البَتْر سَنَوات مابعْدَ 1993
لاتَسْأل عن مَاتَحْمِلُ عيُونِي فَمَا بي لا يُمكنُك الإطلاع عليه ، ومهما نَاجَيْت فما
بفؤادي أحكم البقاء ، و لستُ دمية يُمكنك يا زمان تَسْويقِي ، فأكبر راحة لقلبي
سَاعة رؤيته للقمر والنجوم وضوء الشمس .
مَع كَلِّ صباحِ أنظر إلى السماء فأتذكر عظمة خالقي ، ومن شقوق النافذة تتسلَّلْ
أشعَّة الشمس الذهبية والتي مافتأت تَنْحدر وتغوص في الأركان فتتبعتها كيف
تولج ، وألقت الشمس بخصالها أنواعٌ من البهجة والهدوء والتفاؤل .
رَغبتِي مع كلِّ هذا الجمال أن يكون راحة وسلام على كل وافدٍ لهذه الحَيَاة. في هذا
الحِين يَغِيب القمر ومعه النجوم والكواكب الليلية لأنها ستعود بعد غياب الشمس .
هذه هي قدرة الله جلَّ وعلاَ ، فما أحلى أن يعيش البشر هذا الترتيب الكوني المشهود
سرًّ عيوني ليس خَطير ، ومِثلي ستجد الكثير ، أناس تعيش مثل أيامي، ولن تجد
لتجربتي نظير ، لأنَّ شعار قلبي الوفاء والسير على دُروب الخير .
اَمال الإسم الذي إختارتة الجدة لإبنت إبنها لتجعلها وريثتها في الأفكار والتربية
والجمال .
كبرت الفتاة وتخرجت من الجامعة الجزائرية للترجمة ، اَمال تبلغ من العمر ثلاثة
وعشرون ربيعًا ذات قدٍ نحيف ووجه أسمرٍ فاتح توردت خدودها كلما قابلت عيونها
عيونٌ مراقبة لها طويلة القامة ، ذات عيونِ واسعة بنيِّة اللون ، وأنفٍ شامخٍ .
توفيت الجدة ولكن والديها لا يزالان على قيْد الحياة ، ومباشرة بعد تخرُّجها بدأت
اَمال في البحث عن عمل ترتزق منه ، وهاهي سنوات الألفين تزحف شيئًا فشيَا و
هاهي الفتاة تخرج للشارع بحثَا عن عمل ، لبست سروال جينز أزرق وقميص أسود
وسرحت خصلات شعرها الليلي وتبرجت بألوان على عيونها وخدودها .شوارع
البلدية ضيقة وقاطنيه أناس أغنياء ولكن بهم ميزة بغيضة وهي التطفل على الناس
قلوبهم غير صافية ، والذي كانت تحمل منه الجارة "نعيمة" واحدًا قلبًا أسودًا
ماقِتًا ، خرجت الفتاة من بيتها وما إن برزت عن الباب حتى إلتقطتها عيون الجارة
نعيمة" من نافذتها وتتبعتها بعيون متأنية ، في هذا الحين تخرج الجارة العجوز
"عائشة" من بابٍ مقابلٍ لنافذة الجارة وما إن برزت حتى بَادَرَتها "نعيمة" بالغمز و
الهمس: نحن كلَّ شيء ضِدَنا الحَظُّ والظروف ، لكنها ليست كبقية أخواتها هي أنيقة
وتهتم بنفسها ؟ وترد عليها العجوز أن أطفئي نار الحقد بصدرك بقطرات ماء
الحُبِّ ينتعش قلبك . وترد عليها "نعيمة" الوقت لا يرحم ولا يزال علينا الحذر
مطلوبٌ أمَّا العجوز فردت قائلةً:
كبرنا وإكتشفنا أنَّ ما يخيفنا في الدنيا هو الإنسان ،وترد عليها نعيمة أن أولاد الحرام
ما إن يشاهدوا إمرأة متبرجة إلاَّ وحاولوا ترهيبَها وتَخْويفَها من أجل حرمانها من
التجمّل وبدافع الغيرة طبعًا فهم شباب لا يدرون ما يفعلون سوى أنهم لا يريدون
الشابات الظهور أمامهم متجملات وقد تجد منهم من يفعل ذلك من نفسه غيرة فقط.
السنة فيها أربعة فصول وأجملهم فصل الربيع ، والمرأة مثل جماله على طول
العمر ، فصعب أن تظهر للناس بمظهر جميل وبداخلك وكر للخفافيش والظلم يجول
خرجت اَمال عن شارع 24فبراير وسارت في إتجاه محطة النقل الجماعي وهي
تسير بخطى متأنيَّة فما من شابٍ أو شيخٍ إلاَّ ورماها بالكلمات هذا لماذا لا تلبسي
خمار لماذا لا تختفي عن الأنظار ، تواصل الفتاة طريقها حتى ركبت النقل الجماعي
متجهة إلى المدينة عليها وضع ملف التشغيل .
العيون لم ترتفع عنها ، بل حاوطتها من كل جهةٍ تتفرج عن عيونها وكثيرًا ما
يلكزها هذا الذي بجانبها ، فتتفاداه بأدب ويرمي الذي خلفها كلمات عن النساء ليجد
اَخر يرد عليه ويشاطره الرأي ، ولكن المرأة لا تهتم لقلة ماعندها بل لكثرة نفاقٍ من
حولها ، والرجل يستطيع حماية المرأة من كلِّ رجلٍ إلاَّ من نفسه ، وليس جميع
الرجال منصفين للمرأة ، فالعجوز "عَليَّة" زوجها كثيرًا ما يضربها ويطردها
إلى الشارع رغم أولادها وبناتها .
سارت الفتاه في مساءٍ تنشد فيه العصافير بلغاتٍ متنوعة ، مساء يتنفس بذكر الله
مساء حلوٌ ،مساء معطر بعطر الورد ، تحمل في يدها رخصة الإنضمام للعمل وقد
تفتحت أمامها ورودٌ ، وتبشَّرت لها بالهنا طيور .
لقد نالت منها عيون زميلاتها ، وكثر الكلام بينهم هذه تبحث عن من ساعدها على
إيجاد العمل ، والأخرى تنظر في هندام اَمال وتنظر في جلبابها كمن تقارن أو
تحاول لفت النظر ، وتتكلَّم بلون عيونها ، ومعنى الكلام مرسومٌ بجفونها ، كلَّ
الكون هو الاَن إلى جانبك ، تحفوه نسائم باردة ، يسرن على الرصيف وسط المدينة
والشارع مزدحمً بالمارة والعابرين ، تتراص السيارات على حافة الطريق .
معرفة الناس والخير لا يقاس بزمن ولا بسِنين ، ولكن بإدراك أهمِّية الحياة ، وليس
الخير وحده في حياة الإنسان بل في كل ماعلى الأرض من حياة .
تعود اَمال إلى بيتها وهاهي تعبر إلى سارع 24فبراير ، الشارع خالٍ من الناس
فتمنعت من الألسن ، لكنها وجدت العجوز فاطمة أمام بيتها تجلس على صخرة من
الرصيف قرب باب بيتها وما إن تقترب الفتاة من العجوز حتى ترفع لها يدها
بالتحية ، تبتسم لها العجوز وهي تقول لها :
لازلت جميلة ، الله يوفقك.
العجوز فاطمة جميلة العقل ، والذي حقق لها غاية حب الناس ، فالحي بأفراده يحبها
ويدعو لها بالشفاء فهي مصابة بمرض الضغط والصدر وفي كثير الحالات تتواجد
بالمستشفى للمتابعة .
تعيش اَمال مع والديها، فلم تجد صعوبة في التواصل مع والديها المعروفان
بهدوئهما فهما يدركان معنى الشباب ، ومعنى أن يعش كل إنسان زمانه ، كما أنهما
من جيل الثورة وعاشوا النكبة الجزائرية في التسعينات ، وتهمهما الحياة
الكريمة كما أنهما متفتحان على راحة الضمير، لا يهتمان لظلم سببته الأيدي .
سردت الفتاة على أمها كلُّ ماحدث معها حينما خرجت للبحث عن العمل ، وأنها
إستفادت من عقد للتشغيل وهو النظام المعمول به حديثُا في إطار عقد بين النقابة
العمالية ومديرية التشغيل ، لإمتصاص البطالة وتوسيع فرص العمل ، وهذا من
الصدفة معها أن تحظ بفرصة عملٍ مباشرةً بَعدَ تخرجها .
سَعِدت بها العجوز ودَعت لها بالنجاح . عقد الفتاة للعمل لعامين وإلى ذلك الحين
ستجد أفضل منه ، هذا ماقالته الأم لإبنتها . في الصباح لبست اَمال أجمل ما عندها
وتجمَّلت وحملت حقيبتها وخرجت وفجأة رأت تجمعًا كبيرًا للناس أمام باب
العجوز فاطمة سألت حفيدها سامي فردَّ جدتي "فاطمة "ماتت .
لن تنسى اَمال بسمة العجوز ولا دعواتها لا ، لن تنسى سنحتها الجميلة الطيبة
ولكنها الحياة فيها أشياء كثيرة جميلة لا تباع ولا تشترى بمال كالصحة والصداقة
والوفاء ولا يمكن لثروة تعويضها كالعشرة الجميلة وراحة القلب وصفاء الضمير و
البال ، تنهدت اَمالت في سريرتها :
هذا هو سرُّ الحياة أحدٌ يأتي لها واَخر ينصرف عنها والإثنان ليسا بعيدا عن بعضٍ
سارت الفتاة طريقها والعيون تتبعها ، عليها الإلتحاق بعملها قبل الثامنة صباحًا و
لحسن الحظ المؤسسة التي تعمل بها تبعد عن منزلها بزمن 5دقائق وهي تركب
النقل الجماعي ، جلس إلى جانبها أحد الشباب فكان ينظر إليها بعيون ماكرة و
يتحدث للقابض :
نحن لا نرى من هاته إلا في قليل الأوقات .
وفجأة توقفت العجلات وطلبت الفتاة من الراكب أن يسمح لها بالنزول ، فتنحى
جانبًا وهو يتمتم كمن يتخذ موقف قوة من فتاة ضعيفة ، أو إتخذ من جمال المرأة و
تزينها ذريعة لإثبات وجوده ، أو وسيلة لبخِّ سمومه وأحقاده .
وكثرت التعليقات والرمي بتفاهة الكلام ، حتى ظنت أنها ستهاجم منهم .
باشرت الفتاة عملها وترافقت وزملائها الذين لم يدخروا مجهودًا في مساعدة الفتاة
وأخذت لها مكتبًا بعدما سلَّمت المدير أوراق إنضمامها للعمل .
مع إنتهاء ساعات العمل خرجت اَمل على الساعة 3بعد الزوال ، وعادت إلى
الشارع الذي تسكنه ، وفي أوَّل باب دفعته ودخلت ، عليها التواعد مع الحلاقة هدى
لتسرِّح عندها خصلات شعرها مع الصباح ، والتي رحَّبت بها في كلِّ وقت وهنأتها
على عملها الجديد والقريب من منزلها ، كما أعادت معها شريط دراستها وجميل
ذكرياتها الجامعية بالعاصمة ، وسألتها عن مدى تأقلمها مع الحياة الداخلية ومعاكسة
الشباب لها فالبطالين كُثر وأكثر منهم الحاقدين ، وعندما يغار الشاب يضرب ، و
عندما تغار المرأة تصمت ، والإنسان بلا جمال الروح كالزهر عندما لا يفوح .
وغادرت الفتاة وهي تعدها بالحضور في الصباح.
إلتحقت الفتاة بعملها لأول مرة ، ولم تقتصد في فرحها شيء بل بدت كمن تحلق في
الفضاء لوحدها فلقدت وجدت شيئاَ جادًا كانت تبحث عنه ، هذه الأيام صعب أن
تحظى بعملٍ ولو بكى قلبك ، ولا يمكنك أن تكون مفطورًا على الطيبة ولا تجعل من
نفسك كتابٌ مفتوحًا فيوجد الكثير ممن لا يجيدون القراءة قد تقع في مصيدة تلعثمهم
حزنت الفتاة لوفاة العجوز فاطمة واَلمها أن يكون ذاك زمن إلتحاقها بالعمل لأوَّل
مرة بعد تخرجها لكن الأم طمأنتها أنَّ ذلك ليس سوى تخمين وأنَّ كلَّ شيء قضاء و
قدر .قضت الفتاة مساءً بين أوراقها ، تحبُّ رؤية الصوَّر والتحف الماضية،وجلست
بعد صلاتها تسبح بسبحة أهدتها لها أمها .
