الليلة الأولى الجزء الأول
لوحة الغلاف: للفنّان التّشكيليّ الأديب محمود أحمد شاهين.
ملاحظة: الأسماء الواردة في هذه الرّواية خياليّة، وإن وجدت أسماء حقيقيّة مشابهة على أرض الواقع فهي محض صدفة.
ليلة العمر
بعد أن صلّتا فريضة الفجر منفردتين، مدّت كلّ منهما يديها تدعو ربّها بخشوع، تنظر إحداهما إلى الأخرى بطريقة غير ملحوظة، تنتظر أن تبادر الأخرى بالحديث، لمّا نفد صبر والدة العروس رفعت يديها إلى السّماء، تعوّذت بالله من الشّيطان الرّجيم وقالت بصوت مسموع:
- اللهمّ "يا من سترت لا تفضح."
التفتت إليها والدة العريس التي كانت ترصد حركاتها وسألتها:
- ماذا تقولين يا ربيحة؟
انكمشت ربيحة على حالها وأجابت:
- ما رأيك أن نذهب للاطمئنان على العروسين؟
ردّت عليها عائشة وهي تتصنّع ابتسامة باهتة وقالت:
- لا داعي لذلك، دعيهما حتّى يخرجا وحدهما، فالله مع الصّابرين، سأعدّ الآن قهوة الصّباح، وبعد أن نحتسيها سيفتحان باب شقّتهما، عندها سنذهب إليهما، ونسأل الله تسهيل الأمور.
يسيطر القلق عليهما، لكنّ أيّا منهما لم تبح بما يدور في رأسها من أفكار. القلق ظاهر على ربيحة أكثر من عائشة، أو هذا ما ارتأته ربيحة، التي انتبهت لعائشة وهي تحرّك خرزات مسبحتها، والتي تمتمت قائلة بدلا من ذِكْر اسم الله:
- لا يزال موسى حبيب قلبي صغيرا.
لم تحتمل ربيحة مواصلة الجلوس، فقامت تجوب الغرفة ذهابا وإيّابا، تنظر من نافذة البيت إلى الشّقّة المجاورة حيث خلوة العروسين. فجأة قالت بصوت مرتفع:
- هيّا بنا يا عائشة، لقد أضاءت ليلى البرندة، وظهرت بكامل ملابسها.
سارت مسرعة دون انتظار، لحقت بها عائشة مسرعة حافية القدمين، رأتهما ليلى ففتحت باب الشّقّة، احتضنتها والدتها وهي تقول:
- ألف مبروك يا حبيبتي، صباحك مبارك، إن شاء الله سيكون هذا اليوم فاتحة خير؛ ليرزقكما الله البنين والبنات.
بعدها احتضنتها أمّ موسى مباركة، وسألت:
- أين موسى؟
- في الحمّام يا عمّتي.
وهنا سألت ربيحة ابنتها ليلى:
- طمئنيني...كيف كانت ليلتك؟
طأطأت ليلى رأسها حياء ولم تقل شيئا. ضحكت والدتها وقالت لها وهي تمسك خدّها الأيمن تداعبها بلطف:
- لا داعي للحياء يا بنتي، فهذه سنّة الله في خلقه، وهذه الليلة هي ليلة العمر التي ينتظرها ويتمنّاها كلّ شابّة وشابّ.
تدخّلت عائشة أمّ العريس وقالت لربيحة:
- اتركينا من دلع البنات.
ثمّ التفتت إلى ليلى وأمرتها:
- هاتي ملابسك الدّاخليّة كي نراها، ولتغسلها والدتك وتنشرها على حبل الغسيل.
طأطأت ليلى رأسها ثانية، لم تقل شيئا ولم تتحرّك من مكانها، لم تحتمل ربيحة هدوء ابنتها التي علت حمرة الحياء وجنتيها وقالت:
- يا بعد عمري، لا تزال صغيرة! سأحضرها أنا بعد خروج العريس من الحمّام.
وقفت عائشة تتنهّد، اتّجهت إلى غرفة النّوم وهي تنادي:
- أينك يا موسى؟ اخرج يا حبيبي، لنبارك لك.
ولمّا لم تسمع جوابا فتحت الباب ودخلت، صعقت عندما رأت موسى ممدّدا على السّرير، مرتديا قميصا وبنطالا، ثانيا يده اليمنى على عينيه. أمسكت يده وقالت وهي تقبّل وجنتيه:
- مبارك يا ولدي، هل أنت تعِب؟ انهض يا ولدي فأبوك ينتظرك في "المضافة"؛ ليبارك لك.
نهض موسى من سريره متثاقلا مطأطئا رأسه، قادته والدته إلى البرندة حيث تجلس العروس ووالدتها، احتضنته حماته، قبّلت وجنتيه وهي تبارك له، جلس بجانب ليلى دون حراك.
