الشهر فقط يحضرون ويشاهدون ما يجري وهم وقوف ، ودائماً يكون الجدد متهيبين من الامساك بالكرباج او العصي ، وحتى بعد مضي الشهر وعندما يبدؤون بمشاركتهم تكون ضرباتهم حفيفة ومرتبكة .
في الاعدامات يوقفونهم على مبعدة من المشانق، ما ان تبدأ عملية الشنق حتى يكونوا قد اقتربوا من بعضهم اكثر ، اصفرت وجوههم ، البعض يرتجف ويغض النظر والبعض الاخر يصاب بتقلصات في المعدة مما يجعله يتقيأ .
المساعد والعناصر القدماء يرون كل ذلك فيتعاملون معه وكأنهم لم يروا شيئاً ، مع حفلة الاعدام الثانية والثالثة ... يسترخون ، يتجرؤون ، يصبحون طبيعيين كباقي زملائهم .
الرقيب سامر " الاعوج " وكنت اراقبه دائماَ ، عندما حضر اول حفلة اعدام تقيأ بشدة حتى خلت انه سيخرج امعاءه ، جلس على الارض وقد غطى عينيه بيديه الى نهاية الاعدامات ، ساعده اثنان من زملائه على النهوض وقاداه من تحت ابطيه الى خارج الساحة .
اخر حفلة اعدام حضرها كان نشيطاً جداَ ، بيده عصا طولها اكثر من متر ، يمازح زملائه وعلى وجهه ابتسامة دائمة ، عند الانتهاء من اخر وجبة اعدام وقف امام احد المشنوقين واخذ يؤرجحه ، وضع العصا على الارض آخذاً وضعية الملاكم جاعلاً من الجثة المعلقة كيس رمل ، اخذ يوجه لها اللكمات ، صاح على الوحش :
- وحش ولا وحش ... تعال هون .
ركض الوحش لعنده .
- نعم سيدي .
- شوف ه الكلب ... صار له ربع ساعة معلق من رقبته ولسا ما مات ، شده من رجليه ... خليه يرتاح .
ضحك العناصر والبلديات الذين سمعوا هذا الحديث متذكرين ما حصل للوحش ، اما الوحش فقد وجم قليلاً وهو ينظر الى سامر .
24 شباط
هذا الشتاء كان بارداً جداً ، نزلت امطار غزيرة قلما تنزل في الصحراء ، وخفف حدة البرد توفر بعض الالبسة وخاصة الجوارب الصوفية .
مضى هذا الشتاء كما مضت الشتاءات الاخرى قبله ، عشرة شتاءات وانا جالس في نفس المكان ، ضمن نفس الجدران ، الى جانبي الباب الاسود ذاته ، تغيرت كثير من الوجوه حولي ،الفرقة الفدائية التي كانت تقوم بادخال الطعام والتطوع للذهاب لتلقي العقوبات بدلاً عن المرضى وكبار السن ، والتي كانت موجودة لحظة قدومي الى المهجع ، لم يبق منها احد ، اما شنقاً او قتلاً او مرضاً ، ذهبوا ... غابوا جميعاً ، ابو حسين رئيس المهجع الحالي اصبح حاجباه ابيضين ولم يكن بهما اية شعرة بيضاء، رغم انني ارى الجميع يومياً ولكني باسترجاع صورهم قبل عشر سنوات ، استطيع ان المح اثار الزمن واثار المعاناة على وجوههم ، ترى كيف اصبح وجهي ؟!.
لو كسرة من مرآة .
لا نعرف شيئاً مطلقاً عما يجري في عالم ما هو خارج هذا المهجع ، حتى القادمين الجدد لم يكونوا يأتون من الحياة مباشرة ، اغلبهم يكون قد امضى سنتين او ثلاثة او اربعة في مراكز المخابرات، وهؤلاء على الاغلب من قيادات التنظيمات ، يبقونهم في فروع المخابرات لضرورات التحقيق ، رغم ذلك فان المساجين يظلون اياماً عديدة يسألونهم عن الجديد من الاخبار ، فالاخبار قبل سنتين او اربعة تعتبر جديدة وطازجة قياساً باخبار ما قبل عشر سنوات .
من هؤلاء القادمين الجدد " ابو القعقاع " واحد من أمراء الجماعة المتشددة ، وكان كما فهمت بطلاً من ابطال العمليات العسكرية التي قام بها التنظيم ضد السلطات الحكومية ، وانه كان المخطط والمنفذ لمجموعة من الاعمال الجريئة التي القت الرعب في صفوف رجال الامن والمخابرات .
لكن بعد ذلك سرى همس خافت داخل المهجع بين اشخاص من التنظيمات الاخرى تقول : انه كان جباناً جداً في التحقيق وان تعاونه مع المخابرات واعترافاته امامهم ادت الى القاء القبض على كامل اللواء الذي كان يقوده وعدده اربعمائة مقاتل ، وقد اعدموا جميعاً ، وان هؤلاء المقاتلين كانوا ناقمين جداً عليه ، وعدّوه خائناً واقسموا يميناً جماعياً " ان أي واحد منهم سيخرج من السجن فان اول عمل يجب ان يقوم به هو تصفية ابو القعقاع " .
ولكن لم يخرج أي واحد منهم .
بمجئ ابو القعقاع فقد المهجع هدوءه وسلامه الداخلي .
كان اول ما فعله ابو القعقاع هو تعرفه على اعضاء التنظيم ، وهؤلاء كانوا قد اصبحوا اقلية في المهجع نتيجة النزيف المستمر بين صفوفهم ، وهم بالكاد يعدون اربعين شخصاً ، لم يكن يعرف في البداية أياً منهم ، فلم يسبق ان كان تحت امرته واحد من الموجودين هنا ، بعد ان تعرف عليهم زارهم واحداً واحداً ، خلال يومين كان ينتقل من فراش الى فراش ، بعد ذلك اخذ يعقد اجتماعات ، في اول اجتماع لاول مجموعة لاحظ انهم متحفظون تجاهه ، ودون ان يساله احد ، بدأ برواية طريقة اعتقاله والتحقيق معه واكثر حديثه كان بالعربية الفصحى :
" ... وهيك استمر تبادل اطلاق النار بيننا وبينهم اربع ساعات ، كنا نحن في الطابق الرابع وكانوا قد احتلوا جميع الاسطحة والشوارع المحيطة ببنايتنا ، بدأت ذخيرتنا تنفذ ، وكان معي ثلاثة اخوة عليهم رحمة الله، الفاتحة على روحهم يا اخواني – وقرأ جميع الحاضرين الفاتحة ومسحوا وجوههم - ، كل واحد من الشباب استلم شباك من شبابيك البيت ، انا استلمت الباب ، منعت اياً من المجرمين الصعود و النزول على الدرج ، لكن بعد اربع ساعات استخدموا ضدنا ال - ار، بي ، جي - ، ادخلوا القذيفة من احد الشبابيك ، انا انقذفت على الدرج ولم اصب ، اما الشباب الثلاثة - صمت قصير - اللهم اجعل مثواهم الجنة - آمين - عندها قررت الانسحاب من الحركة رغم الحصار ، حملت معي خمسة مخازن ونزلت على الدرج ، كل عسكري كان قدامي بعثته الى جهنم ، صرت بالشارع ، ركضت وانا ارش الطلقات يميناً وشمالاً حتى اصبت ، واحد كلب كان بزاوية الشارع وجه لي صلية رصاص ، اصبت بثلاث طلقات ، واحدة في الفخذ باللحم ما صابت العظم ، واحدة مسحت راسي مسحاً فوق الاذن - هاي محلها - واراهم خطاً طولانياً فوق الاذن خالياً من الشعر، الثالثة اصابت صدري فوق الرئة اليمنى وخرجت من ظهري - خلع قميصه وبان مكان دخول الطلقة ، حفرة صغيرة ، ومكان خروجها ، حفرة كبيرة - ، وقعت على الارض وطارت البارودة من يدي ، مديت يدي لكي اسحب قنبلة يدوية ... ما لحقت ، كانوا صاروا فوقي والسبطانات موجهة الى رأسي .
مباشرة اخذوني الى فرع المخابرات ، لم يضمدوا جروحي ، ابتدؤوا التحقيق فوراً ، رفضت الاجابة على أي سؤال اذا لم يتم اسعافي الى المشفى ، قال لي ضابط التحقيق وهو يبتسم :
- تكرم شواربك وذقنك ... هلق راح نسعفك !.
احضروا حبلاً رفيعاً ومتيناً ضموه في مسلّة كبيرة وادخلوا المسلّة في مكان دخول الطلقة واخرجوها من مكان خروجها والحبل وراءها، سحبوا الحبل وعقدوه عقدة متينة ثم رفعوني وعلقوني بواسطة الحبل ، أخذ الحبل يحز اللحم وأحسست انني سأشنق ، غبت عن الوعي عدة مرات وهم يرشقوني بالماء لأصحو ، كانوا يريدون معلومات سريعة ، رغم ذلك رفضت أن أعطيهم حتى اسمي ، كانت الآلام فوق طاقة البشر ، ويبدو أن عظم الكتف قد أوقف الحبل، أصبح ثقل جسمي كله عليه ، بدأ ينزاح من مكانه ، ولحد الآن فإن وضع كتفي ويدي غير طبيعي .
لم يدم الأمر طويلا لأنهم في هذه الفترة كانوا قد فتشوا الشقة ووجدوا جميع وثائقنا وسجلاتنا ، لطالما كنت أحذر المسؤول المالي رحمه الله وسامحه ألا يحتفظ بأية وثيقة ، لكنهم وجدوا سجلا كان قد دون فيه أسماء جميع الإخوة ومصاريفهم ، أجور الشقق التي يسكنونها وعقود الايجار الخاصة بكل شقة ... من خلال هذا السجل وفي الليل كانوا قد اعتقلوا الجميع . "
كان يتكلم بطريقة سردية عادية ، لا تحمل أية نبرة للدفاع وكأنه غير متهم البتة ، وسرعان ما تجاوز موضوع الاعتقال وتوابعه وابتدأ حديثا دينيا متينا عن الإيمان وقوته والجهاد وضرورته ، معاني الاستشهاد ، الدار الآخرة ، الجنة ومحتوياتها ، ولم ينقض هذا اليوم الا وكان قد أصبح زعيما لا يناقش ، والتفت الجماعة المتشددة حوله بقوة .
خلال العشرة أيام التالية بدأ بالمجموعات الأخرى ، خاصة المجموعة التي ينتمي اليها الشيخ محمود والدكتور زاهي ، وهي مجموعة نقيض للمتشددين ، لا تؤمن بالعنف والكفاح المسلح ، تميل الى الوسائل السلمية .
هاجمها بشدة مسفها آراءها ودعا كبارهم الى سجال ونقاش علني " لأن من واجبه هدايتهم الى الطريق القويم " وكان رد فعلهم عنيفا ومترفعا ، رفضوا أي حوار معه " نحن لسنا بحاجة الى شخص مثلك ، باع نفسه للمخابرات حتى يهدينا ." كذلك كان رد الجماعات الصوفية الذين اتهمهم بأنهم عبارة عن دراويش وجهلة " وأصحاب بدع في الاسلام . " وأنهم قد أهملوا ركن الجهاد في الاسلام .
عشرة أيام تقريبا قسمت المهجع الى معسكرين ، أبو القعقاع وجماعته من طرف وباقي المهجع من طرف آخر ، واستطاع أبو القعقاع ببراعة أن يكسب عداء الجميع ، خاصة أنه استمر في احراجهم وتحديهم بعد رفضهم الدخول في سجال معه حول جوهر الدين الاسلامي وتعاليمه .
نعتهم بالجبن وطالب أن تكون الصلاة علنية حتى أمام ادارة السجن ، فقوبلت دعوته هذه بالاستهزاء من الجميع ، حتى أن بعض أفراد مجموعته نصحوه بالتخلي عنها ، دعا بعد ذلك الى أن تكون الفرقة الفدائية مؤلفة من جميع التنظيمات وأن لا تكون طوعية ، لأن الجهاد فرض عين على كل مسلم ، وقبل الجميع هذا الأمر، لكن جماعته والذين هم في الحقيقة كانوا دائما قوام الفرقة الفدائية رفضوه لأنه سيفقدهم مكانة وتميزا طالما تمتعوا بها طوال السنوات السابقة " نحن نقوم بهذا العمل لوجه الله ، وأجرنا عنده ، ولا يمكن اجبار أحد على هذا " .
فشل أبو القعقاع في كل شيء ونجح في كسب عداء الجميع ، كان قد مضى على وجوده في المهجع خمسة عشر يوما عندما اعتقد أنه قبض على المسألة التي سيحرج بها الجميع ، لا أدري من من مجموعته أخبره بموضوعي ، عندها جابه الجميع :
" ... كيف تقولون عن أنفسكم أنكم مسلمون وتسمحون لجاسوس كافر أن يعيش بينكم ؟ مع أن الله سبحانه وتعالى قال : واقتلوهم حيثما ثقفتموهم ؟ ! " .
وطالب الجميع بمحاكمتي وانزال حد الله بي ، وحد الكفر والشرك بالله هو القتل .
أصبحت حياتي معلقة على رد فعل المجموعات الاخرى ، وقد كانت كلها حيادية ، فالأمر لا يعنيها وهي بغنى عن تفجير مشكلة غير معروفة النتائج مع أبو القعقاع وجماعته .
لكن مجموعة المرحوم الشيخ محمود كان لها رأي آخر ، ووقف أبو حسين كالجبل لا يتزحزح وأعلن وهو في منتصف المهجع وكان الموضوع قد خرج من اطار الهمس الى النقاش العلني وبأصوات مرتفعة قال أبو حسين موجها كلامه الى أبو القعقاع :
- أولا من أنت حتى تحاسب وتحاكم البشر ؟! ان هذا الرجل " وأشار بيده الي ّ " مضى على وجوده بيننا سنوات طويلة ولم نر منه شيء سيئا ، وهو رجل مسكين حتى انه لا يتكلم ، ولا أحد يعرف ما بقلبه ، فبأي حق تحاسبه وتحاكمه وتريد قتله ؟، اعلم يا أبو القعقاع أن له ربا يحاسبه ويحاسبك ويحاسبنا جميعا ، وليس أنت .
ثانيا أعلم يا أبو القعقاع أن الشيخ محمود رحمه الله قد منع ايذاء هذا الرجل ، وأنه أجاره وحماه ، ونحن لا يمكن أن نسمح لأحد أن يؤذي شخصا كان الشيخ محمود قد أجاره .
ثالثا ليعلم الجميع وأنت أولهم أن أية محاولة للمساس بهذا الشخص ستقابل من جهتنا بأعنف الردود .
بينما كان أبو حسين يتكلم نهض أبو القعقاع ووقف قبالته ، ودارت معركة كلامية بين الاثنين .
رد أبو القعقاع ردا قويا ، استند فيه الى مجموعة من الآيات القرآنية وأحاديث الرسول وحوادث من التاريخ الاسلامي ، كان من في المهجع يهزون رؤوسهم دلالة الموافقة ، وخلت انه سينجح في اقناع الجميع ، لكن أبو حسين التقط الحديث وبدأ يرد عليه وقد ارتفع صوته .
جاء ايضا بمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث والسيرة النبوية تدحض وتناقض جميع ما استشهد به أبو القعقاع ، ايضا كان جميع من في المهجع حتى بعض من مجموعة أبو القعقاع يهزون رؤوسهم دلالة الموافقة والاقتناع ، كان رد أبو حسين مفحما ، ولم يشأ أبو القعقاع ان ينهزم فأنبرى يرد ... وأبو حسين يرد ، وكان كلاهما مقنعا للجميع .
ارتفعت الأصوات كثيرا ، وفي غمرة النقاش برز الشرطي فوق الشراقة ، صاح :
- شو هالصوت يا رئيس المهجع يا جحش ؟
علّم الشرطي الشخصين الواقفين ، أبو حسين وأبو القعقاع ، ومن السطح اخبر الرقيب الموجود في الساحة ، فأخرجوهما وخمسمائة جلدة لكل منهما .
منذ لحظة خروجهما الى حين عودتهما ران الصمت على المهجع ، لكن ما ان اغلق الشرطة الباب حتى عادا الى المعركة الكلامية ، وبدأها ابو حسين قائلاً :
- خاف ربك يا رجل ... انت السبب بالعقوبة ، انت مبسوط هلق ؟ .
واستأنفا المعركة الكلامية ، وبعد اكثر من ساعة قال ابو حسين :
- هذا حكينا وما في عندنا غيره ... وكل واحد يقعد على فرشته ومو ناقصنا زعماء هون .
- ما في حدا بدو يعمل زعيم ... وامر الله بدنا نطيعه ونطبقه ، سواء رضيتم ام لا .
توتر جو المهجع كثيراً ، فكرت انه يجب ان اتدخل ، ان اخرج من القوقعة ، ولكن كيف ؟... اقف واحكي لهم حكايتي ؟ ... افند كل التهم التي وجهت لي ؟ ... ان اكون مسيحياً هذه ليست تهمة ، لان تعاليم الاسلام الحقيقية تأمرهم بحسن معاملة المسيحين ، ان اكون جاسوساً !... اظن ان هذه التهمة قد سقطت بالتقادم ، فلو كنت جاسوساً لما انتظرت اكثر من عشر سنوات حتى امارس جاسوسيتي ، ولكن تهمة الكفر والالحاد كيف سأدافع عنها ؟... صحيح ان كل من سمعني اقول انني ملحد قد مات ، ولكن اذا سألوني في سياق دفاعي هل استطيع ان اقول لهم انني مؤمن ؟!.. لا اعتقد ذلك ، ولم اتوصل الى قرار .
بقي الجو مشحوناً بالتوتر ، وبدا ان مجموعة ابو القعقاع بصدد عمل ما ، فاحترست ، لكن مجموعة ابو حسين اتخذت مجموعة من الاجراءات ، طوال النهار كان ثلاثة منهم يجلسون على فراش ابو حسين على يساري ، ثلاثة اخرون يجلسون على فراش جاري اليميني ، في الليل يقوم واحد منهم بنقل فراشه فينام امامي عند قدمي في الممر ، وهكذا اكون محاطاً بهم ، عندما اقوم لاذهب الى المغاسل كنت الاحظ ان اثنين من المجموعة يقومان وبشكل عفوي يرافقاني وكأنهما ذاهبان الى المغاسل عرضاً .
اذن هم يحرسوني .
بقي الوضع هكذا ثلاثة ايام ، في اليوم الرابع افتعل بضعة اشخاص من المتشددين امام المغاسل ذريعة على واحد من الذين يقومون بحراستي واشتبكوا معه بالايدي ، خلال ثوان قليلة كانت دماؤه تسيل من انفه ، وكان اكثر من مئتي شخص قد وقفوا واشتبكوا مع بعضهم البعض ، ولم يعد من الممكن معرفة من يضرب من ، او من الذي يحاول فض المعركة التي استمرت دقائق قليلة سالت خلالها دماء كثيرة ، ولم يكن بالامكان اخفاء هكذا ضجة .
كنت واقفاً الى جانب الباب ، لم يشترك ابو حسين ولا ابو القعقاع ... الشباب الصغار فقط ، وعندما فتح عناصر الشرطة الباب ، توقفت المعركة الياً .
حاول ابو حسين الادعاء ان بعض الشباب كانوا يلعبون !! صرخ الرقيب بوجهه شاتماً إياه ... " نحن جايبنكم مشان تلعبوا .. ما " وامر بخروج الجميع الى الساحة ، فخرجوا ... وكلما راى الرقيب شخصاً عليه اثار دماء يلتفت الى ابو حسين ويقول :
- رياضة ... يا عرص مو .. قلت لي رياضة !.
عوقب المهجع بأكمله عقاباً شديداً ، وقد ضربني احد العناصر بالكبل الرباعي على ندبة قدمي مما آلميني كثيراً ، ادخلونا واغلقوا الباب مع التهديد والشتائم .
كنت قد نسيت عادة الكلام ، لكن لحظتها اعتقدت انني اذا لم اتكلم فسوف اختنق ، شحنت نفسي بأقوال ابي وخالي لي منذ الصغر عن ضرورة ان اكون رجلاً يتحمل المسؤولية .
مشيت الى منتصف المهجع ووقفت ، من الآلام بالكاد كنت اقف ، عندما رأوني ادير نظري لاشمل جميع من في المهجع ، سكتوا ، اثنان من حراسي نهضا فوراً ووقفا الى جانبي ، اشرت لهما ان يعودا الى مكانهما ، تلكآ ، لكنهما عادا .
لم اكن خطيباً في يوم من الايام ، ولم اقف ابداً لاتكلم امام مئات العيون المحدقة بي ، كذلك لم ادع الشجاعة يوماً ، بل على العكس فان هذه التجربة في الاعتقال والسجن اظهرت لي على الاقل انني اقرب الى الجبن ، لكنه الالم والقهر والعذاب ، الصوم الاجباري عن الكلام ، توجهت بنظري ويدي الى ابو القعقاع وصرخت بصوت قوي " انا نفسي استنكرته " قلت :
- يا ابو القعقاع ... تريد ان تقتلني ؟... تفضل هذا انا، عارياً امامك " لم ادر لماذا كنت اخاطبهم بالفصحى " ... تفضل ، ولكن قبل ان تقتلني اجب على اسئلتي ، هل تريد ان تقتلني بصفتك وكيلاً عن الله في الارض ؟... هل تستطيع ان تثبت انك وكيله ؟... واذا اثيت ذلك ... هل تستطيع ان تثبت لي وللأخرين انه اصدر لك امراً بقتلي ؟... لا اعتقد ذلك ، واجزم انك لست وكيل الله .
يا ابو القعقاع انت تريد قتلي لارضاء شهوة القتل لديك ، وارجو ان اكون مخطئاً في ذلك ، ارجو ان لا تكون شخصاً حاقداً موتوراً ، ارجو ان لا تكون كالعقرب ان لم تجد من تلسعه فهي تلسع نفسها ... ولكن اقول ، واشهد جميع الناس هنا ، اذا كان قتلي يحل المشكلة فتفضل ، ارسل واحداً من جماعتك لقتلي وانا اسامحكم بدمي .
سكت قليلا ، ثم التفت الى مجموع الناس ، وبصوت أقل حدة قلت :
- يا جماعة .... أكثر من عشر سنوات حكمتم عليّ بالسكوت ، لقد سمعتكم كثيرا ، والآن اسمعوني لدقائق فقط ...
قلت لهم من أنا ، وكيف أتيت الى هنا ، دافعت عن نفسي ضد التهم الثلاث ، وعندما وصلت الى تهمة الالحاد ، عدت لمخاطبة أبو القعقاع :
- يا أبو القعقاع ... انما مسألة الإيمان أو عدم الإيمان مسألة شخصية بحت ، وعليك أنت وجميع الناس أمثالك أن يفهموا ذلك ، الإيمان هو علاقة خاصة بين كل شخص وخالقه ، وأنت تعرف أنه ليس صعبا عليّ أو على غيري أن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ولكن لو قلت أنا ذلك لقلت أنت وأمثالك أنه كان ملحدا وأسلم خوفا ، لا ... أنا لست خائفا منك ، ولن أكون منافقا أو كاذبا ، واذا قلت لك فقط انني مسيحي ومتمسك بديني ، فلن تسطيع أن تفعل شيئا حيال ذلك ، لأن دينك يأمرك أن تحسن معاملة المسيحيين، لكن حتى هذا لن أقوله ... لئلا تقول انه خائف ... أبو القعقاع : اسمعني جيدا ... أنا لست خائفا منك ... أنت لست ربي لأقدم لك كشف حساب ... واذا كنت مقتنعا بقتلي فهيا ... قم ولا تخف .
سكت عندها ، بقيت واقفا أبادل أبوالقعقاع النظرات ، جاهدت ألا ترفّ عيوني ، ومن خلفي أمسكت بي يد أبو حسين وقادتني الى فراشي .
- خلص بقا ... اسكت ... لا تتحداه أكثر من هيك ... أظن أن المشكلة انحلت ، الله يعطيك العافية ، بس هلق اسكت .
وفعلا كما قال أبو حسين انحلت المشكلة ، وبعد يومين انحلت نهائيا ، فقد كان أحد الخميسات وخرج فيه أبو القعقاع الى الإعدام .
أقام له المهجع صلاة الجنازة ، ترحموا عليه ، أما أبو حسين فقد علق موجها الحديث لي :
- الله يرحمه ... ولا يجوز على الميت إلا الرحمة ، واذكروا حسنات موتاكم ، لكن يا أخي كلها عشرين يوم قضاها هون ... كأنه اعصار دخل ه المهجع ... الله يرحمه !! قلب المهجع فوقاني تحتاني ! . الله يرحمه ... يا الله بتعيش كثير ... بتشوف كثير .
تحسنت علاقتي مع أبو حسين وأخذنا نتبادل الأحاديث " قلت في سري ... لو أن أبو القعقاع آتى من زمان طويل ! " كان أبو حسين يسألني عن فرنسا ، والحياة في فرنسا ، وعلى الأخص عن نساء فرنسا ، وكنت أتكلم ... وأتكلم ... أغوص بالتفاصيل ، عندي جوع كبير للكلام ، ألتفت اليه وأمازحه قليلا :
- شو يا أبو حسين ؟ ... شايفك عم تسأل عن النسوان كثير ، مانك خايف تسمعك أم حسين ؟ ! .
- لك يا أخي ... أم حسين على عيني وراسي ، بس هلق بتكون كبرت وصارت ختيارة ، واذا الله فرّج عنا ... ان شاء الله راح اتجوز واحدة فرنساوية ... بالله عليك قل لي ... بفرنسا في مسلمات ؟.
- اي طبعا في مسلمات .
- الحمد لله ... الحمد لله " يضحك " هلق أمنت مستقبلي .
بالإضافة الى أبو حسين هناك أربعة أطباء فقط كسروا الحاجز المضروب حولي ، و الأطباء الأربعة من خريجي الدول الأوربية ، أحدهم خريج فرنسا ، بدأ يجلس عندي ، ومن ثاني جلسة اقترح عليّ أن يكون حديثنا باللغة الفرنسية .
اكتشفت انه قد عاش حياته طولا وعرضا ، وانه لم يكن يتبع التعاليم الدينية إلا في شهر رمضان ، ففيه كان يصوم ويصلي فقط وما عدا ذلك فلا علاقة له لا بالسياسة ولا بالتنظيمات ولا بغيرها .
قلت له بالفرنسية مستفسرا :
- طيب ... اذا كان الأمر كذلك ، فلماذا اعتقلوك ؟
- اذا كنت أنت تستطيع الإجابة على هذا السؤال ... فأنا استطيع !.
أبو حسين يضيق ذرعا بالأحاديث الفرنسية :
- يالله شباب ... خلصونا ... يكفي تعوجوا لسانكم ... احكوا عربي حتى نفهم عليكم .
كانت الأحاديث بالفرنسية تسكرني ... تدوخني ، فعلت في داخلي أكثر مما فعلت رؤية الخيار لأول مرة .
نتبادل الذكريات عن أمكنة زرناها ونعرفها كلانا ، أصبحت علاقتنا الثنائية علاقة حميمية لحظية .
في احدى المرات وأنا أتلذذ وأنتشي بالتأكيد على مخارج الحروف الفرنسية ، نظر اليّ وباغتني بالسؤال :
- يا أخي ... مادام أنت هيك ... يعني عاقل !... ليش كنت تغطي حالك بالبطانية مثل هذا المجنون دكتور الجيولوجيا ؟.
سكت قليلا ... ثم أخبرته بسري الكبير ، سر الثقب !!.
أخبرته به بالفرنسية ، لكنه أجاب باللغة العربية بعد أن اتسعت عيناه وتدلت شفته السفلى :
- العماااااا ش ...ونحن كنا نقول عنك أهبل !! .
سأل ان كان يستطيع أن ينظر من خلاله ، أعلمته أن هذا مستحيل الآن لأنه سيلفت انتباه الجميع ، ثم عرض بعد قليل أن نخبر أبو حسين فوافقته .
كانت ردة فعل أبو حسين شبيهة بردة فعل الدكتور نسيم ، ارتسمت على وجهه امارات الدهشة ، واستخدم نفس الكلمة :
- العماااااش ... والله تاريك مو قليل !... يا ما تحت السواهي دواهي !... ولك طلع صحيح انك جاسوس ... بس جاسوس ع الشرطة مو للشرطة!.
بعد يومين أبلغنا أبو حسين أنه قرر اعلام جميع الناس في المهجع بالأمر ، حتى يمكن استخدامه بحرية ، ولأن كل الناس هنا مأمونون ، وهكذا تم .
باستثناء أبو حسين والأطباء " وعلى رأسهم الدكتور نسيم " فإن الجميع بقي متحفظا تجاهي .
علمت انهم ناقشوا الأمر فيما بينهم ، وخرجوا بنتيجة :ان كلامي بخصوص دفع تهمة الالحاد ملتبس وغير مقنع ، وانني لو كنت مؤمنا بحق سواء بالدين المسيحي أو الاسلام لما ترددت في اعلان ذلك " فالدين يجب أن يكون جهرا " .
لكن بالمقابل لم يبق هناك أي تهديد لحياتي ، وهكذا فقد حصلت على أول حق من حقوقي الأساسية كإنسان " حق الحياة " ، حصلت عليه من السندان " الجماعة الأسلامية " ولكن لم أحصل عليه من المطرقة " الشرطة "فلا زال أي رقيب في الساحة يستطيع وبضربة عصا أن يرسلني الى الحياة الأخرى .
6 تشرين الأول
الأشهر القليلة الماضية مضت بسرعة ، الدكتور نسيم وهو كالنسيم فعلا ملأ علي ّ ساعات يوم السجن الطويلة ، كنا لا نكاد نفترق ، وبعد فترة من تعارفنا اتفق مع جاري وتبادلا الأمكنة ، نستيقظ صباحا ودون ان نتحرك من تحت البطانية نستأنف حديثا لم يكتمل البارحة ، نأكل سوية ، نتحادث ، قمنا بتصنيع أحجار شطرنج من العجين ، استغرق صنعها أكثر من عشرين يوما ، وكان شطرنجا جميلا ، فنسيم بجوهره فنان وشاعر ، مرهف الاحساس ، يتلمس الجمال في مواطنه ، كانت امنية حياته ان يدرس الفن التشكيلي، لكن ضغط الأهل اجبره على دراسة الطب ، ورغم ذلك فانه ترك الطب لمدة عام كامل عندما كان في السنة الرابعة واشترك مع فنان آخر في محترف بباريس ، وعاد أبوه ليجبره على العودة لدراسة الطب ، رغم ذلك لم ينقطع عن الرسم ابدا .