وهاهو الصباح يزحف مُعطَّرٌ بذكرِ الله ، نعمة وصفاء لأحلى خلق الله ، مبعوثٌ
على بنور الشمس المباركة من الله ،صباح الشوق والغزل تصاحب وشمس الأمل
نسائمه تملأ الكون وتتمسَّح على خدود اَمال وتنثر بها التورُّد الفاتح تخرج مبكرة
إلى محلقة هدى التي تجدها في إنتظارها ، فتجلس إليها تحلق لها ، وطيلة الحلاقة و
هي توصيها بوجوبها عدم التفريط في أيِّ شابٍ يتقدَّم لخطبتها ، وأن لا تفعل مثلها
عندما تزوجت من شاب مهندس بنفس المصنع الذي بعمل به وهومنشغل عنها
طيلة أيام تواجده معها ، أمَّا باقي الأيام فَفِي سفرٍ للعمل .
إشتكَّت اَمال فيه لكن هدى طمأنتها بأنَّ ذاك هو طبعه السفر والصمت ، حتى أنَّه
لا يعرف للحياة العاطفية مرسى ، ولا يمنحها من وقته الكثير لتجتمع إليه ، منذ أنْ
تزوجا وهما يعيشان على هذا الحال .
ودَّعت الفتاة الحلاقة هدى وهي في كامل أناقتها وتوجهت إلى عملها ، الشارع ملأ
بالناس وكثرت تعليقاتهم ، وصرخاتهم حول تسريحتها وجمالها وهندامها ،
إعترافات بين قلبٍ عاشقٍ وعيونٍ مغرمة ، حبٌ على الطريق ، تمنَّعت الفتاة
عنهم وغلقت أذنيها وتابعت سيرها ن ولكن وهي تسير نحوى المصنع سمعت وقع
أقدامٍ تخطو بعدها ، وتلفتت فقال لها :
أريد التحدث إليك ، ردت عليه اَمال في سرعة :
لا تهمل وقتك لا أريد الحديث لأحد ، إستبقها الشاب ودخل أمامها المؤسسة ، و
شاهدته و هو يلتحق بفرع البلاستيك ، يرتدي هندامه الخدماتي الرمادي ، شاب
في مقتبل العمر يتبسم دون مشارك ، دخلت اَمال مكتبها وناد عليها المدير فأسرعت
إليه فناولها ملفًا وكلَّفها بحمله لسكريتاريا فرع الإلكترونيات ، وبسرعة غلقت على
حقيبتها في الدرج وإنصرفت ، في المصنع لا يوجد من يراقبها ، وعلى الرغم من
جاذبيتها والتي كانت تؤرقها في بعض الأحيان خارج هذا المكان ، عبرت
إلى المجموعة ودخلت مكتبًا واسعًا لا يوجد به أحد وجلست تنتظر وفجأة سمعت
صوت نِسْوي واَخر رجالي يتحدثان وما إن تلفتت حتى وجدته فريد إبن الجارة و
زوج هدى يعانق شابة في مقتبل العمر متبرجة وفي كامل زينتها وما إن شاهدها
حتى تنحى جانبًا ، وجلس إلى مكتبه بينما ودعته إلى مكتبها ، وباشر الكلام مع اَمال
وكمن لا يهمه شيء تواصلا في الكلام .
وهاهو المساء يحلُّ على جميع الناس ، مساء معطَّر بماء الذهب وحبَّات الماس
مساء يختلف دفأه عن دفء الصباح ، وزهوره نثرت طيب العطور ، سارت اَمال
لوحدها في الطريق وعبارة عش حياتك وأترك لغيرك قبح الظنون ، فأنت الرابح
وأترك لهم الذنب بما يفعلون وهي كذلك تمرُّ عليها سيارة سوداء فاخرة وبداخلها
"فريد" والشابة التي كانت معه بالمكتب فسألت فتاة كانت تنتظر النقل الجماعي
عنهما فقالت :
هي زوجته تزوجا الصائفة الماضية ، وردت عليها اَمال:
دخلت عليهما المكتب فإنصرفت هي بدون أن ترد على سلامي .
ردت عليها الصديقة كلَّ إمرءٍ يعرف بفعله والأجمل من هو بأجمل وصفٍ من
غيره ، تلفتت الفتاة ففُتح أمامها باب نقل المسافرين وصعدت ، لكنها لم تجد مكانًا
فارغًا ، ولم يُعِرها أحد من الجالسين الإهتمام ، بل بدأت المناوشات من هنا ومن
هناك فلقد كانت لوحدها المتبرجة ، وصرخ أحدهم لما كلَّ هذا التجميل لماذا لا
تلبسي خمار ، ويعلو الصوت من بعيد هذا لأننا أقصينا الأحزاب الإسلامية فردت
الفتاة لست منضمة إلى الأحزاب الإسلامية ، أقتلني إذن ؟؟
صرخ صوت أحد الركاب : يالطيف
اَمال: وهاهو مُفتي باريس سيتكلَّم .
وأضاف الراكب ماكان يتمنى قوله في قضية الحجاب والخمار ولكن الفتاة فضَّلت
الإنصات على الإنضمام للكلام . وتمنَّعت عن لسانه السام .
وصلت الفتاة وسارت في الشارع الذي تسكنه ، ومالت إلى البيت الذي إتخذته هدى
محلاً لها ، وما إن دخلت حتى إستقبلتها هدى بإبتسامة :
اليوم سيأتي فريد أنظري ماذا إشتريت .
إشترت هدى ملابس جديدة سروال وقميص ، وعطور وأدوات الحلاقة لزوجها ، و
نظرت اَمال للمشتريات وقالت :
لا تهمل ما تحب ، فالإهمال لا يحفظ لك وِدٌ ، ولا يهمُّ هندامك مادام قلبك يبتسم
هدى : ألم يكن ذوقي في محلّه ؟
بل أنت الجمال كلٍّه .
قصة زواج هدى من فريد قصة حُبٍ من أروع قصص الحب التي سمعتها ونبض
لها قلبي ، كما لو نبض لها قلب كلَّ عاشقٍ مغرم ، قد لا يشعر بها زوجها فريد و
قلبٍ ماكرٍ للحب ، ولكن هناك من البشر من عاشوا مثل قصة حب هي مغامرة
هدى وفريد ، وإسألوا ألسن العذالا ، وإسألوا القمر و نجوم السمر ، عن قصة عشق
هذين الشابين فلقد عشتها معها ، و عن لسانها لكن ... دَلُوني على قلبٍ يُحب ولا
يخون ، وعين تعشق والعشق لديها يدوم ، وإحساس مُغرم يطول ولا يحول ..
هذه قصص كنا مسمعها لكنني اليوم أعيشها .
إنصرفت اَمال وتركت هدى مع أحلامها ، لكن إسأل مجرِّب ولا تسأل الطبيب ما
عليها فعلته ، فهدى صديقة عمرها ، لن تخيٍّب فرحها فربما هي أوهام ومع الأيام
ستتبدَّد ، فليس الخير كله في إنسان ، وما إن خرجت حتى وجدت عاليا تجلس مقابلة
لمحل الحلاقة وزجها عبد القادر أمام بيته يهددها إن عادت ، كانت بعيدة عنه بضعة
أمتار ، وما إن رأى اَمال حتى دخل وخرجت إبنته نادية وحالما شاهدت الفتاة :
لماذا تنظري ألم تشاهدي الناس ، إذهبي إلى بيتك .
اَمال : حذاري لم أتكلَّم معك ، إذا مرضت فإذهبي إلى الطبيب ودخلت إلى البيت .
أما نادية فبقيت تنظر إلى أمها وهي تجلس على الرصيف وتنظر إلى أبيها داخل
بيته ، .. من السهل أن تضع يدك على فمك لتكتم صوتك ، لكن من الصعب أن
تكتم ما في قلبك بلمسة من يديك كي لا يصدر اَهة ولا يتألَّم ..وقد يسرق الفقير
رغيفًا فيلقى العقاب ، ويسرق صاحب البيت صاحبته فيقال لا شأن لنا فذلك باب .
في هذا الحين علا صوت الزوج : إذهبي من هنا لا تبقي هنا وضرب الباب ، شقت
أمال الباب فرأت "خديجة" تجري هاربة من زوجها الذي أخرج عصا وتبعها ،
فدخلت بيت أقارب زوجها وغلقت ، وبقي زوجها في الشارع يسبًّ ويشتم في
أصولها غيابِيًا ويهددها بالقتل إن عادت إليه .
لكن إذا كان المطر هدية الشتاء ، والحب سرًّه الوفاء ألا تكون المرأة بالنسبة للرجل
هي الألفة وحفظ البقاء ؟.
مرت الأيام متتابعة متعبة تارة وشاقة تارة أخرى ، عرفت فيها الفتاة ماذا تختار
لتطبق جفونها ، فكان تحصلها على عملٍ ومباشرة بعد تخرجها صرخة ميلاد جديدة
لها ، فإكتملا شطريها بعدما كان نصف لها ونصفها الثاني ميِّت ، وإرتبطت بعملها
وعقدها لمدَّة العامين .
لم يعد في إمكان اَمال السير بمفردها بل حملت معها سكينًا لحمايتها ، فالحياة في
الخارج لا تؤتمن ، و سيرها بمفردها يجلب الأطماع .
هذا الصباح خرجت إلى عملها ، والحرية رسم متورد على خدودها صفاء وبهاء
يداعب حدقتيها تقول للأمل أنت غالي ، وللقمر أنت عالي ، وللحياة والإستقرار
راحة بالي ، وهاهي تخرج من بيتها على الساعة السابعة ونصف ، التلاميذ
يمرون أمام بيتها و بشارعها يعبرون إلى المدرسة ، اَمال تحب الحياة بلا إقصاء
والموت عندها قضاء وإنصاف ، تعشق الحياة ولا تنكر ذلك ودليل عشقها حركاتها
التي تبعث على الحياة ، وهاهي تتابع طريقها لتركب إلى عملها وفجأة تأتيها حجرة
من حيث لا تدري فجاوزتها بشبرٍ تلفتت فوجدته تلميذ رماها وفرَّ ، وأخذ يصرخ
هذا جزاؤك ، أين الخمار ..تورد وجه اَمال وواصلت طريقها والعيون تلفها وكمن
تعيش حلمًا مزعجًا ، الخناجر لن تتمرر أمام العيون ، ولا أبيع الشقاء ، بل قلبي
بسط أخضر ، لا أريد أن يتحقَّر ، إخترت لنفسي ما إخترت ، فهل تدري أنت ما
بالقلوب ، فلماذا لا تتنحى وتتركني لذاتي .
هنا أجمع الشباب على مايجب أن تلبسه المرأة ، كلام يراه البعض جاهزٌ والبعض
جائر وكلاهما صعب على الضمير ، وقد يريد أحدهم الإنصاف فيقول الإختيار هو
شرف وإنصاف ، تمرًّ وأمواج الناس تمشي أمامها ويختفي جسدها في وسطهم حتى
تجد منفذًا وتتسحَّب للداخل ، وهاهي تجلس ويجلس إلى جانبها رجل تعدى العقد
الخامس من عمره كانت قد رأته خلفها يسير ، أسرعت اَمال ووضعت حقيبتها بينها
وبينه ، راَها بنصف عين ، وتفادى فعلها وتثبَّت في مكانه كمن يقول أفعل ما أشاء
كلُّ شيء حلال عنده .. البنت خجولة وقد تكون في ظرف نفسي لا تريد فتح باب
المشاكل ، وهي تدري ردَّتُ فعل المسافر والركاب في مثل وضعيتها ، لأنَّ حقرة
المرأة هي السبيل لإثبات الرجل رجولته فكانت في غالبية وضعيتها تحتكم للصمت
لكن على حساب أعصابها حتى تنزل وتسير على قدميها .
مؤلم أن تكون تحافظ على أحاسيس الناس ، وهم يجعلوك شخص لا تساوي فلسْ
كما أن الأيام تعلم الكثير ، والخارج يتسكَّع فيها ليس مثل البعيد الذي لم يحفل بها
فمهما قست عليك الحياة ، فلا تقسو على من حولك ، ولا تأخذ من حولك بذنب
مقدَّر لك ، صعبٌ أن تفكِّر في الظلم وأنت تعلم بمذاقه المرَّ .
وتتوالى الأيام هذه شمس تغيب ، وقمر ونجوم تحل بالمكان ، وهذه ناس تنام و
تصحوا ، ووجوه تغيب وأخرى تحلُّ ، والحياة بالقلوب لا تنتهي رغم تغير النور
والظلام ، وهدوء وراحة للبشر تبعث السلام قلوب إمتلأت حب وحنان لا تحفل
بغريمتها التي تبيع الفجع والهلاك .