تغامزت الوالدتان وهما تدخلان غرفة نوم العروسين معا، وجدتا ملابس العروس الدّاخليّة على كرسيّ في الحمام، حملتاها وهما تتفحّصانها، وجدتاها بيضاء لا تشوبها شائبة، نظرت كلّ منهما إلى الأخرى نظرة استغراب دون كلام، نادت ربيحة ابنتها، أغلقت الغرفة وسألتها هامسة:
- ماذا حصل بينكما؟
قالت ليلى على استحياء:
- لم يحصل شيء.
سألت عائشة محتارة:
- ألم ينم معك؟
قالت ليلى بانكسار:
- نعم نام بجانبي على السّرير.
قالت لها والدتها:
- قبل أن تختليا، خلعتُ عنك ثوب الزّفاف وملابسكِ الدّاخليّة، وألبستك ثوب النّوم الشّفّاف، وخرجت، فماذا فعلتما بعدي؟
ليلى: خلع موسى بدلته وهو يرتجف خائفا، أطفأ الضّوء وتمدّد بجانبي من جهتي اليسرى على بعد شبرٍ منّي، وهو يرتدي ملابسه الدّاخليّة، لم يقل شيئا. بعد لحظات سألته في محاولة منّي لجذبه:
كيف كانت حفلة الزّفاف في صالة الرّجال؟
فأجاب: كانت رائعة...حملني الشّباب على أكتافهم وهم يغنّون ويدبكون، وعندما دخلت إلى صالة النّساء وجلست بجانبك شعرت بحرج شديد وعيون النّساء ترقبني، ولمّا طلبن منّي أن أرقص معك، لم يعجبني ذلك، ولولا أنّ والدتي حملت يدي ووضعتها على يدك لأمسك بها، لما تحرّكت من مكاني فأنا لا أجيد الرّقص. عندها انقلبتُ على جانبي الأيسر واقتربت منه، وضعت يدي اليمنى عليه وقلت له:
لقد كنت رائعا يا حبيبي.
استعجلت أمّ موسى الأمور وسألت:
- وبعدها ماذا حصل؟
قالت ليلى على استحياء:
- اضطجعت على جانبي الأيسر، وضعت يدي اليمنى على صدره، وتحدثت معه.
وضعت ربيحة التي كانت تجلس على حافّة سرير العروسين يدها اليسرى تحت لحيتها تستمع حائرة، بينما عادت عائشة تسأل:
- وبعد ذلك، ما فعلتما؟
أجابت ليلى:
بذلت جهدي لأكسر حاجز صمته، فعدت به إلى الوراء، حدّثته عن فرحتي به عندما تقدّم لخطبتي، ولمّا شعرت به يرتجف، فكّرت بطريقة أخرجه بها من حالته، فنهضت من السّرير، أشعلت ضوء الغرفة وقلت له: سأعدّ فنجاني قهوة لنا، وعندما أعددتها أحضرت فنجاني القهوة "ووضعتهما على " تربيزة" صغيرة بجانب السّرير، جلست بجانبه، وهو ممدّد بلا حراك، تحسّست وجهه بيدي، أمسكت بيده وسحبته؛ ليجلس كي نحتسي القهوة، رشفت رشفة من فنجان، وقدّمت الفنجان إلى شفته السّفلى؛ ليرتشف منه، لففت رقبته بيدي، جذبته إليّ، وضعت رأسه على صدري، تحسّست شعر رأسه وشعر صدره، وقلت له:
ألا ترى أن تسريحة شعري جميلة؟ لقد عملتها هكذا من أجلك أنت، أنت الوحيد القادر على العبث بها.
وضع يده على رأسي ولم يحرّكها، شعرت بنبضات قلبه تتزايد، لم أجد تفسيرا لذلك، احتسينا القهوة وعدنا نتمدّد على سريرنا دون أن أطفئ الضّوء، وقلت له:
شفتاك جميلتان شهيّتان، شاربك ساحر، وسألته:
هل أنت خائف يا موسى؟ لِمَ ترتجف؟
فأجابني بصوت يرتجف:
- لست خائفا لكن هذه تجربتي الأولى مع النّساء.
فقلت له:
- نعم كلامك صحيح، فلم يسبق لك أن تزوّجت قبلي، لكنّ الشّباب الخلوقين مثلك ينتظرون هذه الليلة بشغف، وكذلك الفتيات، فهذه سنّة الحياة.
بعدها قبّلني... تحسّس جسدى، غنجت له بدلال أنثويّ أشجّعه، لكنّه اكتفى بذلك.
سألتها حماتها:
- ألم يحصل عنده انتصاب؟
ردّت عائشة بحياء:
- ماذا تقصدين بانتصاب فأنا لم أفهم سؤالك؟
ضحكت ربيحة وعائشة التي قالت:
- أقصد هل طارت حمامته وحلّقت كالسّيف عندما يخرج من غمده؟
أجابت ليلى وهي تطأطئ رأسها حياء:
- لا أعرف ولم أشعر بذلك، لكنّه كان يلهث لسبب لا أعرفه، أمضيت ليلي أحادثه حتّى غفا وعلا شخيره بعد منتصف الليل، بعدها غفوت قليلا واستيقظت على صوت أذان الفجر.