كنا نكشط الأجزاء المحروقة من الخبز ونجمعها ومنها اللون الأسود ، نضع قليلا من مرقة رب البندورة ، نتركها عدة أيام لتتكثف وتجف ومنها اللون الاحمر ، من لب الخبز العسكري نصنع العجين ، ومن هذا العجين الممزوج بهذه الألوان كوّن نسيم أحجار شطرنج كل من رآها شهق ، ثم أخذ يصيغ أشكالاً فنية مبتكرة آية في الجمال والذوق .
نتحدث بالفرنسية ، نتحدث بالعربية ، نلعب الشطرنج ، نراقب الساحة من خلال الثقب ، وبعد أن ننهي كل ذلك ، واذا بقي القليل من الوقت فان نسيم يتناول قطعة من العجين ويبدأ بتشكيلها ، وفي كل الأشكال التي صاغها تلمس المرأة والحنين اليها " عاش نسيم قصة حب كبيرة لا زالت تحفر في وجدانه ، وعند حديثه عنها اعتبرها معنى حياته ، وايضا احدى أكبر خيباته في الحياة ، وأولى هذه الخيبات دراسة الطب تحت ضغط الأهل والمجتمع ".
مرة ودون مقدمات سألته فجأة :
- الآن .. هل تواظب على الصلاة ؟
ببساطة شديدة قال :
- منذ انا أصبحت بين هؤلاء .. لم أعد أصلي .
- ولكن ما الذي قذف بك الى هنا بينهم ؟
- انه أخي .. أخي الذي لم أكن اطيقه أو يطيقني ، شخص متزمت وضيق الأفق ، وحتى قبل أن أذهب للدراسة في فرنسا كان صياحنا اليومي يصل الى الشارع ، وغالبأ ما يكون السبب محاولته التدخل في لباس أمي واخواتي البنات ، يريد ان يفرض عليهن لباسا اسلاميا أسود ، وكن يعارضن ذلك وأقف الى جانبهن .
في غالب الأحيان كنت وإياه نتضارب بالايدي ، كان فاشلا على المستوى الدراسي .
ذهبت الى فرنسا ، بقيت هناك ثماني سنوات ، كان خلالها قد انتسب الى هؤلاء "وأشار بيده الى الجماعة المتشددة" ، أصبح مطلوباً بشدة من قبل الأمن الذي اعتقل والدي ووالدتي، وللخلاص من هذا المأزق ولإبعاد أنظار الأمن داخل المدينة ، قال والدي للأمن إنه قد هرب الى فرنسا عند أخيه ، ودون أن أدري أصبحت مطلوباً ، أنهيت دراستي وعدت الى بلدي ، استقبلني رجال الأمن في المطار يريدون مني أخي الذي لم أره منذ ثماني سنوات.
وها أنا أمامك في هذا السجن.
كنت ونسيم نتناوب المراقبة من خلال الثقب دون بطانية ، لم يتجاوز عدد الذين نظروا من الثقب عن الخمسة ، يبدو ان الجميع لازال يعتبر فراشي نجساً ، فللمراقبة من الثقب يجب على الواحد أن يجلس على فراشي .
كنا، نسيم وأنا، اللذان يراقبان دائما، نبلغ ما نشاهده لأبو حسين وهو بدوره يبلغه للجميع .
عادت العلاقة بين المتشددين وباقي المهجع لتصبح ودية ، خاصة ان المتشددين بالعام شباب صغار السن أقرب الى الطيبة والسذاجة ، شرط ألا يظهر بينهم ابو القعقاع أو صعصعة أو ابو قتادة !.
بَقُوا هُم الأكثر عطاء وتضحية .
في واحدٍ من أيام الاثنين تركت الثقب كاملأ لنسيم كي يراقب الإعدامات ، التصق بالثقب ولم يعد يتكلم أو يتحرك ، كان نسيم يكرر كلمة "العمش" كثيرا في احاديثه .
بعد ساعتتن من التصاقه بالثقب ، قفز الى الوراء واقفاً .. نظر اليّ وقال :
- العمش .. العمش ..
نظر الى أبو حسين : العم..اا..ش
نظر الى المجموع : العمش .. العمش ..
ثم وبصوت خافت بعد أن اقترب مني :
- العمش .. ولك شو هاد ؟! ولك ... شلون كنت عم تتحمل هيك مناظر ؟!.. العمش ولك شوف ... شوف !... شو هذا يللي عم يصير ؟!
نظرت عبر الثقب ، كانت ثماني جثث متدلية عن الحبال ، والعديد من الجثث على الأرض ، هذه الجثث الثمان يبو انها آخر وجبة ، الوحش "عنصر البلديات" يقف أمام الجثة الثانية من اليسار وهي جثة رجل بدين ، يمسك الوحش بيده عصا غليظة ينهال بها ضربا على الجثة ، الشرطة يراقبونه ضاحكين ، ومع كل ضربة عصا على الجثة يصرخ بصوت عال :
- عاش الرئيس المفدى .. بالروح بالدم نفديك يا رئيس ... " وضربة بالعصا على الجثة " ... ولك يا كلب بتشتغل ضدد الرئيس .. وضربة بالعصا ... لك يا منيك ... رئيسنا أحسن رئيس ... ضربة بالعصا ... حيدو يا منايك حيدو .. ضربة بالعصا... الرئيس قبل الله نعبده ... ضربة بالعصا ... ويختل الايقاع .. ضربات عديدة بالعصا " اتساءل: هل انتهت ذخيرة الوحش الكلامية التي كان قد حفظها لكثرة تردادها في الراديو والتلفزيون وفي الشوارع اثناء المسيرات التي تنظمها الدولة ؟! يبدو ان الامر كذلك لأن الوحش بدأ يلجأ الى ذخيرته الكلامية الشخصية ! الذخيرة الكلامية التي لمها من الشوارع " .
يتوقف قليلا عن الضرب ، ثم ضربة قوية على الرأس اسمع من خلالها رنين العظام ... ولك يا كلب ... انتو فيكن عالرئيس ؟... ضربة عصا ... ولك الرئيس أقوى واحد بالدنيا ... ضربة ... ولك الرئيس بدو ينيك امهاتكم ... ضربة ... ولك الرئيس عندو أطول اير بالدنيا كلها ... ضربة ... ولك بدو ينيكم وينيك اختكم واحد واحد ... ضربة بالعصا ... يتوقف الوحش قليلا وهو يلهث ، بعدها وبحركات هستيرية يضع احد طرفيّ العصا بين اليتي الجثة ويدفع بها الى الأمام ، تتحرك الجثة كلها الى الامام ، يستمر الوحش بالضغط ، الطرف الثاني للعصا بين يديه الاثنتين يركزه في موضع قضيبه ويبدأ بدفع العصا بين اليتي الجثة رهزا ، ومع كل هزة الى الامام ... يصيح :
- بالروح بالدم .. نفديك يارئيس .
تبقى العصا بين الاليتين ، الجثة دائمة التأرجح ، الشرطة يضحكون ... يتقدم الرقيب " الأعوج " وهو يقهقه ، يمسك الجثة من الأمام ويثبتها جيدا للوحش ، الوحش يتابع ضغط العصى بين الاليتين ويهتف :
- بالروح ... بالدم .. نفديك يارئيس .
الأعوج يضغط من الأمام ، الوحش يضغط بالعصا من الخلف ، وفي لحظة يفلت رأس الجثة من الحبل "يبو المشهد من بعيد وكأن الجثة حركت رأسها بحركة بارعة لتتخلص من الحبل" ، تسقط الجثة على وجهها أرضا ، تفلت العصا من يد الوحش وتظل مغروزة منتصبة بين اليتي الجثة ، يقفز الوحش عالياً ويصيح بشعار طالما سمعه يردد كثيرا في الراديوا و التلفزيون :
- يسقط الاستعمار ... تسقط الامبريالية .
يرد عليه الرقيب الأعوج :
- تسقط ... تسقط .. تسقط .
- يعيش الرئيس المفدى .
- يعيش ... يعيش ... يعيش .
وتبقى العصا مغروزة بين اليتي الجثة تتأرجح .
- الى الأبد ... الى الأبد ... يعيش الرئيس .
- يعيش ... يعيش ... يعيش .
ومع كل كلمة "يعيش" تتأرجح العصا ذات اليمين وذات اليسار .
20كانون أول :
خلال الشهور الماضية توطدت علاقتي كثيراً مع نسيم، وهو كان فرحاً بي أيضاً، لم يكن نسيم مثل هؤلاء، عقله منفتح ومتحرر و لا يهتم بالأمور السياسية ولم يسبق له أن فكر حتى بالإنتساب إلى أي من التنظيمات الدينية، كان وهو في الحياة خارج السجن يؤدي الفرائض الدينية بالمناسبات.
مرة قال لي شيئاً كنت أفكر فيه أيضاً. قال :
- كيف مرت كل ه السنين وأنا وأنت في محل واحد ولم نتعرف على بعض ؟! بعدين نتعرف على بعض و نصير كأننا توأم !!.. فعلاً أنت توأم روحي.
كنت أحس الإحساس نفسه.
************
لازالت ورشات البناء في السجن الصحراوي تقوم بإشادة مهاجع جديدة، رغم أن القادمين الجدد إلى هذا السجن قد تناقصوا بشكل كبير في السنوات الثلاثة الأخيرة .
(( من هو أول سجين في التاريخ ؟ من الذي اخترع السجن ؟ .. كيف كان شكل السجين الأول ؟.. هل هناك سجين واحد في كل العالم .. في كل الأزمان .. في كل السجون .. قضى في السجن عاماً واحداً أو أكثر .. ثم عندما يخرج .. يكون هو .. هو ؟ !
أي عبقري هذا الذي أوجد فكرة السجن !!.. هل هو الإله ؟.. يجب أن يكون كذلك .. لأن فيها من الإعجاز ما هو فوق قدرات العقل البشري !!..
لكن لماذا ترك الله الشيطان طليقاً بعد العصيان ولم يسجنه إذا كان الله يعرف ما هو السجن ؟!.. أنا واثق أن الشيطان كان سيسجد مرغماً بعد قضاء عدة شهور لا بل عدة أسابيع، ليس أمام آدم فقط إنما أمام حواء!.... هل يمكن أن يكون الله قد أخطأ عندما طلب من إبليس أن يسجد أمام آدم ؟! لماذا لم يطلب منه أن يسجد أمام حواء !؟..
هل كان إبليس سيرفض السجود أمام حواء ؟
ولكن ماذا لو سجد إبليس أمام آدم نفسه ؟
هل كان سيصبح إبليس نائباً لله ؟! ....أو شريكاً له ؟!
" لو لم أكن سجيناً كيف كان لمثل هذه الأفكار المضحكة أن تنبت ؟! " )) .
تنشأ في السجن مهاجع جديدة . "متى كانت كل المهاجع في هذا السجن فارغة ؟" يدخلها الناس سويةً أو على دفعات متتابعة. بضعة أيام ويكتمل نصاب المهجع. بضع عشرات ، مائة .. مئتان ... ثلاث أو يزيد ! الجميع ينظر إلى الجميع. الوجوه متشابهة. لا يعرف أحدٌ أحداً. يبدأ التعارف بعد دقائق .. ويستمر سنوات .
مع التعارف يبدأ الفرز. يبدأ الإلتفاف و التلاقي. في البداية تنشأ التجمعات على الأرضية السياسية التنظيمية و التي كانت سبباً في دخولهم السجن، أبناء الحزب الواحد .. التنظيم الواحد، يلتقون .. سواءً كانوا يعرفون بعضهم سابقاً أم لا .. يتعارفون، يشكلون مجموعة واحدة، وحياة اجتماعية مشتركة، لهم اجتماعاتهم وأسرارهم، أغلبها إن لم يكن كلها .. وهم، كل ما في الأمر أنهم يتساندون !. يتكئ بعضهم على بعض، الروح الجماعية تشكل لهم وهماً بالقوة .. وبالتالي الحماية، أن تكون محمياً بالجماعة يعطي الشعور بالأمان.
تبدأ الحالة شديدة متوترة، تصل إلى حد التعصب وعداوة الآخرين، مع الأيام .. تبدأ بالتراخي، خاصة إذا كان المهجع كله ذا لون تنظيمي واحد .
في الدروس التي يتلقاها ضباط الأمن .. وبعد الدرس الأول الذي يقول :
" أول درس في المخابرات .. هو أن لا تثق برجل المخابرات ".
تأتي دروس عديدة، قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة. و في النص الذي يحتوي على كيفية التعامل مع التنظيمات المعادية .. هناك درس يبقى صائباً على الدوام :
" إذا أردت لأفراد تنظيم ما أن يأكلوا بعضهم بعضاً .. اسجنهم سويةً ".
الإحباط، التباعد، النفور، الكراهية، النيل من هيبة القيادات .. وتبدأ الوشائج التنظيمية بالتراخي والتفكك، ومعها يبدأ التطلع إلى المحيط خارج إطار التنظيم الواحد.
تمر الأيام ، الأسابيع، الشهور، السنوات !.
تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة : " الجغرافية ". أبناء المنطقة الواحدة، القرية، البلدة، المدينة، أو حتى .. المنطقة الأوسع، المنطقة الشمالية، المنطقة الشرقية، المنطقة الساحلية .
يستعيدون فيما بينهم الذكريات. يتذكرون الأماكن الأليفة بحنين بالغ، الطرقات .. السهول .. الوديان .. الجبال .. الشوارع والحدائق والساحات. يتذكرون بعض الأحداث العامة و المشهورة، ويوماً بعد يوم تكبر التقاطعات، وتكبر معرفتهم بعضهم ببعض.
مع ازدياد المعرفة، وبأسئلة بريئة في الظاهر يُنبش ما كان محسوباً أنه من المنسيات. فلكل شخص أو عائلة أو عشيرة إيجابياتها .. ولها كذلك ما تخجل منه وتحاول نسيانه .. أو جعل الآخرين ينسونه .
لكنه السجن و له قوانينه الخاصة... البسيطة... الصريحة... الوقحة !
ويسأل أحدهم ابن مدينته الذي تعرف عليه سؤالأ قد يكون مازحاً .... قد يكون بريئاً .... قد يكون ! :
- أنت من بيت البيك الذين يسكنون في المحل الفلاني ؟ .
- نعم .. أنا من بيت البيك هؤلاء .
- آ ..... آ عفواً .. لا تواخذني .. بس أنا سمعت حكاية، صحيح أن رتبة البكوية و الأملاك و الأراضي .. صارت عندكم لأنه ستك "جدتك" الكبيرة كانت صديقة للوالي العثماني ؟؟
- لأ ... أبداً مو صحيح.
ينتهي الحديث و ينكمش شيء ما داخل نفس سليل آل البيك .. ونفور !
يسأل آخرٌ آخراً :
- أنت من قرية الحيدرية بس أنت من بيت مين ؟
- أنا من بيت البيطار .
- آ ... البيطار. قل لي .. سمعنا من كام سنة ... أن امرأة من بيت البيطار قتلت زوجها بالاشتراك مع عشيقها .. بتقربك شي ه المرأة ؟
- المرأة خالتي .. بس القصة مو صحيحة، يعني تهمة وبس !
ينتهي الحديث و ينكمش شيء ما داخل نفس سليل آل البيطار ..... ونفور !
وتتعدد الأسئلة :
- أنت ابن فلان الذي سرق صندوق البلدية ؟
- أنت أبن فلانة التي .......
وتنتهي الأحاديث، وتنكمش أشياء كثيرة داخل النفوس ... ونفور !
تمر الأيام، الأسابيع، الشهور، السنوات !.
تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة. الميول، الهوايات، المهن، المهتمين بالأدب، الفنانين، المعلمين، الأطباء .....
تمر الأيام، الأسابيع، الشهور، السنوات !.
تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة : الذوق، اللباقة الأجتماعية !.
ينفر منه ويبتعد عن زميله في التنظيم أو المهنة أو المنطقة .. لأنه يخرج أصوات من فمه عندما يأكل .. وهذا قلة ذوق .
ينفر منه ويبتعد عنه لأنه عندما يطوي بطانياته فإنه يطويها بعنف مثيراً الغبار على جاره ..وهذا قلة ذوق .
ينفر منه ويبتعد عنه .. لأنهما عندما يتحادثان لا يترك مسافة كافية بين الرأسين !.. يقترب منه كثيراً ويتكلم .. يجبره أن يشم رائحة فمه الكريهة !.. وهذا قلة ذوق .
مئات المشاكل التي يثيرها التعايش القسري بين أناس لم يختاروا بعضهم بعضاً، فهم من مشارب ومنابت مختلفة .. تربيات مختلفة .. سويات حضارية مختلفة .
تكون السنوات قد مرت. سنة تجثم على صدر التي قبلها .
تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة، ويبتعد الناس أكثر فأكثر عن كل ما له طابع جماعي، رماد السنوات المنطفئة يغطي شيئاً فشيئاً طزاجة الذكريات عن الخارج. يبتعد هذا الخارج، وينغمس الشخص في تفاصيل الحياة اليومية للسجن، تكبر المساحة التي تحتلها هذه التفاصيل في نفس السجين، على حساب الخارج الذي يبدو قصياً بعيد المنال ! .. وأكثر ما يبتعد هو السياسة، انعكاساتها كناظم لقطيع من البشر. تعود الذات الفردية لتنمو على حساب الذات الجماعية أو روح القطيع. وقد يصل الأمر إلى حد القطيعة أو العداء .. مع التاريخ الذي ساهم هو بصنعه !.. خطوة أخرى ويصل إلى جلدٍ ساديٍّ للذات !!... يقول بمرارة تقطر مع الكلمات :
- لقد كان السجن ضرورياً لنا لنكتشف الكذبة الكبيرة التي كنا نعيشها. أي غباء .. أي وهم .. أوصلانا إلى هنا ؟!..
وتنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة. والصداقات الثنائية هي المرحلة ما قبل الأخيرة، و تبدأ كحالات معزولة منذ البداية و ولا تتحول إلى ظاهرة إلا في المراحل المتقدمة، وحتى في هذه المراحل قد لا تكون عامة مطلقة ولكنها تقترب من الأغلبية.
المتشابهان ..... المتناقضان ... التشابه و التناقض، على ما فيهما من تباعد في كل شيء، إلا أنهما يشكلان الأرضية المناسبة أو التربة المناسبة لنشوء العلاقات الصداقية الثنائية ! .
بعد مسيرة السنوات الطوال، ومن خلال التجربة و الخطأ، من خلال الاحتكاك المستمر والدائم على مدار أربع وعشرين ساعة كل يوم، ثلاثمائة وخمس وستون يوماً كل عام .. يكتشف الاثنان أنهما متشابهان في بعض الأشياء .. في الكثير من الأشياء .. في كل الأشياء !.
ينجذبان إلى بعضهما البعض. وتبدأ علاقة صداقة بين اثنين .
بعد مسيرة السنوات الطوال، ومن خلال التجربة و الخطأ، من خلال الاحتكاك المستمر والدائم وعلى مدار أربع وعشرين ساعة كل يوم و ثلاثمائة وخمس وستين يوماً كل عام و يكتشف اثنان أنهما متناقضان .. في بعض الأشياء .. في الكثير من الأشياء .. في كل الأشياء .
وكما المغنطيس ينجذب سالبه إلى موجبه .. ينجذبان إلى بعضهما البعض .. وتبدأ علاقة صداقة بين اثنين، وهذه الصداقة تبدأ متوازنة متكافئة، لكل منهما نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، ومع توالي الأيام يبدأ الخلل بين كفتي الميزان، بنفس قدر ارتفاع الأولى تنخفض الثانية، طرف يبدأ باكتساب القوة و اظهارها، والطرف الآخر يعتمد أكثر فأكثر وفي كل الأمور على صديقه القوي، ليصبح هو الطرف الأكثر ليونة ورقة!.. تستمر العلاقة بين الاثنين وفق هذه المعادلة طويلاً، القوي والضعيف، القوي الذي يرعى الضعيف ويبسط حمايته عليه وهو في غاية الاستمتاع بهذا الدور، والضعيف الذي يلوذ تحت جناحه ورعايته وهو في غاية الاستمتاع بهذا الدور !.
أقبع في قوقعتي طوال هذه السنوات أحاول أن أرقب وأفسر وأسجل كل ما يحدث أمامي ضمن هذا التجمع الإنساني، رصدت الكثير من الأمور وفسرتها وسجلتها .
هذه الثنائيات منذ بداية تشكلها أثارت اهتمامي، راقبتها.. تحولاتها وتطوراتها، وفسرتها في سياق الحاجات الإنسانية للإجتماع و التواصل .. إلى أن نشأت الحالة الثنائية بيني وبين نسيم بفضل المرحوم أبو القعقاع .
في بداية العلاقة كنت مأخوذاً بأمر واحد فقط .. أن يكون لدي من أحادثه !.
كان طبيعياً أن أندفع وبقوة نحو هذا الشخص الذي ارتضى بعد أكثر من عشر سنوات من القطيعة التامة أن يحادثني ويجلس على فراشي .. ثم يدعوني للجلوس على فراشه !.. عاودني الشعور بأني إنسان ذو كيان يحترمه البعض، يحترم شخصه ويحترم عقله ورأيه، وكان هذا يمكن أن يتحقق مع أي شخص هنا يرفض مقاطعتي ويملك عقلاً منفتحاً ولو بحدوده الدنيا.
لكن نسيم أكثر من ذلك بكثير. نسيم أكبر من كل أحلامي وامنياتي بشخص ينتشلني مما أنا فيه، بساطته ورقته جعلاني أراه أمامي ساطعاً نقياً كسطوع صفحة بيضاء تحت أنوار قوية، دخل إلى روحي خلال أيام قليلة، هصرها .. سحنها .. عجنها بروحه وجسده .. اتحد بها !!... و
ذعرت .. ذعرت .. ذعرت !!.
من أنا ؟ ! .. هل أنا .. أنا ؟! .. و
إلى أين ؟؟ .
في بلدي وفي فرنسا عرفت الكثير من النساء، بعضهن عابرات .. قد لا أتذكر ملامحهن الآن، والبعض الأقل حفرن في الوجدان أثلاماً لا تمحى .... !
كنت في هذه العلاقات طبيعياً جداً، كأي إنسان عادي، ولم يحدث أبداً خلال كل الماضي أن كانت لي أي ممارسات غير طبيعية أو شاذة، ولم ألحظ على نفسي أية ميول لممارسات جنسية غير الممارسات العادية بين الرجل و المرأة، كما لم ألحظ أبداً أية ميول مثلية نحو الجنس المشابه، لا بل على العكس كنت أنفر منها نفسياً حتى في فترة المراهقة التي يحدث فيها أن يداعب المراهقون بعضهم مداعبات شتى ذات طابع جنسي، لم أتعرض أنا – وقد يكون بحكم بعض ظروفي الموضوعية – إلى أية تجارب من هذا النوع .
ولكن الآن .. الآن ماذا يجري لي ؟!
وماذا يمكن أن تكون نهاية هذا الأمر ؟
ما أشعر به اتجاه نسيم من عواطف ملتهبة لم أشعر به أبداً حيال أية امرأة عرفتها في حياتي !.
نجلس سويةً، نتحادث .. نلعب .. نأكل، طوال ساعات الاستيقاظ، ينام إلى جانبي ونتابع أحاديثنا بصوت خافت ونحن مستلقيان. نحن، الاثنين، مع بعضنا البعض طوال اليوم .. ورغم ذلك أظل مشتاقاً إليه وبشدة!.
يغادرني أوقات قليلة، كأن يذهب إلى المرحاض أو يذهب للاغتسال .. فتبقى عيوني معلقة على باب المغاسل الحجري إلى أن يعود، ومن هناك يبادلني الابتسام .. فأرتاح .
لا أدري شيئاً عن مشاعره، عواطفه، تفكيره في هذا الموضوع، لكن اندفاعه نحوي في هذه العلاقة الحميمية وترداده الدائم لعبارة أني " توأم روحه " كلها أمور تنبئ بأنه إما أنه يعيش نفس حالتي .. أو أنه بمنتهى البراءة .
كفتا الميزان في علاقتنا في الأساس متفاوتة، هو رقيق جداً، وحتى على صعيد الشكل تقاسيمه ناعمة بها شيء من الأنوثة. وأنا متجهم .. ذو شعر كث وتقاسيم حادة قاسية. ومع تطور العلاقة بيننا ازددت قوة ورجولة بينما شابت حركاته بعض النعومة و الليونة .. وأحياناً الدلع .
أعيش الآن صراعاً نفسياً رهيباً بين عقلي ومحاكماته القاسية، وبين عواطفي وميولي الطارئة التي أحسها أحياناً أنها لا تستجيب لأوامر العقل ونواهيه و روادعه .
هل أناقش الأمر معه بصراحة ؟.. ولكن لم ؟.. ما هي الفائدة ؟ ألن يكون هذا سبباً في تحطيم علاقة الصداقة الرائعة هذه ؟!
الملامسات بيننا. يحدث أحياناً ونحن في حمى الحديث أو اللعب أن أمسك يده فأشعر براحة ومتعة غريبتين!! أبقى ممسكاً بها أكثر مما يستوجبه الموقف !! .
ألتفت إلى المهجع مجدداً. أرقب وأفسر هذه العلاقات الثنائية المنتشرة، ولكن بعيون جديدة .. عيون فاحصة تحاول أن تثقب الجدار الخارجي السميك لكل واحدة من هذه العلاقات .. ثم تسبر ما تحت القشرة هذه !.. لم أتوصل إلى أية معلومة أو نتيجة مفيدة في هذا الشأن. كل العلاقات ظاهرها بريء .
وخفتُ .. خفت كثيراً .
هل يمكن أن تكون مفاعيل السجن وتأثيراته قد غيرا بنيتي النفسية بحيث يجعلاني اسير في هذا الاتجاه ؟ لكن عقلي يرفض ذلك رفضاً باتاً .
وخوفي الشديد .. هل يمكن أن يكون دلالة صحة إذا كانت مشاعري وعواطفي دلالة مرض ؟!
ولكن .. هل هذا كله وهم ؟ ألا يمكن أني اعطي الموضوع حجماً أكبر من حجمه الحقيقي ؟ لماذا لا أدع الأمور تسير سيراً طبيعياً ؟ .. وليكن ما يكون .
هذا الدمار الكامل و الشامل للإنسان، هذا الموت اليومي المعمم .. ألا يدفع إلى الجنون .. أو إلى أكثر التصرفات والسلوكيات جنوناً وغرابة ؟!
تتجمع في حلقي بصقة كبيرة .. إلى أين أقذفها ؟ .. بوجه من ؟.
24 شباط
مؤخراً انتبهت إلى أمر آخر، بدلاً من أن تساهم علاقتي مع نسيم في إخراجي من قوقعتي، قمت أنا بإدخاله إلى القوقعة.
بقي المهجع على موقفه مني، وهو المقاطعة. صحيح أنها لم تعد مقاطعة عدائية خطرة، لكنها أصبحت مقاطعة سلبية بادرة، وشيئاً فشيئاً ومع اقتصار علاقتي على نسيم فقط انسحب موقف المقاطعة عليه أيضاً، بعض المتزمتين اتهمني بأنني أفسدت نسيم في دينه، وغير بعيد أن نسيم قد أصبح ملحداً أيضاً، ودللوا على ذلك بانقطاع نسيم عنهم وقضائه كل الوقت عندي يتحدث معي بلغة الكفار .. ونتلهى بالشطرنج بدلاً من ذكر الله، وعندما نبهت نسيم إلى هذا الأمر قال :
- مع ألف جهنم، من قبل ما يرفضوني هم، أنا من الداخل كنت رافضهم .
واستفاض بالحديث وتبين لي أنه لا يحبهم، وفي بعض الأحيان عبر عن اشمئزازه منهم، ووصف بعض تصرفاتهم بالتخلف و الجهل وأحياناً بالوضاعة .
كنت أعتقد أن إنساناً مثل نسيم، "شفافاً وصافياً، فناناً صادقاً، طيباً إلى أبعد الحدود " لا يمكن أن يعرف الكره، ولكن من أحاديثه عنهم كنت ألمس أحياناً بعض شذرات كراهية مترسبة في أعماقه. صارحته بملاحظتي .. لم ينف أو يدافع، قال :
- لا أعرف .. الإنسان لا ينتبه على حاله .. ممكن يكون أساس هذه الكراهية أخوي .. يعني " زميلهم " !
نسيم دائم الإندهاش يرى أمراً أو حدثاً يتكرر أمامه مئات المرات لكنه في كل مرة يبدي نفس القدر من الدهشة و الاستغراب، وإذا كان أمراً يرفضه يبدي نفس القدر من الاحتجاج و الاستنكار .
أهم ما يميزه هو ذكاؤه ورقته، هذه الرقة اللامتناهية، والرهافة الارستقراطية .
الآن مضى على نسيم ثلاثة أيام لا يأكل رغم كل محاولاتي لإجباره على الأكل .
************
في مهجعنا عائلتان، العائلة الأولى تتألف من أربعة أخوة، أما العائلة الثانية فهي تتألف من أب وثلاثة أبناء .
عند بداية الأحداث بين الحركة الدينية و السلطة، وبدء حملات الاعتقال الواسعة، استطاع الأبناء الثلاثة وهم جميعاً منظمون، استطاعوا الفرار و التواري عن الأنظار، وعند مداهمة المنزل وجد رجال الأمن والد الفارين وحيداً، اقتادوه معهم إلى فرع المخابرات، وهناك ظل الآب أكثر من شهرين رهن التحقيق، يريدون منه أن يدلهم على مكان تواجد أولاده، وهو حقيقة لم يكن يعرف ! وبعد شهرين أرسلوه إلى العاصمة وهناك أيضاً حققوا معه لكن دون جدوى، أخيراً سئم الضابط منه وقال له إنهم سيبقونه في السجن رهينة إلى أن يسلم أولاده أنفسهم للأمن .
بقي الأب إلى جانب الكثيرين من أمثاله و الذين كان السجناء يطلقون عليهم على سبيل المزاح اسم " تنظيم الرهائن " أو " حزب الرهائن " .
بقي الأب عدة شهور في العاصمة. بعدها تم ترحيله مع الآخرين إلى السجن الصحراوي، عندما ضاقت سجون وفروع المخابرات في العاصمة .