وهاهما العامين يمران ولم يبقى منهما سوى الشهرين ، في الصباح الباكر من يوم
الأحد تلتحق اَمال بمكان عملها ، الشتاء يحط رجاله بالولاية وبرودته لاتقاومها إلاَّ
الملابس الصوفية والمظلات المطرية ، ووالدتها لا تفنى عن توصيتها وتحذيرها
من الخروج بدون معطف ، حتى أصبحتا رفيقتاه .
دخلت اَمال مؤسسة الأسمنت وإلتحقت بمكان عملها ، وجدت ياسمين تنتظرها وهي
فتاة بياعة كلام فبادرتها :
ياسمين : أردت أن أبعث لك smsفخفت أن ترفضي ؟
ردت اَمال ليس مني ماتقولي ، ولكني لا أمتلك محمولاُ ، وكما تعلمي هوغالي الثمن
هذه الأيام الأولى من ظهوره ، فلم أراه إلاَّ بيدك ويد مدير المجموعة .
هنا دخلت فتيحة زوجت فريد وطلبت من اَمال بتمريرها إلى مكتب المدير ، دخلت
فتيحة للمدير، تلفتت ياسمين إلى أمال وقالت:
أتعلمي هذه المهندسة متزوجة من زوج الحلاقة هدى (وهي تشير بيدها ) محلها
بحيِّكم ، وهي (متضمِّرة ) لا تلوميها فهو من كان يركض خلفها لو لم يتزوجها لهلك
اَمال: أخال هدى لا تعلم بزواجه؟
ياسمين: بلا شك فهو متزوجان في السرِّ ، كما أنهما لا يخالطان الناس .
أكبر فخر لقلبي أنَّك إلى جانبي ، وأكبر فخر لأيامي أنَّك مرافقي هذه الكلمات
كثيرًا ما ترددت على لسان هدى وهي تصف زوجها فريد وتضيف على لسان هدى
ما رأيت قلبًا أروع من قلبه ، ولا أجمل من همسه ، أحلى ما في حياتي حبه ،
تذكرتها اَمال وتنهدت بقولها :
ماذا لوسمعت بما فعل منذ شهرين فقط ؟
غادرت اَمال العمل مبكرًا وحاولت تفادي عيون المارة والراجلين والراكبين ، و
عرَّجت إلى محل صديقتها الحلاقة فوجدته مغلقًا فعرفت أنها ذهبت إلى السوق
السوداء ببوقادير لتتبضَّع كلما نفذت من عندها منتوجات الحلاقة نظرًا لتخفيضاته
المغرية ، إنصرفت إلى بيتها والساعة تقارب الثالثة مساء ، شارع 24خالي من
الناس وهذا ما هدأ نفسها وجعلها تنظر إلى البيوت المتراصة ذات المعمار المتألف
من طابقين لكل بيت على شريط واحد ، وأمام معظم البيوت كرمة تين أو عنب
دخلت اَمال بيتها ، وما كادت ترمي قدماها حتى طرق الباب خلفها ، وأنقلبت و
فتحت كان طفل صغير أشار على الفتاة إلى نافذة خديجة التي كانت بنافذتها فقال
الطفل : قالت لك أعطيني 50دينار تحتاجها ؟
ناولت اَمال الطفل النقود وإنتظرته حتى سلَّمها إلى المرأة فشكرتها .
تعلم اَمال جيدًا ما تعيشه خديجة زوجة عبد القادر ، وشرنقة الظلم التي تلفها وتمنع
عنها الإنطلاق والعيش مثل البقية ، والظاهر في جسدها الهزيل وثيابها البالية
والأكثر عنهما منع الجيران عنها والعكس ، حتى والدتها التي كانت تزورها خفية
وفي ساعات غيابه قبل أن يتفرغ لها ويخرج على التقاعد ، فأصبحت حياتها
كالورقة الباقية بيضاء ، يكفي أنَّها أرسلت إليك لتعلم أنَّها أستعملت باليد .
غلقت الفتاة خلفها وهمَّت بالجلوس ، فطرق الباب بخفَّة فأسرعت وفتحت إنها
هدى تحمل أغراضها طلبت من اَمال الحضور إلى محلها الاَن ، إستأذنت الفتاة من
أمها وتابعت هدى ، سألت اَمال هدى عن إبنها فأخبرتها أنها تركته لوالدتها ،
أظهرت الفتاة ما إشترته من السوق السوداء ، سألت اَمال إن كان فريد على علم
بهذا فتنهدت الفتاة قالت هذا أسبوع وهوغائب حتى أنها إشترت لها وله هاتفًا
محمولا لتكون قريبةً منه ، وأضافت :
عندما كنت في السوق أحدهم أراد التقرب مِنِي ، وكم كان ضعفي شديدًا وأنا
أتذكر ما حدث بيني وبين فريد عندما تبعني بعد خروجي من محلٍ للحلاقة لقد
أخذ مني موعدًا عُنوةً .
اَمال: وإلتقيتما ؟ ردت هدى وبسرعة جرَت السَنتين وأين هو اليوم ؟
اَمال: هو من تغير؟ نظرت هدى إلى صديقتها كمن قرأت من كلامها شيء ، وهل
دريت ؟ اَمال : ماذا ؟ هدى : غياب عني . اَمال : أنت من قالت؟؟
الحياة عند المرأة هي الحب ، وإذاما نالته ، نالت الحياة كلها ، ولنا نظرة لا نغيرها
على المرأة وهي الضُعف ، فإذا كان العكس كان الرجل هو الخائن لأن القوي
أفضل من الضعيف ، وهدى واحدة من النسوة اللواتي يعشنا هذه الأيام ريح التغيير
لحياة إرتكزت على حب من أوَّل نظرة ، حبٍ كان فيه إكمال دين الحياة أولى و
زواج فرصة من شاب مهندس ، وفتاة اَملها في الحصول على عريس من أولويات
....................... ................ ...........
أمسى الحال كفيفًا بعدما أرخى الظلام جفونه ، ولمعت النجوم عاليًا وبان الهلال
يخدش السماء في راحة للقلب والضمير ، وتطايرت الخفافيش من أوكارها
في دورة ليلية هادئة ، أخرجت اَمال كيس المهملات للشارع لتحملها الشاحنة في
الصباح ، فلفت إنتباهها جسدٌ نسوي كمن يقبع بساقية تمرير مياه مجاري الشارع و
لكن كانت العجوزعائشة الجارة المتاخمة لبَيتِها ، وأمعنت الفتاة فيها فوجدتها تقوم
بغلق القناة ، وجعلت المياة تتراكم في مكان حتى فاضت على الطريق ، قالت لها
الفتاة : وماذا نفعل نحن بكل هذه المياة ؟
ردت العجوز بكلِّ عجرفة : إشربيه .
خرجت الأم إلى إبنتها بعدما سمعت ما قالته العجوز وطلبت من إبنتها الدخول إلى
البيت لكن الفتاة ردت على العجوز ، لن أسمح لك ، وسأحضر لك غدًا أعوان
البلدية ، تشارست العجوز على الفتاة ، وإنضم إليها أحد أبنائها، تلفتت العجوز للفتاة
وأرادت الإقتراب منها لضربها ، لكن الأم حالت دون وقوع شجارٍ وسحبت إبنتها
إلى الداخل بينما بقي الشاب يرمي في الفتاة ووالدتها بالسبِّ والشتم ، وإنضم شارع
24فبراير لهم يتفرّج ، لكن لا أحد حاول التدخل لردع العجوز عائشة عن فعلها
لكثير من الأسباب وأقساها أنها إنسانة عدوانية ، تحمل قوة وشراسة نادرة ، عجوز
ساحرة ماكرة ، لا من يقترب من بيتها ولا من يطرق بابها إلا قريبها .
الفتاة تعيش حياة أخرى بالشارع ، حياة بعيدة عن الحب والإحترام ، الناس تسعى
لنفسها حتى ولو داست على كرامة غيرها ، الغالب هو المفضل ، ومن يطالب بحقه
فليكن قويَّ المواجهة .
حذَّرت الأم إبنتها من غش العجوز وحيّلها ، كما أنَّ أبنائها وحتى إبنتها هم قطعة
منها ، وأنَّ الفاصل في أمرها هو القضاء ، أكدت الفتاة لوالدتها أنَّ يوم هذه العجوز
اَتٍ ولا مجال للكلام الكثير عليها ، أما الوالد فتنحى جانبًا وترك لهما الحديث .
حي 24فبراير واسع ، وإزداد توسعًا في السنوات الأخيرة بعد بناء الرصيف وتعبيد
الطريق أمام المنازل ، فتنظمت قنوات صرف المياه وإنتهى الوحل والأوساخ
المرمية وما بقي هو من فعل الجيران و إهتمامهم بمساحاتهم .
نامت عيون الفتاة على غيرة وبكاء ، وماحيا بالجيران من خيانة دليل الحياة
الحزينة التي تعيش تحت ظلالها صباحًا مساءً ، لكن من القوة أن تتخذ موقفًا وأنت
في حالة ضعف ، والعشرة الجميلة بين الناس تستوجب الإشتراك بين الأطراف
فالسوء يقتل الخير ، وهي صاحبة نعمة لن تنهزم أمام الحيلة.
خرجت الفتاة متجهة إلى عملها ، وهي في طريقها عرَّجت على هدى فسلَّمت عليها
وجلست إليها قليلاً ، إنصرفت الفتاة ولم تدري أنَّ شخصًا يتبعها حتى وصلت إلى
مكانٍ خال من السائرين لا يبعد كثيرًا عن محطة الحافلات قال خلفها:
لا تتكلمي مرة أخرى مع أمي وإلا سأريك مالم تريه ..
تلفتت الفتاة وعيونها ترمي بالعجب :
أنت، أريني ما ستفعل و سأريك ما تتمنى رؤيته ، وليكن في علمك سألجأ للبلدية
وسأقدم شكوى ضدَّ والدتك؟
سبَّ الشاب الفتاة ، فتوعدته بالرد عليه وعلى عائلته قضائيًا .
كان كلام الفتاة على مسمع الكثير من الناس ، وسارت في سبيلها والعيون ترقبها
وتُمعن في قدها الرشيق ، ومشيتها اللطيفة ، وبين حافلٍ بملابسها وتسريحة شعرها
وبين مُتخابث مهزوم أمام الجمال وقوة الشخصية ركبت مع الراكبين .
وهاهي الوشوشات تبدأ جلست بقرب نافذة زجاج فبادرها أحدهم إغلقي الزجاج
وقال اَخر هذا صحيح ، تلفتت الفتاة إلى الخلف فوجدت الكثير من النسوة يلبسنا
خمارات إلاَّ واحدة أخرى كانت مثلها ، فأخذ أحد الركاب يحاول تجاهل نظراتها
وقال لمرافقه لقد كشفت الأمر ، والظاهر كان يريد التغلب عليها ، صمتت الفتاة
كما لو كانت قلب دفاع .
توجهت إلى مكان عملها وقد إحمرت جفونها ، وتَضَبَّبت عيونها وتسارعت ضربات
قلبها فأظهرتها الشدة كمن كانت تبكي ، لكن الغضب يقتل التركيز ، فإستغفرت و
جلست إلى مكتبها تتفادى موقفًا اَلمها .
ما أحزننا عندما نفقد هدوءً كنا نتمناه ، وأحلامًا رسمناها في خيالنا ، ويعش هذا
الرسم في داخلنا ويرادف خيالنا فيكل شيئ ، حتى يصبح مطابقًا لأحلامنا ويومياتنا
هذه الأيام تهدم ما بداخلنا متانة قيم ، حتى صمودنا تزلزل ، ولا ندري مدة صموده
قست قلوب البشر ، وتصاعب تفكير البشر ، ولا ندري ماذا عن تطابق الظاهر و
الباطن ، وتغيرت الأحوال كما تغيرت النفوس ، لم يعد إلا الصبر فارض لنفسه .
والدروب كثيرة نختار منها لحياتنا ما يناسب لرفقة أيامنا .
ولا تزال الفتاة صامتة حتى يشق خيالها جسد إمرأة مكتملة البنية رفعت الفتاة
رأسها وتبسمت ، جلست هدى وهي تؤَنب اَمال على المتاهة التي دخلتها وكيف أنها
إتبعت أحد الشيوخ الذي أحضرها إلى هنا .