تنهدّت ربيحة وقالت لابنتها:
- لا تتكلّمي بهذا الموضوع مع أيّ إنسان، استري على عريسك، فهو شابّ حييّ، وربّما يجهل هكذا أمور، استجيبي لطلباته كلّها بابتسامة، حتّى يتحرّر من حيائه، وبعدها ستكون الأمور على ما يرام.
ثمّ التفتت إلى عائشة وقالت لها:
- هيّا بنا يا أمّ موسى واتركي العروسين وحدهما.
مشت عائشة خلف ربيحة وهي تحوقل وتقول:
- ربنا يعمي الحاسدات قليلات الأصل.
التفتت إليها ربيحة وسألتها:
- من تقصدين بالحاسدات قليلات الأصل؟
ردّت عائشة وهي تلوك لسانها بفمها الذي أصيب بالجفاف:
- "قريبا يذوب الثّلج ويبان المرج."
لم تفهم ربيحة ما ترمي إليه عائشة بكلامها، فهمهمت بكلام بينها وبين نفسها، ثمّ قالت بصوت مرتفع:
- ربنا يستر على خلقه.
طلبت عائشة من ربيحة أن تدخل إلى غرفة النّساء، بينما ذهبت هي إلى حيث يجلس زوجها وإخوانه وأبناؤهم. قالت لموسى:
- قم واذهب لعروسك فهي في انتظارك.
نفّذ موسى طلب والدته دون نقاش، بينما جلست هي مكانه، فبادر الحضور بتقديم التّهاني لها بزفاف ابنها.
ردّت عليهم باقتضاب وبوجه عابس، التفت إليها زوجها وسألها:
- ما لي أرى وجهك "مثل وجه القرد اللي ماكل حصرم"؟
ضحك الحضور بينما قالت هي تغمزه بطرف عينها:
- وحّد الله يا أبا موسى.
عريس وعروس
عاد موسى إلى شقّته، وقفت ليلى في البرندة تستقبله، وقبل أن يبادرها بتحيّة الصّباح قالت له بابتسامة عريضة:
- أهلا حبيب قلبي.
وسألته:
- ماذا تريد أن تشرب؟
أجاب على استحياء:
- قهوة.
- من عينيّ يا حبيبي.
أقفلت باب الشّقّة، اتّجهت إلى المطبخ، أعدّت فنجان قهوة واحد، اقتربت منه وقالت ضاحكة وهي ترتشف من الفنجان:
- "منّي رشفه ومنّك رشفه"، شرط أن ترتشف من طرف الفنجان الذي رشفت منه؛ كي تلتقي شفتانا على حافّة الفنجان.
ارتشف من مكان ما ارتشفت وهي تقول له بأن لا يخطئ الهدف، فحمرة شفتيها دليل كاف؛ ليضع شفتيه عليها.
أمسكت يده وقادته إلى غرفة النّوم وهي تقول أنّه من غير اللائق أن نجلس كعروسين في البرندة.
أغلقت غرفة النّوم خلفهما، أسدلت ستائر النّوافذ، وقالت له:
- هل تريد أن نلعب لعبة "عروس وعريس".
نظر إليها نظرة استغراب وقال:
- اذهبي واجلسي مع النّساء واتركيني وحدي.
اقتربت منه، وضعت يديها على خدّيه تداعبه، حلّت أزرار قميصه وقالت:
يا إلهي ما أجمل الشّعر على صدر الرّجل! وما أقبحه على صدر المرأة! ضمّته إلى صدرها وسألته:
- ما بك يا حبيبي؟ لِمَ أنت مرتبك؟ بِمَ تفكّر؟
لم يجبها على أسئلتها وطلب منها أن تتركه وحده.
تمدّد على السّرير، رافضا أن تتمدّد بجانبه. خرجت من غرفة النّوم، جلست في البرندة تبكي حظّها العاثر.
*******
التزمت عائشة" أم موسى" الصّمت وهي تجلس قبالة زوجها، عادت بخيالها إلى ليلة دخلتها، صحيح أنّها كانت في الرّابعة عشرة من عمرها، وعريسها في الثّامنة عشرة من عمره، في زمنها لم تتزوّج في شقّة مستقلة، فلم تحصل هي وعريسها إلّا على مخزن قديم، بعقد "الجملون"، بجانبه مخزن آخر تزوّجت فيه سلفتها وسلفها، يعلو المخزنين غرفتان "عقد صليب" واحدة تنام فيها حماتها وأبناؤها وبناتها العازبون، في حين ينام حموها في الغرفة الأخرى التي تستعمل كمضافة لاستقبال الضّيوف. ابتسمت عندما تذكّرت حماتها وهي توصي ابنها:
"عندما تنتهي من مهمّتك افتح الباب؛ لنطمئنّ عليك وعلى عروسك." سمعتُ ذلك فشعرتُ بهيبة غير مسبوقة، ازدادت نبضات قلبي، مع أنّ جدّتي لأبي شرحت لي بالتّفصيل ما يجري بين العروسين في تلك الليلة، وقالت لي:
ستشعرين في تلك الليلة بسعادة لم تعهديها من قبل، وستبقى حلاوتها في ذاكرتك حتّى آخر يوم في حياتك.