بعد ثلاثة أعوام من بدء اعتقال الأب، أصبح جميع أبنائه في السجن الصحراوي، تم اعتقالهم واحداً إثر الأخر، وفي النهاية ومن خلال رسائل المورس عرفوا مواقع بعضهم، ورغم اعتقال الإخوة الثلاثة لم يتم اطلاق سراح الأب .
بعد ثلاثة أعوام أخرى جاء دور قضيتهم لتنظر فيها المحكمة الميدانية. كان هناك أكثر من خمسين شخصاً سيحاكمون في ذلك اليوم .
صفاً رباعياً جالسون على الأرض، وكل واحد منهم عليه أن يشبك يديه فوق رأسه ورأسه بين ركبتيه و الأعين مغمضة.
المحكمة تناديهم بالأسماء، من يذاع اسمه يقفز ويصيح حاضر، وفي أقل من ثانية يجب أن يكون أمام هيئة المحكمة .. وفي أقل من دقيقة أو دقيقتين تتم محاكمته !! .. وفي أقل من ثانية أخرى عليه أن يعود إلى مكانه وجلسته !.
في هذا الجو، ورغم كل شيء رأى الأب و الأخوة بعضهم ووصلت سلاماتهم لبعضهم عن طريق التسلسل، ثم نودي عليهم فرداً فرداً .
بعد أن انتهت محاكمتهم يبدوا أن أحد الضباط قد لاحظ وانتبه أن الكنية واحدة للأربعة، فطلبت هيئة المحكمة من الشرطة ادخال الأب و أبنائه .
كانت هيئة المحكمة المؤلفة من ثلاثة ضباط في حالة استرخاء ومعهم مدير السجن قد توزعوا في أرجاء الغرفة حول المدفأة المتوهجة، جو الغرفة حار نسبياً، يشربون القهوة ويدخنون ويتبادلون النكات، وفي اللحظة التي دخل فيها الأربعة إلى الغرفة كان مدير السجن يروي لهم نكته , فوقف الأربعة عند باب الغرفة المغلق وقفة تصاغر , لم يعرهم أي من الحاضرين اهتماماً , ضحكوا بشدة .. تبادلوا التعليقات .. بعد بضع دقائق التفت أحد الضباط وأمعن النظر بالأشخاص الأربعة , كان جو المرح لازال سائداً , توجه بالحديث للأب ..
- شو يا حجي .. أنتوا كنيتكم واحدة .. أنتوا بتقربوا بعضكم شي ؟
- نعم يا سيدي نعم .. هدول أولادي وأنا أبوهم .
استلم دفة الحديث ضابط أخر ..
- قول لي يا حجي .. في عندك أولاد غير هدول ؟
- لا و الله يا سيدي .. هدول هنن كل أولادي .
- يعني العائلة كلها مجرمين وعملاء .
- لا و الله يا سيدي .. نحن ناس على قد حالنا .. وحسبنا الله ونعم الوكيل .
تدخل مدير السجن , فسأل الأب ..
- قديش عمرك أنت .. ولا ؟
- و الله بالضبط ما بعرف يا سيدي .. بس يمكن صار فوق السبعين .
- فوق السبعين !.. وباقي عندك حيل وعندك قوة تضرب وتقتل ؟
- يا سيدي ..... الله وكيلك لا قتلنا ولا ضربنا ... بس النار مرت من جنبنا قامت حرقتنا نحن كمان .
- و الله مانك سهل يا ختيار النحس ... قديش صار لك بالحبس .. و لا ؟
- و الله يا سيدي .... صار يمكن .... ست سبع سنين .
- طيب .. به السنين ... ما عم تشتاق لمرتك ؟
- يا سيدي ... الانسان بعمري .. وبعد كل هالشي .. ما يطلب غير حسن الختام .
- طيب هاي فهمناها .. بس غير شي .. غير شي .. ما بتحس انو ناقصك شي شغلة ؟
- أي و الله يا سيدي .. أنا صرت زلمة كبير ... وحركتي صعبة كتير ... لو تحطوا لي أولادي معي يخدموني .. بتكونوا فضلتوا على راسي .
وقتها أمر مدير السجن أن ينقل أولاده إلى مهجعه .
عاد عضو المحكمة بعد ذلك لتوجيه الحديث .. خاطب الأب :
- شوف يا حجي ... شو تتوقع يكون حكمكم ؟
- يا سيدي .. رحمة الله واسعة , و انتوا دائماً بتحكموا بالعدل !!
- طيب اسمعني .. انتوا اربعة أشخاص عائلة واحدة .... ونحن حكمنا على ثلاثة منكم بالإعدام ... وهلق .. أنت بدك تختار مين لازم ينعدم ومين الواحد ياللي لازم يعيش .
- الله يطول عمرك يا سيدي .. و يطول عمر أولادك .. إذا كان الموضوع هيك ف لازم اسعد يعيش , ونحن الثلاثة يدبرها الله !.
- ومين أسعد ؟
- هذا هوي أسعد .. مخدومك ويبوس ايدك يا سيدي .
- ليش اخترت أسعد يا حجي ؟
- يا سيدي أنا زلمة كبير أكلت عمري , وسعد وسعيد متجوزين من زمان وخلفوا أولاد , و من خلف ما مات , أما أسعد بعدو صغير ومانو متجوز و بعدو بزهرة شبابو .. و الزهرة حرام تنقطف .. مو هيك يا سيدي ؟
- أي حجي أي ... هيك ... يا شرطي ... يا شرطي ... تعال رجع هالجماعة وحطهم بمهجع واحد .
عاد جميع أفراد العائلة إلى مهجعنا , هذه القصة .. هذا الحوار سمعته خلال سنتين عشرات المرات , ولكن منذ خمسة أيام – وكان أحد أيام الخميس – وردت لائحة الإعدامات وبدأ الشرطي بقراءتها , كان اسماء الذين سيعدمون من مهجعنا هم ( سعد وسعيد وأسعد ) , عندها ثار الأب .
أسعد كان نائماً عند قراءة الاسماء , قام سعد وسعيد عن فراشيهما , توجها إلى فراش أسعد , أيقظاه , كانا يناديانه باسمه , عندما يناديه سعد يسكت سعيد ثم يناديه سعيد فيسكت سعد :
- أسعد .. يا خاي .. أسعد .. فيق .. قوم .. يا خاي قوم .. أسعد .. قوم .. أمر الله وما منوا مهرب .. يا أسعد .. يا خاي .
استيقظ أسعد , ونظر إلى أخويه على جانبي فراشه , اعتدل جالساً وهو ينظر إليهما نظرة ملؤها الاستفهام , وسألهما :
- شو ؟ .. شو في يا خاي ؟ .. شو صار ؟
- ما في شي ..... بس قوم .... فيق .... لازم نقوم نتغسل ونتوضا ونصلي , بعدين لازم نودع ناس .
تجمدت قسمات أسعد للحظات , ثم نظر إلى أخويه وسأل :
- أنا كمان معكم ؟
- نعم .. انت كمان معنا !
- لا حول ولا قوة إلا بالله .. حسبنا الله ونعم الوكيل ... توكلنا على الله .
قام الثلاثة باتجاه المغاسل التي كانت قد افرغت وتركت لهم فقط .
قفز الأب السبعيني إلى الممر بين طرفي المهجع وهو يلوح بيديه تلويحات عدم فهم وعدم تصديق !! مشى إلى منتصف المهجع , وقف تحت الشراقة التي يطل منها الحارس عادة و نظر إلى الأعلى .. إلى السماء , وبصوت راعش ولكن قوي :
- يا رب .. يا رب العالمين , أنا قضيت عمري كلو صايم مصلي وعم أعبدك , يا رب أنا ما بدي أكفر .. حاشا لله واستغفر الله العظيم .. بس بدي اسأل سؤال واحد : ليش هيك ؟ .."وبصوت عالي أقرب إلى الصراخ وهو يلتفت إلى الناس" .. ولك ليش هيك ؟؟ يا رب العالمين .. ليش هيك ؟؟ أنت القوي .. انت الجبار ! .. ليش عم تترك ه الظالمين يفظعوا فينا .. ليش ؟ .. شو بدك تقول ؟ بدك تقول إن الله يمهل ولا يهمل ؟ .. طيب ه الكلام مين بدو يرجِّع من أولادي ؟ .. يا الله ... أنت ترضى أنو أسعد ابن الخمس وعشرين سنة ينعدم على أيدي ه الظلاّم ؟! قلي .. جاوبني .. ليس ساكت .. أنت .. انت .. استغفر الله العظيم استغفر الله العظيم ... يا رب ... لو كان عندك ثلاثة أولاد وراح يروحوا ع الإعدام بلحظة واحدة .. شو كنت تعمل ؟ .. هاه ؟ .. طيب جاوبني على ها السؤال الصغير بس .. انت .. رب العالمين .. معنا نحن و إلا مع ه الظالمين ؟! لحد الآن كل شي يقول ... أنك معهم .. مع الظالمين !! ... استغفر الله ... استغفر الله .. يا رب .. بعزتك وجلالك .. بس اسعد , بس رجِّع لي أسعد , لا تخليه يموت .. أنا ما عم قلك الثلاثة , بدي أسعد بس .. وانت قادر على كل شي !.
السكون و الوجوم يخيمان على المهجع , أبو سعد سكت أيضاً , جلس على الأرض ووضع رأسه بين يديه , بعد قليل رجع الإخوة الثلاثة , صلوا أخر صلاة لهم وبدؤوا بتوديع الناس , أبو سعد لم يتحرك من مكانه ولازال رأسه بين يديه , انتهى الإخوة من وداع الناس , جاؤوا ووقفوا أمام الأب الذي لازال مطرقاً , جلسوا حوله .. سأله سعد :
- أبي ... يا أبي .... ما بدك تودعنا ؟ ..... أبي الله يخليك لا تحرق قلبنا بآخر عمرنا ... ابوس أيدك يا بو ....
رفع الأب رأسه , شملهم بنظرة ذاهلة حارقة , رفع يديه باتجاههم , التقط أولاده اليدين وأخذوا بتقبيلهما ... وأجهش الأربعة ببكاءٍ فجائعي , عم البكاء المهجع كله ... أخذ الرجال جميعاً ينشجون ويشهقون ... ارتفع صوت نشيج الرجال الجماعي عالياً , وقف أبو حسين في منتصف المهجع , وبكلام تقطعه شهقات البكاء المتتالية أخذ يرجو الجميع أن يخفضوا اصواتهم :
- من شان الله يا اخوان ... هلق .... نكون بشي بنصير بشي ... وطّوا الصوت يا شباب .. من شان الله يا شباب .
سحب الأب يديه من أيدي ابنائه وحاول أن يلف الثلاثة بيديه , القى الأبناء أنفسهم في حضن الأب , تجمعت الرؤوس الثلاثة على صدره , وضع الأب يديه على رؤوسهم وقد أغمض الجميع عيونهم ولازالت دموعهم تسيل ولكن بصمت .
مرة اخرى بدا المهجع يهدأ , مسحنا دموعنا جميعاً ونحن شاخصون بأبصارنا اتجاه الأب وأولاده , رفع الاب رأسه قليلاً , مسح بيديه على الرؤوس الحليقة ... حول عينيه إلى الناس المحدقين به وبصوت هادئ ولكنه قوي بدأ الكلام كمن يخاطب نفسه , قال :
- هذا أمر الله : أمر الله ما منه مهرب .. إنا لله وإنا اليه راجعون .. معليش .. لا تخافوا .. يا ابني لا تخافوا .. خليكم سباع .. قلبي وقلب أمكم معاكم .. الله يرضى عليكم دنيا آخرة.. رضا الله ورضاي معكم .. هذا الموت كاس .. نعم كاس .. كل الناس بدها تشرب منه ...
سكت قليلا التفت إلى الناس واستأنف حديثه :
- ولك بس ليش ؟.. ليش اولادي أنا .. ليش ؟ ..يا جماعة .. يا ناس هدول أولادي .. ما عندي غيرهم .. آخ .. آخ .. الله وكيلكم ما عندي غيرهم .. آخ يا أسعد .. آخ .. ولك يا جماعة يا ناس .. لك حدا منكم شاف هيك شوفة .. أولادي كلهم قدامي راح يتعلقوا ع المشانق !!.. ولك شي حدا يخبرني .. احكوا يا ناس .. ليش .. ليش أنا وأولادي .. شو عملت من الذنوب تحت قبة الله حتى يجازيني هيك جزاء ؟!.. آه يا ابني آه .. يا ريتني متت من زمان ولا شفت هيك شوفه !.. ياريت متت ولا عشت هيك يوم !! .. آخ .. يا ربي آخ .. ليش .. ليش .. ليش .. ؟؟.
تقدم ثلاثة من كبار السن إلى حيث جلست العائلة في منتصف المهجع ، أمسكوا بالأب من تحت ابطيه وأنهضوه ، تناوبوا على الحديث معه يقوون عزيمته , يذكرونه بضرورة الإيمان بحكمة الله أمام أشد المصائب هولا ، سحبوه بهدوء إلى فراشه .
في اللحظة التي جلس بها على الفراش قرقع مفتاح الباب .. انتفض الأب واقفا ، أمسكه الرجال وثبتوه مكانه يرجونه الهدوء ، لدى فنح الباب وقف جميع الناس في المهجع ، سار الأخوة الثلاث باتجاه الخروج وعناصر الشرطة يصرخون طالبين منهم الإسراع .. لكن عند وصولهم إلى الباب توقفوا والتفتوا ، توقفت نظراتهم لثانيتين أو ثلاث على والدهم، ثم خرجوا وأغلق الباب وراءهم !.
أفلت الأب نفسه من قبضة الرجال وركض برشاقة شاب عشريني يداه ممدودتان إلى الأمام اتجاه الباب .. وهو يلهث :
- أولادي .. يا جماعة أولادي .. ولك يا أسعد .. رجاع .. رجاع !!.. ولك أكيد في غلط .. ولك يا أبني رجاع .. خليني أنا روح محلك !!.
اعترضه أبو حسين محتضنا اياه ، لف يديه عليه بقوة ، وتعاون مع الرجال الآخرين لإعادته إلى مكانه برفق .. اجلسوه وجلسوا حوله يواسونه وهو شاخص بأنظاره إلى الباب .
منذ أن خرج الأخوة الثلاثة ونسيم ملتصق بالثقب يراقب ، ينشج ، يمسح دموعه التي لم تتوقف !.
نهض الأب من جديد ، حاول البعض منعه لكن أبو حسين أشار لهم بيده أن يتركوه وأوعز إلى اثنين من الشباب أن يقفوا قرب الباب تحسبا .. وعندما ابتعد الأب عن المجموعة قال أبو حسين :
- اتركوه .. اتركوه يا جماعة ، قلبه محروق .. الله يعينه ويصبره .. اتركوه يعمل شو مابده ، بس لا تخلوه يقرب على الباب ، مصيبته كبيرة وبدها جبال حتى تتحملها !.. لا حول ولا قوة إلا بالله .
أخذ الأب يسير سيرا سريعا وسط المهجع ، من أوله إلى آخره ، يتمتم كلاما غير مفهوم ، يؤشر بيديه في جميع الاتجاهات ، وعندما يصل بمشيته أمام فراشي كان يتلكأ قليلا .. ينظر إلى نسيم الملتصق بالثقب ، ثم يعاود المشي .
أبو حسين جلس إلى جانب نسيم يسأله عما يجري عند المشانق ، نسيم لا يجيب ، نظر أبو حسين إليّ وكنت جالسا خلف نسيم كأنه يطلب مني أن أتدخل ، وضعت يدي على كتف نسيم وطلبت منه أن يتراجع قليلا ليتيح لأبو حسين أن ينظر من الثقب ، لكن نسيم لم يتزحزح وأزاح يدي عن كتفه بعصبية !.. كانت يده ترتجف، في هذه اللحظة وقف الأب أمام فراشي، نظر إليّ ثم جثا على ركبتيه أمامي، قال متضرعا :
- خلوني شوفهم .. من شان الله .. من شان محمد .. يا ناس خلوني شوف أولادي .. خلوني ودعهم .
أمسكه أبو حسين من يده ، انهضه ، ماشاه وسط المهجع طالبا منه أن يوكل أمره إلى الله :
- أبكي .. أبكي يا حجي ابكي .. وكل الله .
- يا أبو حسين .. يا ابو حسين .. شو بدي أبكي ؟.. دموع ؟.. وإلا دم ؟.
- الله يصبرك .. ويصبرنا ، إن لله وإن إليه لراجعون.. الله أعطى .. الله اخذ .
بقي أبو حسين يسير مع الأب أكثر من ساعة ، الجميع يسمعون الحديث ، شيئا فشيئا بدأ الأب يتماسك أكثر، إلى اللحظة التي أدار فيها نسيم رأسه ونظر إلى الداخل وقد استند بظهره إلى الحائط، بدا متهالكا ونظرته زائغة لا تعبر عن شيء ، عنها عرف الجميع أن الأمر قد انتهى .
أسرعت بأغلاق الثقب أمام نظرات الأب الذي توقف عن المشي وهو ينظر إلى نسيم نظرة هلع ، ثم وضع يده وصاح بصوت حارق :
- يا ولداه ..!!
انهار أرضا بين يدي ابو حسين ، تعاون بعض الشباب لنقله إلى الفراش .
بعد قليل دار أبو حسين على الجميع في المهجع عارضاً عليهم أداء صلاة الجنازة جماعيا وعلنيا !!.
كانت هذه الفكرة في وقت آخر ستبدو ضربا من الجنون ،وكانت ستلقى معارضة شديدة من الكثير ، لكن في هذه اللحظة أيدها ووافق عليها الجميع دون استثناء .
لأول مرة منذ وجودي هنا الذي مضى عليه أكثر من أحد عشر عاما ، انتظم أكثر من ثلاثمائة شخص في المهجع وصلوا علانية صلاة واحدة !!.
وقفت معهم في الصف الأخير إلى جانب نسيم وأبو حسين الذي نظر إليّ متعجبا مستغربا !.. و" صليت " .
عاد الجميع إلى أماكنهم ، يتمتمون بالأدعية ، الشعور بالحزن طاغ ، لكن بعد هذه الصلاة الجماعية والعلنية خالط الحزن قليل من الرضا عن الذات .. شعور غير مرئي بالأنصار ..! .
جلس نسيم على فراشه بعد الصلاة ، ومنذ تلك اللحظة وحتى الآن ، لم يتكلم أبدا .. ولم يأكل البتة !.
1 آب
اليوم قلعت ضرسين من أضراس العقل , تخلصت من أسوأ الأشياء التي يمكن أن يتعرض لها السجين هنا " آلام الأسنان " .
إن أبي بعقليته العسكرية الصارمة اكسبنا بعض العادات , في البداية تكون قسراً , ولكن مع الأيام تصبح عادة لا نستطيع التخلي عنها , من هذه العادات تنظيف الأسنان بالفرشاة ثلاث مرات يومياً, وقد أدمنت هذه العادة إلى درجة أنه كان يستحيل علي النوم مهما كنت تعباً إذا لم أنظف أسناني بالفرشاة قبل النوم , و الآن مضى سنوات طويلة لم أر فيها أية فرشاة , ولأنه حال الجميع هنا فمن الطبيعي أن تتخرب الأسنان وتبدأ المعاناة , فآلام الأسنان هي الأسوء بين كل ما تعرضنا له , أسوء من التعذيب و الموت و الإعدام فهذه كلها آنية .. لحظية , أم ألم الأسنان فيبقى ملازماً الإنسان في الليل و النهار يمنعه من النوم ولا يتركه يهدأ لحظة واحدة .
رغم أن أطباء الأسنان من السجناء قد تدخلوا , ومع نمو الحاجة طوروا آلياتهم ووسائلهم , لكنهم لم يكونوا يملكون إلا علاجاً واحداً وهو القلع !.
معروف كم هو مؤلم قلع الأسنان عند الطبيب رغم التخدير ورغم الأدوات التي يملكها الطبيب يبقى القلع مؤلماً ومكروهاً , أما هنا فلا تخدير .. ولا وسائل قلع مطلقاً !.
كل ما قام به أطباء الأسنان هو أنهم جدلوا خيطاً متيناً من الخيوط التركيبية الرفيعة ( النايلون ) و الشيء الثاني الذي يقومون به هو تحديد السن او الضرس المخرب الواجب قلعه .
في المهجع مجموعة تسمى ( تحبباً ) مجموعة البراعم , وهي مؤلفة من ثمانية أشخاص أو ثمانية عمالقة .. أجساد ضخمة , طوال القامة , عضلات مفتولة , وهم يشكلون مجموعة طعام واحدة وبالطبع ينالون حصة مضاعفة من الطعام .
بعد أن يحدد الطبيب الضرس الواجب قلعه يأتي دور مجموعة البراعم , يربط أحدهم الضرس الخرب بالخيط المتين بينما برعم آخر يثبت رأس المريض بكلتا يديه , فيجذب الأول الخيط بقوة , ونادراً ما احتاج الأمر إلى أكثر من شدة واحدة ليخرج الضرس معلقاً بطرف الخيط , أنا لم أخلع أضراسي بهذه الطريقة .
تحسن موضوع الطبابة في السجن الصحراوي منذ عدة شهور , فلقد دار المساعد على مهاجع السجن وأخبر الجميع أن من يريد أن يقلع سناً أو ضرساً فبإمكانه فعل ذلك عند طبيب الأسنان التابع للسجن , كذلك المرضى بالأمراض العادية يستطيعون أن يراجعوا طبيب السجن لشراء الأدوية التي يحتاجون .
هذا التحسن بدأ من سنتين أو ثلاث , وكان تدريجياً بطيئاً , وكان هذا طبيعياً فلقد قل عدد القادمين الجدد إلى السجن , فبعد أن كانت الدفعات تعد بالمئات اسبوعياً أخذت تعد بالعشرات , ثم قلت أكثر .. فأكثر , تباعد مرات مجيء الهيلوكوبتر وبالتالي المحاكمات و الإعدامات , خف التوتر و الشحن في نفوس عناصر الشرطة , قلت الحالات التي يكون فيها الضرب للضرب و القتل للقتل , أصبح للقتل او الضرب سبب على الغالب كالصلاة مثلاً , أو أن يرى السجين فاتحاً عينيه اثناء التنفس .
أما نسيم فقد ساء وضعه كثيراً , بقي صائماً عن الطعام و الكلام مدة خمسة أيام كاملة بعد إعدام الإخوة الثلاثة , حينها تعاونا أنا وأبو حسين على إقناعه بأن يتناول قليلا من الطعام , رغم ذلك دخل في حالة من الاكتئاب الحاد , عزوف عن الكلام , لم يعد يلعب الشطرنج , وتوقف عن الأعمال الفنية التي كان يشكلها من العجين .
بعد حوالي عشرة ايام كان جالساً إلى جانبي وهو ملتزم الصمت , التفت إلي ببطء وقال بالفرنسية :
- أين يدفنون جثث الذين يعدمون أو يقتلون ؟
- لا أعرف .. ولا أعتقد أن أحداً من السجناء يعرف !.
- حسب رأيك ... هل تكون جثث سعيد وسعد و أسعد قد تحللت ؟.
- يا أخي .. يا نسيم .. دعك من هذه الأفكار السوداء .
- من المؤكد أن الشرطة تحفر حفرة كبيرة ثم تفرغ فيها كل هذه الجثث وتهيل عليها التراب .
- نسيم ارجوك .. أرجوك يكفي كلاماً بهذا الموضوع .
- لاشك أن الديدان تنهش الآن لحم الأخوة الثلاثة .. ديدان في العينين .. ديدان في البطن .. ديدان في الفم .. الديدان تخرج من فتحتي الأنف .. ديدان .. ديدان .
- نسيم .. يكفي .. قلت لك يكفي .
بعدها صمت وغرق في أفكاره , باءت كل محاولاتي لإخراجه من صمته بالفشل , يظل صامتاً أياماً عديدة , وعندما يتكلم يبدأ بطرح الأسئلة الكبيرة :
- ما هي الحياة ؟ .
- ما هي الغاية من هذه الحياة ؟ .. هل من المعقول أن تكون الحياة بلا هدف ؟.. هل من المعقول أن هذه الحياة من صنع الله ؟ .
- ماذا يستفيد الله من خلق شخص مثل أسعد ؟.. أتى به إلى هذه الحياة , تعذب كثيراً ثم أعدم .. مات وهو لايزال في أول حياته !! ... حتى أنه لم يأخذ الوقت الكافي ليثبت إن كان رجلاً صالحاً أم طالحاً ؟!.
الغريب أن كل تساؤلاته وأحاديثه حول هذا الموضوع كانت باللغة الفرنسية !, كان احساسي اقرب إلى الفجيعة , هو يغوص في كآبته ومتاهاته وأنا أغوص أكثر فأكثر في الحزن و الألم عليه .
بقي على هذا المنوال حوالي الشهرين , وذات صباح , فتح عناصر الشرطة باب المهجع , قبل أن يتموا فتحه كالعادة قفز نسيم كنابض مضغوط تم افلاته , بأقل من ثانية اصبح خارج المهجع بعد أن رفس الباب بقدمه مكملاً فتحه !.
فوجىء عناصر الشرطة و البلديات لأول وهلة , ولم يتخلصوا من وقع المفاجأة الأولى حتى فاجأهم ثانية بالهجوم عليهم ..
الباب مفتوح ونحن نراقب ما يحدث بالساحة , كان نسيم يتحرك ويصرخ صراخاً وحشياً كجمل هائج , عاصر الشرطة و البلديات أقل من عشرة .. وذهلت .. ما هذه القوة الهرقلية التي أظهرها نسيم ؟.. أين تعلم هذه الحركات القتالية ؟!.. يهاجم أحدهم , يقفز أمامه عالياً ثم يهوي بسيف كفه على رقبته أو على أنفه فيلقيه أرضاً !!.. عنصران من الشرطة وواحد من البلديات ألقاهم أرضاً خلال أقل من دقيقة !! البعض من عناصر الشرطة و البلديات ابتعدوا مسرعين .. فروا .. البعض الآخر هجم على نسيم للإمساك به , علا الصياح و الصراخ في الساحة , أطل الحراس الموجودون على الأسطحة , سرعان ما أشرعوا البنادق ولقموها أخذين وضعية الرامي , وجهوا بنادقهم اتجاه نسيم .. وهبط قلبي بين قدمي .. هل سيطلقون النار عليه ؟.. لكنه ملتحم مع الشرطة .
أحد الرقباء هجم عليه من الخلف وأمسكه من رقبته محاولاً إيقاعه على الأرض لتثبيته , تشجع باقي العناصر فهجموا عليه , لكن نسيم أخذ يدور حول نفسه بسرعة والرقيب معلق برقبته من الخلف , دار عدة دورات تزداد سرعتها مع كل دورة .. ارتفعت قدما الرقيب عن الأرض وأخذ يدور مع دوران جسم نسيم , توقف نسيم فجأة وجذب الرقيب فألقاه أرضاً !! .
فتح باب الساحة الحديدية الأسود وأخذ عناصر الشرطة يتدفقون , العشرات منهم أحاطوا بنسيم لدرجة أننا لم نعد نستطيع أن نراه , مع هدوء حركتهم تأكدنا أنهم قد تمكنوا منه .
صاح احد الرقباء :
- امسكوه .. لا تضربوه .. مدير السجن جاي لهون .
حضر مدير السجن يحيط به المساعد وعدد من الرقباء و الشرطة , أربعيني طويل القامة , بمشية هادئة تقدم حيث نسيم ملقى على الأرض .
باب مهجعنا لازال مفتوحاً , نراقب ما يحدث دون أن نلتفت برؤوسنا , طلب مدير السجن إحضار نسيم أمامه , انفض جمع الشرطة من حول نسيم واوقفه على قدميه عنصران , وفجاة انتفض وأفلت نفسه من قبضتيهما وهو يصرخ بكلام غير مفهوم متقدماً اتجاه مدير السجن , خطوة أو خطوتين وهجمت عليه مجموعة من الشرطة أحاطوا به جيداً وثبتوه .
تحادث مدير السجن مع المساعد و الرقباء بكلام لم نسمعه , أحد الرقباء أشار إلى مدير السجن اتجاه مهجعنا فتقدم المدير من الباب معه المساعد وبعض الرقباء , طلب أبو حسين و تكلم معه , طلب طبيباً من المهجع وسأله , تشاور قليلاً مع طبيب السجن , عاد وطلب طبيب المهجع سائلاً إياه عن الدواء الذي يريده , ثم ذهب بعد أن أمر بإعادة نسيم إلى المهجع دون إزعاج .
كان تصرف مدير السجن أقرب إلى التفهم و الود، أقرب إلى تصرف الراعي , هذا الأمر المستغرب .. أطلق تكهنات وتحليلات وتأويلات لم تنته .
بعد إغلاق الباب بقي نسيم لمدة ساعتين تقريباً يمشي مشياً سريعاً وسط المهجع جيئةً وذهاباً وعلى دفعات , كل دفعة ما يقارب الخمسة دقائق , يقف بعدها ويبدأ الدبكة وهو يغني :
على دلعونا على دلعونا بيّ بيّ الغربة الوطن حنونا
يعاود المشي السريع بعدها .. لم يكن ينظر إلى أي شخص ولا إلى أي مكان ! في المشي أو الدبكة , ينظر إلى نقطة محددة أمامه لا يحول بصره عنها !.
بعد هاتين الساعتين فتحت النافذة الصغيرة في الباب ( الطلاقة ) , نودي على رئيس المهجع , بحذر شديد أعطى الرقيب ثلاث علب دواء لأبو حسين قائلاً :
- هدول .. دواء المجنون !.
كان نسيم لحظتها قبالة الباب تماماً , سمع العبارة التي قالها الرقيب , انتفض وانطلق كالسهم اتجاه الباب , شاهده الرقيب في انطلاقته فتراجع إلى الوراء عفوياً رغم الباب المغلق .. وصل نسيم إلى الباب .. أخرج يده من الطلاقة يحاول الامساك بالرقيب وهو يصرخ :
- المجنون ؟!.. انت المجنون ولك كلب !... أبوك المجنون .... امك المجنونة ... ولك يا حيوان .... كلكم مجانين .
من الخارج سمعت صوت الرقيب يصرخ بالجندي :
- سكّر .. سكّر .. العمى .. ناقصنا مجانين ؟!.