تبددت دهشة اَمال بعدما عرفت سبب مجيئ هدى إليها بعدما تسلمت منها حافظة
النقود التي نسيتها بمكانها هذا الصباح ، وقفت هدى من مجلسها وودعت اَمال و
هاهي تتلفت ، هنا إلتقت عيون ثلاثتهم مع بعضٍ .
وقفت هدى تنظر إلى فريد والمرأة التي تلاصقه ، لكنه تجاهلها وسأل اَمال إن كان
المدير بالداخل ، همَّ بالدخول فنادته هدى:
فريد ، لكنه تجاهلها ، تسحبا الإثنان إلى مكتب المدير بينما جلست الفتاتان إلى
بعضٍ اَمال: هل تريدي إنتظارهما ؟ ردت هدى بالإيجاب ، لكن اَمال هدنتها و
لفتت إنتباهها أنها أحوال شخصية ولا بدَّ أن تحلها بالبيت .
خرجت الفتاة ووجها يكسو لونًا أصفرًا وتفتحت عيونها الصغيرة وإرتفعا حاجبيها
حتى بانت الإنثناءات على جبينها ، لم تعد ترى بل لا تهتم ، هدى فتاة متأنقة تكاملت
صورتها عندما لبست الثياب الجميلة الجسد المكتمل ، لا تشكو هدى مشاكسات
الناس في الشارع ولا من مضايقات المارين على أنواعهم كما يحدث مع هدى لأنها
تلبس خمار .
تمنت اَمال لو تتحدث هذا الحين إلى هدى ، ولو حتى تنظر إليها فقط تنزع عنها
تفاهة فعل زوجها معها وقد رأتها مقهورة تريد القيام بأي شيء ، تريد الجلوس و
تريد القيام ، تريد شرحًا لما رأته ، لكن صديقة عمرها رفضت لها المهانة ، ورجت
لو دثرتها بمعطفها ، ومسحت سحنة وجهها ، فطلبت منها أن تتريث ولا تستعجل .
ناد المدير على اَمال بينما إنصرف فريد مع زوجته .
وَفَد المساء في تأني وزحفت الشمس للغروب ، مالت اَمال إلى محل هدى فوجدته
مغلقًا ، وفي طريقها وجدت العجوز وإبنها أمام بابهما ، يوشوشان فواصلت دربها
أرخت الشمس جفونها ، وتهدلت خصلات أشعتها برفق ، شاهدت الفتاة الشمس
كيف تغادر إلى وكرها ، وكيف يصبغ الضياء على العمران والأشجار على
الجبال فيترك الظلال ، وكيف يتمسَّح على كلِّ مكان ، غاب تفكير اَمال في
النظام الكوني حتى على صراخٌ يملأ الأذان ، صوت صراخ الجارة "عَلِيَّة"وفجأة
يضرب الباب بشدة ويبقى مغلقًا تنظر الفتاة من السطح إلى بيت المرأة أين تعيش
مقهورة ،و تتسمع الهروات لكن المرأة التي تعدت العقد الخامس بسنوات تتحمل ظلم
زوجها وعذابها له على طلب حقوقها ، لأنَّ الطلاق لن يحل مشكلتها ، ووالدتها أو
أخيها لن يحمل عنها أوزار الدنيا المتغيرة ، ولن تجد قلبًا يدافع عنها لأن الوالدة
عجوز تتعكز ، وهي في خريف العمر الذي قلت فيه المكابرة أو العناد ، بل مال
ساكنها للمكوث في الظل .
إنبعث الصبح من جديد ، وَوُلدت حياة جديدة ، فرَّ الظلام من طلَّت ضوء الصبح ذو
النسيم البارد فأنشدت العصافير ، الهدوء يكسو الحي ، وضاع صباح ذاك من أطال
السهر بالليل ، ومع تسرب الدفء الشتوي المُندى تستقبل هدى اَمال في محلها ، و
تجلس إليها وتستمع إليها الفتاة بإهتمام ، لقد كلمته بالأمس بالليل ، ولم يشأ الرد
حتى تكلمت معه من رقم أخيها (نسيم ) الذي فضَّل حسم الأمر معه دون كلام ولا
تفاصيل ، غير أنَّ الوالدة رفضت وفضلت معرفة لما فعل ذلك ؟ ولكن المفاجأة
كانت منه تقول هدى إذ رفض الكلام وإحتكم للطلاق ، أما إبنه رامي فلقد تجاهل
وجوده ردت اَمال بعد صمت مرير معنى واحد لكل ما قلتيه : لقد كان ينتظر ما
قام بفعله ، ترد هدى أكنت تدري بزواجه ؟ لا تنكري كان يعمل معك ؟ ترد اَمال
وليكن لم تكن لتجرحها ولا حتى لتتجرأ على جرح أحاسيسها ، ولو فعلت لم ذاك
إلاَّ لمصلحتها أو ضرورة تقتضيها ، فهي لن تأخذ الحديث عن نفسها .
رفضت والدة هدى إبقاء الطفل معها فهو يبلغ من العمر العامين وعليها تركه لوالده
تسحبت اَمال إلى عملها وتركتها في محلها بعدما حذرتها من بطش زوجها فريد
هدى إمرأة تمتلك جمال الروح ، تصمت كثيرًا ولا تحكم بسرعة على ما تسمع ،
متأنقة وهادئة ، أنوثتها جاذبية وإن كان أمر الأنوثة جانبي في وجود المرأة ، وعلى
الرغم من أن غالبية الرجال يعتبرونه الأمر الأساسي فيها ، فتظل مالكة للطف و
الرحمة ، المرأة أعظم مخلوقٍ عندما تعرف وتُقرُّ بقدر نفسها ، فهي من تخفض
صوتها عندما تحيا حياتها في هدوء ، ويعرف الرجل دورها ، أما إذا حدث ورفعت
صوتها فهي تعيش إنتقام الحياة مِن مَنْ عليها .
بانت الشمس في السماء ، وحلَّت النجوم في الليل تمحو شقاء الظلام ، وهكذا
تصاحبت الكواكب في همس تترافق وترسم جمال الكون ، فالأرض حفظت و
والسماء حرصت ، والقلوب سعدت وطربت .
تمنت اَمال لو تتكلم مع هدى لكنها رحلت ، ومدخولها لا يسمح لها بشراء هاتفًا
محمولاً من هو في أوَل صدوره وأثمانه بعيدة عن ما بالجيب ، كما أنها لم تزرها
يومًا ببيتها .
تطلقت هدى ومنحت الطفل لوالده ، وصارت تأتي بعدما تأخذ منها الزبونة موعدًا
إلى أن كان يوم إنتهاء عقد اَمال ، وسحبها لإستمارة الإنتماء ، إستقبلها المدير في
مكتبه إذ أوصاها بالعودة لأنه يحتاجها في مكتب الأرشيف .
وعادت الفتاة طريقها وبَالُها يعيد ذكريات إلتحاقها بالمؤسسة ، فعملها كان أمنية
وتحققت وعرف قلبها الأمان ، وتحددت معالم شخصيتها ، وعادت اليوم وقلبها يهفو
قلبي لكي امن ملكت أسرار القلوب وراحتها ، وعهدتك وسأبقى رفيقة دربك ، فكن
صبورًا ياقلبي ولا تتجاسر وتشعل الحروب ، وكن لألمي الشافي فرغبتي في البقاء
كانت لا يأتيها عزوف ، فبعد إنتهاء عهدتي صاح بي ألف صوت ، ولم تعد بي
حدود تقوى على الرد .
أغلقت اَمال مسامعها وحاولت أن لا تلتفت لمتكلم ولا للامز ، ولعلَّ ما حمله قلبها
ثقل محمله ، ولم يعد قلبها يعزف نغمًا شدى به هذا زمن ، إنعطفت إلى شارع 24
فبراير ومالت إلى أول بيت فوجدته مغلقًا والنافذة مفتوحة ، نظرت إليها فقالت إمرأة
هدى ليست هنا لقد غلقت هنا وفتحت في بيتها .
سارت اَمال وقلبها يقول : لست أنا من قال هذا الكلام بل قلبي وما به ساكن على
الدوام ، غادرت هدى وتركت المكان مثلما كان ، ووضعتنا الأيام أمام ما كانت
تخبئ من أحكام ، وكلها مفاجاَت تأتي في طرود نفتك شرائطها ليتوضَّح المجهول .
لا تزال العجوزعائشة تشاكس وتتحدى بوضع لأتربة وحصى تسدُّ الساقية ، ولكن
الفتاة لا تزال ترقبها وتتروى حتى كانت تلك الصبيحة ووجدت مياه الأمطار تطفح
وتملأ فوهة الباب ، لم تحتمل عسر ما فعلته العجوز وتوجهت إلى دار البلدية غير
بعيد عن حيِّها ولم تبرح إلاَّ والأعوان معها ، بعد لحظات وصلت الفرقة وما إن
وضعت عيونها على الساقية حتى همَّ أحدهم بفتحها ، سمعت العجوز عائشة وقعًا و
ضَجَّة فخرجت وزوجها إلى الشارع وحاولت منع العون من فتح الساقية بحجة أنَّ
الساقية دربها من الجهة المخالفة ، والمياه الوافدة من أعالي الطريق قد تأتي
بالأوساخ وأكوام الزبالة فتغلق المجرى .
لكن العون لم يسمع لها بل حاول تجاهل صوتها المرتفع ، وتغاضى عن قولها .
حاول زوجها شتم الأعوان لكن هددوه بإرتكاب مخالفة ، وأن ذلك قد يفرض عليهم
تقديمه للعدالة .
أخذت العجوز عائشة وزوجها وإبنها يمتصون غيضهم ، بينما وقف الجيران
يتفرجون ويتراوحون في النقاش وإعطاء تصويبًا للفعل وتبريرًا .
إنتهى الأعوان من تصحيح الساقية وتنظيفها المكان بينما إنصرف الجمع إلى
أعمالهم دخلت اَمال بيتها وجلست إلى والدتها " فتيحة" التي أوصتها بمايجب عليها
فعله ، فالعجوز وعائلتها لها سِرب من الشياطين من أولاد بناتها قد تجعلهم جدارًا
يحميها لكن اَمال طمأنتها أنها ستحمي نفسها في حين تجد عمل تنتفع به .
سارعت ساعة الزمن تنهي زمن النهار ، ووفد الليل يغطي المكان ، لم يعد في
الإمكان إقصاء خفافيش الليل من الترحال ، ولا من إستعجال تسريها ، بل راح الليل
يخفي المظلم ويفتح المجاهل ، في هذا الحين خرجت العجوز عائشة وإبنتها ، و
راحت إحداهما تفتح السد والأخرى ترفع الأتربة عن المكان ، وفي حذرٍ لشدته لم
يسمع وقع الرفش ولا الحمَّالة ، وفتحت الساقية عبر الظلام الدامس .
وَلِفت اَمال أوقات عملها حتى أنها بحثت عن الساعة لتعرف الوقت لكن بسرعة
عادت لفراشها ونامت ، وهي تضع الغطاء على رأسها دخلت أمها وقالت لها عن ما
فعلت الجارة عائشة ، فتحت اَمال عيونها ، وترافقت مع أمها لتجد ما قالته صحيح
الساقية مغلقة من جهة ومغلقة من الأخرى .
أوصت الأم فتيحة إبنتها بعدم التواجه والتضاد مع العجوز عائشة ، وأنَّها سدت
الساقية من جهتنا فقط وسنفتحه من جهته الأخرى .
غادرت هدى المكان بعدما تركته لأخيها وزوجته ، وإنتهت صلاحية عقدها .
خرجت هذا الصباح للتبضُّع ، لبست حجاب قديم كان لوالدتها ووضعت خمارًا و
تعافت من التبرج ، فتسير في راحة ، إلا من بعض العيون التي كانت ترقبها وهي
تتبضع ، لكن الفتاة لا شأن لها بالشباب الطائش ، ولا الحريص على مشاكسة
الفتيات ، لأن نصفها كان حي والاَخر في الهموم ميت ، وغير بعيد وجدت شاب
وسيم يتبعها فتبسمت وقال قلبها : ما أصعب أن تحب شخص بجنون ، وأنت تدري
أنَّك له لن تكون ، شخص تجعله في مقدمة الناس وهو يجعلك في المؤخرة .
سارت الأيام بوترٍ متأني ، سلم فيها من عرف كيف يروضها ، لأنها تحتاج إلى قلب
وفيٌ حكيم لِيُسيِّر أوقاتها ، والإنسان هو الحاكم المخلص للزمان المانح لدفء القلوب
الباحث عن الحب بين الدروب ، وعن النعمة التي يتمناها المحبين للقلوب ، الحياة
أوتار يعزفها العارف بالمقامات وتهدي أملاُ للكبير والصغير .