ابتسمتْ عندما ارتسم ما حصل معها أمامها كشريط سينمائيّ، فقد كان العريس يرتدي "قمباز روزة" أبيض اللون فوق سروال كبناطيل الفرسان، يتلفّع بعباءة بنّيّة اللون، يضع على رأسه كوفيّة منقّطة بالسّواد مهدّبة، وهي تجلس على فرشة من الصّوف في صدر المخزن، نافذة المخزن اليتيمة الخشبيّة مغلقة، عليها "لامبة كاز نمرة 2". فما أن انصرفت والدته حتّى أغلق باب المخزن من الدّاخل، رمى كوفيّته وعقاله وعباءته جانبا، خلع سرواله بسرعة وكأنّه في سباق، انكمشت على نفسها خائفة حييّة، هجم عليها كوحش يصطاد فريسته، انتهى كلّ شيء في أقلّ من ثلاث دقائق، قال لها:
"لا تخافي، لقد انتهى كلّ شيء بهدوء، هيّا بنا نفتح الباب كي نطمئنهم."
لم ينتظر منها جوابا، فتح الباب وخرج إلى المضافة، صعقت والدته عندما رأته، بسملت وسألته: "ماذا حصل يمّه؟"
ردّ عليها بكبرياء:" مِثل كلّ النّاس ولا باس".
هرعت والدته ووالدتها إليها، كشفن عليها وعلى ملابسها الدّاخليّة، رأين ظلال دم خفيف، فأطلقت كلّ منهما زغرودة، والدتها زغردت فرحا بثبوت عذريّة ابنتها! ووالدته زغردت احتفاء بفتوحات وانتصارات ابنها!
انتبه لها ابنها الثّاني فسألها:
- بِمَ تفكّرين يا أمّي، أراك سارحة وتبتسمين وحدك.
انتفضت وكأنّها تفاجأت بكلام ابنها وقالت:
- لا أفكّر بشيء.
خرجت عائشة من الجلسة، وذهبت حيث تجلس النّساء؛ لتراقب ابنتها التي كانت تعدّ طعام الفطور، مع أنّ في قلبها غصّة من عدم فحولة ابنها. تدور في رأسها حكايات كثيرة عن السّحر والشّعوذة، مع قناعتها بأنّ ابنها فحل كأبيه وأنّ المشكلة عند العروس، لكنّها تكبت غيظها وغضبها على أمل أن تُحلّ مشكلة العريس في الليلة القادمة.
بعد أن انصرف الحضور، ولم يتواجد أحد مع أبي موسى، اقتربت منه زوجته وهمست له بصوت خفيض مرتجف:
- موسى فضحنا يا حمدان...أمضى ليلته مع العروس مثله مثلها.
التفت إليها أبو موسى بوجه عابس وقال:
- عندما جاءني صباحا مطأطئا رأسه، عرفت ذلك، الولد لا يزال صغيرا، لنصبر عليه بضعة أيّام، عسى الله يحلّ عقدته.
أمّ موسى:
موسى ليس صغيرا، عمره عشرون عاما، وعمر عروسه ثمانية عشر عاما، عندما تزوّجنا كنت أنت في الثّامنة عشرة من عمرك، وكنت أنا طفلة في الرّابعة عشرة، وهجمت عليّ قبل أن تقول مساء الخير. قمت بالمطلوب في دقائق قليلة، وانتهيت قبل أن أستوعب ما حصل.
ضحك أبو موسى عندما سمع ما قالته زوجته وقال:
- وقتها كنتُ كالثّور الهائج، وانتظرت بفارغ الصّبر حتّى خرج الجميع، فقمت بمهمّتي سريعا، "والله يرحم أيّام زمان"، لكنّ موسى كما يبدو "طالع لأخواله".
ردّت عليه أمّ موسى بلهجة غاضبة:
- أخواله كلّهم فحول، عندما تزوّجوا قاموا بواجبهم، فتحوا باب الخلوة بعد أقلّ من نصف ساعة. وأخشى أنّ هناك من عملت عملا لموسى؛ لتنتقم منّا.
صمت أبو موسى قليلا وقال:
- هذه غابت عنّي، لكن دعينا ننتظر أيّاما، وإن لم يفلح سنتصرّف، فاكتمي الخبر ولا تخبري أحدا وأضاف:
- أخشى أنّ تكون العروس قد تمنّعت عليه.
أمّ موسى: لم تتمنّع العروس، وبذلت جهدها لإثارته- كما سمعت منها- ، لكنّ المشكلة عند موسى.
أبو موسى: كيف عرفتِ؟
أمّ موسى: استنطقتها أنا وأمّها.
أبو موسى: "الصّبر مفتاح الفرج."