لأول مرة منذ ما يقارب الاثني عشر عاماً أرى الشرطة خائفين , فروا من أمام نسيم في الساحة , رأيتهم مذعورين !, لأول مرة أراهم يتلقون الشتائم ولا يطلقونها !.. يتلقونها ولا يردون !.. وتساءلت :
( هل تحتاج هذه القوة الطاغية التي تمثلها الشرطة إلى الجنون ..... إلى مواجهة مجنونة .... حتى تقف عند حدها ؟ ! ) .
رفض نسيم تناول الدواء من الطبيب , وتشاور هذا مع أبو حسين بعد أن شرح له أن أي مريض بهذه الحالة يرفض تناول الدواء ويجب إجباره على ابتلاع الحبوب , وطلب منه الاستعانة بمجموعة البراعم لإعطائه الدواء بالقوة , فالمريض في هكذا حالات يمتلك قوة هائلة غير طبيعية ويحتاج إلى أربعة أو خمسة أشخاص حتى يستطيعوا إمساكه وإجباره على ابتلاع الحبوب !.
قبل الظهر تناول الدواء , نام على إثرها نوماً عميقاً , استيقظ بعد منتصف الليل وكنت اراقبه , ابتسم لي ابتسامة واهنة دون أن يتحرك من مكانه , قال لي :
- كيفك ... كيف أحوالك ؟ .
- أنا ممتاز .. انت كيف أحوالك ؟ .
- ماشي الحال .. بس نعسان .. بدي نام .
نام بعدها إلى الصباح وعندما استيقظ تصرف تصرفاً طبيعياً كما لو أنه لم يمر بأية مشكلة أو ماشابه , كان هذا رأي الجميع ... أما أنا فقد لاحظت الكثير من التغيرات الطفيفة و التي هي بنفس الوقت لها دلالاتها العميقة , هذه الملاحظات تكونت بمرور الأيام و الأسابيع التي تلت , أصبح هناك ابتسامة دائمة معلقة على شفتيه , هي ابتسامة مزيفة أو أنها ممزوجة بحزن دفين في أعماق النفس , فقد نسيم القدرة على الدهشة التي كانت من أهم سمات شخصيته , لم يعد يسخط على ما يعجبه واستمر بإضرابه عن العمل في العجين .
أوكل لي الطبيب بصفتي صديقه وجاره أمر إعطائه الدواء بانتظام , مشدداً على أنه يجب أن لا أنسى أبداً مواعيده , لأن أي انقطاع عن تناوله سيؤدي حتماً إلى عودة حالة الهياج الشديد والعدوانية !.
بقيت علاقتنا الثنائية بنفس الحميمية , استأنفنا حياتنا اليومية المشتركة كالسابق , ومرت الأيام لكنه لم يتطرق بحديثه ولا مرة إلى ما حدث , حتى موضوع إعدام الإخوة الثلاثة لم يعد إلى ذكره أبداً .
مشاعري الداخلية اتجاهه هي هي لم تتغير , لكن احساسي يقول :
" ان هناك شيئاً ما داخل نسيم ... قد مات " .
وكنت حزيناً جداً لموت هذا الشيء .
25 أيلول
الغبار يملأ الأجواء .
بعد ستة أشهر أو سبعة سأتم عامي الثاني عشر في السجن ، لقد عدت إلى عد الأيام والشهور وهذا في عرف السجناء دلالة سوء ، لكن ألا يحق لي أن أتسأل إلى متى ؟.
البعض هنا سبقوني بسنوات .. ولا زالوا ! اذا كان الأطفال الذين حكمتهم المحكمة الميدانية بالبراءة .. لا زالوا يقيمون في مهجع يسميه عناصر الشرطة مهجع البراءة ، فهل يأمل شخص مثلي .. منسيّ ، مهمل ، لا يعرف حتى لماذا هو هنا .. أن يخرج من هذا الجحيم ؟ .. هل الطريق إلى هذا السجن ذو اتجاه واحد فقط ؟ هل العبارة التي يكررها السجناء وأكاد أسمعها يوميا بأن " الداخل مفقود والخارج مولود " صحيحة ؟ لم أر أي شخص دخل هذا السجن يخرج منه ! .
فمتى .. متى يحين موعد الخلاص ؟.. لست أدري ، ومعها .. إما العجز الكامل والاستسلام للأقدار أو .. الانتحار والخلاص من هذا العذاب اليومي الذي يبدو بلا نهاية .
وتجيش نفسي بالغضب .
************
العجاج ، أو كما يسميه البعض " الطوز " .. يثورهنا في هذه الصحراء مرتين أو ثلاث مرات كل عام ، وفي سنوات القحط قد يزيد عن ذلك مرتين أو ثلاثة ، تثور العواصف الرملية فتملأ الأجواء بالغبار ويستمر ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة ، سواء استمر هبوب الريح أم توقف فإن الغبار يبقى معلقا في الهواء، نتنفس الغبار ، الأنف .. الفم .. العينان .. تمتليء كلها بالغبار ، ننام والغبار ما زال معلقا فوقنا وحولنا وداخلنا ، نستيقظ فنجد ان كل فتحات الانسان الموجودة في الرأس قد امتلأت يالتراب المسحوق الناعم، مياهنا غبار .. طعامنا غبار .
منذ صباح أول البارحة ابتدأ هبوب الرياح واشتدت عند الظهيرة ، اصبحت الرياح زوابع ، هذه الزوابع قذفت من الشراقة التي في السقف بالاضافة إلى الغبار ، مزق من أكياس بلاستيكية والكثير من القش والعيدان الجافة الخفيفة الوزن .. أشواك .. شتى النباتات الصحراوية اليابسة .
كل من لديه قطعة ثياب زائدة حاول لف رأسه بها ، الكثير من الأشخاص لم يعد يظهر من وجوهم سوى العينان .
فجأة قذفت الريح على القضبان الحديدية للشراقة صفحة كاملة من جريدة .. علقت هذه الصفحة بين القضبان !.
أنظار جميع من في المهجع تعلقت بهذه الجريدة العالقة بين القضبان في السقف ، تهزها الريح ويسمع الجميع صوت خشخشتها .
سمعت البعض يدعون ويبتهلون إلى الله ان يسقط الجريدة داخل المهجع وألا يجعلها تطير بعيدا !.
في الأجواء الطبيعية كنا نرى الحارس كل بضعة دقائق ، إما ان يطل ناظرا من الشراقة ، أو يمر من جانبها فنراه أو نرى ظله ، حتى عندما يكون بعيدا عن الشراقة فإننا نسمع وقع خطواته وهو يمشي على سطح المهجع جيئة وذهابا ،الآن لا أثر للحارس ، يبدو أنه يلوذ بأحد زوايا السطح متقيا الرياح والغبار .
كما تمنى الجميع تمنيت أنا أيضا أن تسقط الجريدة داخل المهجع ، منذ أن أصبحت في بلدي لم أر حرفا واحدا مطبوعا !، الجميع مثلي .. شوق حقيقي لرؤية الأحرف المتلاصقة ، الكلمات المطبوعة!.
هذه جريدة ، وفي الجريدة أخبار ، ونحن منذ أكثر سنتين، تاريخ قدوم آخر نزيل إلى المهجع ، لم نسمع شيئا عما يدور خارج هذه الجدران الأربعة .
سمعت نسيم يقول :
- يارب .. يارب .. ولك يالله انزلي .
كان يخاطب الجريدة ، نظرت اليه ، أنظاره معلقة بالجريدة عاليا .
الكثير من الناس وقف منتصبا ، الكثير أزاحوا عن وجوههم الأقمشة التي تلثموا بها ، من لم يقف اعتدل في جلسته ، بعض من وقف مشى بشكل عفوي إلى تحت الشراقة ، الرأس مرفوع والأعين معلقة .. الأنظار تتابع تراقص الجريدة بين القضبان !.
واحد من الواقفين تحت الشراقة ، وهو من الفرقة الفدائية ، نظر إلى الناس وقال بصوت مسموع للجميع :
- يا شباب .. هرم ؟.
على أثر سؤاله هذا قفز العديد وهم يقولون :
- هرم .. هرم .. هرم ! .
لم تستغرق عملية بناء الهرم البشري وانزال الجريدة أكثر من عشر ثوان تقريبا ، لكنها ثوان مرعبة .. خانقة وحابسة للأنفاس !.
كان من الممكن أن تكلف العديد حياتهم ، لكنها مرت بسلام .
وأصبح لدينا جريدة !.
خاطب أبو حسين الفدائي الذي أنزل الجريدة وبلهجة سريعة :
- بسرعة .. بسرعة .. ع المراحيض ، اطويها ، خلي واحد يقرأها ويحكينا شو فيها أخبار .
وركض الفدائي إلى المرحاض حاملا الجريدة .
الفرحة عمت الجميع , فرحت حقيقية , الكثير تصافحوا وتعانقوا مهنئين بعضهم بعض.. إنه انتصار آخر !.
التفتَ نسيم إلي بعد أن عانقني .. قال :
- أنت تعرف أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي كلمة " اقرأ " ؟ .
- أعرف .... و أنت تعرف أن الإنجيل يبدأ ب " في البدء كانت الكلمة " ؟.
- أعرف .. بس يا مخرج السينما شو يقول لك هذا الحدث ؟
- تريد أحكي كلام كبير .. مثل الأفلام و الروايات ؟ الحدث بيقول : إن الإنسان مستعد أن يضحي بحياته في سبيل المعرفة .
- صح .. شاطر .
وضحكنا كما لم نفعل منذ شهور .
محتويات الجريدة جاءت مخيبة للآمال قليلاً , الوجه الأول من الصفحة هو صفة الإعلانات الرسمية , و الوجه الثاني هو الصفحة الرياضية و بها أخبار الدوري العام لكرة القدم !. وهذه الصفحة أثارت زوبعة من النقاشات لم تنته حتى الآن , فبما أن المهجع يضم اناساً من جميع المحافظات , ولذلك على ضوء الأخبار الرياضية الواردة في الجريدة سرعان ما تكتلت جماهير كل نادٍ من النوادي و أخذت تفاخر بمنجزات وتاريخ انتصارات النادي الذي تشجعه .
حتى الإعلانات الرسمية أخذ الناس يقرؤونها بعناية شديدة .. النهم إلى القراءة !, عين أبو حسين شخصاً لينظم قراءة الجريدة بالدور من قبل الجميع , أصبح للجريدة مسؤول " اسماه البعض مازحين ب وزير الإعلام " , وهو الذي ينظم دور قراءتها , ينقلها من شخص لآخر وهو الذي يحدد الزمن لكل شخص .
الريح هدأت تماماً اليوم , لكن الغبار لازال معلقاً بالجو , حتى داخل المهجع الغبار يملأ كل الفراغات .
************
في الصباح أعاد الشرطة للمهجع شخصاً كان قد عوقب منذ شهر , ضبطوه في ساحة التنفس وعيونه مفتوحة , بعد أن جلدوه ونكلوا به أمامنا فيما نحن ندور حول الساحة , أمر المساعد بوضعه بالزنزانة الإنفرادية في الساحة الخامسة .
بعد أن دخل وما أن اطمأن إلى أن الشرطة أغلقوا الباب وذهبوا تنفس الصعداء , أخذ يضحك , جلس على الأرض .. وروى للجميع رحلة الشهر التي قضاها في الساحة الخامسة , بدأ حديثه بالقول :
- و الله يا شباب اشتقت لكم ... وقت دخلت المهجع حسيت إني راجع على بيتي .. يا الله .. قديش المهجع حلو !.. يا شباب جنة .. جنة .. نحن عايشين هون بالجنة ...
طفق يروي .. ويحكي يروي .. ويحكي !.
المرحاض داخل الزنزانة الإنفرادية و حتى يأمن أذى الجرذان أضطر أن يسد فتحة المرحاض بالخبز بعد أن عجنه وجعل منه سدادة , أقسم أن هناك جرذاناً بحجم الخروف الصغير !
ثلاث مرات في اليوم حفلة تعذيب أشبه ما تكون بالاستقبال في أول قدوم السجين إلى السجن .
يوضع الطعام في صحن قذر على بعد عشرة أمتار من باب الزنزانة , يفتحون الباب ... يجب أن يخرج السجين سائراً على أربعٍ كما تسير الكلاب .. وأن يظل ينبح في الذهاب , وفي الإياب بعد أن يحمل الصحن .. خلال كل هذا تكون الكرابيج قد أكلت قطعاً من لحم ظهره !!.
النوم على الاسمنت .. لا بطانيات ولا أغطية ولا أي شيء .
كان يروي ويضحك .. وجهه مشرق من الضحك ! .. (( ما الذي يضحكه ؟!)) .
************
الغبار لا زال معلقاً .
رموش الناس أصبحت بيضاء , الشرطة متوترون لكن الرقابة ضعفت , ضعفت من الأعلى " الشراقة " , وضعفت من الأسفل من الأرض .
سمعت حديثاً منذ ساعتين أثار اهتمامي ولازلت أفكر فيه .
لدينا في المهجع أربعة من البدو , هم أميون لا يعرفون القراءة أو الكتابة , مهنتهم الرئيسية رعي الأغنام و الجمال , عاشوا طوال حياتهم في هذه الصحراء المترامية يتنقلون في أرجائها من مكان لآخر طلباً للمرعى و الماء , قبض عليهم واعتقلوا وجيء بهم إلى السجن الصحراوي بتهمة مساعدة بعض المطلوبين على الفرار إلى دولة مجاورة , وعندما يسألون هنا عن ذلك يعبسون قليلاً ويجيب كبيرهم المدعو " شنيور " :
- و الله يا أخوي .. تهمة باطلة .. نحن بدو بديرة الله .. جام " أتوا " جماعة علينا .. و على عادة العرب .. رحبنا بهم , ضيفناهم من الميسور , بعدين يا خوي سألونا ع الدرب .. دليناهم , هاي فيها شيء يا خوي ؟! وبعدين يقولون لنا .. انتو عملاء .. و انتو جواسيس ! عجيبة و الله يا خوي ! عجيبة .
اليوم بعد أن سرد شنيور هذه القصة للمرة الألف تشعب الحديث كثيراً وكان كله منصباً على البدو وحياة البدو , سأله أحد أبناء المدينة من الذين لم يعرفوا في حياتهم كلها سوى ثلاثة أمكنة " البيت , الدكان , الجامع " عما إذا كان صحيحاً ما يقال عن الكرم البدوي , وعن أسبابه ومسبباته , وختم سؤاله قائلاً بتعجب :
- وكيف يا أخ شنيور .. إذا اجاك ضيف وما كان عندك غير غنمة وحدة , صحيح أنك تذبحها وتطبخها لتقدمها له ؟.. وليش هذا الشيء ؟ ايه .. عمره وانشاء الله ما بياكل ! .. انشاء الله يأكل سم .
- له .. له .. له .. يا خوي ما يصير تحجي هيج " تتكلم هكذا " .
مضى شنيور في مداخلة طويلة يشرح ويعلل ويفسر , كنت أنصت إليه قسراً لأنه جالس بالقرب من فراشي , لكنه بعد قليل شد اهتمامي بفكرة !.
قال شينور ما معناه :
- أن للكرم البدوي أسباباً عديدة , عدد عدة أسباب , لكنه قال إن أهم الاسباب هي أن البدوي يحب ضيفه .. يعشقه !.. وهذا بسبب أن البدوي يبقى أياماً وأسابيعاً وشهوراً يعيش في هذه البراري بين الكثبان الرملية و الأتربة و الغبار في وحدة مطلقة , زوجته وأولاده يعتبرهم أقل شأناً من أن يجري حديثاً معهم. لذلك وفي حالات كثيرة نرى البدوي يحادث أغنامه أو جماله !.. يكون في المرعى لا يسمعه أحد , ولأنه يحب أغنامه فإنه يجرى حديثاً معها , ولا بأس أن تتخلل هذه الحديث بعض الشتائم الموجهة إلى الأغنام المشاغبة , و البدوي عندما يصل إلى درجة أن يجري حديثاً مع الغنم .. يكون هذا دليلاً إلى أن حاجته إلى الأنس , إلى المؤانسة .. إلى الاجتماع مع أي انسان , قد بلغت مداها الأقصى , في هذا الوقت إذا حضر الضيف فسيجد حتماً شخصاً متلهفاً يغدق عليه الكثير الكثير من آيات الترحيب و المحبة , يقدم له أفضل ما عنده من كل شيء .. وهذا من حيث لا يدري مكافأة له على مجيئه , وإغراءً له للبقاء أطول مدة ممكنة .
" يبدوا أن العزلة تعلم الحكمة , هذا البدوي فيلسوف حكيم !.. شكراً لك يا شينور , لقد أزلت من نفسي قلقاً مبهماً كان يقض مضجعي .. قد كانت عزلتي في المهجع أسوأ من عزلة أي بدوي في الصحراء , وفجأة اصبح نسيم ضيفي , مع نسيم جاء الأنس و المؤانسة , فطبيعي جداً حسب شرح شينور أن تكون عواطفي جياشة تجاهه " .
التفت إلى نسيم بابتسامة ود وحب , أجابني بابتسامة – مع الاستمرار بتناول الدواء يصبح وضعه أقرب إلى الطبيعي – قلت له :
- أنا رايح اغسل وجهي من آثار الغبار .
اكتفى بهز رأسه .
17 أيار .
لا أدري كم كان الوقت , أعتقد أنه بعد منتصف الليل , نسيم نائم إلى جانبي , الدواء الذي يتناوله يجعله ينام بعمق , لم أكن قد نمت بعد .
سمعت حركة في الساحة , جلست , نويت أن أنظر من الثقب لأرى ما يفعلون , قبل أن أمد يدي لفتح الثقب سمعت أحد الشرطة يصرخ بصوت عالٍ .. لم أفهم ماذا يقول , عاد لتكرار صراخه , إنه يقول اسماً ثلاثياً , أنصت أكثر .. يصرخ :
- يا مهاجع الساحة السادسة .. مين عنده هذا الاسم ؟.
وقال الاسم الثلاثي مرة ثالثة .
إنه اسمي !!.
لأجزاء من الثانية كنت أتساءل من هو صاحب هذا الاسم ؟.. وقعه ليس غريباً علي .. كأنني سمعت هذا الاسم يوماً ما !! .. إنه اسمي .
ما الذي يجري ؟ ما هذا ؟ .. لماذا ينادون اسمي ؟ أصابني شيء أقرب إلى البلاهة , اتلفت حولي مستغرباً متسائلاً ! .
صاح أبو حسين وكان مستيقظاً :
- يا شباب .. في حدا عندنا به الاسم ؟.
رفعت سبابتي عالياً كما يفعل التلاميذ الصغار , رفعتها في وجه أبو حسين دون أن أنطق حرفاً .
وعاد الشرطي يصرخ بالاسم مرة أخرى .
انتقلت بلاهتي إلى أبو حسين , فغر فمه , عيناه متسعتان دهشة :
- هذا الاسم اسمك ؟.
هززت رأسي مومئاً بالإيجاب .
وبسرعة رمى أبو حسين جسده الثقيل اتجاه الباب , بدأ يدقه بسرعة وقوة وهو يصرخ :
- هون يا سيدي .. هون .. هذا الاسم في المهجع الجديد رقم /8/ .
هدأ كل شيء. فجأة , لم يعد يصرخ أحد .
بعد دقيقة أو أكثر فتح الباب , وقف الرقيب ومعه شرطيان , توجه إلى أبو حسين سائلاً :
- هذا الإسم عندك .. يا رئيس المهجع ؟
- نعم سيدي .. هذا هو .
و أشار باصبعه اتجاهي , اقترب الرقيب مني , نظر بعيني غاضباً , سأل :
- هذا اسمك ؟
- نعم سيدي .
رفع يده عالياً وبكل قوته هوى بباطن يده على خدي الأيمن , دار جسدي كله ربع دوره , بسرعة البرق ألحقها بلطمة على خدي الأيسر بقفا يده اعادتني إلى الوضع الطبيعي , عادت النجوم لتتراقص أمام عيناي , قال غاضباً :
- يا جحش .... يا ابن الكلب .... صار لنا ساعتين ندور عليك ونصرخ .. ليش ما عم تجاوب يا شرموط .. ؟
سكت .
مد يده , وبقوة سحبني من صدري ليقذف بي خارج المهجع , وأغلق الباب .
أُغلق باب المهجع في وجهي إلى الأبد .
ضرباً .. ركضاً , الرقيب وعنصرا الشرطة من الخلف , يسوقوني أمامهم , من الساحة السادسة , إلى الساحة صفر !. ومنها إلى الباب الحديدي الصغير , أصبحت أمام السجن , حانت مني التفاتة صغيرة , لازالت المنحوتة الحجرية في مكانها :
" ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب "
منذ أكثر من اثنتي عشرة عاماً قرأت هذه المنحوته، ودخلت. الآن اقرأ هذه المنحوته وأخرج , إلى أين ؟ .. لست أدري !!.
ثلاثة رجال في اللباس المدني تقدموا مني , أحدهم طويل جداً , يزيدني بما يقارب النصف متر , تقدم مني وفتح ورقة كانت مطوية في يده وسأل :
- أنت فلان ؟
- نعم .
- ابن فلان وفلانة ؟
- نعم .
- أنت كذا ... كذا .. نعم – أنت ..؟ .. نعم .
التفت إلى رفيقيه , قال :
- هات الكلبشة .
ناوله أحدهم الكلبشة , الكلبشة الاسبانية .
مددت يدي إلى الأمام , البسهما الكلبشة , طقطقة ناعمة , أصبحت يداي مقيدتين إلى الأمام , ثم وقع بعض الأوراق وسحبني إلى مسافة خمسين متراً .
سيارة تكسي " بيجو فرنسية "، السائق يجلس خلف المقود , جلس الطويل إلى جانبه , جلست بين الاثنين الآخرين في المقعد الخلفي , انطلقت السيارة في عتمة الليل , أنوارها تشق الظلام شقاً .
لم يتكلموا بشيء , لم يضربوني أو يزعجوني ابداً , تعاملوا وكأني غير موجود معهم , بعد قليل من انطلاقة السيارة سأل الطويل عن الساعة فأجابوه أنها الثانية و النصف بعد منتصف الليل , قال إنه سينام حوالي الساعة .
بعد ساعة نام الجميع عداي و السائق الذي ينظر إلي بمرآة السيارة على فترات متباعدة , أغمضت عيوني لأوهمه أنني نائم , وتساءلت :
- يا هل ترى .. إلى أين ؟ قلبت الأمر من جميع الوجوه , خرجت بنتيجة انه مهما كان المكان الذي سيأخذوني إليه فإنه حتماً سيكون أفضل .
ارتحت قليلاً، فكرت بنسيم .. ماذا سيقول , و ماذا سيفعل عندما يستيقظ صباحاً فلا يجدني إلى جانبه ؟!.. اشتقت إليه .
استرخيت قليلاً وكان يمكن أن أغفوا ولكن فجأة ترنحت السيارة , السائق أخذ يصيح :
- يا لطيف .. يا ستار .. يا لطيف .
استيقظ الجميع وصرخوا , لقد انفجر الإطار الخلفي للسيارة , استطاع السائق بمهارة فائقة أن يسيطر عليها بعد أن خرجت عن الطريق وتوغلت في رمال الصحراء .
وصلنا العاصمة قبيل الظهر , استغرق اصلاح الإطار عدة ساعات , فقد كنا في الصحراء وأقرب نقطة إلينا تبعد عشرات الكيلومترات .
هذه مدينتي .. لم أعرف شيئاً في الشوارع التي كنا نسير فيها !.. مدينتي التي ولدت فيها وترعرعت وكنت أحسب نفسي ضليعاً في معرفتها , لم أعرف في أي شارع نحن ولا إلى أين نتجه !.. لقد تغيرت إلى درجة يصعب على من غاب عنها هذه المدة أن يعرفها , إلى أن وصلنا إلى الساحة المركزية للمدينة , ها أنا أعود إلى مدينتي التي أعرفها , هذه النوافير .. هي .. هي .. عندما كنت طفلاً كان يطيب لي أن أقف تحت رذاذها المتطاير .. فأشعر بالإنتعاش , ومن هذه الساحة عرفت أن السيارة تتجه نحو مركز المخابرات الذي حللت فيه لدى عودتي .
ترى هل مازال أبو رمزت و أيوب هناك ؟ .. خيزرانة أيوب التي تبدو لي الآن كلعب الأطفال أمام ما شاهدت وذقت .. هناك !.
السيارة تتوقف عند اشارات المرور , انظر إلى الناس , اتفحص وجوههم , ما هذه اللامبالاة .. ترى كم واحداً منهم يعرف ماذا جرى ويجري في السجن الصحراوي ؟ .. ترى كم واحداً منهم يهتم ؟ أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيراً ؟ .. يتغنون به .. يمجدونه .. يؤلهونه ! ... ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلده ؟! إذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة , و إذا كان يعرف ولم يفعل شيئاً لتغيير ذلك فالمصيبة أعظم , استنتجت أن هذا الشعب إما أن يكون مخدراً .. أو أبلهَ ! ... شعب من البلهاء , هل يعرف أحد من هذه الجموع .. هذا البقال .. هذه الفتاة التي تسير سعيدة مبتسمة وهي تتأبط حبيبها .. من هو نسيم ؟ ... نسيم الذي يقبع الآن في السجن الصحراوي ينتظر من يناوله دواءه , نسيم الذي جن لأنه لم يستطيع أن يتصالح مع هذا الواقع .
انتبهت لنفسي , مالي أفكر غاضباً هكذا ! هل أصبحت سياسياً ؟ ... ابتسمت رغماً عني , هل أتوقع أن يخرج هذا الشعب في مظاهرات عارمة للمطالبة بإطلاق سراحي من السجن ؟ .. من أنا ؟ ! .
يا إلهي ما أكثر الناس , أحدق في الوجوه , بيتنا قريب من المكان الذي تتجه إليه السيارة , قد يحالفني الحظ فأحظي بمشاهدة أمي أو أبي أو أحد أخوتي , لا بل يكفي أي وجه أعرفه .
انحرفت السيارة عن الطريق الذي كنت أتوقعه و الذي يؤدي إلى ذلك المبنى الكئيب القريب من بيتنا , سارت بإتجاه الجنوب الغربي مخترقة المدينة من الشمال إلى الجنوب , مررنا بمعالم كثيرة أعرفها , أحن إليها , ها هي الجامعة و الطلاب و الطالبات داخلين خارجين , لا أذكر من حياتي إلا أنني كنت طالباً والآن أمشي سريعاً في العقد الخامس من عمري ! .
مبنىً ضخم , حراسات مشددة , الدخول صعب ومعقد حتى على سيارات الأمن , انتظرنا أكثر من عشر دقائق , اتصالات واستفسارات , سمحوا للسيارة بتجاوز الحاجز , دخلنا وأصبحنا أمام البناء , أنزلوني أمام باب زجاجي عريض , البلاط يلمع , كل شيء يوحي بالنظافة و النظام , ذهب الطويل حاملاً معه الأوراق , دخل أول غرفة إلى اليسار , لم يطلب مني أحد أن أغمض عيني أو أنكس رأسي , لكن رأسي نصف منكس بحكم العادة , عاد الطويل وقال للاثنين اللذين معي بعد ان ناولهما الأوراق :
- نزلوه ع السجن .
مباشرة قبالة المكان الذي كنا نقف فيه , نزلنا الأدراج .. أدراج .. ثم نلف ثم أدراج .. باب عبارة عن قضبان حديدية , قفل ضخم , يدقون الباب , يحضر سجان سمين يحمل بيده كدسة من المفاتيح , يعطوه الأوراق , يفتح الباب يدفعوني إلى الداخل , يغلق الباب , ينصرف الاثنان .. ثم :
- انتظر هون .. لا تتحرك .
يذهب حاملاً الأوراق إلى غرفة في صدر رواق طويل , يظهر على باب الغرفة التي دخل إليها , يناديني , أذهب إليه , يدخلني الغرفة فأرى رجلاً أشيب وراء طاولة ينظر إلي , يطلب مني أن أخرج من جيوبي جميع أغراضي .
- ما عندي شيء .
- ابداً .. أبداً ؟ ما عندك مصاري ؟ .. ما عندك أغراض ؟ .
- ما عندي شيء .
- طيب .. ما عندك هوية ؟ .. جواز سفر ؟ .
- لا لا ما عندي شيء , جواز سفري وهويتي أخذوها مني في السجن الصحراوي .
- ما رجعوها إلك ؟ .
- لا ما رجعوها سيدي .
- طيب .. جسمك نظيف ؟ .
- نظيف سيدي .. نظيف , البارحة تحممت .
- يعني .. ما عندك قمل ؟
- قمل ؟ .. في عندي قمل كثير .. سيدي .
- وبتقول انك نظيف !!.
- التفت إلى السجان , طلب منه أن يأخذني إلى الحمام وبعد أن أنتهي من الحمام أن يضعني في المنفردة رقم /17/ , ثم قال لي :
- الحمام ساخن , فوت ع الحمام .. أول مرة اغسل كل ثيابك بشكل جيد , بعد غسيل الثياب تحمم أنت .. ب تظل تتحمم وتغسل الثياب حتى تحس أنه ما ظل عندك ولا قملة , أحسن ما تملي السجن هون قمل .
- حاضر سيدي .
أخذني السجان , أدخلني الحمام المليء بالبخار , قبل أن يغلق الباب علي قال :
- أعمل مثل ما قال لك المساعد , بس تخلص دق الباب .. مفهوم ؟ .
- نعم سيدي .
الحمام كان ممتعاً , انتهيت، دققت الباب، لملمت ثيابي التي غسلتها جيداً , لم أستطع أن أعصرها بقوة لأنها مهترئة , فتح السجان الباب ورآني أحاول أن ألبس الثياب المغسولة , أمرني أن أمشي قبل أن ألبس .. قلت له لا يجوز , صرخ :
- اطلع ولا .. شو مانك رجّال ؟ .. بعدين على شو خايف ؟ !.. على ه الطيز متل طيز القرد !!.
سترت عورتي من الأمام بثيابي المبللة , مشيت خلف السجان , وصلنا باباً عليه رقم /17/ ففتحه , دفعني , وأغلق الباب ورائي .
ها أنا لوحدي .. في زنزانة مطلية باللون الأخضر الفاتح , البطانيات على الأرض , الزنزانة واسعة قد تبلغ أكثر من ثلاثة أمتار مربعة , في سقفها فتحتان اكتشفت أنهما للتهوية , واحدة لسحب الهواء الفاسد و الآخرى لضخ الهواء الخارجي .