ركبت اَمال قطار الحياة ، وهاهي تسير في شارع24 بعدما تبضعت ، هذا العام
الثالث بعد الألفين ، ولا يزال عند اَمال أملاً في معاودتها طريق المصنع والعمل في
أحد فروعه ، سكان الحي هذه الأيام يعيشون هدوءً ظاهر ، ومحادثات التواصل
معهم خربت ، فلاحاجة للجوء إليهم ولو بالضرورة ، ومن اَراد حاجة من اَخيه كان
الغريب أولى ، فما أصعب أن تتحدث لشخص بحنان ، وهو يصدك بلا ضمان .
ظهرت الشمس في الأفق ، وأرسلت أطياف الأنوار وبان الضياء يمشِّط الأرض و
كلَّ مكان ، نهض الأمل الدفين ورمى عنه ظلم الزمن ، وهاهي اَمال تسمع طرقًا
على الباب لكن النعاس يغالبها حتى سمعت والدتها تتكلم لصوت رجلٍ ونادت على
إبنتها أنَّ هناك رسالة لها ، قفزت الفتاة ورمت عنها الغطاء وما إن أطلت حتى
تناولت الرسالة من يد والدتها ، تصفحتها بعيون براقة تنتزع الكلمات بصعوبة ،
حتى برزت بسمتها ، فلا يوجد إلا خبر واحد دفعها للفرح ، وجعل قلبها يدق و
تدافعت تلبس في ثيابها وتتحدث إلى والدتها ، فلا نستطيع أن نقول للشمس لا
تشرقي ، ولا للنهر توقف لا تجري ، فجبرت والدتها على ترك الطريق لها للمرور
تمشطت ولبست تنورة وردية تدلت قليلا عن الركبة وقميصًا وردي بارد وخرجت
تجري ، وعبرت شارع 24بسلام لكن وهي تعبر أوقفها شرطي المرور وأمرها
بالرجوع إلى الخلف ، إنتبهت الفتاة ورأت من هو كان شرطي عجوز خفيف
الكلام والحركة معروف لدى ناس البلدية ، وبعد تجمع المارين مرت معهم وجعل
يتجاهلها وحجته أنها ظلمت .
وترك شاب يمر أمام أعين المارة ، ولم يتفصح أحدهم بكلمة .
لم تتَضمَّر الفتاة فالكل ينتبه للمرأة التي لا تلبس خمار وتظهر شعرها للعيان .
نظرت خلفها فوجت فتاة بلا خمار تتبعها فعرفت سِرَّ قلة الكلام عنها هذا الصباح.
ما كل ما يعلم يقال ، و الكثير من الكلام غفا بالقلب ونام ، وقد لا نقوله لكننا نعيشه
ومرات كثيرة يكون هو سبب علَّتنا الإجتماعية، وسبب تفرقتنا ، وقد تكون الحمية
هي الدواء لرأس الداء ، فلا التهرب من العيون يفيد ، ولا الأسرار بالقيود تكون
الحلول ، فالمواجهة والوصف للقلب جمال .
وما توقفت ولا حفلت بمن يرقبها إلا وهي تسمع صوت المدير يسمح لها بالمرور
كلام المسؤول كلام لين ، يغلب عليها الأمل والتفتح ، وقرأ عليها نص أعضاء
الإدارة والذي أجمع إلى عودتها للعمل بالمجموعة .
وهاهي تلتحق اَمال بعملها بعدما كان أملها موقوف ، عاد كل شيء معها الحظ و
الأيام والظروف .
تمنت الفتاة لو تكلمت مع أمها فتبشرها بعودتها للعمل ، لكنها لا تملك محمولاُ ومع
خفت ضياء المساء ، أنشدت العصافير بلغات متباينة ، وعطرت المساء بأنغام
ماطرة ، ونسائم تمررت بعيدة عن العيون ، والأغرب في إحساسها اليوم أنها
مداعبة ، خرجت مسرعة مع المساء إلى بيتها وقد فتح لها الله بابًا كانت تحسب ليس
له مفتاحًا ،وهي في شارع 24حتى شاهدت طفلاً قارب الثمانية سنوات ينظر إليها
من سطوح منزلٍ مهدومٍ ، وعندما أمعنت به النظر إختبأ بسرعة ، فلم تستطع رسم
ملامحه الصغيرة . وواصلت مسلكها المألوف بخفة ، وما كادت تبلغ والدتها حتى
هنأتها بعودتها للعمل .
تبسَّم حظ أمال ، وتبسَّط وجهها كبسْط أخلاقها ، وتجمَّلت عيونها وأبصرت جمال
الورد في الطبيعة ، وطلَّ القمربلون الذهب عالي ، نامت عيون الفتاة وإرتاحت من
عذاب البال ومشاكسة الضمير ، وسدت الأيام لها فتحة كانت ترسل الوجع أعاصير
وهاهي في الصباح تغادر بيتها منأنقة مرتبة الهندام ، لا تبيع هي الهوى ولا تبتاعه
بل تحب الحياة والناس من غلقوا أمامها الباب وفتحته لها الأقدار ، وهل تغلق الباب
خلفها نادتها "علية "من خلفها، المرأة حافية ، تلبس ملابسها المنزلية وعارية الرأس
فبانت أنها مطرودة أو هاربة ، إقتربت منها الفتاة وقد كانت مقابلة لها تقف تحت
الكرمة ، تشدُّ رُكبتها بخمسة يدها اليُمنى حتى تسند عجزها وخجلها وطوت جسدها
حتى ظهرت كمن تركع .
سألت الفتاة حذاءًا قديمًا ، وحجابًا يغطيها ، فأسرعت الفتاة إلى الداخل و
أحضرت ما تريده "عليَّة" ، لبست المرأة وإنتعلت ، ناولتها اَمال نقودًا لسفرها إلى
والدتها ، هما بدأت الحركة ترسل في الشارع ، وبدأ التلاميذ يقصدون مدرسة الحي
سارت خديجة معية اَمال وركبت كل منهما نقل المسافرين الخاص بها متجاهلة كل
منهما العيون المتثعلبة الناهمة لقلوب البشر ، فعلى الأرض بشر ينقشون على قلوبهم
مايريدون ، واَخرون يحاولون إختراق قلوب البشر، وهناك قلوب تحب جنس البشر
الأغرب في قصة "علِيَّة" أن زوجها لا يهمه أمرها ، بل يطالبها بالرحيل والمًضيْ
في سبيلها ، جلست تنظر من زجاج النافذة حتى توقف نقل المسافرين ، نزلت وكان
خلفها يتبعها وسلكت طريقًا ترابي قريبًا لمقر عملها ، وفجأة إنتبهت إلى وقع الأقدام
وتلفتت فوجدته شاب مُعثر الملبس والحذاء ، وجهه طلته الأتربة والأوساخ ،
تطاير اللعاب من شفتيه ، وما إن راَها تنظره أفصح لها على رغبته في الحديث لها
جرحته الفتاه بعيونها ، وإنتقمت منه بنظراتها الجارحة وما كان منها إلاَّ أن قاطعت
حديثه أنها متزوجة ولها أولاد ، قهقه الشاب و صمَّم على إكمال الطريق معها
وفجأة أخرج "خنجرًا" وهَدَّدها به لكنَّ اَمال فرَّت هاربة نحو بابِ المصنع وتلفتت
إليه قائلةً : تمهَّل سَتَلْقَى الردَّ .
وما إن تقدَّم معها نحوى باب المصنع حتى رده حارس الباب على عقِبَيه
وهدَّده بالردِّ عليه بقوة السلاح ، تنحى الشاب وهو يتبسم كمن لايهمه مُرَهُ
وسار يبتعد ويتلفت للفتاة ، بينما إلتحقت الفتاة بعملها بمكتب المدير و
أسند لها السكرتاريا ، وإستقبال الوافدين على المصنع ، كما تعمل ترجمان له وهذا
للضرورة ، تلبست اَمال حياتها الجديدة ، وظهر على وجهها التورد ، وإختطفت من
عطر الحياة أحلاه ، مع تسلمها للراتب الأول من عملها إشترت اَمال محمولاً واَخر
لوالدتها ، حاولت اَمال إقتفاء أخبار فريد وزوجته ، لكن لا من يرد عليه حتى
ياسمين تزوجت وسافرت إلى الخارج ، فسرفت نظر عن الموضوع ، فالأيام سارت
في شأنها ، فما أصعب أن تحب شخص بجنون وأنت تعرف أنك له لن تكون ، أو
هو لك عزول ، ، فالإنسان يستطع نقش إسمه أين يريد إلا على القلوب فهي التي
تختار من تحب .
سارت الفتاة بشارع 24فبراير الذي فتحت به عيونها ، سيرًا خفيفَا متزنا ، تعشق
الفتاه الهدوء ، ولا تلوم من أساء بها الظن ، إختارت لنفسها مكانة بين الناس فتاة
مترفقة تعرف قدر نفسها ، تقدر معنى المحافظة على أحاسيس الناس ، لذا فهي لا
تلوم من لامها على عدم وضعها الخمار لأنه إختيارها ، وفي وطنٍ يحترم الحريات
الفردية والجماعية ، فالنظر هدية الحياة ، وبعد النظر للبصيرة نور .
وفجأة رأت الطفل على بعد النظر يجلس على الرصيف وحيدًا يلعب بالحصى
طفل نحيل الجسد ، أشعث الشعر ، صبغت الأتربة وجهه وملابسه ، وغرق في
حديث إلى نقسه ، وما إن سمع وقع أقدامٍ تسير نحوه حتى رفع رأسه ورمى الحصى
من يده وهروَل ، نظر بعض المارة إلى الفتاة في تعجبٍ ، ووضعت نفسها موضع
الشبهات ، فلا تلم من أساء بها الظنَّ.
أخرج الطفل رأسه من بين كومة الحطب والخردوات ، وأخذ يرقب الفتاة وهي
تسير إلى بيتها .
وعلى صوت مؤذن المغرب يسترسل في الأجواء ، ويعم المكان ، وخرج المصلين
إلى المسجد القريب ترتشف من هدي الدين ، قلوبٌ تتبسم لذكري الله ، ومفتاحها هو
الإقبال على بيوت الله .
وقفت إلى شجرة الموز التي غرستها والدتها ، ونادت على أمها لتخرج لها أنبوب
الماء فتسقيها ، وما كادت تتلفت حتى سمعت رجلاُ يرميها بالسب والشتم ، ولسانه
يعلو بالكلام الخشن ، تلفتت فإذا هو مرزاق زوج الجارة عائشة المتاخمة لها ، لم
تعره الفتاة الإهتمام ، وتجاهلت مقصده وكلامه حتى إقترب منها وإستصوبها ،
نظرت إليه الفتاة وقالت :
ماذا أكمل طريقك ؟
ردَّ الجار : وأنت لماذا تقفين هنا ؟ ألا يوجد لك بيت ؟
ردت عليه الفتاة بقولها أنه إن لم يكف الكلام فستوصل الأمور إلى ما يحمد عقباه
هنا سمعت الأم صراخها فخرجت تجري ورمت الجار بكلام مهددٍ فأسرع يبتعد عن
بابها وهو يحاول هضم عسر موقف الطفل الذي شاخ فجأة عندما ماتت أمه فجأة.
وتلفتت الأم لإبنتها وقالت تصادق مع الناس، وكن مستعدًا لما يأتيك من وجع الرأس
الأيام هي الحكم قلنا تجد أصدقاء مخلصين فيها ، ويستطيع المرء حماية نفسه من
غيره ، اليوم هو السبت يوم عطلة ، قبل أن تخرج اَمال من بيتها للتبضع إرتدت
حجابَ أمها وخمارًا وخرجت ، وهي تسير بالشارع لفت تذكرت الطفل إبن الجيران
علها تجده في الشارع مع أقرانه ولكن لم يكن هناك، وواصلت طريقها حتى دخلت
الحي الرئيسي أين الأسواق والمحلات ، سارت الفتاة بحرِّية وتلقائية ، وجعلت من
وقتها للراحة والتمتع بالبضائع الشديدة وفجأة وقفت على وجه نعيمة وهي تغرس في
رأسها في كومة الملابس البالية ، وإبنها يلعب بدراجة صاحب البضاعة .