خبيرة
عندما جاءت زوجات أعمام موسى الثّلاثة لتهنئة العروسين ووالدتيهما بالزّفاف، استقبلتهما والدتا العروسين في شقّة العروسين، لاحظن عبوس وجهيهما، فقالت صبحة كبيرتهنّ لربيحة وعائشة:
- ماذا جرى لكما؟ لِمَ هذه"الكشرة"؟ هل جئنا في الوقت غير المناسب؟
ردّت عليها عائشة وهي تتصنّع ابتسامة:
- أهلا وسهلا بكنّ فأنتنّ من أهل البيت بمناسبة ودون مناسبة.
ردّت عليها صبحة بلهجة غير معتادة:
- يسلم البيت وأصحابه....لكنّ أين موسى لنبارك له؟
ردّت عليها العروس ليلى:
- لحظة سأناديه.
عادت بعد لحظات تقول:
- موسى نائم...هل أوقظه؟
رددن بصوت واحد:
- اتركيه نائما....يبدو أنّه تعب.
وأضافت صبحة:
من يكون نصيبه مع فتاة بجمال ليلى من الطّبيعيّ أن يسهر اللّيل كلّه ويتعب!
احتسين القهوة، أكلت كلّ منهنّ حبّة شوكلاطة وغادرن.
عندما خرجن من البيت قالت صبحة لسلفتيها:
والله إذا واقعني إنّه واقع العروس!
ضحكتا وسألتها سلفتها فضّة:
- كيف عرفتِ؟ لا تقسمي بالله.
ضحكت صبحة وقالت:
- العذراء تُعرف من مشيتها! ومن تحفّظها بالكلام.
فمازحتها فضّة قائلة:
- يبدو أنكّ خبيرة بهذه الأشياء!
عادت صبحة تضحك وتسأل ساخرة:
- هل تعتقدين بعد كل هذا العمر والتّجارب أن لا أعرف البكر من الثّيب؟
ما أن غادرن الجلسة حتّى أغلقت عائشة باب الشّقّة وهي تضرب كفّا بكفّ، وتهمس لنفسها قائلة:
- يا سواد وجهك يا عائشة! يا فضيحتك أمام النّاس! ماذا حصل لموسى؟ عندما عرضنا عليه الزّواج وافق بابتسامة عريضة...أنا متأكّدة من فحولته لكن " الله يجازي اولاد وبنات الحرام اللي ما بناموا ولا بخلوا النّاس يناموا".
انتبهت لها ربيحة "أمّ العروس" وقالت لها:
- استهدي بالله يا أمّ موسى، ما حصل مع موسى حصل مع كثيرين، وإن شاء الله سيفرجها ربّنا عليه سريعا، بينما دخلت ليلى إلى مخدعها.
لم تهدأ أمّ موسى، بقيت تضرب أسداسا في أخماس وتفكّر بالملعونة التي عملت عملها؛ لتربط موسى عن عروسه، التفتت إلى ربيحة وسألتها:
- أريد أن أسألك يا أمّ محمّد.
ربيحة: تفضّلي.
- هل هناك من طلبوا يد ليلى لخطبتها قبل أن نطلبها لموسى؟
أرادت ربيحة أن تفاخر بابنتها وأنّ الشّباب كانوا يتهافتون لخطبتها فقالت:
- ما لنا وللنّاس! ليلى تزوّجت من موسى ولا داعي لهذا الكلام. لِمَ تسألين؟
قالت عائشة محتارة:
- لكنّك لم تجيبي على سؤالي.
ربيحة: الله خلق البنات للزّواج....والزّواج قسمة ونصيب، كثيرون طلبوها لكنّنا رفضناهم.
عائشة: من هم الذين تقدّموا لها ورفضتوهم؟
شعرت ربيحة أنّها في ورطة وتخوّفت من أسئلة أمّ موسى فقالت:
لا داعي لهكذا أسئلة، غالبيّة من طلبوها كانت أحاديث نساء، وعندما كنت أخبر أباها كان يرفض بحجّة أنّ البنت صغيرة، ولا تزال طالبة مدرسة.
عائشة: كلّ المصائب من النّساء، من هنّ اللواتي طلبنها لأبنائهنّ؟
ربيحة: اتركينا من هذا الكلام الذي لن يفيدنا شيئا، ورفعت صوتها تنادي ابنتها ليلى.
درس في الباه
عندما جاءت ليلى قالت لها والدتها على مسمع أمّ موسى:
- اسمعيني جيّدا يا ابنتي. عريسك من خيرة الشّباب، وأهله من خيرة النّاس، وهو شابّ مشهود له بالاستقامة وحسن الخلق، لا يعرف ألاعيب أبناء هذا الجيل. وكما تعلمين فإنّ النّساء غواية الرّجال، حتّى إنّ أمّنا حواء أغوت أبانا آدم.
قطعت حديثها أمّ موسى وقالت:
- اسمعي يا ليلى، كلام والدتك جواهر، ونحن أدرى منك بالرّجال.