نشرت ثيابي المبللة على الأرض , جلست على البطانيات .. تغطيت بواحدة , الجو هنا حار , بعد قليل تمددت وغفوت .
استيقظت على الصوت المرعب , صوت قرقعة المفتاح الحديدي في الباب الحديدي , صرير الحديد بالحديد , جلست وأحكمت لف البطانية حول وسطي , انفتح الباب وظهر رجلان , أحدهما كهل و الأخر شاب ومعهما سجل , سألني عن اسمي وعمري , مكان ولادتي , كل المعلومات الخاصة المتعلقة بي سجلها , أغلق السجل وسألني عن سبب نومي عارياً , أجبته بأن الثياب الوحيدة التي أملكها مغسولة .. وهي لم تجف بعد , التفت إلى الشاب وقال :
- روح ع المهجع , قول لهم أنه في واحد سجين ما عنده ثياب .
- حاضر .
أغلق الباب , بعد ربع ساعة عاد الشاب حاملاً صرة من الثياب , بيجاما رياضية , غيار داخلي .. سليب وليس سروالاً شرعياً يصل حد الركبة , جميعها جديدة .. ظهرتُ بمظهر جديد .
20 آيار .
ثلاثة أيام منذ أن غادرت السجن الصحراوي ومجيئي إلى هنا لم أر خلالها أحداً غير السجانين , ثلاث مرات في اليوم يفتحون الباب لإدخال الطعام , وبعد ساعة تقريباً من ادخال الطعام يفتحونه ثانية لإخراج الصحون و للخروج للمرحاض و المغاسل – يسمون المرحاض هنا " الخط " لم أستطع أن أعرف سبب هذه التسمية!.
الطعام هنا أفضل من هناك , يصل إلى السجين القليل من قطع اللحم , و الطعام أكثر نظافة .. وتنوعاً .
أنتظر بقلق يزداد كلما مر يوم دون أن أعرف سبب نقلي إلى هنا , المعاملة هنا جيدة نسبياً .. باستثناء بعض الصفعات على الوجه و الرقبة أثناء الخروج إلى المرحاض أو العودة منه , لم أتعرض إلى أي تعذيب جسدي مباشر , لكن أصوات التعذيب التي تصل جلية واضحة إلى جميع المنفردات تغدو مع الوقت أكثر استفزازاً ومدعاة للتوتر و الخوف , كل يوم من الثامنة و النصف صباحاً تبدأ صرخات الألم و التوسل , وتنتهي عند الثانية والنصف , لتعاود الاسطوانة عزفها من السادسة مساءً وحتى ساعة متأخرة من الليل .
أحاول تجاهلها .. نسيانها أو التغاضي عنها .. لا أفلح .
21 أيار .
اليوم مساءً فتحوا باب زنزانتي وطلب العنصر خروجي , خرجت , أمسكني من يدي وقادني إلى باب الأدراج ذي القضبان المعدنية , فتح الباب , سلمني إلى عنصر آخر كان واقفاً أمام الباب , قادني هذا الآخر صعوداً , وصلنا إلى البلاط الملمع , سحبني خلال الممر اليميني إلى آخر غرفة , أدخلني فيها , خرج وأغلق الباب دون أن ينطق حرفاً , ليس في الغرفة إلا طاولة وكرسي واحد فقط .
دخل رجل في الأربعين وبيده كدسة أوراق بيضاء وقلم حبر ناشف , سألني إن كنت أنا .. أنا , أجبت نعم أنا , وضع الأوراق و القلم على الطاولة , أمرني أن أجلس , جلست على الكرسي خلف الطاولة. "هذه هي المرة الأولى التي أجلس فيها على كرسي منذ / 12/ سنة". قال :
- هذه أوراق .. هذا قلم , نريد منك تكتب تاريخ حياتك من ولادتك وحتى الآن , مفهوم ؟.
- نعم مفهوم .
خرج , وبدأت أكتب .. استذكر وأكتب , أفكر ماذا يريدون بالضبط ؟.. لا أعرف وأكتب , ساعة .. ساعتان وأكتب , فتح الباب خلالها مرتين وعندما يرون انهماكي في الكتابة يخرجون دون أن يقولوا شيئاً ..، أكتب , القلم .. الورقة .. افتقدتهما سنوات طويلة , كانا أمراً عادياً , بديهياً وفي متناول اليد دائماً , وعندما تفقدهما .. تفكر طويلاً : كم أنفقت البشرية من زمن وجهد حتى استطاعت اختراع وإيجاد الورق ؟ كم لزمها .. حتى اخترعت القلم الذي نكتب به بسهولة ؟ كم هما عزيزان .. اثيران إلى قلبي , واكتب .. أغوص في التفاصيل الصغيرة , استذكر المدارس التي درست في صفوفها , أهلي .. أصدقائي , أصبحت هذه الكتابة متعة لي , لا أريد مفارقة الورقة و القلم .
يدخل الرجل الذي قادني .. يحدق بي , يقول :
- لو كنت عم تكتب تاريخ العالم كنت خلصت هلق .. العمى ليش لهلق ؟ !
- أعطيني كم دقيقة .. أكون خالص .
بعد دقائق اسلمه الأوراق و القلم .. يقول لي :
- خليك هون .
ويذهب , عاد بعد أقل من ساعة بقليل مع شخص ذي هيبة , الأوراق التي كتبتها بيد الشخص ذي الهيبة , حدق هذا فيّ قليلاً وقال :
- كل شيء كتبته .. اسمه: أكل خرى. هاي أوراق جديدة وهذا قلم. أكتب لنا .. المفيد و المختصر .
رموا بالقلم و الأوراق على الطاولة وذهبوا .
بدأت أكتب من جديد ولكن بنفس المتعة , أعدت ما كنت قد كتبته سابقاً , ليس لدي جديد , لقد كنت صادقاً في كل ما كتبت , طلبوا تاريخ حياتي وقد كتبته لهم في بضع صفحات , و كل ما كتبت كان صحيحاً فليس لدي شيء أخفيه أو أخاف من قوله، ولكن لماذا يطلبون مني كتابة ما كنت قد كتبته سابقاً ؟ .. لست أدري .
ومن جديد أخذوا ما كتبت , عاد الرجل الأول بعد أقل من ساعة , قال :
- يا الله .. أمشي .
بنفس الطريقة عدنا , ودخلت إلى زنزانتي .
22 أيار .
اليوم مساءً فتح باب زنزانتي , طلب العنصر خروجي , خرجت .. ممرات .. ادراج .. أبواب حديدية , ممر إلى اليمين ملمع البلاط .. أول غرفة إلى اليسار .
رجل يضع نظارات طبية , يجلس وراء مكتب أسود , أمام المكتب كرسي بلاستيكي , رفع رأسه , خلع النظارات الطبية , أشار لي أن اجلس فجلست على الكرسي , وبعد قليل وضع النظارات , أمسك القلم , يسال , أجيب , يسجل دون أن ينظر اليّ :
- اسمك , اسم أبوك , اسم أمك , أخوتك الذكور , أخواتك البنات , أعمامك , أخوالك , اصدقاؤك هنا , أصدقاؤك في فرنسا , اسماؤهم الثلاثية جميعاً , انتماءاتهم الحزبية وعند هذا السؤال قلت :
- لا أعرف .
لم يجادل , لم يكذبني , كتب على الورقة التي أمامه .. لا يعرف .
ثم سألني الكثير من الاسئلة , كلها سياسية .. عن الأحزاب التي انتميت إليها , وأخيراً قال لي :
- هل لديك أقوال أخرى ؟
- لا .
- خليك هون .
لملم أوراقه وذهب , بعد حوالي الساعة أتى عنصر أعادني إلى زنزانتي , جلست .
طوال الوقت أسمع صراخ امرأة .. إنهم يعذبونها !.
23 أيار .
في آخر الليل ، أعادوني إلى الزنزانة محطما .
في أول الليل فتحوا باب زنزانتي وأمروني أن أخرج ، خرجت كالعادة ، لم يكن هناك أدراج ، أخذوني إلى آخر غرفة في صف الزنازين ، وضع السجان الطماشة على عينيّ ودفعني إلى داخل الغرفة !.
سألت نفسي : هل انتهى شهر العسل ؟.
أوقفتني أيدي السجان ، جاءني صوت من أمامي :
- نحن عاملناك معاملة راقية .. لأنه أهلك جماعة طيبين ، بس أنت ما فيك ذوق ، كل ه العلاك والحكي الفارغ .. ما ينفع ، كلمتين ورد غطاهن : يا إما تقول لي إلى أي تنظيم تنتمي .. يا إما خليك تشوف نجوم الضهر .. ها شو قلت .. ؟.
- يا سيدي .. أنا ما انتميت لأي تنظيم .. بس أنا رحت ع السجن الصحراوي بتهمة الأخوان المسلمين .
- شو اخوان .. شو خرى !.. شلون مسيحي وأخوان مسلمين ؟.. هذا كان خطأ ، وهلق لازم نصحح الخطأ ، لأي تنظيم أنت منتسب ؟ .
- أنا ما انتسبت لأي تنظيم .
- يبدو انك جحش .. ما تفهم ! .. أي .. أي واحد يحكي مثل الحكي ياللي أنت حاكيه لازم يكون عنده تنظيم !.
ثم سمعته يخاطب آخرين في الغرفة :
- خذوه على بساط الريح وبس يقرر يعترف .. هاتوه لهون !.
سحبوني بعنف ، رغم كل شيء فقد ارتحت قليلا لأنني عرفت أن أهلي قد أصبحوا ورائي ، القوني على لوح خشبي ، ربطوني من جميع أنحاء جسمي ، رفعوا الجزء السفلي من اللوح الخشبي عاليا .. ثبتوه .
بدأ الضرب .. وبدأ الصراخ .
كنت أتألم بشدة ، لكنني لم أكن خائفا ولا هلعا ، أنا الآن " صاحب خبرة وتجربة " ، لقد رأيت وسمعت الكثير من الحالات أمامي .. ومنها تعلمت وحفظت .
كما لرجال الأمن دروسهم وقواعدهم ، فإن للسجناء أيضا قواعدهم ووصاياهم ، وهنا كان أهم وصيتين :
الأولى : مهما تألمت من التعذيب فلا تعترف بشيء لكي تتخلص من الألم ، لأن الأعتراف مهما كان صغيراً سيجعلهم يعرفون أنك قد ضعفت ، لذلك فان كمية التعذيب ستزيد لانتزاع المزيد من الاعترافات بدلاً من أن تنتهي .
الثانية : اذا طلبوا منك أن تتعاون معهم وتصبح مخبراً لديهم مقابل أن يطلقوا سراحك ، فلا تقبل مطلقا ، لأنك إن قبلت تكون قد تورطت ورطة تدوم مدى الحياة ، وهم دائما يكذبون !.
كنت أتألم .. لكن لم أعد الضربات ، فكرت بأمور شتى ، أهلي .. نسيم .. كل هذا وأنا أصرخ بصوت عال !.
بعد فترة أحسست أن قدميّ قد تخدرتا ، احساسي بالألم خف كثيرا .. وغدا الأمر ميكانيكيا ، يضربون ، أتألم قليلا ، أصرخ عاليا .
انتهت لعبة عد الأصابع لصالحي !.. إما انهم تعبوا ، أو ملوا ، أو اقتنعوا أنني لا أنتمي لأي تنظيم .
تركوني بناء على أوامر "الصوت الذي كان في الغرفة" :
- اتركوه .. اتركوه ، خذوه ع الزنزانة ، العمى ما أيبس رأسه .. مثل رأس الجحش !.
أمشي بصعوبة ، محطماً بدنيا .. لكن بمعنويات جد مرتفعة ، أعادوني إلى زنزانتي .
لم ألبث أن نمت .
24 أيار
اليوم صباحاً فتحوا باب زنزانتي , أخرجوني , طمشوني فوراً , ومن خلال السير عرفت أنني اصعد الأدراج و السلالم , قادوني لا أدري بأي اتجاه , دق العنصر أحد الأبواب .. أدخل , دخل , خبطة قدم .. احترامي سيدي .
قال صوت أجش ثخين :
- ارفع الطماشة عن عيونه .. وروح أنت .
رفع العنصر الطماشة , ثلاثة رجال في منتصف العمر .. أحدهم يجلس خلف مكتبٍ فخم وأنيق, الآخران يجلسان إلى جانبي المكتب , جميعهم صامتون , ستة عيون تحدق فيّ مباشرة , يفحصوني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي , ستة عيون قاسية .. ثاقبة .. أحسست أنني أتعرى من الداخل , ستة عيون يسيل منها مزيج من الدهاء و الذكاء .. مزيج من القسوة و السطوة .. مزيج من الترفع و العنجهية .. عيون رأت عشرات الآلاف من أمثالي .. عيون قد شبعت من كل شيء !.. عيون ضجرة ملولة .
فوراً قدرت أن هؤلاء الرجال الثلاثة هم أهم من قابلتهم من المسؤولين و المحققين حتى الآن , وأن مصيري كله سيتقرر في هذه الجلسة , قررت أن أكون جريئاً .. أن ادافع عن نفسي بقوة , أن أستفيد من كل ما سمعته وما مر بي , سأواجههم , لذلك وقبل أن يتفوهوا بأي كلمة بادرتهم بالسؤال مستجمعاً كل شجاعتي :
- إذا ممكن تسمحوا لي بسؤال .. أنا ليش هون ؟ .. ما هي جريمتي حتى أبقى في السجن أكثر من /12/ سنة ؟ .. شو عملت ؟.. ممكن واحد منكم يجاوبوني على هذا السؤال ؟ .
قال الرجل الجالس خلف المكتب , هو نفس الصوت الأجش :
- أولاً أخرس , ثانياً أنت هون اتجاوب على الأسئلة مو تطرح أسئلة , ثالثاً رغم هيك .. راح نقول لك ليش أنت هون وما هي جريمتك .. يا مجرم .
سكت قليلاً ثم أردف :
- اسحب ه الكرسي .. أجلس .
سحبت الكرسي وجلست .
- أنت مخرج سينمائي .. ولا ؟
- نعم سيدي .
- أنت عم تقول أنك ما انتسبت لاي تنظيم سياسي معارض للدولة .. أنا راح صدقك , لكن إذا ظهر عكس هذا الكلام .. أنا بإيدي راح أعدمك .. مفهوم ؟
- نعم سيدي .
- طيب .. أنا راح أقرأ لك مجموعة أسماء و أي اسم تعرفه قول .. مفهوم ؟
- نعم سيدي
قرأ ثلاثة أسماء لا أعرفهم , قرأ الاسم الرابع , الاسم الثلاثي لصديقي أنطوان , عندها رفعت يدي مسرعاً , وكأني أريد أن اثبت مصداقيتي .. صرخت :
- هذا يا سيدي .. أنطوان .. هو صديقي بفرنسا .
- هاه .. وصلنا لشيء مفيد .. أنت تعرف أن هذا أنطوان من أخطر الناس ؟ .. هو شيوعي معارض للنظام , يعني مو مثل خالك , رغم أن خالك شيوعي .. خالك رجل كثير وطني ومخلص , ونحن نحترمه كثير , بس أنطوان .. أنطوان عميل !.. أنطوان ضد الوطن !.. وأكيد هو حرضك حتى تحكي ضد الوطن .. مو هيك ؟ .
- لأ .. لأ سيدي , أنطوان ما كان يحكي معي بالسياسة .
- لكن .. أنت من وين جايب هذا الحكي المكتوب بالتقرير ؟ .
- أي حكي .. وأي تقرير ؟.
- مشان ما وجع راسك .. وتوجع راسنا راح أقرأ لك التقرير , وبعدين تجاوبني , اتفقنا ؟
- طيب .
فتح اضبارة أمامه , تفحص عدة أوراق , سحب ورقة منها , نظر إليها ملياً وطفق يقرأ .
" بتاريخ كذا .. وكذا .. دعيت إلى سهرة مع صديقتي الفرنسية , السهرة كانت في بيت المدعو أنطوان , وكان حاضراً في السهرة , فلان وفلان وفلان .. كلّ منهم بصحبة صديقته ..
توقف عن القراءة قليلاً قائلاً :
- شو بدنا بكل ه العلاك .. وين الفقرة الخاصة فيك .. وين ها .. هذه الفقرة ..
......... عند نهاية النقاش بقي هناك شخص لم يشارك في الحديث لم أعرف رأيه , وهو المدعو فلان الفلاني , وهو طالب من العاصمة يدرس الإخراج السينمائي هنا في فرنسا , وقد أمضى فترة النقاش ينظر إلينا مبتسماً , وأحياناً يحادث صديقته .
توجهت إليه بالسؤال عن رأيه عما دار من حديث، ولكي أدعه يطمئن تابعت تهجمي على السلطة السياسية.
ضحك وقال كلاماً جارحاً بحق الرفيق الأمين العام رئيس الجمهورية المفدى , وأنا ألآن سأورد كلامه كما ورد على لسانه مضطراً رغم أنني محرجٌ جداً , وأربأ بقلمي أن يخط هكذا عبارات !.. وسيادتكم تعلمون أنني على استعداد لأن أقطع لساني ولا أدعه يتلفظ بهكذا عبارات مقذعة بحق الإنسان الذي نجله ونحترمه .. لا بل نعبده .. السيد الرئيس حماه الله ونصره , ولتكن أرواحنا فداءً له .
ولكن تسجيلي لهذه العبارات إنما الهدف منه أن تكون الجهات الأمنية الساهرة على أمن الوطن على علمٍ بكل شيء , وأن تكون في صورة الموضوع , قال المدعو فلان رداً على تساؤلي .. و بالحرف الواحد :
- أنا بالحقيقة لا استسيغ ولا أحب النقاشات السياسية , وكرجل يهوى ويعمل في مجال الفن السينمائي فإنني أهتم بالصوت و الصورة , لا تهمني السياسيات الاقتصادية أو السياسية , لا أستطيع أن أحكم على النظام أو على السلطة من خلالها , أنا أحكم من خلال الصوت و الصورة .
إذا كانت الرسالة تعرف من عنوانها , فإن عنوان هذا النظام هو الرئيس .. فماذا يقول الصوت ؟.. إن صوت هذا الرئيس مثل صوت التيس .. و التيس كما تعرفون هو من أنتن الحيوانات وأعندها , وأنا لا أحب النتانة و لا العناد .
أما الصورة فتقول , إن رأسه مثل رأس البغل , وأنا أكره البغال كثيراً .. لسبب بسيط هو أنها ليست أصيلة , لو كان حماراً لأحببته , لأنه في هذه الحالة ينتمي إلى سلالة الحمير الأصيلة و العريقة .
لهذين السببين يا أخي , فإنني لا أحب هذا الرئيس ولا أحب هذا النظام .
وقد ضحك جميع الحاضرين في الجلسة .. هذا هو رأي .. " .
عند هذه العبارة توقف الصوت الأجش عن القراءة , نظر إليّ بعمق وحقد وهو يطوي الأوراق الموجودة أمامه , ثم قال بلهجة استهزاء :
- نحن قلنا لك عن سبب وجودك هون .. عن جريمتك , وانت لازم هلق تقول لنا لأي تنظيم أنت منتسب .. هذا الكلام الوارد بالتقرير كلامك وإلا لأ ؟ .. احكي .
فيما كان يقرأ التقرير كان عقلي يعمل بسرعة مذهلة , كل حواسي كانت مستنفرة , كنت اسمع بنصف عقلي و النصف الآخر كان يفكر , حاولت تذكر السهرة فلم أفلح !.. التقطت التاريخ المذكور في التقرير , أكثر من ثلاث سنوات قبل عودتي إلى بلدي , يضاف إليها أكثر من إثنتي عشر عاماً قضيتها في السجن !.. كيف لي أن أتذكر سهرة من مئات السهرات التي كنا نقيمها ؟.. حتى أشخاص السهرة لم أتذكر منهم سوى صديقي أنطوان !.. وهذا كنت معه يومياً تقريباً , لم أتذكر .. لم أتذكر .
أما كلامي الوارد في التقرير فهو يندرج في عداد النكات , وكانت هناك آلاف النكات , قسم كبير منها يتناول رجال السياسة و الرئيس شخصياً , ولا تخلو سهرة من سهراتنا كطلاب من عشرات النكات , فلماذا هذه النكتة بالذات – على فرض أني قلتها – يكون ثمنها باهظاً إلى هذه الدرجة ؟!
أجبت على السؤال الذي وجهه لي ..
- هذا التقرير الذي قرأته و عمره أكثر من خمسة عشر عاماً , لا أذكر أني حكيت هيك كلام , وعلى فرض أني حكيته .. هذه نكتة لا أكثر و لا أقل , وأنت تعرف أنه في مئات النكات من هذه الشاكلة .
- حتى لو كانت نكتة .. هذه النكتة عقوبتها من سنة إلى ثلاث سنوات .
- بس أنا صار لي /12/ سنة في السجن !.
- ال/12/ سنة انساهم , هدول نتيجة خطأ نحن غير مسؤولين عنه , حسابك يبدأ من هذه اللحظة , وهلق احكي لنا عن تنظيمك .. ولأي تنظيم تنتمي .
- أنا منتسب إلى تنظيم .. الإخوان المسلمين !.
انفجروا بالضحك .. ومد الصوت الأجش يده ليكبس زر الجرس , ظهر العنصر على الباب فوراً , خاطبه ولا زالت أثار الضحك بادية عليه :
- رجعه ع الزنزانة .. وقول لمدير السجن .. لا تزعجوه .
- حاضر سيدي .
يبدوا أنهم كانوا قد درسوا القضية واتخذوا قراراً، وكل الدلائل تشير إلى أن هذا القرار لصالحي .
ولكن مادور خالي في كل هذا ؟ .. لست أدري .
10 حزيران .
أكثر من نصف شهر لم يحدث خلالها شيء , أصوات التعذيب أنهكت أعصابي , أن تتعذب أنت أهون من أن تسمع أصوات الصراخ الإنساني ليلاً نهاراً , أحاول أن أتلهى بقراءة الأسماء الموجودة على حيطان الزنزانة , جميعها مكتوبة بواسطة شيء معدني .. مسمار مثلاً , محفورة بالطلاء الأخضر الفاتح , الكثير من الأشعار , أسماء ذكور و إناث , بعضهم يكتب اسم مدينته أو حزبه السياسي , أحدهم كان يخط خطوطاً متوازية إلى جانب اسمه .. يبدو أن كل خط يمثل يوماً , عددتها: ثلاثة وثلاثين خطاً .
21 حزيران .
أخرجني السجان وهو يطلب مني أن أحمل كل أشيائي , صعدنا إلى فوق دون طماشة ودون قيود , أدخلني بالمراسيم المعتادة إلى غرفة " الصوت الأجش " الذي بادر بأن طلب مني الجلوس .
تكلم معي أكثر من عشر دقائق , أفهمني أنهم كانوا ينوون إطلاق سراحي , و أنهم يحترمون خالي الذي يتدخل لصالحي كثيراً لأنه إنسان جيد , إلا أن هناك جهات أمنية أخرى اعترضت على ذلك وطالبت بتسليمي إليها و أنهم مضطرون آسفين لتسليمي إليهم .
بعد ذلك بقي حوالي عشر دقائق اخرى يحاول أن يفهمني أمراً ولكن مداورة , وتبين لي أنه لا يريد أن يخوض فيه صراحة لذلك لجأ إلى التلميح و اللف و الدوران , كل ما استطعت فهمه هو ..
أنني يجب ألا أدلي بمعلومات لدى الجهة الأمنية الأخرى زيادة عما أدليته به هنا مهما استعملوا معي من وسائل , وأنني يجب ألا أنكر الجميل الذي أسدوه لي هنا بعدم ضغطهم عليّ لانتزاع المعلومات – وهذا كرمى لخالي – وذلك لأنني إذا أدليت بمعلومات جديدة سوف تظهر الجهة الأمنية الأخرى بمظهر الطرف الأقدر و الأكثر نجاحاً , وأنني عندها سوف أصم " الصوت الأجش " وجماعته بوصمة الفشل .
خاصة أنني إذا تقيدت بهذه التعليمات فإن ذلك سيكون لصالحي , وسيصب في النهاية لصالح قرار إطلاق سراحي .
ختم حديثه قائلاً :
- أتمنى لك التوفيق , إذا أطلقوا سراحك سلّم على خالك , قل له العميد " " يسلم عليك , وخليك رجّال .. لا تخاف .. مع السلامة .
بعدها سلموني إلى الجهة الأمنية الأخرى و...عناصر أمن , سيارة , قيود ... ننطلق على الأوتوستراد باتجاه الشرق .
24 حزيران .
عند الجهة الأمنية الأخرى .
ثلاثة أيام تساوي ثلاث سنوات في السجن الصحراوي .
كان الضابط بإنتظاري على باب غرفته , الغضب يقطر منه , لم يلتفت إلى تحية العناصر له , فقط سألني إن كنت أنا أنا , أجبت نعم .. ومع ال نعم فاجأني بلكمة على أنفي القتني على صدر العنصر الذي يقف خلفي , سندني هذا العنصر , عدت لأقف معتدلاً , أمسكني الضابط من صدري وشدني إلى داخل الغرفة وهو يصفعني باليد الأخرى , في وسط الغرفة أمسكني من رقبتي .. من تفاحة آدم وأخذ يضغط عليها , أحسست بالإختناق , قال لي وهو يصّر على اسنانه :
- أركع ولا كلب .. أركع ولا عرص .
ركعت على ركبتي أفلت رقبتي وذهب إلى خلف المكتب , أمسك ورقة واقترب مني , أخذ يقرأ فقرات منها .. مع كل فقرة يضربني باسفل حذائه على وجهي ..
-الصوت و الصورة .. " رفسة على الخد " .. الرسالة تظهر من عنوانها " رفسة فوق الخد قليلاً " .. صوت التيس " ببوز حذائيه ضربة على جنبي ألقتني أرضاً " .. ويتابع القراءة و الضرب !.
ألقاني أرضاً , سحق فمي بحذائه ثم وضعه على رقبتي وضغطه , عجنني برجليه .. وفهمت منه أن ما قلته بحق " السيد الرئيس " يكفي بحد ذاته لشنقي من خصيتيّ !.
صرخ وهو يكاد يختنق بصراخه على أحد العناصر , وأعطاه التعليمات .
ثلاثة ايام لن أنساها ما حييت , الجلد , الضرب , في الدولاب , علي بساط الريح , التعذيب بالكهرباء .. يثبت الملاقط على الأجزاء الحساسة من جسدي ويشغل الجهاز .. يبدأ جسدي رقصته الكهربائية , أحس أنني سألفظ أنفاسي , أعجز عن التنفس , تكاد الرئتان أن تنفجرا .. الطماشة على عيني .. لا أعرف متى يشغل الجهاز ومتى يوقفه , وأرقص .. أرقص تشنجاً وألماً .
في اليوم الثالث جاء دور الشبح .. عندما سمعت الأمرَ بشبْحي لم أفهم ماذا يعني ذلك , لكن عندما ربطوا يديّ عالياً وجسدي كله مرفوع عن الأرض أكثر من نصف متر تذكرت صلب المسيح , دون أن أعي صرخت :
- يا يسوع .. يا محمد .. يا الله .
بعدما يقارب النصف ساعة أحسست أنني قد استنفذت كل طاقتي على التحمل .. أحسست بضعف هائل .
سأعترف بما يريدون مني أن أعترف به , وليكن الإعدام ! الإعدام سوف يكون أرحم ! .. ولكن من أين أخترع لهم تنظيماً معادياً غير الإخوان المسلمين .. وبعد ذلك أنتسب إليه ؟ .
تذكرت المهجع , مئات الروايات عن الذين ضعفوا واعترفوا بأعمال لم يقترفوها ! .. اعترفوا بجرائم لم يسمعوا بها إلا من فم المحقق الذي يتهمهم بارتكابها !.. ماذا كانت نتيجة اعترافاتهم ؟ .. البعض تم إعدامه , الآخرون يتعفنون في السجن .. الكثير منهم مات أو في طريقه إلى الموت !.. قويت عزيمتي , أنا لم أعد كما كنت قبل اثني عشر عاماً , لقد صلبتني التجربة , أخذت اقنع نفسي أنني رجل .. ورجل شجاع .. رجل شجاع قادر على التحمل !.. وتحملت .
2 حزيران
هل اكتفوا بالأيام الثلاثة من التعذيب ؟.. البارحة و اليوم لم يفتحوا باب زنزانتي إلا من أجل الطعام و المرحاض , الطعام ثلاث مرات في اليوم , المرحاض ثلاث مرات في اليوم بعيد الطعام مباشرة .
لملمت نفسي قليلاً , أترقب متوجساً , هل سيعاودون الكرة ؟.. ومتى ؟ قررت أن استرخي و اضمد جراحي ! يداي خدرتان من أثر الشبح ! .. استعملهما بصعوبة , أحاول أن أجري لهما بعض التمارين الرياضية , أجد صعوبة في تنظيف نفسي بعد انتهائي من قضاء حاجتي .
أريد أمي ... آه يا أمي .
22 آب :
رجل ذو هيئة ارستوقراطية لا تتناسب أبداً مع اللهجة الجبلية الثقيلة و البدائية التي كلمني بها وأفهمني أن أيامي لديهم قد انتهت و أن هناك جهة أمنية ثالثة طلبت تسليمي إليها , وأنني أستطيع تجنب الذهاب إلى هذه الجهة الأمنية الثالثة وأنني أستطيع الخروج من السجن إذا كنت متفهماً ومرناً وعلى استعداد لأن أخدم وطني خدمة حقيقية , وانه الآن سيرسلني إلى المساعد أحمد لكي نتفاهم على التفاصيل .
رن الجرس وحضر المساعد أحمد الذي قادني إلى غرفته .
المساعد أحمد , نظرته لزجة .. ابتسامته لزجة .. كلماته لزجة .. !
وضع يديه على يدي أثناء الحديث , كانت تنضح عرقاً ولزوجةً , هو كائن لزج .. كان يمكن أن يكون بزاقة!.
عرض علي وبطريقة لزجة , كريهة جداً وتدعو للإقياء , أن يطلقوا سراحي ويعيدوني إلى باريس , هناك أنخرط في صفوف المعارضة مسلحاً بتاريخي "سجني الطويل" وأن أخدم وطني من خلال التقارير التي ارفعها للجهات الأمنية المسؤولة كاشفاً لهم عن أعداء الوطن .. من أبناء الوطن .