كان الموقف ملفتًا و"نعيمة" لا تحب من يشاهدها وهي تبحث في الملابس القديمة و
لكنها لم تشاهد اَمال وهي تتأمل موقفها ، ولكنها تتذكر نقدها للمارة أمام بيت العائلة
الكبيرة كان الشارع يدري بما تقوم به الفتاة فهي لا تلبس حجابًا إلاَّ إذا خرجت إلى
شارع بلدية وادي سلي القديمة والتي فيها من السكان الكثير لكنها بلدية محافظة
الغريب فيها ظاهر ، والحياة فيها تميل إلى حياة القرويين ، وسكانها مفطورين على
مراقبة الغير ، الحياة فيها تستوحب متابعة من سبقوهم ، والميل إلى الإنحصار
للإِبتعاد عن طيش الكلام وكثرة الملام ، هنا الحياة تتبع نظام وإلتزام .
عادت الفتاة إلى بيتها والساعة تقارب الحادية عشرٍ وفجأة إقتربت منها عجوز
قاربت العقد السادس وشدَّتْها من يُمناها صدقة ، أدخلت الفتاة يَدها في جيبها وناولتها
نقودًا فردت العجوز عندي إبني ولم يحضر اليوم فلم أشتري الخبز .
وأكملت الفتاة طريقها تحت دعوات العجوز ، ولكن الفتاة لم تبتعد كثيرًا حتى سمعت
صراخً وأطفالاُ تجري خلفها وترميها بالحجارة ، نظرت فرأت بنات الحي يلعبن و
يركضن وراَها كمن كنا يعرفنها وعلى مسمع أوليائهم الذين كانوا يسمعون أصواتهم
وهتافهم ، ولكن كانوا يتغاضون عنه .
رمت الفتاة خمارها وتمسحت العرق من جبينها ، ونزعت عنها الحجاب وإستراحت
يأتي الشتاء و يتنفس صبحه برودة ، وتتندى أشعة الشمس بحبات مطرٍ ثلجي باردة
وعم الضباب وصبغ على الكون ، وتزحلقت قطرات الندى على ورق النبات ، ونام
الوجود في برودة هدَّأت الحياة .
كُلّْفت اَمال بالسفر مع أعضاء الشركة للإشراف على فتح شركة أخرى في مدينة
الأوراس باتنة ، وسارت مع الوفد بعد بضعة أيام وكانت لها فرصة لمشاهدة الحال
والأحوال من حولها ، ودخلت مدينة باتنة وسارت في شوارعها الواسعة ، وتعرفت
على الكثير من عادات وتقاليد المكان ، الناس هنا لا يختلفون عن مدن الغرب و
الوسط إلا في اللهجة الشاوية ، ولهجة الشيوخ ، ركبت الفتاة قطار الحياة ، وتمتعت
بأيامها ونامت على أهازيج وطبول الشاوية ، مكثت في موقع العمل مع الوفد مدة
أسبوع ، وعادت في معنويات عالية وأعادت على والدتها ما كان معها ، فالحياة
لا تختلف عن نظيرتها هنا الناس محافظين يميلون للحياة الهادئة ، نهار هادئ و
ليل أهدئ ، والحياة بالمدن الداخلية بسيطة وكذا الحياة وسط المدينة إلاَّ في أيام
العمل أين يخرج العمال إلى عملهم .
خرجت الفتاة إلى عملها كما كل صباح والساعة تقارب السابعة والنصف ، هذا
الحين بدأت الحياة تدب في الشارع ، وهاهم التلاميذ يعبرون إلى المدرسة ، وبينما
هي تسير في إتجاه محطة النقل ظهر الطفل الصغير يقف أمام باب منزله قرب
المنعطف ، نظرت إليه وتبسمت ، فردَّ عليها ببسمة صبيانية ، أثلج صدر الفتاة وفتح
شهيتها للإقتراب والحديث معه ، وكما كانت ترسمه لم يهرب الصبي من اَمال بل
قال بصوت : أنت ذاهبة لعملك ، تَعملين مُدرسة بالمدرسة ؟
ردت الفتاة بلا وأنَّها تعمل بعيدًا ، وسألته لماذا لا يذهب إلى المدرسة مثل زملائه
فردَّ ، وكم تعجبت الفتاة من رده بِأنَّه لا يدرس ، وليس مسجلاً في المدرسة .
فردت الفتاة إذن أنت تراقب التلاميذ ساعة ذهابهم إلى المدرسة ؟ وسألته إن كان
يغار أم لا؟ فرد أنه يتمنى السير إلى المدرسة ولكن والده الشيخ لم يدخله المدرسة
لأنه لا يملك المال الكافي ، وتخرجت شفاهه الكلمات بخفة ولطافة الطفولة ، و
عفوية ، وكلمات باكية ذاقت الخيبة وحرمان طفل في حاجة إلى الإستمتاع برياحين
حياته والسير مع زملائه إلى مقاعد الدراسة فما أقساه شعور عندما تكون عاجزًا
العطاء وأمامك حرمان يطيل البقاء .
مسَّحت الفتاة على رأس الطفل ، وطوت يمناه على 100دينار ، وإنصرفت على
بسمة لطيفة من شفاهها ، هنا خرجت سهيلة ترمي الماء بالدلو فرأت اَمال مارة ولم
تحذرها بل رمت على أقدامها ، نظرت إليها الفتاة وإستغفرت ، بينما لم تكلف الفتاة
نفسها حتى بالإعتذار ، وجعلت تتبعها من شقة الباب ، ورغم كلام الشباب المار
عبر الشارع إلاَّ أنها كانت الأروع ، وكانت للرأي تسمع ، وللقلب أوسع ، لا تهتم
للحروب النفسية ، لأنها شقاء .
جلست وجلس إلى جانبها شاب ، فأخذ يلوي رأسه ويتحدث إلى من يجلس إلى
جانبه ، ويطوي في جسده يمينًا وشمالاً ، حاولت الفتاة تغيير المكان لكنها محجوزة
وصرخت فتاة أخرى خلفها إلى الذي بجانبها ، كن مؤدبًا وضمَّ ساقيك ، لكنه رد
ماذا أفعل لهم أقصهم ، غيري مكانك ؟ ردت الفتاة رجال أصغر من الصبيان أسكت
فقط لإلى تبكي .
نزلت الفتاة وتركت أفواه الشباب والشيوخ الراكبين المواصلين الطريق إلى وسط
المدينة تسترسل وتوسع في الكلام على الفتيات وعلى الحجاب والخمار لأن الفتاة
متبرجة ، صعب أن تتعامل مع جميع الناس أو ترضيهم لأنهم يتغيرون في الجملة
الواحدة ، وصعب أن تفكر في شيء قد زرعته الغيرة بك بينما الاَخر لا تأتيه على
البال ، سارت الفتاة طريقًا ترابي مفتوحًا على المصنع مستغرقتًا في إضطرابٍ و
مشاعر سلبية حَمَلتْها نفسها جوَّزتها عن الإنتباه للأتربة .
غادرت بهجتها وجهها ، وودَّعَتها البسمة دخلت مكتبها فوجدت المفاجأة " هدى
تنتظرها منذ الصباح ، دخلت اَمال إلى مكتب المدير وعادت للجلوس إلى صديقتها
وأخذت معها في الكلام وعن حياتها الجديدة ، وكيف أنَّها ترجَّت أمها أن تبقي إبنها
طارق معها لكنها منعتها عن الكلام في هذا وعن حياتها قالت الكثير عن مغامراتها
فهي تبحث عن رجل صالحٍ لا يخدع ولا يزهو بنفسه ويغمدها بستره ولا يتسكع بها
مع الأيام ، وأن هناك في الأفق رجل مكتمل الأوصاف يتمنى قُربَها .
سارت الأوقات ، ومالت الشمس للنوم بعد طول يوم ، وتندت أشعتها الذهبية وتَعمَّق
لونُها إلى البرتقالي ، خرجت اًمال بعد طول بقاء في مكتبها ، فالمدير خرج باكرًا
وهاهي في شارع 24فبراير ، في المساء البارد من شهر جانفي خرج الأطفال
جماعات يلعبون هنا وهناك لكنها إنتظرت طفلاً واحدً و لم يظهر ، ولكنه كان خلفها
يتبع خطاها حتى تبسم بصوت جميلٍ ردت له البال الفتاة فقال :
لقد إنتظرتك . وردَّت الفتاة لم تقل لي ما إسمك رد : وسيم وأمي تنادي سمسم ،
تبسمت الفتاة وقالت : إذهب إلى أمك وقل لها أريد الحديث إليها ؟
أسرع الطفل إلى أمه ووقفت الفتاة عند الباب تنتظر ، وخرجت الأم وهاهي تقف مع
اَمال على عتبة الباب ، فعرفت ما تريده منها الفتاة ، تبسمت الأم وقالت هذا صعب
ودَّعَتها إلى الدخول لأن الشارع بدأ يعج بالمارة ، وإجتمع حوليهما الأطفال ينتبهون
إلى أسرار الحديث ، جلست اَمال إلى المرأة ووعدتها بضمان ملبس وأدوات التلميذ
كما أنها ستسجله ضمن المحتاجين ليكفل ، ظهرت على ملامح المرأة سمة التراجع
وتمتمت ، لكن الفتاة نزعت عنها شرنقة الهموم ، وتلفتت إلى الأركان ، ورفعت
رأسها للسقف ، البيت بالقرميد يحوي بيت ومطبخ وسقف من الأجور ونوافذ من
الحجر المربع ، وباب من الخشب ، همت الفتاة بالقيام عن مجلسها وطلبت منها
المرأة البقاء ، لكن اَمال وعدتها بالمرور في الغدِّ لأخذ سمسم إلى المدرسة ، وهنا
دخلت هناء فتاة ذات 10سنوات نظرت إليها اَمال وقالت أنت أخت سمسم ، لقد
رأتها اَمال في الكثير من الأيام تمر عليها عشية الخميس .
أخبرت الأم اَمال أنَّ إبنتها هناء تعمل في البيوت ، في بيت الحاج إبراهيم الرجل
الثري ، لكن أولاده عصاة حساد حتى أنهم يكلفونها بجهد على جهدها .
البنت هزيلة الجسم ، ذات قدٍ ضعيف ، ووجه جميل ، بيضاء السَنْحَة ، تلبس وشاحًا
رمادي ، وتنورة حمراء وسترة خضراء ، ونعلٍ بني مسَّحت اَمال على كتف
البِنت وتمنت لها العافية وطلبت منها الرفق .
تركت الفتاة البيت وسارت بخطى متثاقلة ، تتسمع وقع خطاها ، تعلم اَمال ماتعانيه
الفتاة في بيوت الأغنياء ، وما تعنيه معانات صبية من أجل مساعدة والدين
عاجزين لا يملكان معاش يكفل حاجة أولادهما ، مبلغ ومساعدات ، هذا ما كان
مرسوم على وجهها خدود حمراء نارٍ ، أطفأت لهيبها بسمتها لأمال وهي تسمع ما
ستقوم به مع سمسم ، فالقلب يتألم ، والعين تعلم ، ولكن اللسان يمتنع عن التكلم ، و
ليس كل من يتبسم لا يتألم فخلف البسمة حزن شديد .
وقد يتوه الإنسان في عيون حوله تشقى وتبحث عن الرحمة ، ولا تجد غير من
يرمي الحطب للنار ، ويزيد في كلام التيه والعار .
وقد نجد قلوبُ تنخدع ولا تخون ، وأخرى تتحصَّن بالتسامح وتدرك أنَّ الدنيا
لا تدوم وما أعطي أحد من عطاء خير من الصبر .
وأخر في السراء شكر وفي الصراء صبر، وكم تخفي الجدران من اَلام ، ولا
تتحدث عنها الألسن ، لأنها تنبض مع القلوب ، وتجملها النفوس .
وأطياف البشر الرحيمة تنهض بالمتعسرين ، ولها يد القدرة على مد المساعدة لمن
يتألم ويتوجع ، ولها غاية وهي إسعاد الناس الفقراء ، بعدما أطال بها البقاء ، ومن
ذا يحتمل أشعة الشمس في صيف لا يطاق . نفوس عالية ، وأخرى دانية ، في الشدة
الرخاء نعيشها كل زمنٍ .
لن يترك الإنسان للظروف حرية تسيير أحواله ، وإلا إنجر مع الريح إلى أماكن لا
رجعة منها ، خراب يكون نهاية زمانه ، بل وجب لبس الجدية والوقوف وجه المد
لا للصد وإنما للرد أوفى من ترك الزحام يعرقل سير الأقدام ، فالدنيا لا ترسى على
حال ، حتى طبائع البشر في تغير بإستمرار .
القناعة رضى النفس ، والطمع عدو النفس ، والبال بينهما يسير حائر من المجاز
لكليهما .