قالت ليلى على استحياء:
- لقد "تمكيجت" وتعطّرت وسرّحت شعري كما ترين، وأجلس وأنام بجانبه وأنا في قميص النّوم، وأحادثه وأمازحه فما المطلوب منّي أكثر ممّا فعلت؟
همست إليها حماتها، وهي تلتفت يمنة ويسرة؛ كي لا يسمعها أخرون، شرحت لها درسا في الباه. وطلبت منها أن تطبّق ما سمعته منها على موسى.
انكمشت ليلى على نفسها، ازدادت حمرة وجهها، نزلت من عينيها دمعتان، ولم تقل شيئا. خرجت حماتها ووالدتها وطبقن باب الشّقّة خلفهما.
دخلت ليلى إلى غرفة النّوم، سألت موسى إن كان يريد احتساء القهوة، ولمّا أجابها بالنّفي قالت له:
- ما رأيك أن تستحمّ بماء فاتر؛ كي تتنشّط، فالأهل والأصدقاء يأتون للمباركة لنا بزفافنا.
لم تترك له مجالا ليجيبها، بل أمسكت يده وسحبته وهي تبتسم حتّى جلس، فكّت له أزرار قميصة، ساعدته في خلع ملابسه، ثمّ تمدّدت على السّرير وهي تقول له:
- يا إلهي كم رائحة جسدك ورائحة أنفاسك جذّابة!
تمدّد بجانبها، أبعدت كفّه عندما حاول أن يتحسّس بين فخذيها بأصابعه، علا لهاثه وهو ينظر إلى سقف الغرفة وحيطانها، فسألته بدلال:
- لِمَ لا تنظر وجهي؟ ألست جميلة؟
وفجأة قال لها وهو يبتعد عنها واقفا:
- اتركي هذا الأمر لساعات الليل، سأستحمّ الآن، وأرتدي ملابسي لنستقبل المهنّئين.
تركها وحدها...دخل الحمّام وأقفل الباب خلفه، لم تستطع أن تدخل معه...ارتدت ملابسها وانتظرته غاضبة....عندما انتهى من الحمّام ارتدى ملابسه وخرج قاصدا مجلس أبيه.
سارعت إليها حماتها تسألها:
- آه بشّري يا ليلى.
ليلى: لا جديد فالحال كما هو.
- هل نفّذتِ ما قلته لك؟
ليلى: نعم....وزدت عليه.
أمّ موسى: حسبي الله على أولاد الحرام.
خرج موسى من شقّته مطأطئ الرّأس مهموما، يكاد يتعثّر بقدميه، لا يعرف ما جرى له، لعن السّاعة التي تزوّج فيها.
صحيح أنّه اشتهى ليلى وتمنّى أن تكون زوجته قبل أن يوافق على قرار والديه بتزويجه. تذكّر عندما خطبها أنّه لم يعد لديه صبر لانتظار حفل الزّفاف، الذي تقرّر أن يكون بعد الخطبة بثلاثة أسابيع، تردّد يوميّا على بيت أهلها، لا حبّا بهم ولكن ليسترق نظرات إلى وجه ليلى ومحاسنها؛ ليسمع صوتها الأنثوي السّاحر، لكنّهم لم يتركوهما وحدهما لحظة واحدة، كما لم يسمحوا لها بمرافقته إلى المدينة المجاورة.
في اليوم الذي اشتروا فيه مصاغها وكسوتها، كانت ليلى أسيرة محاطة بوالدتها وحماتها، وهو مثلها محاط بوالده ووالدها، لم يحادثها ولم تحادثه، حتّى عندما تناولوا طعام الغداء في مطعم، جلست والدتها بينه وبينها.
عندما يعود إلى بيته بعد زيارة عروسه، يأوي إلى فراشه مهدود الحيل، يتمدّد على فراشه، يستعيد صورتها أمامه، يطير النّعاس من عينيه، يغفو رغما عنه؛ ليصحو من حلم يراوده فيراها في حضنه، فيلعن تلك العادات التي تحكمه وتمنعه حتّى من الحديث مع فتاة صارت زوجته، منذ أن تمّ عقد زواجه عليها في يوم خطبتهما، يؤرّقه شغفه بها، فيعزّي نفسه بأنّها له دون غيره، وستكون بين يديه بعد أيّام تتناقص ببطء شديد يوما تلو يوم.
الخبير
قبل أن يصل إلى مجلس والده، التقاه ابن عمّه فراس أحمد الذي يكبره بستّة أعوام، وتزوّج قبل عامين وهو الآن أب لطفل، كان فراس في انتظار موسى بناء على تعليمات عمّه أبي موسى الذي قال له:
- موسى ينام مع عروسه مثله مثلها، يبدو أنّه يجهل جسد المرأة، ولا يعرف ما يترتّب عليه ليلة الدّخلة، اشرح له يا عمّ كيف يعاشر الرّجال النّساء. وكما قال المثل:" ودّي الفهيم ولا توصّيه".