رفضت , متعللاً .. مداوراً .. لبقاً , رفضت , ثم حاول .. فرفضت , كرر المحاولة بالترغيب و الترهيب .. فرفضت – مستذكراً الدروس - .
يحاول أن يكسب رضى رؤسائه بنجاحه في مهمته , يحاول أن يبني مجداً ذاتياً .. حاول وحاول .
لزوجته .. نعومته , تدعو للغثيان !! وبقيت أرفض , أوصلته لليأس , فكشر عن أنيابه , غابت النعومة لتظهر الهمجية و الشراسة .
لم أبه .. ليكن ما يكون , ولن يكون أكثر مما كان !.
وقف غاضباً , صفعني بلؤم , وبلهجة تقطر فشلاً وإحباطاً , قال :
- إنت واحد جحش ما بتعرف مصلحتك , راح تتعفن بالسجن , راح نسلمك للجماعة .. وهدول إن شاء الله راح ينيكوا أمك .. يا كلب يا حقير .
وسلموني للجهة الأمنية الثالثة .
عناصر أمن , سيارة , قيود , تنطلق السيارة شمالاً , نصل إلى الشارع الذي ينار بأضواءٍ برتقالية محمرة , وزنزانة جديدة مقاييسها تختلف عن سابقاتها !.
23 آب .
متر عرضاً , متر طولاً .. هذه هي الزنزانة الجديدة , على ارتفاع متر تقريباً عن الأرض يوجد بلاطة مصممة ككرسي تصل بين حائطين طولها متر وعرضها نصف متر , الجلوس و النوم عليها , في الزنزانة بطانية مهترئة واحدة فقط , حظي جيد فالوقت صيف , نافذة مشبكة بالقضبان و الشبك الحديديين تأخذ نصف الجدار الخارجي وتطل على حديقة مركز المخابرات , أتنفس هواء طبيعياً .
1 ايلول .
أنا هنا منذ عشرة أيام تقريباً , الثلاثة أيام الأولى لم يسألوني شيئاً , الطعام وجبة واحدة فقط توزع ظهراً بعد الإنتهاء من التحقيق الذي يجري قريباً من زنزانتي , بعد الظهر وحتى حلول الظلام هي الفترة الوحيدة التي لا أسمع فيها الصراخ و البكاء .. و الشتائم , وما عدا ذلك فالتحقيقات مستمرة وعلى مدار الأربع و العشرين ساعة , هذا الفرع مشهور بين السجناء بقسوته .
في اليوم الرابع فتح السجان باب زنزانتي صباحاً , يقف إلى جانبه شخص أخر , سألني عن اسمي فأجبته .. قال :
- شوف .. المعلم طلبك , وانت أكيد سمعت بالمعلم , راح أعطيك نصيحة لوجه الله : شو ما سألك احكي بصدق وصراحة , لا تكون عنيد وتعمل نفسك بطل .. بهذا المحل ما في أبطال !.. كل الناس بتعرف المعلم , ومنشان تكون بالصورة .. مرة من المرات كان المعلم عم يحقق مع واحد أخرس .. أجبر الأخرس أنو يحكي !.. الأخرس حكى .. فيا أخي , الله يرضى عليك .. منشان مصلحتك لا تخبي شيء .. احكي كل شيء .. اسلم لك !.
وأخذوني إلى عند المعلم .
في غرفة الإنتظار ذات الأثاث الفخم أمام غرفة " المعلم " أوقفوني أكثر من ربع ساعة , حركاتهم .. تراكضهم .. الحديث بصوت خافت .. كلها أمور تدخل الخوف و الفزع إلى قلب الشخص الذي ينتظر .
أوقفني " المعلم " أمام مكتبه دون أن يكترث بي أيضاً أكثر من ربع ساعة , كان يتصرف وكأنه لا يراني , مشغول بقراءة بعض الأوراق و الملفات والرد على الهواتف .
بعد ذلك تفرغ لي كلياً .. ولمدة أربعة أيام !! .
منذ الصباح إلى ما بعد الظهر كتبت تاريخ حياتي ثلاث مرات , وكل مرة بعد انتهائي من الكتابة يأخذه مني ويعطيه إلى أحد الضباط الصغار الذي يعود بعد أقل من نصف ساعة و هو يهز رأسه سلباً , فيطلب مني إعادة الكتابة مرة اخرى .
غرفة المكتب عبارة عن قاعة فسيحة مؤثثة بشكل باذخ , لم اشاهد في حياتي أثاثاً بمثل هذه الفخامة و الأناقة, أجلسني إلى طاولة للاجتماعات في ركن الغرفة حولها أربعة وعشرون كرسياً.
خلال وجودي في غرفته وبينما أكتب تاريخ حياتي, أجرى التحقيق مع ثلاثة أشخاص , كان يعذبهم أمامي , احاول أن اركز انتباهي على ما أكتب .. وسط ضربات السياط والصراخ الانساني , وينتهي الأمر في كل مرة باعتراف المعتقل , يأمر " المعلم " بايقاف التعذيب ويطلب من أحد العناصر ضبط أقواله واعترافاته .
كل ما في الغرفة متسق ومتناسق , عداي و المعتقلين الآخرين بالثياب الرثة و المتجعدة , وكذلك الدولاب الأسود وأدوات التعذيب الأخرى .
بعد الظهر لم يبق في الغرفة غيري من المعتقلين , خرج " المعلم " من وراء مكتبه , جلس قربي , نظر إلي , قال :
- شوف .. كلمتين نظاف .. أحسن من جريدة وسخة .
بدأ من حيث انتهي الأخرون , خيرني بين شيئين :
- إما العذاب والعودة إلى السجن الصحراوي حيث سألقى الإعدام , أو ..
- الإعتراف و العودة إلى فرنسا و العمل بين صفوف المعارضة كمخبر .
لم أختر , لكن نفيت أي علاقة لي مع أي تنظيم , ورفضت العودة إلى فرنسا .
جميع الوسائل التي لديه جربها , البعض منها كنت قد عرفته في الأماكن الأخرى , لكن هنا زادوا عليها باستخدام الكرسي الألماني الذي أحسست أنه قد كسر ظهري , علقوني كفروج , شبحوني على السلم ...... وآخر شيء هددني باستعماله في آخر يوم .. أو أخر دقيقة من الايام الأربعة التي استغرقها التعذيب .. أنه سيدخل قنينة كازوز في شرجي .. وبعد أن أحضروا له القنينة رن الهاتف , تكلم على الهاتف بغضب , خرج بعدها من الغرفة – قبل أن ينفذ تهديده – بعد أن أمر بإعادتي إلى الزنزانة وايقاف التعذيب .
أربعة أيام لم أكل , لم أنم ولا دقيقة واحدة , يتركونني بعد الظهر ثلاث أو أربع ساعات في الزنزانة , يداي مقيدتان , مربوطتان بجنزير معدني , الجنزير معلق إلى حلقة بالسقف , يشدونه بحيث بالكاد أقف على رؤوس أصابع القدمين , كنت احس بالراحة عندما يفكون يدي ويأخذونني إلى الدولاب أو بساط الريح أو الكهرباء .. كل وسائل التعذيب اسهل من التعليق هذا .
بقيت صامداً , لم اضعف مطلقاً هذه المرة , كنت دائماً أقول لنفسي إنها ساعات ألم مؤقتة ستزول ... أتلهي بأفكار أخرى , قد يكون تركيزي على أحلام اليقظة خلال السنوات الماضية و السهولة التي صرت استحضر فيها أي مادة لتكون حلماً.. قد ساعدني ! اكتشفت نفسي , وسررت لما اكتشفت , قلت في سري برنة تحمل بعض التباهي :
- هذه معمودية صيرورتي رجلاً يحترم نفسه .
مضى الآن أربعة أيام على إنتهاء التعذيب , شبعت نوماً , رغم أنني أنام وانا جالس .
لكن وجبة واحدة من الطعام لا تكفي .
2 كاون الأول .
الساعة الآن الواحدة و النصف بعد منتصف الليل , لأول مرة منذ عودتي إلى بلدي من فرنسا أشعر أن النظافة تحيط بي من كل جانب , تغمرني , فراشي نظيف , شرشف أبيض نظيف , بطانيات نظيفة , بيجاما جديدة , غيار داخلي جديد ناصع البياض , حولي عشرة اشخاص نظيفين في كل شيء .
في الأيام الأخيرة من وجودي في الزنزانة التي مساحتها متر مربع واحد وتحتوي على بطانية مهترئة واحدة فقط ونافذتها مفتوحة على الحديقة , كنت أعاني الأمرين من البرد في الليل , لذلك أخذت أسهر طوال الليل وكلما شعرت بالبرد أتحرك وأقوم ببعض التمارين الرياضية قدر ما تتيحه المساحة , عند الصباح ألتف بالبطانية و أنام في وضعية الجلوس .
أيقظتني قرقعة المفتاح الحديدي في الباب الحديدي , السجان الذي بت أعرفه ومعه شخصان , قال :
- قوم بسرعة .. هات كل أغراضك يا الله .
خرجت فوراً , لا أغراض لدي سوى بعض مزق الثياب , لم تتأخر الإجراءات كثيراً , بعد قليل اصبحنا خارج الفرع , سيارة ميكرو باص محركها يدور تقف على باب الفرع , قيدوا يدي وأمروني أن أصعد إليها , السائق وأربعة عناصر .. وأنا .
قال كبيرهم :
- توكل على الله .. ع السجن الجبلي .
انطلق الميكرو باص باتجاه الغرب أو الشمال الغربي صعوداً , خلال أقل من ساعة وصلنا .
بين الجبال , في مكان منعزل , بناء حديث ضخم , يتألف من أربعة طوابق , مئات النوافذ .. إنه السجن الجبلي .
نزلنا , اجراءات التسليم و الاستلام , ادخلوني لعند مدير السجن , سألني أسئلة كثيرة وعندما عرف أنني مسيحي نادى أحد رقباء الشرطة العسكرية , طلب منه أن يأخذني إلى جناح الشيوعيين .
بينما كان الشرطي منهمكاً بفتح باب الجناح كنت أنظر مشدوهاً إلى السجناء الذين يتمشون في ممر الجناح , يسيرون .. يتحدثون .. يضحكون .. صوتهم مرتفع , عيونهم مفتوحة , كل هذا و الشرطي قريب منهم , وقف ثلاثة أو أربعة سجناء قبالة الباب ينظرون إلي , أدخلني الشرطي وأغلق الباب , بصوت خافت قلت لهم :
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام , أهلاً رفيق , هل أنت رفيق ؟.
- لا .. لست رفيقاً .
- أهلاً بك مهما كنت .. تفضل .. تفضل .
أدخلوني أول مهجع , وقالوا لي قبل أن تجلس هل أنت بحاجة للدخول إلى الحمام , أجبتهم نعم , أدخلوني الحمام , صابون معطر , غيار جديد , بيجاما جديدة .
خرجت , جلست , حكيت لهم حكايتي .. رداً على أسئلتهم , تجمعت حولي حلقة من الناس يستمعون .
أحضر أحدهم صينية كبيرة عليها بيض مقلي , بندورة , جبن , زيت وزعتر ....
يا إلهي كما في البيت !... هل هذا سجن ؟.. سألتهم هذا السؤال , ضحكوا وأجابوا :
- نعم سجن , لكنه سجن خمس نجوم .
طلب مني أحدهم أن أكل وبعد ذلك أكمل حكايتي .. وكنت جائعاً كذئب .
أكلت أكلاً حقيقياً .. شربت شاياً حقيقياً , مع كأس الشاي أعطاني أحدهم سيجارة .. سألني :
- هل تدخن ؟
- نعم كنت أدخن .. ولكن منذ اثني عشر عام وسبعة أشهر واثني عشر يوماً لم ادخن سيجارة .
- يبدو أنك نسيت أن تحسب الساعات و الدقائق و الثواني .
وانقسم الناس حولي إلى قسمين , قسم يطلب مني أن أغتنم الفرصة وأترك التدخين نهائياً , وقسم يقول أن لا ضير من بضع سجائر بعد كل هذه المدة .
تناولت اللفافة واشعلتها , عببت نفسين منها , دخت ! .. سعلت , تابعت تدخينها , واستمرت الجلسة منذ الصباح وحتى آخر الليل .
يسألون , يستفسرون , يعلقون تعليقات ضاحكة , ورويت لهم كل شيء. " فرغت " , وشعرت بارتياح فائق .. عبرت عنه قائلاً لهم :
- هل هذه هي الجنة ؟.
31 كانون الأول .
اليوم رأس السنة , الاستعدادات على قدم وساق , الجميع منهمك بالتحضير للاحتفال براس السنة , الشرائط الملونة و البالونات , الرسوم و التلوينات , اللحوم و المآكل الطيبة , و ... المشروبات , لديهم نبيذ وعرق وكلها تصنيع محلي !.
أعيش بين هؤلاء الناس منذ شهر تقريباً , أكثرهم عرف صديقي أنطوان عندما ذكرته عرضاً في سياق الحديث , بعضهم قال إن أنطوان صديقه , كلهم عرفوا خالي , وكلهم يحملون رأياً سلبياً فيه لأنه يتعاون مع هذا النظام , لكن الذي فاجأني أن خالي أصبح وزيراً في الوزارة الحالية !..وقد صاح الشخص الذي كنت اتحادث معه :
- هل فلان خالك ؟
- نعم خالي .
- لكن كيف لا يسعى لإخراجك من السجن وقد اصبح وزيراً ؟!.
يقولون عنه أنه انتهازي , وأنه قد باع نفسه للشيطان هو وكل حزبه , وان حزبه يتحمل المسؤولية عن سجني وسجن الآخرين وعن كل ما يجري داخل البلد من قتل وتدمير وقمع بنفس درجة مشاركتهم بالحكم .
خالي وزير ؟.. خبرٌ أصابني بالدوار !.
6 كانون الثاني .
رغم عدم وجود نساء فإن حفلة راس السنة كانت حلوة بكل المعايير , لديهم الكثير من النبيذ و العرق وبعض المشروبات الكحولية التي لا اسم لها , وكلها من صنعهم هنا .. من العنب و الفواكه و المربى كانوا يصنعون هذه المشروبات .. شربنا , أكلنا , غنينا ورقصنا .. حتى الصباح , الجميع كانوا فرحين شاركوا بكل جوارحهم ....
كنت أجلس في احدى زوايا المهجع أحتسي المشروبات وأراقب , أراقب أفعالهم وفرحهم وضحكهم , احاول أن اتلصص على دواخلهم !.. وأتساءل : هل يمكن أن يكون هذا الفرح حقيقياً ؟.. ألا يحمل كل منهم بين دفتي صدره إمرأة ما , زوجة .. خطيبة .. حبيبة ؟ ألا يتمنى في هذه اللحظة أن تكون هذه المرأة موجودة معه يراقصها .. يعانقها ؟.. ألا يشكل هذا الغياب الجارح لهذه المرأة .. مرارة وألماً ؟.. إذن من أين ينبع كل هذا الفرح المتطاير في أجواء السهرة؟
كان كل شيء يوحي بالبساطة و المحبة , لكن لم أستطيع أن أكون صافياً , جبال من الحزن و الكآبة تجثم على صدري , حاولت أن اشارك بكل كياني , لكن هناك شيئاً في داخلي يرفض الفرح .. يرفض لأنه لا يستطيع , لا يستطيع أن يقفز فوق جدار عالٍ وصلدٍ من الحزن المتراكم طوال هذه السنوات .
هناك .. في السجن الصحراوي , في الليالي الموحشة الكئيبة , الليالي التي تبدو بلا نهاية , عندما تترسخ القناعات بأن لا خروج من هنا !.. عندما يتساوى الموت و الحياة !.. وفي لحظات يصبح الموت أمنية !....
لم يكن لأكثر أحلامي وردية آنذاك أن تبلغ مطامحه الوضع الذي أنا فيه الآن !.. لم أكن استطيع أن أصل إلى قناعة حقيقية – رغم كل أحلام اليقظة – أنني قد أكون في يوم ما وسط جو من الفرح كسهرة رأس السنة التي عشتها هنا في هذا السجن الجبلي !.. رغم ذلك لم استطع الفرح , لم استطع أن أضحك ضحكة واحدة من القلب !.. هل مات الفرح داخلي في زحمة الموت تلك ؟.. هل سأبقى هكذا .. ولماذا ؟.. هل سأحمل بيادر العذاب والموت جاثمة على قلبي دائماً لتخنق كل ما هو جميل بالحياة ؟!.. لست أدري .
2 آذار .
وأخيراً بدأت جهود خالي – على ما يبدو – تؤتي ثمارها .
من بين الاشياء الأولى التي قمت بها في أول يوم لدى قدومي إلى السجن الجبلي هي ان نظرت إلى نفسي بالمرآة .. وأحسست بالخوف , صلع في مقدمة الراس , الشعر وقد طال كثيراً خلال وجودي بالفرع أصبح ميالاً إلى اللون الأبيض , الشاربان متهدلان وقد أبيّضّ أكثر من نصفهما , العينان غائرتان تحيط بهما هالتان سوداوان , الألم و القهر و الخوف و الذل .. قد حفرت أخاديدَ عميقةً على الجبين وحول العينين ! .. أبعدت المرآة بسرعة .
اليوم في العاشرة صباحاً حضر شرطي إلى باب الجناح يحمل بيده ورقة , صاح اسمي وقال لأبو وجيه رئيس الجناح :
- بلغ هذا .. عندو زيارة .
انشغل أكثر من عشرة اشخاص بمسالة تجهيزي وإعدادي للزيارة , حلاقة الذقن , تشذيب الشاربين , البنطال و القميص , الحذاء " سألوني عن نمرة حذائي واتوني بحذاء نمرته /42/ بناءً على طلبي , لكنه كان صغيراً , ولم تدخل قدمي إلا في حذاء نمرته /44/ لقد كبرت قدمي نمرتين !"
وكانت هذه هي المرة الأولى التي ألبس فيها حذاءً منذ حوالي /13/ عاماً , مثلما كانت المرة الأولى التي أرى فيها مرآة طوال نفس المدة .
بعد أن ألبسوني كما يلبسون العريس , رشوني بالعطور , كنت متوتراً , يداي ترتجفان , دخنت سيجارة إلى حين مجيء السجان لأخذي إلى الزيارة .
مشيت إلى جانب السجان متوجساً مرتبكاً , كدت أقع مرتين بعد أن تعثرت بالحذاء الذي ألبسه " ما أصعب المشي بالحذاء " وصلنا إلى غرفة بابها مفتوح يجلس فيها رجل كهل ابيض الشعر وأمرأة شابة تحمل على صدرها طفلاً رضيعاً , وضع السجان يده على ظهري بلطف , وقال :
- تفضل .. ادخل .
دخلت .. واحتاج الأمر إلى عدة ثوان من التحديق حتى استطعت تبين ملامح أخي الأكبر !.. هو أيضاً لم يعرفني لأول وهلة " مضى تسعة عشر عاماً منذ أن رأيته أخر مرة " .
صرخت اسمه وأنا أتقدم نحوه .. احتضنني واجهشنا بالبكاء .
تعانقنا ونحن نبكي أكثر من دقيقة , رأسي على كتف أخي , ابكي لوعة .. اشتياقاً , ألماً وفرحاً .. أبكي ارتياحاً , هنا بر الأمان .
ابتعد أخي قليلاً , مسح دموعه وناولني منديلاً ورقياً لأمسح دموعي , التفت إلى حيث المرأة الشابة , كانت قد وضعت رضيعها على كرسي وجلست على آخر , تبكي وتنشج , تبكي بحرقة شديدة وقد غطت وجهها وعينيها بيديها , نظرت إلى أخي مستفهماً , وبحركة من راسي سألته عنها , من تكون ؟.
ووسط عينيه الدامعتين لاح شبح ابتسامة خفيفة , قال :
- ما عرفتها ؟ .. أكيد ما راح تعرفها .. يا أخي هذه بنتي .. بنتي لينا .
التفت إليها وكانت قد رفعت رأسها , احمرار البكاء يحيط ببؤبؤيها الأخضرين , قال :
- يا لينا .. قومي سلمي على عمك .
ألقت لينا نفسها بأحضاني , اعتصرتني واعتصرتها ونحن نلف حول نفسينا , أحسست بدوار قوي , كنت بلا وزن أطوف في الفضاء الرحب .. لا أرى شيئاً , لا أدري كيف جلست على أحد المقاعد , لينا تجلس في حجري كما كانت تفعل وهي صغيرة , تمسح دموعي , تقبلني وتقبلني وهي تهمس :
- يا عمو .. يا عمو .. شو عاملين فيك .. يا عمو .. آخ يا عمو .. آخ .. والله العظيم أنا اشتقت لك كثير ... شلون هيك ... شلون ؟!..
لينا .. بؤبؤ الروح .
عندما ولدت لينا , أنا الذي اخترت لها هذا الاسم , ومنذ أن اصبح عمرها ستنين كانت لا تفارقني " لينا حبيبة عمها .. هكذا كان الجميع يقول". تنام معي في السرير , حتى لو تأخرت في المجيء إلى البيت ونامت هي قبلي , كنت استيقظ صباحاً لأجدها نائمة إلى جانبي , تسيقظ عدة مرات في الليل , تتفقدني , وعندما أعود وسواءً أكنت صاحياً أم نائماً تندس إلى جانبي .
عندما ذهبت إلى فرنسا كان عمرها أكثر قليلاً من خمس سنوات , وهاهي الآن أمرأة كاملة , وأم أيضاً .
أمسك أخي كتف لينا وهزها قائلاً وهو يضحك :
- قومي انزلي من حضن عمك .. كسرتي رجليه .. شو ظانة حالك صغيرة لسى !
جلست لينا إلى جانبي مبقية يدي بين يديها , تعصر لينا يدي وتقبلها بينما أخي يحاول أن يطمئنني .. وأن خالي يبذل جهوداً جبارة لإخراجي من السجن وأنهم ورائي ولم يتركوني أبداً , وأفهمني أن خروجي من السجن مرتبط بموافقة رئيس الجمهورية !!.. وأنه منذ أكثر من عشر سنوات جرت العادة أن أي مسؤول في أجهزة الأمن يستطيع أن يسجن من يشاء , لكن خروج أي سجين يجب أن تتم بموافقة رئيس الدولة الذي يحتفظ بسجلات اسمية لكل السجناء السياسين !.
سألته عن صحة أمي وابي , فقال إنهما بخير .
انتهت الزيارة ولينا متعلقة بيدي .. تعصرها وتقبلها .
عدت إلى الجناح , إلى المهجع .. استقبلني أبو وجيه مبتسماً , و .. الحمد لله على السلامة , مبروك الزيارة .
يتكلمون معي , أجيب ... وأنا في حالة انعدام وزن , في خفة الريشة كنت !.
لاحظوا حالي , جلب لي أحدهم كأساً من العرق .. شربته دفعة واحدة , ضحك , جلب لي كأساً أخر .. شربته على دفعات , سألت أبو وجيه ماذا أفعل بالنقود التي أعطانيها أخي , قال:
- إذا شئت ضعها في الصندوق , هنا لا يحتفظ أحد بنقوده وكل شيء مشترك , " نقودهم مشتركة وتوضع في صندوق واحد , طعامهم مشترك , لباسهم مشترك " , عشرة آلاف ليرة وضعتها في الصندوق , قال الشخص الذي أخذ النقود إنني شخص غني , لأن الناس هنا كلهم فقراء , وأكبر مبلغ يستلمه السجين من أهله هو ألفا ليرة , قلت إن في السجن الصحراوي اشخاصاً أعطاهم أهلهم نصف مليون ليرة , اطلق هذا الشخص صفرة تعجب من بين شفتيه .
تممدت على فراشي , غطيت رأسي بالبطانيات .. نمت .
( حصيلة لأحاديث طويلة وممتدة على فترة طويلة , عرفت هنا من الشباب "كما يحبون أن يسموا أنفسهم" أن السبب الرئيس للتحقيق معي لدى جهات أمنية متعددة هو الصراع الشرس بين هذه الأجهزة , وقد شرحوا لي مع استخدام الكثير من التعابير السياسية مايسمونه "جوهر النظام السياسي في البلد" وآلية عمل الأجهزة , هذه الأجهزة التي جعلها رئيس الدولة تتنافس على شيئين أساسين : أولاً اثبات ولائها المطلق له , وثانياً الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب و الامتيازات .
ولكون خالي وزيراً شيوعياً , وبما أنه المتدخل لاطلاق سراحي فقد انعكس موقف الأجهزة الأمنية المختلفة , سلباً أو ايجاباً , من الشيوعيين عليّ , فبعض الأجهزة تكره الشيوعيين كرهاً مطلقاً ولا تميز بين شيوعي موالٍ للنظام وآخر معادٍ , بينما الأجهزة الأخرى تكرههم بدرجة أقل ) .
6 أيار .
أعادوني إلى فرع المخابرات الذي أتيت إليه عندما عدت من السجن الصحراوي .
زارني أخي وابنته لينا ثلاث مرات في السجن الجبلي , وفي آخر مرة قال لي أنهم يمكن أن يعيدوني إلى الفرع تمهيداً لإطلاق سراحي , وأنه يجب أن أكون مرناً ومتعاوناً .. و :
- اليد التي لا تسطيع عضها .. بوسها .. وادعي عليها بالكسر !.
صباحاً حضر السجان , نادى اسمي , طلب مني أن أجهز نفسي .
أعطاني زملائي السجناء خمسة آلاف ليرة , الكثير من الثياب , بعض الأطعمة , ودعني أبو وجيه بالقبلات :
- خليك رجّال , لا تخاف من شيء أبداً , نتمنى لك التوفيق و ... الحرية .
في الفرع درج .. ثم درج .. الباب ذو القضبان الحديدية , قرقعة الحديد الدائر في الحديد , ومن جديد زنزانة جديدة , اسماء جديدة محفورة على الجدران ذات اللون الأخضر الفاتح .
يومان من الوحدة .. مع أصوات التعذيب , الصراخ المعبر عن الألم الإنساني , رجال ونساء وأطفال حتى ! .. ومحاولة تجاهل كل ذلك , توبيخ الذات لأنها تحاول التجاهل ! .. التجاهل هو دعوة للبلادة و التحجر .
مساءً يفتح السجان الباب :
- قوم .. رئيس الفرع طالبك .
القي التحية على رئيس الفرع الذي سبق أن قابلته منذ شهور :
- مساء الخير .
- أهلاً وسهلاً , تفضل .. اجلس .
أجلس بهدوء .
تبدأ محاضرة فيها الكثير مما يقال في الراديو و التلفزيون عن الدور التقدمي الذي يلعبه السيد القائد رئيس الجمهورية ضد الرجعية و الاستعمار , وعن أفضاله على الناس وحكمته وشجاعته وبراعته .. و .. أخيراً :
- نحن قررنا نخلي سبيلك , لأنك انسان وطني , ولأن خالك قدم خدمات كبيرة للوطن .. و .. و ... بس نريد منك مسألتين روتينيتين !.. نريد منك أن توقع على تعهد بعدم العمل في السياسية , وأيضاً نريد منك أن تكتب برقية شكر للسيد الرئيس حفظه الله .
- برقية شكر ؟!
- نعم .. برقية تشكر فيها السيد الرئيس .
- برقية شكر ؟! .. ولكن على أي شيء أشكره ؟ .
نظر إليّ متعجباً , وباستغراب صادق قال :
- تشكره لأنه شملك برعايته ورحمته واخلى سبيلك .
مرة أخرى ركبني العناد البغلي الذي أصبح نهجاً لي أواجههم به كلما طلبوا مني شيء .
بأكثر ما يمكن من اللطف , قلت :
- أنا أسف سيادة العميد , لا استطيع أن أوقع لا على التعهد السياسي ولا على برقية الشكر .
ذهل العميد عندما سمع كلماتي !.. سكت قليلاً وبطريقة خبير أخفى كل ذهوله واندهاشه , قال :
- أنت تعرف أننا نكرنمك كرمى لخالك , لذلك أرجوا أن تلين رأسك قليلاً , يباسة الراس راح تضرك , وليكن بعلمك أن آلاف السجناء كتبوا برقيات شكر للسيد الرئيس بالدم , ولم يتم إخلاء سبيلهم .. ف .. خليك عاقل ووقع أحسن لك .
فعلاً كنت أعرف أن المئات من السجناء كانوا يطلبون من إدارات السجون محاقن طبية يسحبون الدم من عروقهم بها ليستعملوه كحبر يكتبون به برقيات شكر أو استرحام لرئيس الجمهورية راجين اطلاق سراحهم من السجن , وعندما كانت ادارات السجون لا تعطيهم المحاقن فإنهم كانوا يجرحون أصابعهم ومن الدم النازف يكتبون برقيات الشكر والاسترحام .
لكن كنت قد قررت : " لا مزيد من الذل , وليكن السجن أو الموت " .
و الحقيقة أن معاشرتي الطويلة للسجناء في السجن الصحراوي و السجن الجبلي علمتني الكثير من الأشياء , وأهم ما تعلمته منهم هو معنى وأهمية الكرامة والرجولة , وهما شيئان شخصيان لا علاقة لهما بتنظيم أو نظام.
إن التوقيع على برقية الشكر كشرط لإخلاء السبيل هي الاختبار النهائي لهذه الأجهزة لتؤكد لهم أن هذا السجين قد تجرع الذل حتى النهاية وتحول إلى كائن لا يمكن أن يقف بوجههم يوماً ما، وهو على استعداد لتنفيذ كل ما يطلبونه منه, طالما هو على استعداد لأن يشكر كبيرهم على كل ما عاناه على يديه وأيدي من هم أصغر شأناً منه .
رفضت بقوة ان أوقع .
" لن اشكر من سجنني كل هذه السنوات الطويلة , لن أشكر من سرق عمري وشبابي .. لن أشكر من ضيع أجمل سنوات عمري .. "
كنت أردد هذه العبارات و الجمل بيني وبين نفسي , أشحذ فيها عزيمتي وأقوي إرادتي , كنت خائفاً من نفسي .. خائفاً من ضعفي .. ظللت أردد هذه الكلمات القوية لأبعد عني الضعف .
بعد أن يئس مني رئيس الفرع أمر بإعادتي إلى الزنزانة , أعادوني بخشونة ظاهرة .
بعد نصف ساعة من عودتي إلى الزنزانة دخل عليّ مدير السجن , وهو شخص مسن على أبواب التقاعد , طيب القلب كثيراً , يحاول مساعدة السجناء خفية وقدر المتاح .