إنفرج الصبح ، وأطلَّ قرص الشمس بِبَهائه ، يَمسَح الدِفء عن الأرْكان ، تَبدَّدَ
الضباب ، وغرد الطير على شمس شهر فبراير ، توجهت الفتاة إلى بيت وسيم
فرَحَّبت بها أمَّه بينما ودَّعَتها سُمية أخته لأنَّها ذاهبة لبيت الحاج إبراهيم من ينتظرها
وزوجته ليَذهبَا إلى العمل ، مَسكت اَمال بيد نسيم وسلم على خُدود والدته ، التي
دعت لها ولإبنها وسار إلى جانبها وعيون المرأة تتبعهما .
إنضم نسيم إلى تلاميذ المدرسة من تلك الصبيحة بعدما توعدت اَمال المدير بإتمام
الوثائق ، وتوجهت إلى عملها .
لم يدع المارة قول الزور ، بل إسترسلت الألسن في كلام الملام على رعم إرتداء
الفتاة للحجاب ، وراحت تشق طريقها وترمي بكلام الصبيان خلفها ، وتميل عن
ترامي هذا وذاك ، ولا تهتم لسوء اَداب ، الشارع يعج بالتراب والرياح تطير به في
كل إتجاة وإستصوب العيون حتى حنت رأسها ووضعت يدها على عيونها .
العنف اللفظي والفكري للجزائريين يسير في شرايين القلب ، أم هي أسرار القلب
تطفح كلما وجه إمرأة بان ؟ وربما هو خوف الأيام التي تلعب بفكر الإنسان ؟.
فإذا كان العنف الحل عند الإنسان ، فهل التقدم العلمي كان بالعنف ؟ وإذا كان العنف
طريق السعادة هل سعدت الشعوب التي تعيش على نيران الحروب .
رديت لا مستحيل ، العنف دائمًا بلاء حتى في حالة السلم ، لأنَّه يَتعصَّر المُرَّ في
النفوس ، وهذا يكفي ليزرع الهمَّ بالقلوب .
بَعد عودت الفتاة أخبرتها الوالدة بحضور نسيم يبحث عنها ، وكم تمَنت لو تذهب
تتفقد أحْواله هذا الحين لكن منعتها والدتها خوفًا وإحترامًا لِحرْمة الناس والبيوت
الساعة تقارب الثامنة مساءً البيت هادئ ، الجميع يجلس أمام شاشة التلفاز ، وإذا
بوقع دقات خفيفة متسارعة على الباب ، أسرعت اَمال وفتحت فوجدته نسيم يطلب
مساعدتها لأخته سمية المصابة ، سارعت اَمال وخرجت إلى بيت الجارة فوجدت
الأم تضمد جرح الفتاة فساعدتها على لف جرحها وطلبت منها التروي والمشي
معها إلى أقرب صيدلية لشراء ضمادات وأدوية .
ترافقت الفتاة مع اًمال وفي الطريق سألت سمية عن السبب فردت أنَّ قدمها إلتوت
في مطبخ الحاج إبراهيم ولم تخبره بذلك وعند عودتها جرحتها حجرة قرميد سقطت
عليها وفتحت رِجلها وهي على عتبة غرفتها .
سمعت الفتاة لسُميَّة بقلب ساكن دامعٍ ولسان صامتٍ ماقتٍ من فعل الأغنياء ، حتى
بان إنتقامها في كلامها ، ضمد الصيدلي جرح الفتاة ومنحها أدوية ، سددت ثمنهم
بعد عودتها إلى البيت ، وجلست اَمال إلى نسيم الذي ما يزال يشكرها على
إهتمامها به حتى أوصته بعدم الحديث في هذا الموضوع ولو بالمجاملة لأنه حقه .
عادت الفتاة إلى بيتها مع جنح الليل وهي تسير في الخفاء أطلت يمينة من نافذتها
رأتها أمال فجعلت ترتب وشاحها على رأسها ، وتفادت نظراتها ودخلت بيتها .
هذه خمسة سنوات بعد الألفين ولا تزال أفكار الناس تحمل متاهة التسعينات ، ولا
تزال الألسن تعيد ما حرى من عمل الإرهاب ، وتنعت الخوف واللاأمان في ذلك
الزمان ، لا أدري فأنا كذلك عِشته لكني لا أريد تَذكره ولا أحمِّل نفسي على ذكره
ربَما الكثير من الناس يجدون غايتهم في ذلك ، ولتكن ، لكن أي غاية هل هي
ترشف خوف وحرمان الإنسان ، أم التلذذ بعسر وقهر الناس ، أم هي الساديَّة التي
عرفها الإنسان ؟ ما أعلمه هو أن الإنسان مفطور على الشدَّة ، وهناك منا من يتلذذ
بغبن الناس ويعش فيه برضى ، ولكن الحلَّ ظاهر ، حريتي هي حريتك ، و كَمْ
هو جميل السكينة للجميع ، فعندما أشاهد القمر والنجوم ، أحتار في مكانهما
العالي ، شأنه شأن الإنسان الغالي والذي يُرِيحُ البال ، من يعش لأن هناك حياة وما
الظلم إلا نوع من أنواع العذاب .
أما شمس الصباح فبمجرد ما الضوء لاح وتمسح نورها البطاح ، بان بالوجه تباشير
النور الوضاح ، فماذا يقول من يهتم لما خلق الإلاه فاللسان يرتاح لذكر الله.
........ ........ ........
بلغت اَمال سن السابعة والعشرين ، ولا تزال في كامل أناقتها ونعومتها فتاة حالمة
عاشقة للحياة ، نظراتها تحرك الأعماق ، وتعزف على أوتار النغم ، شقت لنفسها
طريق العمل الجاد ، مع سقوط الليل جلست اَمال على مقعدٍ قرب بيتها ، تستمتع
بالهواء النقي ، وتتصفح صفحات النجوم والقمر ينحني في كبرياء ، الشارع هادئ
بالليل ، والمارة به هم سكان الحي ، لا بد من راحة نفسية ونسيان الماضي للمضي
هنا لاحظت طيف إمرأة يقترب منها حتى لاح وجه أم نسيم براقٍ ، وجلست إلى
اَمال دعتها الفتاة للدخول لكن رفضت .
شكت المرأة مايحدث مع سمية إبنتها فبعد الحادث رمتها زوجته ببعض المال و
أوقفتها عن العمل ، وعندما طالبتها بالتعويضَات قالت لها سَأمنحُها بعض المال
صَدقة مِنها .
تبسَّمت الفتاة وردت على المرأة أنها كانت تسمع بذلك في الروايات والقصص
الغرامية ، وفي المجتمعات الغربية لا العربية ، لكنها اليوم تعيشها أمام فتاة عرقلتها
الحياة ، وتشبثت بأذيالها فخيبتها بعدما جرتها إلى أوحال أقدام الأغنياء ، وأقنعتها
بأنَّها ستهتم بمراد إبنتها و ستعمل على مساعدتها .
وإقترحَت الفتاة على الأمِ بالتبليغ وتقديم شَكوى ضِدَّ بيت الحَاج إبراهيم وزوجه
وفتح تَحقيق في القضية ، لكن الأم إمتنعت وقالت أنَّ ذلك اَتاها على بَالها لكنَّ
الخصم قوِّي ، وقد يُنْهي أمر إبنتها للسجن إذا ماثبت أنَّ سقوطها كان خطأ يدها، لَقَد
تفهَّمَت اَمال مُراد الأم ، وأنَّ كل ما قالته قد يؤدي إلى نتيجة رأتها صحيحة ، كَمَا
وعدتها بوضع قدم إبنتها على الدرَج إذا ما أتتها فرصة عَملٍ.
دمعت عيون الأم ، ووصفت اَمال بالملاك ، والتي صرخ قلبها بيامن تتمتع بالدنيا
وتنام ، وتتمتع بحلاوة الحياة ، ماذا تقول لله عندما تصعد سابع سماه ؟.
إنتظرت الفتاة الأم حتى تدخل بيتها ، ودخلت بعدها .
تَبسَّط جَمَال الصُبح ، وتكشَّف الضِياء مخبأ النوَّام ، تغلغلت الأشعة ، وتدفق النور
تأنَّقت الفتاة ، وبَان جمالها حكاية العشاق ، وتهدَّل شعرها الأسْود على عَارضة
الكتف ، ولبست سروال جينز وقميص أسود ، حملت محمولها وحقيبتها ، وودعت
والدتها وخرجت .
وهي في فتحت الباب رأت "الجارة نعيمة" من نافذتها والعجوز عائشة يتبادلان
الحديث ، حاولت الفتاة تجاوز حديثهما و همسهما ، لكنهما حاولتا توصيله لمسامع
الفتاة ، إذ صرخت "نعيمة " البارحة وطول الليل وهما يتكلمان في أعراض الناس ؟
ردت العجوز وماذا يأتيك من بذرة مرة غير المر .
تعثرت أقدام الفتاة وكادت تسقط ، وإستغفرت وواصلت طريقها ، فما تعانيه من
ألسن جارتها فضيع ، ومكيدتهما طفحت على الميزان ، وأكثرت من اللوم ، وقفزت
على مشاعر الناس ، وكسرت القيم الحامية للأحاسيس ، حتى أصبحت تخشى
المرور أمام بيت الجارتين ، لكن إحساس القهر قوى قلبها ، وثبتها ، حتى ترافقت و
صوت والدتها في حنان وسلام ، وأوصتها بالإبتعاد عن بياع الكلام.
ألسن المارة ليست دائمًا للصمت ، بل هناك الكثير منهم من جعل حياته مفتوحة على
المارة والتعليق على أحوالهم ، وتَصعَّبت الأمور أن هناك من يفكر في من لا تمثل
لَه شيء ، وينتظر موعدها رغم عناء الإنتظار ، هذا ماكان يحدث في يوميات اَمال
شباب مقصيون ، كل يوم يظهر منهم وجه ، يخادعون ويرمونها بالكلام ، وهو ما
كَان يحدث مع الكقير من البنات من لا يلبسن خمار .
الشباب يجمع هنا على أن المرأة مكلفة بالخمار ، وأنهم لن يجدوا في ذلك عذرًا
حتى ولو كان الشاب لا يدري لخمار المرأة غير تغيير ملامها ، و إخفاء خصلات
شَعرها ، ولكن الغيرة عمَّت الأبصار ، وأسرعت الأحكام ، وصارت المرأة هي
غاية الشباب بصفة قاتلة لا يتخيلها العقل ، ولكن هنا يكون المعني هو الشاب
المقصي ، الذي لا يجد غير ضعف المرأة ، على خلاف الشاب الناجح ، الذي
أثبت وجوده بعيدًا عن هذه الخِلفيَات ، فهذا النوع من الشباب تجده يتعامل بالحوار
و الإحتكام لديه للعقل .
جلست اَمال بمكتبها ، تحاكي نفسها ، المكتب خالٍ من الزوار ، والمدير لم يحضر
بعد ، جلست تسترجع ما زرع بقلبها الكاَبة ، وتركها تهتم لتفاهته ، فبإمكانها تجنب
سوء الناس لكن إلى متى ؟
خرجت تسير في ساحة المصنع ، تحمل من الأفكار ما أثقل تفكيرها ، وجعلها تقف
عند الشجر والورد المزروع هنا وهناك ، وتقرأ الشعارات المكتوبة على طول
الساحة ، وعلى بوابة كل فرع .
تمسحت على شعرها وجهها ، لم يكن لينتبه لها أحد بالمصنع ، على الرغم من أن
غالبيتهم من كانوا يهاجمونها وهي بالخارج ، فرمت عيونهم كانت بعيدة عنها ، و
بان الإحترام مكان نظرات خبث الشارع والتلاعب بالغير .
هنا قست الحياة على اَمال ، وقست عليها الأحوال ، فصار الفصل صعب بين الجلد
واللحم . وسارت لا تدري إلا والحارس ينادي عليها ، أسرعت إليه فأشار عليها
أن هناك وفد من ثلاث نسوة ورجل ينتظرونها في المكتب ، دخلت فوجدتهم
ينتظرون المدير ، جلست اَمال إلى الضيوف الوافدين من فرنسا ، والقادم لأجل
أخذ نسبة عمل المرأة بالمصنع ، وأخذ اَراء حول مدى مشاركة المرأة في الإنتاج
أهمية لا يمكن تجاهلها ، والمصنع جعل الإنصاف بين الرجل والمرأة ، وما يمكنهم
الإطلاع عليه يكشف عيون الصحة ، هنا دخل المدير والساعة تقارب العاشرة
صباحًا ، خرج معهم في جولة في المصنع ، وتحدثوا إلى الكثير من العاملات في
فروع المجموعة ، وأخدوا نظرة الرجل الشلفي في المرأة ، والتي لم يتحدد بعدها
عدا مساعدتها ووقوفها مع الرجل ضد تيار الحياة العاصف .