صافح فراس موسى، هنّأه بزفافه، طلب منه أن يرافقه إلى حقل التّين القريب؛ ليأكلا من ثماره الطّازجة، يمتدّ الحقل على مساحة تزيد على الدّونم، فيه عنب، لوز، برقوق، مشمش، زيتون، لكنّ أشجار التّين هي التي تطغى على بقيّة الأشجار، يبدأ الحقل من أمام البيت بشجرتي ليمون تثمران شهريّا، ابتعد فراس بموسى حوالي مئة متر حتّى تواريا عن النّاس بين الأشجار. جلسا تحت شجرة تين، قال له فراس:
- اسمع يا ابن العمّ، ما جرى معك ليلة الدّخلة أمر عاديّ، ويحدث مع كثيرين لأكثر من سبب، فلا تهتمّ ولا تكترث، ستتغلّب عليه سريعا، يبدو أنّ معرفتك بجسد المرأة معدومة، سأسرد لك الآن بعض الأمور حول كيفيّة معاشرة الرّجال لزوجاتهم، وهذه قضيّة لا عيب ولا حرام فيها، "فالعلم بالشّيء خير من الجهل به" و"لا حياء في الدّين".
اطمأنّ موسى لحديث فراس، خصوصا وأنّه تربطهما صداقة عدا عن رابط القربى، وسبق وأن تحدّثا بأمور كثيرة، لكنّه قاطع حديث فراس وقال:
لا أعرف ما حصل ويحصل معي، فأنا لا أعاني من أيّ ضعف، لكنّي عندما أقترب من ليلى أشعر بهيبة لا أعرف سببها، يسيطر عليّ خوف الفشل كلّ مرّة، تتلاشى شهواتي ورغبتي، وبالتّالي فإنّ قدراتي تخونني.
قال فراس: كلا الجنسين الرّجل والمرأة يشعران بهيبة وحياء في لقائهما الأوّل، وهذا أمر طبيعيّ، وهذه الهيبة وهذا الخوف يتبخّران بعد اللقاء الأوّل، وتصبح الأمور عاديّة جدّا بعدها.
قال موسى: المشكلة هي في كيفيّة تنفيذ اللقاء الأوّل.
سأله فراس: هل سبق لك وأن أقمت علاقة مع امرأة؟
ردّ موسى بلهجة غاضبة يستنكر فيه سؤال فراس:
- أعوذ بالله...وهل بنات النّاس داشرات؟
بدأ فراس يشرح لموسى مكامن جسد المرأة، وما يثيره ويثيرها، طلب منه التّمهيد للعمليّة بالتّقبيل، وأضاف:
- بعد أن تتمعّن بكل مفاتنها، أطفئ الضّوء إن كنت تهاب أو تستحي منها، "فالحياء بالنّظر"، وباشرها في المرّة الأولى في العتمة.
بعدها سينتهي كلّ شيء، فأنت شابّ جريء كما أعرفك، لا تطأطئ رأسك أمام الآخرين، فأنت لم ترتكب جريمة تخجل منها.
حكمة الأجداد
مرّ أسبوع كامل ولم ينجح موسى في مهمّته مع عروسه، أصبح كئيبا لا يجرؤ على النّظر في وجه أيّ إنسان -بمن فيهم والداه-. كثر اللغط والكلام، ليلى لم تعد تطيق أحاديث النّساء، فكلّ قريباتها اللواتي التقت بهنّ يتغامزن حولها، ويحمّلنها المسؤوليّة، حتّى أنّ جدّتها الثّمانينيّة قالت لها بأنّ القطّة تموء للقطّ مواء يفهم منه أنّها تريد التّزاوج، و"ما فيه قطّ بهرب من دار عرس"، يعني أنّ الزّوج لا يباشر زوجته إذا لم تتبرّج له، وأنا بعد كلّ هذا العمر لا أزال أداعب جدّك حتّى أثيره، فيباشرني وكأنّه شابّ في عزّ شبابه، وعجز الرّجال ناتج عن سوء فهم النّساء لمتطلّباتهم.
استمعت ليلى لحديث جدّتها بامتعاض، حزنت على الحال الذي وجدت نفسها فيه، فقد أصبحت سيرتها على ألسنة الرّجال والنّساء، أحلامها الورديّة بأن تكون زوجة وأُمّا كبقيّة النساء بدأت تتلاشى، ذبلت نضارتها وشعرت أنّها وردة ملقاة في سلّة قمامة. عادت إلى شقّتها، وجدت عريسها جالسا في الصّالة يضرب أخماسا في أسداس، أقفلت باب الشّقّة، دخلت غرفة النّوم، خلعت ملابسها وتمدّدت على السّرير، نادت عليه، وسألته:
- ألا تريد أن تأخذ قسطا من الرّاحة؟ تعال وتمدّد بجانبي.
عندما اقترب من السّرير تمدّد على طرفه وهو يطأطئ رأسه دون أن يلتفت إليها، شعرت بإهانة، فأدارت له ظهرها، وغسلت وجهها بدموعها.