بلهجة أبوية وبنوايا صادقة حاول اقناعي أن أوقع , شرح لي عواقب عدم التوقيع وأسهب في ذلك , وأورد اشياء كثيرة , منها :
- إن من يرفض التوقيع عادة هم القيادات و الزعماء و المعارضون بشدة للسلطة القائمة , لذلك فإن عدم توقيعي سيعتبر دليلاً على أنني من هؤلاء , وينسف كل أقوالي السابقة بأنني لم أعمل في السياسة ..
ظل يحاول خاتماً حديثه بالعبارة التي قالها لي أخي :
- اليد التي لا تستطيع عضها .. بوسها .. وادعو عليه بالكسر.
وبقيت مصراً على موقفي .
بعد ذهاب مدير السجن فكرت طويلاً , ضحكت .. لو كنت في السجن الصحراوي لاستطاعوا أن يجعلوني أوقع على آلاف البرقيات , لا بل إنهم يستطيعون أن يجعلوني أقبل حذاء أصغر شرطي !.
الشعور بالحماية .
معرفتي أن أهلي عامة وخالي على وجه الخصوص يتابعونني خطوة بخطوة ولّد لدي احساساً بأنني محمي , ويمكن أن يكون هو الأساس الفعلي لموقفي الرافض للتوقيع !.. ولكن ..
ألا يوجد شيء نابع من الذات ؟ .
3 تموز .
التاسعة وسبع وثلاثون دقيقة صباحاً، أقف على الرصيف المبلل بالمياه أمام الفرع بعد أن أغلقوا الباب خلفي .
واخيراً .. أنا حرّ ! .
ثلاثة عشر عاماً وثلاثة اشهر وثلاثة عشر يوماً .. مضت على وصول الطائرة , التي كنت على متنها , إلى مطار عاصمة الوطن .
دوار في الرأس , طنين في الاذنين , زوغان في العينين .
عشرات السيارات الصفراء تنطلق أمامي مسرعة وفي الاتجاهين , مئات الناس يهرولون بسرعة في كافة الاتجاهات .
سمعت من ينادي خلفي , التفت , رأيت حارس الفرع يشير لي بيده يأمرني أن أبتعد من أمام الفرع , " تساءلت : هل هي آخر أوامرهم لي ؟ " .
ابتعدت أكثر من مئة متر , وقفت على الرصيف , وقفت أمامي سيارة أجرة صفراء , سألني السائق إن كنت أريد الصعود .. صعدت , انطلقت السيارة مسرعةً , الهواء يضرب وجهي .. أغمضت عيني , سمعت صوت السائق :
- لوين رايح .. استاذ ؟
- إلى أي مكان !
سكت السائق قليلاً , نظر إلي في المرآة متفحصاً .. عاد للسؤال :
- لأي مكان .. تحب تروح استاذ ؟.
لم أكن راغباً بالحديث مع أي كان , اردت اسكاته قلت :
- أريد أن تأخذني مشوار .. دورة في كل الأحياء القديمة .
************
بعد خروجي من عند رئيس الفرع وبعد محاولة مدير السجن معي لأوقع , أهملوني تماماً أكثر من شهر ونصف , في الايام الأولى من هذه الفترة كنت فرحاً ومزهواً وراضياً عن نفسي تماماً , لكن مع استمرار الاهمال بدأ الاحساس بالضيق و الملل ينتابني , يومياً كنت اسمع أصوات التعذيب و الصراخ , وفي يوم من الأيام سمعت صراخ ولدٍ صغير يتعذب , فكرت أن أطرق الباب لأطلب منهم مقابلة رئيس الفرع !.
حتى الكلمات التي يجب أن أقولها له كانت جاهزة :
- سيدي العميد .. لقد فكرت طويلاً , وأنا على استعداد للتوقيع على أي ورقة تريد !.
فركت جبيني وأنا أسير خطوتين إلى الأمام ومثلهما إلى الخلف , جلست , وضعت رأسي بين يدي , فكرت , ضربت راسي بالحائط , بكيت .. بكيت , تمددت ونمت .
في 23 حزيران حوالي العاشرة صباحاً فتح السجان الباب وقال لي أن أجهز نفسي للزيارة .
أخي لوحده دون لينا , يجلس إلى جانب العميد , قام العميد وقال أنه سيتركنا لوحدنا لكي نأخذ حريتنا بالكلام , قال ذلك بمنتهى التهذيب و اللباقة .
بدأ أخي الحديث , حوالي الساعة أو أقل قليلاً , ساق الكثير من الأمثال , وضغط عليّ بشدة يدعوني إلى التوقيع , تكلم .. وتكلم , أنا مطرق براسي أستمع إليه , استمع إليه وأزداد ابتعاداً عنه ! هل هذا أخي الكبير الذي كان يوماً ما مثالاً وقدوة لي ؟!.
دون أن أرفع راسي قلت له أنني لن أوقع على أي شيء ,انني اذا كنت عبئاً عليه فارجو ألا يكلف نفسه زيارتي ثانية .. ثم .. اندفعت كتلة من الغضب و الحنق إلى حلقي فصحت بوجهه .. إنه إذا أراد ثانية أن يزورني ليسمعني هكذا كلام .. هكذا نصائح .. فأرجو منه بشدة ألا يزورني , لأنني اشعر بالقرف اتجاهه !.
اتسعت عيناه دهشة .. فغر فمه , سكت مطرقاً ..
أنقذ العميد الموقف بدخوله , واستوعب الموقف حالاً .. التفت إلى أخي وقال بهدوء :
- سلم لي على خالك .. مو قلت لك أن رأسه يابس .
شكر أخي العميد وخرج .
عشرة أيام أخرى من الإهمال , عشرة ايام من العذاب النفسي المضني .. هل خسرت أخي ؟ .. هل أنا عبارة عن مدعٍ فارغ صغير؟.. هل أريد أن البس نفسي ثوب المناضل الصلب ؟.. ألن يكون هذا الثوب فضفاضاً عليّ كثيراً ؟.. أليس المنطق الذي يتكلم فيه أخي هو السائد إن لم يكن هو الصحيح ؟.. أتقلب على جمر النفس , و .. أحترق !.
في 1 تموز الساعة الحادية عشر صباحاً ادخلوني إلى غرفة العميد لأجده واقفاً باحترام بينما أخي وشخص أخر كهل , أبيض الشعر , جالسان !.. عرفت فيما بعد أن هذا الكهل هو خالي .
استأذن العميد بأدب جم أن يخرج من الغرفة بعد أن طلب لنا ثلاثة فناجين قهوة .
بعد التحيات و القبلات بدأ خالي محاضرة طويلة انتهت بالتأنيب و التوبيخ , ثم أصدر لي أمراً حازماً بالتوقيع على الورقة التي مدها لي .
بهدوء شديد رفضت .
قام عن كرسيه لأول مرة , " فكرت .. كم يبدو كبيراً في السن !" اقترب مني حانقاً , توقف , التفت إلى أخي بسرعة وسأله أن كان يستطيع التوقيع على الورقة بدلاً مني , أومأ أخي برأسه موافقاً .. ثم وقع , صرّ خالي على اسنانه , وقال لي :
- يا ويلك .. إذا حكيت أي كلمة !.
حضر العميد. ناوله خالي الورقة. رن العميد الجرس بعد أن وضع الورقة في درج المكتب. أمرهم أن يعيدوني إلى الزنزانة. بعد يومين وفي الساعة التاسعة وسبع وثلاثين دقيقة كنت أقف على الرصيف المبلل أمام مبنى الفرع.. حرّاً!
************
دارت بي السيارة زهاء ساعة، تجاهلت السائق تماماً، كنت في حالة انعدام تفكير، صحوت بعدها .. وسألت نفسي : إلى أين .. إلى أين ؟.
شعرت برغبة جارحة للنوم ! .. أريد أن أنام , أريد أن أنام !.
أعطيت السائق عنوان بيتنا. نزلت من السيارة بعد أن أعطيته نصف ما أملك من النقود. مشيت على الرصيف. كنت أنظر إلى الرصيف وأخشى في كل لحظة أن ينخسف و أغوص في حفرة لا نهاية لها .
صعدت الدرج، ضغطت الجرس .. من سيفتح الباب ؟.. أمي، أبي ؟ .
لم يفتح لي أحد ! أين أبي؟ .. أين أمي؟..
جلست على الدرج، بقيت جالساً ثلاث ساعات تقريباً، مرت بي العديدات من جاراتنا صعوداً أو نزولاً، ينظرن إلي باستغراب وتوجس، لم أعرف أية واحدة منهن. حضر شاب أنيق يلبس نظارات طبية، نظر إلي باستغراب ثم تجاوزني، فتح باب بيتنا .. ودخل !.
وقفت .. ناديت عليه، التفت إلي دون أن يستدير ناظراً بطرف عينه.
- نعم .. شو بتريد؟
- من أنت .. لوين داخل؟.
************
تعارفنا. انه زوج لينا ابنة أخي. رحب بي ترحيباً شديداً، قال إنه سيجهز الحمام بسرعة، وإنه يجب أن أغير ثيابي. سألني إن كنت جائعاً، طلبت منه فنجان قهوة بلا سكر. يدور سؤال في حلقي.. أخشى كثيراً أن أطرحه. أنهيت شرب القهوة.. اعتدلت في جلستي، وسألته :
أين أبي و أمي؟
فوجئ... نظر إلي بدهشة ممزوجة بالشفقة، بدأ يتمتم:
- لا أعرف.. أنا ولينا، وقت معرفتي بلينا .. لم يكونا موجودين. رحمهما الله .. ما تعرفت لا على الوالد ولا على الوالدة .. و .. و..
ما كنت أخشاه.. حاصل. آه يا أمي ويا أبي، هل قلتما أو قال أحدكما إنه يتمنى أن يراني قبل أن يموت؟ .. هل تسبب سجني وغيابي بتعجيل موتكما؟.. أدفع نصف حياتي مقابل أن أضع رأسي لمدة خمس دقائق على صدر أمي.
أنور زوج لينا يقف أمامي مرتبكاً، يراقبني، سألته إن كان يعرف مكان الدفن، أومأ برأسه أن نعم.
كتب ورقة وضعها على الطاولة. انطلقنا نحو المقبرة، وصلنا، اسم أبي وأمي واضحان على الحجر، رسم أنور إشارة الصليب على صدره...
وقفت قليلاً أتمعن الكتابة ولا أفهم شيئاً، احتضنت الحجارة الباردة وأرحت رأسي عليها، أغمضت عيني... شعرت براحة كبيرة... أوشكت أن أنام، تذكرت أنور فوقفت. في داخلي شعور بأن علي واجباً ما اتجاه الموت يجب القيام به، اتجهت نحو القبلة... القبر بيني وبين مكة، فتحت كفي باتجاه السماء وقرأت الفاتحة، ثم وبشكل آلي... صليت صلاة الجنازة!.
6 تشرين أول
بعد أسبوع من خروجي من السجن دعاني أخي أبو لينا إلى عشاء في مطعم خارج المدينة , كان المطعم جميلاً وهادئاً لا يسمع فيه إلا صوت الموسيقى الناعمة وصوت خرير النهر المنحدر من الهضاب الغربية .
على العشاء حدثني عن أمي و أبي و قال إن ابي قد رتب قبل وفاته وضعي المالي بحيث يكون بيت العائلة الذي تسكن فيه حالياً لينا مع زوجها ملكاً لي , وأنشأ باسمي شراكة بعمل تجاري مع أحد الأقارب وأن الأرباح من يومها تحفظ لي مما شكل ثروة صغيرة , وقال :
- من هذه الناحية لا تحمل هم , وضعك المادي مرتب و الحمد لله .
بعدها سألني إن كنت اريد السكن لوحدي بحيث تخرج لينا وزوجها من بيتي , فرفضت رفضاً قاطعاً , أحسست أن لهجة الرفض الحازمة قد أشعرت أخي بالارتياح .
مع إنتهاء كأس العرق الثانية اصبح الجو أكثر استرخاءً وحميمية , استرجعنا بعض الذكريات العائلية .. وفجأة اعتدل في جلسته وتطرق إلى الموضوع الذي كنت أخشى أن يفتحه أو يلمح إليه , قال :
- راح كون صريح معك .. حول الكلام الذي قلته لي بالفرع أثناء الزيارة , يا أخي .. في البداية أحسست بجرح عميق , لكن بعد عدة ساعات أحسست بالفرح , بالفخر , لأنك رجل .. وبطل ..
رفعت يدي واسكته .
خلال هذه الشهور الثلاثة كان أكثر ما يضايقني هو معاملة الأخرين لي بصفتي بطلاً !!.
" الفائض الرئيسي في السجن هو الوقت , هذا الفائض يتيح للسجين أن يغوص في شيئين , الماضي .. والمستقبل , وقد يكون السبب في ذلك هو محاولات السجين الحثيثة للهرب من الحاضر و نسيانه نسياناً تاماً .
والغوص في هذين الشيئين قد يحولان الإنسان إما إلى ..... إنسان حكيم هادئ , أو إلى شخص نرجسي عاشق لذاته ومنكفئ لا يتعاطى مع الآخرين إلا في الحدود الدنيا , أو إلى ..... مجنون !.
منذ أن وعيت هذه المعادلة حاولت جاهدأ أن أتحول إلى ذلك الإنسان الهادئ , ولا أدري إلى أية درجة نجحت .
من هنا رفضت أن أتاجر بسجني , رفضت أن أكون بطلاً عندما أراد الآخرون عند خروجي من السجن أن يعتبروني ويعاملوني كبطل , أنا أعرف امكانياتي جيداً .. ببساطة ... أنا إنسان .
أنا خواف ورعديد وجبان .. إلى درجة أنني قد أتبول في ثيابي من الخوف .
أنا شجاع وصلب وعنيد .. إلى درجة أنني أصمد أمام اقسى اساليب التعذيب .
لكن .. وبكل الأحوال لست بطلاً , فسلوكي هذا الطريق لم يكن بخياري , و البطل لا يمكن أن يكون بطلاً لسلوكه طريقاً بالإكراه .
بذلت جهوداً مضنية مع لينا وزوجها , حتى استطعت أن أقنع لينا أنني لست أسطورة , وبالتالي أن تتعامل معي بمنتهى البساطة , وأن أقنع أنور أن لا حاجة لكل هذا التهيب و الإجلال في التعامل معي , لا حاجة لأن يقف احتراماً كلما دخلت أو خرجت من الغرفة , " عمري يزيد عمر أنور بحوالي العشر سنوات " .
************
منذ الساعة التاسعة وسبع وثلاثين دقيقة من الثالث من تموز لاحظت شيئاً لم أعهده في المدينة سابقاً .
الغبار .. الغبار يغطي كل شيء في المدينة , الطرقات , الشوارع , الجدران , كلها مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار الأصفر الناعم , أوراق الاشجار الخضراء .. التي كنت أعرفها سابقاً زاهية لامعة بخضرتها .. مغطاة بهذه الطبقة الرقيقة من الغبار .
حتى وجوه الناس السائرين في الشوارع و المتسكعين في الساحات و على الارصفة .. مغطاة بهذه الطبقة الغبارية الصفراء .
يغسلون وجوههم , يجففونها , لكن الغبار لا يزول , يبدو ملتصقاً بالوجوه أو أنه من تكوينها ! .. ويبدو هذا الغبار واضحاً عند الابتسام , فالابتسامات على ندرتها – هذه الندرة التي تقترب من العدم حتى أنني شككت أن الناس في مدينتي قد نسوا فعل الابتسام – تترافق مع هذا الغبار، فإذا حاول شخص ما الابتسام , تبدو هذه الابتسامة شائهه .. ويبدو هذا الشخص وكأنه قد كبر في السن عشرات السنين , وأهم عرض من أعراض الإبتسام هو ظهور طبقة الغبار الملتصق بالوجه ظهوراً واضحاً .. حينها تظهر حبيبات الغبار هذه مجسمة واضحة .
خشيت أن أسأل أحداً عن أمر الغبار هذا .
************
بعد خمسة عشر يوماً من خروجي فكرت بالقيام بواجبي الأول , زيارة أهل نسيم , ومحاولة تطمينهم عنه .
ضجة خروجي من السجن خفت قليلاً , انخفض معدل الزوار كثيراً , الزوار من الأهل و الأقارب , يأتون .. يتلفظون بعبارات التهنئة التقليدية , الكثير من عبارات التبجيل , وأكثر من كل شيء .. النصائح :
- الحمد لله على سلامتك .
- نحن نفتخر بك .
- لا تنظر إلى الخلف .. المستقبل لا زال أمامك .
- أصلحك الله .. ضروري تعمل بالسياسية ؟.. يا أخي العين لا تقاوم المخرز !.
اسمع أنا كل هذا وأرسم ابتسامة بلهاء على وجهي .
صديقان أو ثلاثة من أيام الصبا و الشباب , أرسلوا لي خبراً في منتهى السرية و الخفاء :
- نحن نود زيارتك .. لكننا نخاف نتائج هذه الزيارة , فعذراً !.
واحترمت جبنهم كثيراً.
أخبرت لينا وأنور عن سفري إلى مدينة نسيم الساحلية, رتب أنور جميع الاجراءات ورافقني حتى انطلاق البولمان باتجاه الشمال. لأول مرة منذ سنوات طويلة أحس أنني انسان , جاري في المقعد ومرافق الباص يعاملاني كإنسان, عندما يخاطباني يخاطباني بلقب استاذ!.
أرجعت المقعد إلى الخلف, أغمضت عيوني, صددت كل محاولات جاري بفتح حديث معي, استرجعت ذكريات نسيم .. يا هل ترى ماذا يفعل الآن؟..
في كل مكان من هذا العالم يمكن أن تنشأ علاقات حميمية بين شخصين , لكن أن تنشأ علاقة حميمية بين شخصين في السجن, حتماً سيكون لها معنى آخر, مذاق آخر .. نكهة أخرى.
أيام كثيرة , وليال طويلة .. طويلة نقضيها في الحديث , أعرف كل شيء عن عائلة نسيم , الأب , الأم , الأخوة , الأخوات .. عاداتهم , تقاليدهم , تفاصيل عائلية دقيقة لا يمكن الحديث عنها إلا .. بين سجينين !
بعد فترة من هذه الأحاديث يصبح لكل من طرفي العلاقة السجنية هذه حياتان عائليتان , الحياة التي عشتها في عائلتي الحقيقية , والحياة التي عشتها متقمصاً , حالماً , في عائلة نسيم ! .
استرجع التفاصيل الطازجة بينما الباص يجتاز مسرعاً مناظر آخاذة وساحرة من الخضرة و المياه .
المائة كيلو متر الأخيرة اسرني فيها جمال الطبيعة إلى درجة أنني لم استطع أن أفكر إلا بما أرى , إلى اليسار البحر الرائق بزرقته المتدرجة , والى اليمين الجبال الشاهقة الخضراء .
يتلوى الطريق , يقترب من البحر حتى يدانيه , أرقب تكسر المويجات الصغيرة على الشاطئ , أرى السابحين و السابحات يحتضنون البحر و يحتضنهم , ويبتعد إلى درجة يغيب فيها البحر عن أعيننا فأنظر يميناً إلى بساتين البرتقال و الليمون و الزيتون .. هذا الاخضرار الندي .
ويصل الباص إلى المدينة , مدينة نظيفة , أنزل واستقل تكسياً , أعطيه العنوان الذي أعرفه كما أعرف عنوان بيت أهلي , أصل , أنزل , ودون عناء أقف أمام بيت أهل نسيم واضغط الجرس .
بين رنين الجرس وخروجي من البيت مطروداً مهاناً حوالي الثلاث ساعات .
فتح الباب ووقفت طفلة صغيرة في العاشرة من عمرها , قلت :
- مرحبا عمو , هذا بيت أهل الدكتور نسيم ؟
لم تجب , ركضت إلى الداخل , سمعتها تقول :
- ماما .. ماما , في واحد عم يسأل عن الدكتور نسيم .
ثوان قليلة خرجت بعدها أخت نسيم في ثيابها المنزلية وقد وضعت بسرعة غطاءً على رأسها , عيونها مثقلة بنظرات الدهشة و الاستفسار , وقد عرفتها فوراً , ابتسمت وقلت لها :
- مرحبا .. أكيد أنت سميرة ؟
جمدت في مكانها مواجهتي قليلاً مرتبكة وقد سمرت عينيها عليّ .. سحبت نفساً عميقاً وقالت :
- نعم يا أخي .. نعم ! أنا سميرة , بس حضرتك مين ؟ .. كيف بتعرفني ؟.
- أنا صديق نسيم , وجئت أزور أهله واطمنهم عليه .
- أهلاً وسهلاً .. يا أهلاً وسهلاً .. صحيح ؟ .. يعني نسيم حي ؟ .. نسيم عايش ؟..
مع العشرات من التساؤلات و الترحيبات ووسط دموع غزيرة .. أخذت سميرة تدور حول نفسها .. لا تعرف ماذا تفعل , طفلتها إلى جانبها , تسألني عدة أسئلة دون أن تنتظر جواباً , ثم تتبعها .. يا أهلاً وسهلاً , مسحت دموعها عدت مرات بغطاء الراس , وأخيراً انتبهت , قالت :
- عفواً .. عفواً , تفضل .. تفضل .
أدخلتني إلى غرفة الضيوف , جلست , ذهبت هي قليلاً ثم عادت , قالت :
- اتصلت مع زوجي .. زوجي في الجمارك , لم أجده , تركت له خبراً .
سكتت قليلاً .. ثم وبحرقة :
- من شان الله يا أخي .. طمني عن نسيم , أكيد نسيم عايش ؟ .. و وينو ؟
شرحت لها .. تكلمت وتكلمت , رويت لها العديد من قصصهم وحكاياهم العائلية و التي لا يعرفها إلا أفراد العائلة , فصدقتني , سألتها عن والد ووالدة نسيم .. عندها ازداد بكاؤها وتحول إلى نشيج , وفهمت من خلال الدموع و النحيب , أنهما قد توفيا , توفيا بحسرة الولدين .
الأول وهو المنخرط بصفوف المعارضة الاسلامية انقطعت أخباره نهائياً وتضاربت الآراء بين أنه قتل في إحدى العمليات وبين أنه معتقل, أما نسيم فقد انتظرت العائلة في اليوم المحدد لعودته متهيئةً للاحتفال بهذه العودة رغم غصة الولد الأول.
لكن العائد لم يعد, وطال الانتظار, بدأ الأب رحلة ماراثونية عبثية بين إدارة المطار وشركة الطيران والسفارة الفرنسية.
القنصل الفرنسي أكد بعد شهر من الانتظار على أن نسيم قد غادر الأراضي الفرنسية متوجهاً إلى بلاده , لكن شركة الطيران الوطنية وادارة المطار لم يقدما إلا إجابات غامضة لا تنفي ولا تؤكد .
ست سنوات بقي الأب مواظباً على السفر إلى العاصمة , في كل مرة يبقى ثلاثة أو أربعة أيام يتنقل خلالها بين السفارة الفرنسية و الشركة الوطنية للطيران و المطار الدولي , لكن دون فائدة .
عرفه موظفوا القنصلية الفرنسية , وكان الجواب واحداً في كل مرة . الشركة الوطنية للطيران كان جوابها واحداً في كل مرة : رفضت رفضاً قاطعاً إطلاعه على قائمة المسافرين في الرحلة التي كان من المفترض أن يكون نسيم ضمنها . إدارة الأمن في المطار الدولي ردوه عدة مرات رداً لطيفاً , ثم أخذوا يعاملونه بخشونة , بعدها هددوه بالاعتقال , وفي رحلة آب من السنة السادسة صفعه أحد عناصر الأمن في المطار صفعتين على وجهه .
خرج الأب وهو يبكي لأول مرة في حياته , قالت سميرة :
- و الله يا استاذ .. لم نشاهده أبداً وهو يبكي , حتى أمي قالت بعد أن رووا لها الحادثة أنها لم تشاهده يبكي أو يضعف ولا مرة في حياتهما المشتركة الطويلة .
اصيب الأب بجلطة دماغية لم تقض عليه ولكنها ألصقته بفراشه مدة أربع سنوات مشلولاً عاجزاً عن الحركة و الكلام .
نسيت الأم كل شيء , حتى أولادها , كرست نفسها لخدمة الرجل الذي رافقته هذه الحياة , كانت لا تخرج من غرفته إلا لقضاء حاجة أو لشأن خاص به .
دام هذا الحال أربع سنوات توفي الأب بعدها , وبعد شهرين لحقته الأم .
البنات تزوجن , سميرة وزوجها الكمركجي يسكنان بيت العائلة .
أعطيتها رقم هاتفي , سجلت رقم هاتفها .
ران صمت استمر أكثر من دقيقة , شعرت بعطش فطلبت من الطفلة أن تأتيني بكأس ماء , مقرراً الرحيل بعد شرب الماء , فيما أنا أشرب فتح باب البيت وسمعت خطوات الرجل , هبت سميرة واقفة وخرجت مسرعة .
سمعت همساً في البداية , ثم صوت نقاش حاد , صوت الرجل الذي ما ينفك يرتفع بينما سميرة تحاول جاهدة خفض صوتها والطلب إليه أن يخفض صوته , رغم ذلك سمعت أغلب ما دار بينهما .. بصوت خشن :
- ولك .. كيف تدخليه على بيتي و أنا غايب , أنا ناقصني مجرمين وخريجين سجون ! .
- يا ابن عمي .. يا ابن عمي , الله يخليك ويطول عمرك .. هذا ما نو مجرم , هذا من عند نسيم , صديق نسيم , هو فاعل خير .. الله يخليك طوّل بالك .
ودخل زوج سميرة بلباس الجمارك , طويل القامة , اشقر , مكفهر الملامح , وببرود وجفاء شديدين قال :
- مرحبا.
هببت واقفاً وأنا أقول :
- أهلاً وسهلاً .
بإشارة من يده طلب مني الجلوس بينما بقي هو واقفاً , بادرني بأول سؤال :
- كيف تسمح لنفسك أن تدخل إلى بيت رجل في غيابه ؟
لم يتنظر الجواب , تبع هذا السؤال سيل من الأسئلة التي لم يكن يريد لها جواباً , وأنقذت سميرة الموقف بدخولها الغرفة , تحول إليها آمراً إياها بالخروج , أبت الخروج ممسكة يده .. ومتضرعة :
- من شان الله .. ابوس ايدك .. ابوس رجلك , هذا صديق نسيم ونواياه كلها خير ..
سحب يده بعنف وهو يصرخ :
- خير ! .. عم تقولي خير !.. بتعرفي لو عرف "وا " .. انه هيك ناس عم يزوروني .. وقتها راح ينخرب بيتي .. وبروح لعند أخوك الدكتور !.. وإلا هذا المجرم الثاني .. قولي لي .. عندها شو بصير فيكي .. و بالأولاد ؟.. أه احكي .
ثم التفت إليّ .. وبصوت أهدأ قليلاً :
- شوف .. أنا لازم خبر الأمن , بس من شان خاطر نسيم .. راح خليك تروح .. بس وينك !.. ترى لا شفتني ولا شفتك .. ويا ويلك إذا هوبت صوب بيتنا مرة ثانية .. فهمان ه الحكي ؟.
خرجت لا ألوي على شيء , اتصبب عرقاً وأصواته تلاحقني .
رميت نفسي في أول سيارة رأيتها وقلت للسائق أن يأخذني إلى البحر , لكن السائق توقف وقال :
- لكن .. هذا هو البحر .. قدامك يا استاذ !.
- خذني إلى بحر غير هذا البحر .. يعني خارج المدينة .
في مطعم بحري لا أذكر منه شيئاً , جلست و أكلت , لا أعرف ماذا وكيف أكلت ,لا أعرف كم بقيت جالساً .
في اليوم الثاني استيقظت من نومي عند عودة لينا بعد الظهر , مع القهوة أخبرتني أن أمراة اسمها سميرة اتصلت هاتفياً وسألت عني وأنها تعتذر بشدة عما حدث .
استرجعت أحداث اليوم السابق محاولاً أن استوعب ما حدث .
حاولت أن أنسى .
13 تشرين الثاني .
اتركوني بسلام فأنا لا أريد منكم شيئاً .
استيقظ صباحاً دون موعد محدد , يكون البيت فارغاً , أنور ولينا في عملهما , البنت الصغيرة في الحضانة , أبقى قليلاً في السرير ثم أنهض , أرتدي ثيابي كلها " منذ أن خرجت من السجن و أنا أنام عارياً " , أتوجه إلى باب الغرفة المقفل , افتحه , أضع " ركوة " قهوة ثقيلة على الغاز وأذهب إلى المغسلة .
ساعة أو ساعتين وأحياناً أكثر أجلس على " الكنبة " اشرب القهوة بلا سكر وأدخن , أدخل إلى المرحاض " أنا حريص جداً أن اقضي حاجتي اثناء غياب لينا عن البيت , وأعتقد أن المسألة هنا معقدة قليلاً , فبنفس الدرجة التي تضايقني عملية اعتباري اسطورة من قبل لينا , إلا أنها ترضي بعض العوالم الجوانية في نفسي , أي بما انني بطل واسطورة كبيرة في نظرها فإنني – مع ضيقي من ذلك – أحاول باكثر من وسيلة أن أوكد ذلك , ومنها عدم دخولي المرحاض في حضورها , فالاسطورة التي في ذهنها أو البطل ذاك , يجب أن يكون منزهاً عن كل ما هو كريه , وهو أرفع من هذه الحاجات الإنسانية الوضيعة .. لذلك ومنذ أن عشت معها في بيت واحد , لم ترني قط أدخل المرحاض .... " .
أرتدي ملابسي , أخرج , أسير على غير هدى , لا أحد يعرفني , لا أعرف أحداً , أسير .... و أسير , لا أفكر بشيء محدد , قد اشتري قطعة شوكولاته فاخرة , انا أحب الشوكولاته ولدي الكثير من النقود , آكلها .. أدخن و أنا أمشي , في الكثير من الحالات أجلس في حديقة صغيرة قريبة من بيتنا .
أشتري بعض الحاجات التي أشعر أنها قد توفر بعض المال على لينا و زوجها , فوضعي المادي أفضل منهما بكثير , أنا مليونير تقريباً .
************
مسألتان أرعبتاني .
اتركوني بسلام فأنا لا أريد منكم شيئاً .
منذ فترة حضر خالي الوزير – وهو يتردد لعندنا بشكل دوري – وبعد الكثير من الأحاديث المعتادة , التفت إليّ فجأة وقال :
- أما آن الأوان .. تفكر بمستقبلك ؟.