بعد الظهيرة خرج الوفد برفقة مرشد من فروع المجموعة ، ليعود لمكتب المدير و
توديعه ، جلست إليهم اَمال تتكلم عن نسب مشاركة المرأة في العمل ، وعرفت أن
الوفد هو جمعية مكافحة العنف ضد المرأة ، وحمايتها .
طلبت منهم اَمال الإنضمام إليهم ، فرحبوا بذلك وشجعوها وقدموا لها نشاطات
الجمعية ، وراحت اَمال تتحدث إليهم عن نظرة الشارع للمرأة ، وكيف تجد وضعية
المرأة اليوم ، وماذا تفعل بها وحولها النفوس الخبيثة الباحثة عن الإساءة .
اَمال عينة المجتمع الريفي الذي يعش على البساطة في العمران والتعمير .
وهي من شاهدت وتعش كل صباحٍ ومساء المكر الشباني الذي يقف عائقًا أمام
المرأة وحياة الشارع ، تكلمت اَمال فأفاضت و كلها حقائق يشاهدها المرء بعيونه
بحكم ضعف الجنس ، والغريزة الإنسانية ، وحكم المجتمعات الذي يحدد للمرأة
مواقفها ، وأفعالها .
حتى الأفكار التي كتبتها رَسمتها مَلامحها ، فالفتاة في رحلة مع الأيام ، وتحرَّكت
بحُكم الشُعور وحرص اللسان الذي لم يعد يتكلم عن الخيال ، ولا عن أسرار ترويها
الجدَّات ، بل أفعال تقع صباحًا ومساء ، وأمام النظر .
فالمرأة هي الحياة لا الفناء ، وإذا ظهرت تبسم الفؤاد ، وإنسجمت مع تغاريد الطير
والكلام فيها نوره وضاحٍ .
سمع الوفد لكل ماقالته اَمال ومنحتها رئيسة الوفد رقم المحمول ، وبطاقة الإنضمام
وأوصتْها بعدم قطع العلاقة ومهاتفتهم في كل ما يتعلق بجَديد يَخصُّ المرأة
بالمدينة فَلا يَخفى عن العيون ما تعيشه المرأة كل يوم ، واَمال تحبُّ هذه القضية وها قد جاءتها الفرصة فكيف يمكن لها تجاهلها .
دخلت اَمال إلى المدير فأخذها الحديث معه فيما جاءت لأجله الجمعية ، وجاء في
الحديث حاجة المرأة للعمل ، فقصت على المدير قصة الفتاة "سمية" التي رمتها
العائلة الغنية بعد أعوام من الخدمة .
إنتبه المدير لقصة الفتاة ، التي كانت مثل أفلام الزمن القديم و إقترح عليها أن تعمل
البنت في مدرسة محو الأمية فهناك يحتاجون لعاملات حسب قوله ، وقد وعد رئيسة
الجمعية بأن يجلب لها عاملة إذا ما توفرت لديه الفرصة .
أخذت اَمال العنوان ووعدت بالمرور عليهم .
هاهو الغروب وسحره يهمس للعيون ، الشمس تعبت من الظهور ، وهاهي تتأنى
في الرحيل تروي للحضور قصة الغروب ، تتمختر في فستانها البرتقالي ، خافية
الحركة حتى قاربت الغياب ، دخلت اَمال شارع 24فبراير ، وتوجهت إلى بيت نسيم
وسمية ، فمكثت معهم القليل من الوقت أخبرت فيه الفتاة سمية بما معها من أخبار
سارة لها ، وانها ستذهب معها غدًا للجمعية، وهمست لنسيم الذي عانقها وأخذ يسلم
على خدود الفتاة .
خرجت اَمال وهي تهم بفتح بابها صاح الصوت من خلفها كم الساعة الاَن ، الدخول
في مثل هذا الوقت للرجال ، تلفتت خلفها فوجدته عبد القادر زوج "عَلِيَّة" ينظر
بعين واحدة لها ، تجاهلته الفتاة ودخلت .
مضى الوقت وخرج والد اَمال ليصلي في المسجد ، ولما عاد جلس إلى مائدة
العشاء فأعاد على اَمال ووالدتها "فتيحة "ماقاله الجار على سمعة إبنته ، لكنه لم
يهتم له ، فالشيخ لا يهتم للقيل والقال من الأفواه ، ولا يمنح عمره لما لا يرجو
لأنه يخاف الله ، سمعته اَمال ووالدتها ، واوصت والد اَمال بأن لا يجالس هذا
الرجل ، لانه لو يخجل لخجل من فعله مع زوجته ، فجسد علية زوجته لم يعد
يحتمل الهروات ، ولا عيب إن بحث على زوجة سابعة .
الشقاء يملأ القلوب ، والدروب مرصعة بالشوك ، الأحقاد تملأ العيون ، والألسن
لم يعد لها فيما تخون غير أعراض الناس ، والشبهة والظنون .
وبعدما دخل الجار خرج إبنه سليم يسب ويشتم في بيت الجارة ، والتي غلقت عنه
الباب ، لكن اَمال هددت بأن لا تسمح ، فوالديها وهي معافى من إتهامات الجار ، و
لن تسمح بالتمادي وقد بلغ به الأمرللتبليغ عنه ، ورفع شكوى ضده.
ولم يهدأ لسان الشاب إلا وخرج إخوته معه ، أما زوجته خديجة فلم يظهر لها طيف
وجعل الجار يدخل في أولاده للبيت وهم يتراجعون إلى الخارج ، سكتت فتيحة ، و
لم تهتم لما يقوله عنها فالجار بياع كلام ، ويبتاع لأي كان ما ليس منه ، وحكت
لإبنتها ما كان منه مع والدته رحمها الله ، إذ كان يتناول الدواء بمشقة ، ولا يبالي
بها ، بل عذبها بطيشه ، فحبه لأمه كان حب معنف لا تفهمينه ، يشبه فعله اليوم
مع جيرانه .
لكن البنت نبهت والدتها إلى أن ما يفعله الجار فهو من باب الحقرة ، فلا يعقل أن
يرمي الناس بما ليس فيهم ، السب والشتم والتجسس ، وماذا يفعل وقد كان يفعل
أكثر من هذا مع والدته .
قلب الفتاة بحر له شطاَن راسية ، تسبح به الأحاسيس الهادئة الحالمة ، ووسعت
نظراتها وتعمقت في قلوب الناس فبعدت عن المظالم ، ولا تنام عيونها إلا وهي
هادئة ، أكرمها الله بنعمة التمهل و الرفق مع الغير .
تبسم الصبح وإنتشر الضياء في الأجواء ، تنشقت الأرض عطر الحياة ، وتراجع
الظلام أمام شمس الأمل ، وتوسع فستانها فراحت بضيائها تتمختر .
سارت اَمال مع نسيم وسمية ، فتنحى عنهما عند باب مدرسته ، بينما واصلا
مسلكهما إلى جمعية محو الأمية ، المكاتب شاغرة، والباب مفتوحٍ ، دخلتا وجلستا
حتى دخل الحارس ورحب بهما ، ودخلت رئيسة الجمعية فدخلتا خلفها .
قدَّمت اَمال سمية للسيدة وأعادت عليها سيرتها الذاتية ، تأملت الفتاة فرأت كدمات
على وجهها تميل للون البنفسجي ، سألت البنت فقالت سقطت ، لكن اَمال حكت
للسيدة معانات سمية عندما كانت خادمة في البيوت .
عيوب البشر كثيرة ، ولا شيء هيِّن حتى الإنسان في كل حين ، والطبائع بانت على
الجوارح في الشارع وفي الجوار ، وبين الخادم والمخدوم جُوِّزت الإلتِباسَات و
إنطلقت سهام الخداع تشق خطَّ المُرور للعيون ، فأحدثت التعمق والأثر .
قبلت السيدة بتوظيف سُمية في الجمعية ، وأوصت لها اَمال بإحضار الملف كاملاً
الجمعية لا تبعد عن الحي بل بوسط البلدية ، سارت اَمال إلى محطة الحافلات
لتركب فكان لها في كل خطوة تخطوها عقل ناضج تكلله أحكام شديدة ، ورغم
النظرات التي فقعت أمام رشاقتها ، وخطبتها المسامع ، وتلهفت لها القلوب سارت
دربها ، ورغم سوء الظن الذي أسأم روحها وحتمَّ عليها الحذر واصلت طريقها
فسيرها في الشارع مهفهفة الشعر كان موضع نزاع وجدال للصبية والكبار و
كذا كل مارٍ ، لكن اَمال ذات نسيج متين ، ليست شيئًا في متناول اليد تتجاوزه
العقول ، وتنال منه ، يل هي مثل الأزهران ، عندما تختفي الشمس يظهرالقمر .
لا تقلق من تهديدات ، ولا بفارق الخوف والأمان، بل كانت بكثير من الجمال
الروحي ، وإن كانت النفوس هنا باردة فما بداخلها يدفِّء القلب .
تعثرت ونظرت خلفها فوجدت شخص يتبعها ويتمتم ، فما كان منها إلاَّ أن أسرعت
وتركته يلهث بعدها ، ويتصبب عرقًا.
تبسمت عيون اَمال رغم ما يًضمر لها ، وتعالت عن الأوجاع ومسببيها ، و
إحترست من بسمة بعض الناس ، التي لا تهتم إلا للهندام ، وقلوبهم لا تعرف
الرحمة ، منهم من يبات في العراء ، ولا من يرمي عليه بكَساء ، ومنهم من تتبسم
في وجهه ويرميك بالجفاء ، ومنهم من يرميك بالخروج عن عدم إرتداء الخمار ، و
ويرميك في الجمار ، ومنهم من يسرق بسمتك ليضحك على لطفك وسيرتك .
فالغيرة ليست دائمًا دليل الحُب ن فأحيانًا كثير تكون دالة على حياة أخرى بعيدة
تمامًا عن الحب .
والحياة ليست المال فقط بل هناك أشياء كثيرة لا تُقدَّر بِمال مثل العِشْرَة المُتزنة
وراحة الخاطر والبال .
ولا تزال الأيام تسير على نفس الإتزان رغم مرور العام الرابع عشر بعد الألفين
ولا يزال الشاب يَرى في المرأة الأمل في الطاعة ويرسم لها الصُورة التي يَجب
أن تكون عليها في الحياة ، ويُعمم عليها ما في خياله .
فعندما نفقد أشياء كانت الأمل لدينا ، نرسمها في خيالنا حتى نسترجعها. وليت الحياة
تُعِرْنَا الإهْتِمام ، هيهات فهناك أشياء كثيرة لا تنتظرنا ، وأخرى تنزلق من أيدينا و
أخرى تفر من حظنا .
لكن لا تتوقع وقع القلب عندما يتكلم اللسان عن الوطن الجزائر وعن عروس
الشمال الإفريقي ، وتخرج الأفكار يصعب منها المنال ، ونقول كل ما نريد أن يقال
شعور طرق القلب مثل وقع النظر على شيء يحب.
لحظة رؤية اَمال العَين تحنُّ في حنان ، وتحسُّ أن هناك بذرة زرعت بأيدي مُزارع
فنان ، وتطيل بها النظر حتى تهمس لك الغيرة وقد تنزل بك لأذيال الخيبة ،
فالمعاملة تُعطِيك الخَبر على طَبيعَة البَشر .
هناك إمرأة تعيش بجاه و مالٍ رفعَا بها المقام ، وهناك من إكتفت بالعيش و
والإستمرار في صَمتٍ والرضَا بأيِّ شيء كان كما هو الحال مع "عَلِيَّة".
تعيش اَمال حياة مستقرة تجنبت فيها كلام الشارع و قساوة الإنسان ، الذي يرمي
بالبَلاء ، ويُكثر من التعب والعنَاء ، ولكن من أراد الخير فالساقية تشقُّ درب التراب
بالرفق والحماس ، واَمال فتاة من جيل الحياة هي أن يكون فيها الإنسان الجزائري
باسطًا مسالمًا ، لا طامعًا مباغتُا يهاب من يبتسم ، ويعد النعم ، يرسم الفرح بداخله
ويرمي من حوله في الأحزان ، فاَمال أجمل الأشياء التي صادفتها الحياة . فرغم
ماتعانيه من مرارة الشارع ، وخشيتها دخول الريف ، والأماكن التي يقلُّ فيها تواجد
المرأة تجد نفسها تعدَّت التحتيم و تعيش كما تريد ، فالحياة مُجرد أوقاتٍ
نعيشها ونُحاسب عليها في اَخرتنا .
وسوم: العدد 894