وجمدت !!.
المستقبل ؟!.. وهل لإنسان في مثل سني ووضعي مستقبل ؟!.
خالي مثل أغلب رفاقه, آراؤه قاطعة حاسمة ولا تقبل النقاش, يتكلم دائماً بلهجة العارف بكل شيء, ويتخذ هيئة من يمتلك الحقيقة دائماً .. ولوحده!.
لذلك قال كلامه هذا بلهجة الآمر, وتطرق إلى المسألتين المرعبتين بالنسبة لي : العمل .. و الزواج !.
أيد جميع الحاضرين الفكرة, انتفخت أوداج خالي , ابتسم , التفت إلى بعض نساء العائلة وقال :
- أمر العمل , اتركوه لي .. أما الزواج فهو مهمة ه الصبايا , يا الله .... شوفوني شطارتكن .... ونقوا شي عروس تكون حلوة ومناسبة لهذا العريس المليونير .
ارتفعت صيحات النساء وزقزقاتهن وفوراً بدأن أحاديث جانبية عن مواصفات العروس المطلوبة .
ذهب خالي وانهمك الجميع في ترتبات الخطبة و الزواج , وانا صامت ! لم يسالني أحد رأيي , وبقيت صامتاً . هاتان المسألتان أتعبتاني لفترة طويلة .
بعد مضي حوالي الاسبوعين طلبني على الهاتف موظف كبير في الإذاعة و التلفزيون , عرفني على نفسه وطلب مني الحضور إلى مكتبه لمناقشة سيناريو مسلسل تلفزيوني وقال :
- إذا عجبك السيناريو, فوراً نوقع العقد لتخرجه, ولا تسأل عن الإمكانيات المادية فهي متوفرة و الحمد لله .
احتجت إلى الكثير من اللباقة لكي أعتذر بلطف , لكنه واصل :
- يا أخي لا ترفض , تفضل لعندي إلى المكتب و أنا واثق أنك ستقتنع , يعني..لا تواخذني..أنت صحيح مخرج لكنك اسم غير معروف, وأنا لاعتبارات أظنك تعرفها, أقدم لك فرصة العمر على طبق من ذهب .
ورفضت .
نتيجة الرفض كانت توبيخاً شديداً من خالي عند المساء , وأمرني أن أوافق على العرض , لكني رفضت , قال بغضب :
- انت واحد حمار .
بقيت مسألة الزواج، لا يمر يوم دون أن تتصل أو تحضر إحدى نساء العائلة ، أغلبهن يبدأن الحديث بجملة واحدة :
- أما شو لقيت لك عروس .. لقطة .. لقطة ، واذا مشي الحال .. راح يكون بيتك بالجنة .
وتبدأ عرض مزايا هذه العروس التي قد تكون قريبتها أو جارتها ، واحداهن رشحت لي أختها .
كنت أحتاج إلى صبر أيوب ، خاصة والحديث يجري مع النساء ، فأنت تسطيع بسهولة أن تجعل أية إمرأة تيدأ الكلام ، لكن من العسير جدا أن تجعلها تسكت .
اتركوني بسلام فأنا لا أريد منكم شيئا .
منذ أن خرجت من السجن أحسست أن هناك هوة لا يمكن ردمها أو جسرها بيني وبين الآخرين ، حتى أقرب الناس إلي ، اخوتي أو لينا، أحك عواطفي ومشاعري فلا أشعر تجاههم بشيء ، الحيادية في المشاعر ، لا شيء يشدني ، لا شيء يثير اهتمامي .
لكل انسان لغة تواصل خاصة به يستخدمها بإقامة العلاقات المتفاوتة في القرب أو البعد عن الناس ، هذه اللغة .. لغتي الخاصة بالتواصل مع الناس ، مفقودة .. ميتة ، والأكثر من ذلك ليست لدي الرغبة بالمطلق في إيجاد لغة تواصل جديدة ... أو احياء القديمة .
دائما أشعر أن لهم عالمهم .. ولي عالمي ، أو ليس لديّ عالم أبدا ، لكن قطعا لا أنتمي لعالمهم .
أرتعب من فكرة الاضطرار إلى مخالطة الناس بحكم العمل أو أي شيء آخر ، أريد الابتعاد عنهم أكثر
ما يمكن !! .. الانزواء !.
أريد أن أكون منسيا ومهملا منهم .
الزواج ؟ .... يا الهي .
أن تأتي إنسانة ما تشاركني فراشي وطعامي ومرحاضي وروائحي !!..
إن مجرد التفكير بهذا المضوع يتعبني ويصيبني بالدوار .
اتركوني بسلام فأنا لا أريد منكم شيئا !.
وفي لحظة غضب طلبت من لينا أن تبلغ الجميع هاتفيا انني لا أريد من أحد أن يكلمني في موضوع الزواج بعد اليوم أبدا .
كانت النتيجة أن قال لي خالي :
- أنت واحد بغل .
أما النساء اللواتي كن يسعين لتزويجي فقد اعتبرن الموضوع ماسا بكرامتهن وانطلقت السنتهن تنهشني ..
- لا تعمل خير ، شر ما يجيك ..
- على شو شايف حاله !! . يعني كل واحد يدخل شي يومين ع السجن يصير يعنطز حاله هيك !
- رضينا بالهم ، لكن الهم ما رضي فينا ..
- يعني ختيار " مكحكح " واصلع .. مثل القرد ، يعني لأنه عندو قرشين ما عاد حدا يعجبه !.. صحيح مثل ما يقول المثل : يا آخذ القرد على ماله ، بيروح المال ويظل القرد على حاله .
كل هذ وأكثر .. ولكن رب ضارة نافعة ، فقد تحولت العلاقات إلى ما يشبه القطيعة .
وأخيرا .. تركوني بسلام .
25 كانون الأول
اليوم عيد الميلاد ، وهو يتوافق مع العيد الثاني لميلاد ابنة لينا .
حقا أنني قد عشت عمرا طويلا !! .. وقد يكون أكثر من اللازم ، لا زلت أذكر حماسي الشديد عند ما كنا نحضر للاحتفال بأعياد ميلاد لينا نفسها ، الأول .. الثاني .. الثالث .. وحتى الخامس .
الآن أرقب " ومن مسافة " التحضيرات الحماسية لأجواء عيد الميلاد ، وللاحتفال بعيد ميلاد ابنة لينا .
************
طوال الشهور الماضية حياتي محصورة بمجموعة من الأفعال القليلة ، وعلى الأغلب يشكل قسم منها السبب أو العلة للقسم الثاني :
أنام ، آكل ، أشرب ... و... استيقظ ، أتغوط ، أتبول ..
أتجول هائما على وجهي في الشوارع والطرقات والحدائق ، حولي الكثير من الناس ، لكني لا ألحظ الوجوه ، أحس الناس كتلة هلامية ، أو كتلة أثيرية .. جزءاً من الهواء المحيط بي ، لا ألحظ شيئاً أو وجهاً ... فالانسان عادة لا يرى الهواء المحيط به .
اشتريت جهاز تلفزيون جديداً وضعته في غرفتي ، لا اشاهد إلا الأفلام الأجنبية والمسلسلات ، لا أتابع الأخبار مطلقا ، لا أفوت أية مباراة كرة قدم سواء كانت محلية أم أجنبية .
أنور زوج لينا يعمل مبرمجا للكمبيوتر ، أغراني بتعلمه وهو لا ينفك يردد عبارة : " في هذا الزمن من لا يعرف الكمبيوتر يعتبر أميا " ، تعلمت واشتريت جهازا حديثا ذا نوعية جيدة ، لم استخدمه إلا لألعاب الورق
" الشدة " وخاصة لعبة تسمى " العنكبوت " .
منقطع كليا عن كل ما يدور في هذا العالم ، حاولت لينا عدة مرات أن تعيد صلتي بالناس .. بالمحيط ، أحيانا كنت أحب أن أسايرها وأجاملها ، لكني رفضت بعناد تغيير أسلوب حياتي .
في حضور الناس أحس بالوحشة والغربة ، أشعر أن هناك عبئا ثقيلا ملقى على كاهلي !.. ولا يزول هذا الاحساس إلا عندما أعود إلى غرفتي , استلقي على سريري وأحدق بالسقف , أبقى ساعات .. ساعات طويلة على هذه الشاكلة .. ودون أن أفكر بشيء !.
أنور ولينا يتحركان الآن بحماس شديد ، يزينان شجرة الميلاد ، بحضران الشموع .. يرتبان المائدة ، هناك عدد من المدعويين ، أفكر كيف سأتملص من هذه الحفلة الصاخبة !.. في داخلي حزن أسود .
لم أخبر أحدا بما حدث لنسيم !.
************
منذ عشرة أيام رن الهاتف في البيت ، عادة لا أرد أنا على الهاتف ، ليس هناك من يتصل بي ، ظللت مستلقيا على سريري ، نادت لينا :
- يا عمو .. التلفون الك !.
لأول وهلة جفلت ، ذهبت إلى حيث التلفون ، لينا تمسك السماعة ، سألتها :
- مين ؟ .
- واحد اسمه الدكتور هشام .
أخذت السماعة وتكلمت ، ذكرني بنفسه ، تذكرته جيدا . أحد الأطباء اللذين كانوا معي في السجن الصحراوي ، وهو من أوائل الذين اتخذوا موقفاً جيدا مني ، كان من الأصدقاء المقربين لنسيم .
فوجئت ، سألته من أين يتكلم ، أعلمني أنه ونسيم قد خرجا من السجن ، وأن نسيم أعطاه رقم الهاتف هذا طالبا منه الاتصال بي ، قال :
- نسيم يحييك .. يرجو منك الحضور إلى هنا .
أجبت أنني سأكون عندهم غدا ، أعلمني بلباقة أنه لا يجب أن أذهب لعند نسيم في البيت ، رتبنا موعدا في عصر اليوم الثاني في مقهى بحري قريب من بيت أهل نسيم .
المقهى شبه فارغ ، اخترنا طاولة على الحافة تتكسر تحتها الأمواج الصغيرة ، جلسنا نسترق النظر إلى بعضنا ، شعرهما لا زال قصيرا ، مضى أكثر من نصف ساعة على لقائنا ولم تلتق نظراتي بنظرات نسيم !..لماذا لا ينظر إليّ مباشرة ؟ عندما التقينا حضنا بعضنا بعنف ، نحن الثلاثة حضّنا بعضنا وبدأنا نبكي ، بكينا أكثر من خمس دقائق " لا أعرف سبب البكاء ،الفرح باللقاء .. أم أن كلاً منا يبكي على نفسه ؟ " .
بعدها بدأت البسمات المتبادلة ، نسيم لم يبتسم أبدا ، زائغ النظرات ، لا يتكلم .
شربنا أنا ونسيم البيرة ، شرب هشام عصيرا ، هشام هو الذي يتكلم ، شرح لنا مخططاته للمستقبل ، هدفه واحد وبسيط ، قال :
- أخرجوني من هذا البلد .. وأنا على استعداد للعمل "زبالاً" في أي مكان آخر على ظهر الكرة الأرضية.
" هشام طبيب جراح تجميل ، ويعتبر متميزا في اختصاصه !".
نسيم صامت يحدق بنظره إلى نقطة في عمق البحر .
سألت هشام كيف تم خروجهما من السجن .
فجأة ودون سابق انذار ، فتح عناصر الشرطة الباب ليلا وأخذوا يقرؤون الأسماء , خرج جميع من تليت أسماؤهم , عندما تفحصوا بعضهم تبين أنه يمكن تصنيفهم في ثلاث فئات : المشلولون , المصابون بأمراض عضال ويتوقع موتهم قريباً , الرهائن ..
فيما بعد انضم إليهم قسم من نزلاء مهجع البراءة , الذين غدوا شباباً في العشرينات من عمرهم بعد أن قضوا أكثر من عشر سنوات في السجن . نقلوا الجميع بالحافلات إلى العاصمة .
قبل ذلك كانت السلطة قد سربت أخباراً شتى عن نية الرئيس باصدار عفو عام عن السجناء , لم يصدق أحد سواءً داخل السجون أو في خارجها هذه الإشاعات , لكنهم تعلقوا بالأمل .
بضعة أيام في العاصمة , أي في سجون العاصمة , حاولوا تحسين مظهر السجناء قليلاً , اشتروا لهم ألبسة جديدة , أعطوا كل سجين مبلغ مئتي ليرة كمصروف جيب وثمن بطاقة السفر لكل واحد إلى بلدته أو مدينته .
في اليوم المقرر لخروجهم من السجن وضعوهم في حافلات أخذتهم إلى أكبر و أهم ساحة في المدينة , أوكلوا الأمر إلى أحد كبار ضباط الأمن الذي فهم الأمر حرفياً :
- تأخذهم إلى الساحة , تضع الباصات حول الساحة , تنزل الجميع إلى الساحة , المطلوب مظاهرة تأييد للسيد الرئيس .
عند التنفيذ أشار عليه البعض أن هناك عشرات المشلولين وهولاء لا يستطيعون السير في مظاهرة !.
لكن الضابط أصر , لقد قال له رؤساؤه كلمة : الجميع .
في الوقت المحدد لانطلاقة مسيرة تأييد السيد رئيس الجمهورية , كان لا يزال ما يقارب الأربعمئة سجين يحاولون إنزال ما يقارب المئتي مشلول !.. أنزلوهم , أجلسوهم في صفوف نظامية على الاسفلت الدائري العريض , وقف أمامهم المصابون بالأمراض العضال , مرضى السرطان , مرضى القلب و الشرايين , مرضى السل ..... وكذلك الشيوخ وكبار السن , في مقدمة الجميع أفراد مهجع البراءة , وهم الأكثر شباباً و معهم البعض من تنظيم الرهائن , أمام الجميع لافتة ضخمة مكتوبة باللون الأحمر الدموي وبخط جميل , معنونة :
" مبايعة مكتوبة بالدم "
يبايع فيها المتظاهرون السيد رئيس الجمهورية ويعاهدونه أن يفدوه بدمائهم وأرواحهم , وأنهم كلهم جنود لديه !.
************
الأمواج لا زالت تتكسر تحتنا تماماً , يصل إلينا بعض الرذاذ أحياناً , نسيم ساكت يدخن بشراهة , الدكتور هشام يمسك بدفة الحديث , بدأ يتحدث عن مخططاته للمستقبل :
- أهم شيء هو أن أخرج من هذا البلد اللعين , يومان أو ثلاثة وتكون أموري قد ترتبت .
لديه أخٌ يعمل بحاراً على إحدى السفن التجارية السويدية , هذا الأخ كان موجود صدفة عند خروج هشام من السجن , ابلغه هشام برغبته الحارقة لمغادرة البلد فرتب له عملاً على السفينة التي يعمل بها , العمل هو مساعد طباخ السفينة , مساعد ال " شيف كوك " .
الدكتور هشام يكاد يطير فرحاً بهذه الوظيفة , هذه الفرصة للهرب .
نسيم ساكت , أنا قلق .
قلق رغم أنني لم أحس بالفرحة المتوقعة لدى رؤيتي نسيم مرة أخرى , أحسست أنه إنسان عادي , لا بل إنسان مريض , واغتنمت فرصة انشغاله بالتحديق الدائم إلى نقطة محددة في البحر لاسأل هشام خفية وبالإشارة فيما إذا كان نسيم يتناول دواءه بانتظام ؟
هشام قلب لي شفته السفلى دون اكتراث , لا يعرف !
أحسست أن مجيئي إلى هنا بلا معنى , ماذا أفعل هنا ؟.. بدأ الملل ينتابني , تخيلت نفسي مستقلياً على سريري في البيت أدخن , مجرد التخيل أراحني , فأنا بالعام لم أعد أحب التفكير , إن مجرد إشغال فكري و ذهني بأي قضية مهما كانت صغيرة تتعبني , أحس عندها أن رأسي قد انتفخ والصداع يطرق الصدغين .
قررت أن أعود إلى بيتي , ولكن كيف لي أن أنسحب , لحد الآن - ورغم أن نسيم قد بكى كما بكيت عندما تعانقنا- لم يتفوه بجملة واحدة مفيدة , فكرت أن أشده للمشاركة بهذا الحديث , قلت :
- شو يا نسيم .. هذا الدكتور هشام يخطط للهرب من هذا البلد , ماذا تخطط أنت للمستقبل ؟. صمت قليلاً , التفت إليّ , لأول مرة تلتقي عينانا , عيناه حمراوان , بحدة وتشنج واضحين قال :
- بدي أشكل عصابة .. عصابة مجرمين .
ضحك هشام , وبعفوية سأله مازحاً :
- ليش العصابة ؟.. بدك تسرق البنوك ؟.
- لا .. ما بدي أسرق , أنا ما بسرق .... نسيم ما نه حرامي !.. بس في واحد كمركجي سرق مني بيتي واختي .. اغتصب بيت أهلي , وكل يوم يغتصب أختي سميرة !.. وهلق يريد طردي من البيت !.. راح أقتل هذا الكمركجي .. وكل كمركجي به البلد .... راح أقتل كل الكلاب المجرمين .... راح اقتل يللي عم يغتصبوا كل يوم أمي وأمك .... أختي و أختك ... بيتي وبيتك .
جمد هشام وسكت .
التفت نسيم بعدها إلى نقطته التي يحدق فيها .. في عمق البحر , وران صمت عميق على جلستنا .
أرى من خلال سلوك نسيم نذر عاصفة قوية , عاصفة هوجاء تنذر بالإنفجار , ويبدوا أن هشام أيضاً أحس بالخطر , تبادلت وإياه النظرات خفية , علائم الحيرة .. الارتباك علينا نحن الاثنين .
أحسست بتعب شديد , بانتفاخ في الرأس وصداع , حزمت أمري وقررت الانسحاب و السفر , السفر إلى البيت حيث السلام و الهدوء و اللاتفكير .
المقهى البحري الذي نجلس فيه قريب من بيت أهل نسيم , وفيما أنا غارق في أفكاري احاول اغتنام أول فرصة مناسبة لكي أعتذر وأنسحب , هب نسيم واقفاً , التفت إلينا وطلب منا أن ننتظره هنا , وأنه لن يغيب أكثر من خمس دقائق , فوجدتها فرصة مناسبة لأقول إننا كلنا يجب أن نذهب , وأنه يتعين عليّ السفر بعد قليل لارتباطي باشياء هامة في العاصمة .
وقفت ووقف هشام , سكت نسيم قليلاً .. نظر إليّ بعمق مصوباً نظرة من عينيه الحمراوين لم استطع تفسيرها , بعدها طلب منا أن نمشي معه قليلاً صوب البيت لأن هناك شيئاً يجب أن يعطيني إياه , استفسرت منه عن هذا الشيء , قال إنه هدية منه لي .
دقيقة أو أكثر وصلنا أمام البناء المؤلف من ستة طوبق و الذي خرجت منه ذليلاً مطروداً قبل بضعة أشهر .
وقفت مع هشام على الرصيف المقابل للبناء ننتظر عودة نسيم , قلت لهشام إنه يجب أن يتابع وضع نسيم الصحي لأنه – على ما أعتقد – على أبواب نوبة جديدة , وأن عليه أن يتحادث مع أخته وصهره ويضعهم في صورة الوضع الصحي , لوح هشام بيده وقال :
- صهر نسيم واحد كر !.. الحكي معه خسارة , بعدين ... يوم أو يومين راح قول لهذا الوطن العزيز باي .. باي .
لم يتم هشام كلامه , سمعنا صرخة من سطح البناية , رأينا نسيم يلوح بيده وينادي اسمي ... وبأعلى صوته فهمنا منه ما معناه أنه سيقدم موته هدية لي !!! .
وقفز .
على الرصيف .. أمام مدخل البناية , تحول نسيم إلى كتلة من الدماء و اللحم المهروس و العظام المحطمة .
أمام جمع كبير من المارة , وأمام أعيننا .. قفز نسيم من سطح الطابق السادس .. إلى الرصيف أمام البناية .
و ..... مات نسيم .
سحبني هشام من يدي , سرنا .. لم أكن أفكر بشيء !. لم أكن حزيناً ... لا أحس بأية مشاعر .. سلبية كانت أم إيجابية !! .
وضعني هشام في أول بولمان ذاهب إلى العاصمة , أوصاني ألا أخبر أحداً أننا كنا مع نسيم قيل انتحاره , لأن هذا سيعرضنا للتحقيق والسؤال و الجواب .
وصلت البيت في الواحدة بعد منتصف الليل , لم أخلع ثيابي كعادتي حين أدخل , أحضرت لترعرق من المطبخ وجلست في غرفتي أشرب وأدخن .
استيقظت لينا , وقفت بثياب النوم قبالتي تتفرس في وجهي , قالت :
- شو القصة .. عمو ؟ .. وين كنت ؟ وليش هلق عم تشرب عرق ؟ ...
لم تكمل لينا سيل أسئلتها , حضر أنور زوجها , استيقظ هو أيضاً ... قال :
- يا سلام !.. العم يشرب العرق مثل العادة , لكنه اليوم متأخر عن موعده هاتي كاس ل نشاركه .
شرب معي كأساً من العرق , شربت لينا كأساً صغيراً , استأذن أنور وذهب لينام , بقيت لينا جالسة قبالتي تنظر إليّ بقلق , صببت الكأس الثالثة عندما لاحظت أن لينا تهم بالكلام , رفعت يدي .. أسكتها وطلبت منها أن تذهب للنوم , رفضت و أفهمتني أنها لن تذهب قبل أن تعرف ماذا أريد , .. لماذا أدفن نفسي في الحياة هكذا ؟.. لماذا أشرب هذه الكميات الهائلة من العرق و التبغ يومياً وكأنني أسعى للإنتحار ؟ ... لماذا .... ولماذا ؟.
أفرغت الكأس الثالثة دفعة واحدة , بدأ العرق يطفو في رأسي , نظرت إلى لينا وتساءلت : ماذا تريد هذه الصبية الجميلة التي تدعوني ب " عمو الحبيب " ؟ . أعرف أنها تحترمني وتحبني كثيراً .. رغم هذا لم يكن لدي أية رغبة بالكلام !.. سكت طويلاً بينما هي تنتظر كلامي ... لا أدري كيف بدات الكلام , ولا ماذا قلت , لقد تكلمت كثيراً ... اسمعي يا لينا , كنت أتمنى لو كانت أمي على قيد الحياة لكنت أرحت نفسي في حضنها ووضعت رأسي على صدرها وبكيت ... بكيت فقط , البكاء لدي حاجة ... وحاجة قوية .
اليوم يا لينا انتحر صديقي وتوأم روحي !!..أنتحر أمامي و اهداني موته "هل يمكن أن يكون الموت هدية ؟ " .
لم أبكِ ... لم أحزن .
يا لينا : أنا أؤمن بقول يقول إن الإنسان لا يموت دفعة واحدة , كلما مات له قريب أو صديق أو واحد من معارفه ... فإن الجزء الذي كان يحتله هذا الصديق أو القريب ... يموت في نفس هذا الإنسان !.. ومع الايام وتتابع سلسلة الموت ... تكثر الأجزاء التي تموت داخلنا ... تكبر المساحة التي يحتلها الموت ...
و أنا يا لينا ... أحمل مقبرة كبيرة داخلي , تفتح هذه القبور أبوابها ليلاً ... ينظر إليّ نزلاؤها .. يحادثونني ويعاتبونني .
أشرب العرق يومياً يا لينا ... لكي أنام !.
أمسكت لينا يدي وطفقت تبكي , آخر ما سمعته منها هو رجاؤها أن تحل محل أمي , وأن أضع رأسي على صدرها وأبكي !..
وقفت على قدمي و أنا أكاد أفقد التوازن , أمسكت يدها وسحبتها إلى غرفتها , دفعتها إلى الداخل وأغلقت الباب .
عدت إلى غرفتي واقفلت الباب بالمفتاح .. لا أذكر متى نمت ! .
3 تموز
ها قد مضى عام كامل على لحظة خروجي من السجن !.
ينام الإنسان فلا يعود يشعر بشيء مما يدور حوله , تدخل حواسه جميعاً في حالة سبات .
يستيقظ الإنسان فتسيقظ حواسه جميعاً ويصبح مدركاً لما حوله .
لكن بين النوم و اليقظة هناك لحظة , ثانية أو أقل أو أكثر , هذه اللحظة لا هي نوم ولا هي يقظة , لحظة التحول بين الحالتين أو الإنتقال من حالة إلى أخرى .
هذه اللحظة التي تمثل نصف وعي .. أو نصف احساس .. نصف إدراك .
ضمن هذه اللحظة , ضمن المسافة الزمنية التي تستغرقها " لحظة " .. لازلت أرى نفسي " نصف رؤية " , أحس " نصف احساس " .. أنني في السجن الصحراوي !!.
مضى عام كامل ولازلت أرى نفسي عند استيقاظي في السجن الصحراوي .
هل يمكن القول أنني خرجت من السجن قولاً وفعلاً ؟.
لا أعتقد ذلك !.
يومياً .. أمارس نفس الأفعال الآلية و الضرورية لاستمرار الحياة , أكل وأشرب وأنام .. و..
هل سأحمل سجني معي إلى القبر ؟.
في السجن الصحراوي .. شكل خوفي المزدوج قوقعتي التي لبدت فيها محتمياً الخطر !... هنا – ويسميه السجناء عالم الحرية – خوفٌ من نوع أخر , وقرف .. ضجر , اشمئزاز , كلها شكلت قوقعة اضافية أكثر سماكة ومتانة وقتامة !! ... لان الأمل بشيء أفضل كان موجوداً في القوقعة الأولى !.
في القوقعة الثانية لا شيء غير .... اللاشيء !.
يشرب الإنسان الخمر , الكأس الأولى قد لا تفعل شيئاً , يستمر بالشرب إلى أن يصل إلى حالة السكر , وهي الحالة التي ينفصم فيها عقل الإنسان .. للسكران عقلان ,عقل سكران : ليكن اسمه اللاعقل , لكنه ليس نفياً للعقل , ليس عدماً , هو نقيض العقل , اللاعقل شيء مادي موجود !... كوجود العقل ذاته .
اللاعقل هو الذي يتحكم بأفعال السكران وحركته ويدفعه لارتكاب الأخطاء .
و العقل الثاني للسكران هو عقل صاح , واعٍ , لكن ليست لديه سلطة في تلك اللحظة على هذا الشخص , هو يرى ويراقب ويسجل ... دون أن يستطيع التدخل .
منذ عام وأنا أعيش الحالة هذه !.. أعرف ان انزوائي وانكفائي ... عزوفي وكرهي للتعامل مع الناس حالة غير صحية , لكن ... لا الرغبة و لا الإرادة موجودتان للتغيير ... بل على العكس , أحس رعباً قاصماً للظهر عندما يومض في ذهني خاطر أن أعود للعيش كبقية الناس !... " يا إلهي كم العيش مثلهم , متعب وسخيف ! " .
************
بعد وفاة نسيم بأكثر من شهر اتصل بي صهره " الكمركجي " هاتفياً , اعتذر ... أخبرني بحادث انتحار نسيم "إنهم لا يعلمون أنني كنت حاضراً " ودعاني إلى حضور الأربعين , لا أعلم الحيثيات التي دفعتهم لدعوتي , ذهبت في الموعد المحدد , ذهبنا جميعاً إلى المقبرة , رأيت بعض الوجوه التي أعرفها من السجن , عدت في النهاية إلى أحد الفنادق المطلة على البحر مقرراً قضاء الليلة فيه .
مساءً ذهبت إلى أحد المطاعم , تناولت العشاء وشربت , شربت كثيراً , بالكاد استطعت الوصول إلى غرفتي بحدود الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .
استلقيت على السرير بكامل ثيابي , احدق خلال الظلام إلى نقطة ضوء آتية من الخارج ومطبوعة على سقف الغرفة , و ... حضر نسيم !!...
انتصب قبالتي عند طرف السرير , لم يتكلم , لم يتحرك ... فقط ينظر إليّ نفس النظرة التي رأيتها في أعماق عينيه قبيل انتحاره بدقائق , عندها فهمت النظرة , عتاب قاتل ... وعبارة :
لم تركتني .... لم تركتني !.
وكأني كنت اسمع المسيح لحظة موته يصرخ ... بعتب ... احتجاج .... حيرة .... وبالكثير من الحب :
إيلي .. إيلي ... لم شبقتني ؟.
انفجر الحزن داخلي كبركان حبيس , اعتدلت , ذهب نسيم وهو لا يزال ينظر نفس النظرة .
سيطرت عليّ فكرة واحدة إلى حد الهوس، أن أحمل باقة ورد وأذهب إلى المقبرة، أحتضن حجارة نسيم و أبكي ... أبكي حتى الثمالة .
الورد لنسيم ... و البكاء لي .
خرجت إلى الشارع أبحث عن محل للورود في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ؟... لا أحد في جميع الشوارع التي لبتها بحثاً عن الورود!.
ها قد مضى عام كامل على لحظة خروجي من السجن .
كانت لحظة بحثي عن الورود الفورة العاطفية الوحيدة التي أشعرتني أنني كبقية البشر !... لكنها همدت عندما ظللت أبحث عن الورد حتى الصباح.
ورأيت أنه من الأنانية بمكان أن أذهب دون ورود... لأبكي فقط. من الأنانية أن ألبي حاجتي دون حاجة نسيم. نسيم يريدني أنا فقط... وأمامي فقط... يريد أن يرد اعتباره. وأنا أريد أن أبكي لأفرغ بعض السواد الممتلئ في القلب.
وعاد السواد ليطمس كل شيء.
************
قضيت هناك داخل قوقعتي في السجن الصحراوي آلاف الليالي استحضر وأستحلب المئات من أحلام اليقظة، كنت أمني النفس أنه إذا قيض لي أن أخرج من جهنم هذه، سوف أعيش حياتي طولاً وعرضاً وسأحقق كل هذه الأحلام التي راودتني هناك.
الآن... ها قد مضى عام كامل... لا رغبة لدي في عمل شيء مطلقاً.
أرى أن كل ما يحيط بي هو فقط: الوضاعة و الخسة .... والغثاثة !!.
وتزداد سماكة وقتامة قوقعتي الثانية التي أجلس فيها الآن ... لا يتملكني أي فضول للتلصص على أي كان !.
أحاول أن أغلق أصغر ثقب فيها، لا أريد أن أنظر إلى الخارج، أغلق ثقوبها لاحول نظري بالكامل إلى الداخل.
إليّ أنا.. إلى ذاتي!..
وأتلصص.
وسوم: العدد 819