غمز ولمز
مساء الجمعة كانت حفلة زفاف ابن خال موسى - صالح المسعود، قالت والدته لوالده:
- لا يوجد لي رغبة في حضور زفاف أيّ إنسان، فقلبي لا يطاوعني، وما جرى لموسى يؤرّقني، لكنّ الواجب لا هروب منه، سنذهب للسّهرة.
ردّ عليها زوجها:
- طبعا...اذهبي واطلبي من ابنك "السّبع" موسى أن يجهزّ نفسه هو وعروسه؛ ليذهبا معنا، ففي زفافه حضرت أسرة أبي صالح جميعها، وأبو صالح وأبناؤه أكثر من رقصوا وغنّوا.
في سهرة حفل الزّفاف هذه شعرت ليلى أنّ عيون النّساء مسلّطة عليها، يتغامزن ويتضاحكن، تجاهلت نظراتهنّ، شاركتهنّ الرّقص والغناء، لكنّها لم تحتمل الموقف، انقبضت روحها وتقيّأت، قالت الحاجّة صبحة زوجة عمّه موسى ساخرة:
- ساعدنها يا بنات فربّما هي تتوحّم!
حدجتها أمّ موسى غاضبة وقالت:
"صحيح اللي بيستحوا ماتوا"، ثمّ أمسكت يد ليلى وقالت لها:
- يبدو أنّك "بردانه"، عودي إلى البيت واهتمّي بنفسك.
أخرجتها من صالة النّساء وذهبت تنادي موسى من صالة الرّجال، قالت له:
- عروسك مريضة....عُد بها إلى البيت.
لم يكن حال موسى أفضل من حال ليلى، فرحته كانت كبيرة عندما غادر وليلى حفل الزّفاف، فهو الآخر لم يحتمل نظرات الآخرين إليه. عادا إلى بيتهما مرهقين، أدار كلّ منهما ظهره للآخر وتظاهر بالنّوم.
في الصّباح كان زفاف صالح حديث أهل البلدة، فقد نقلوا عروسه إلى المستشفى، لأنّها أصيبت بنزيف، أو هذا ما قرّرته والدته ووالدتها، فقد رأين دماء لم يعهدنها في هكذا حالات.
في المستشفى كشفت عليها طبيبة وسألتها:
- متى آخر مرّة جاءتك الدّورة الشّهريّة.
العروس: الدّورة عندي ليست منتظمة، وآخر مرّة كانت قبل ثلاثة أشهر.
الطّبيبة: هذا الدّم هو دم العادة الشّهريّة الذي كان محشورا خلف غشاء البكارة، الأمر عاديّ جدّا. عودي إلى بيتك وعيشي حياتك بشكل عاديّ.
صار صالح وعروسه حديث البلدة، فوالدته كانت فخورة بفحولة ابنها، وفاخرت أمام النّساء قائلة:
- الله يرضى عليه فحل مثل أبيه.
والدة العروس: الحمد لله بنتي شريفة عفيفة، وهذا دلالة عذريّتها.
الحاجّة صبحة: الله يرضى عليه صالح، ليت موسى مثله.
أبو موسى: هكذا العرسان وإلّا فلا.
فراس: يا عيبكم!" تعملون من الحبّه قبّه".
العروس في غاية السّعادة، فالشّهادة بعذريّتها صارت على كلّ لسان، ووالدتها فاخرت أمام النّساء بسلالتها التي توارثتها عن أُمّها عن جدّتها، بأنّهنّ يتميّزن بجمال خارق، وأنّ كلّ عضو في جسد الواحدة منهنّ متناسق مع الأعضاء الأخرى، فتبدو وكأنّها لوحة أبدعتها ريشة فنّان.
يمشي العريس صالح في الطّريق بخيلاء كما الطّاؤوس الذي ينثر ريشه، اعتقد أنّ كلّ بنت من بنات البلدة تتمنّى لو أنّها كانت عروسه، بعضهنّ تمنّين لو تقضي الواحدة منهنّ معه ساعة في مكان بعيد يخلو من البشر، إلّا ليلى عروس موسى فقد تمنّت لو أنّ الأرض تنشقّ وتبتلعها هي وعريسها، بعدما أصبحا على لسان الصّغير قبل الكبير، زادت حسرتها عندما رأت ذكر نمل يعلو أنثاه ويلتحم معها، راقبتهما وخاطبت نفسها قائلة بأنّ ما تقدر على فعله حتّى الحشرات، لا يقوى عليه عريسها.
صراع
أمّا أمّ موسى فقد قالت لزوجها:
- "والله صالح سبع خُلفة سبع بيّض وجه أمّه"، وموسى ليس أقلّ فحولة منه، لكنّه مربوط عن عروسه، لن ننتظر طويلا، يجب أن نذهب إلى من يفكّون السّحر، وإلا سنخسر الولد.
وافق أبو موسى على اقتراح زوجته دون نقاش. وهنا وصل فراس أحمد ابن عمّ موسى، فقال لعمّه أبي موسى:
- لا توجد مشكلة عضويّة عند موسى، مشكلته نفسيّة يقدر على حلّها أيّ طبيب، إذا ما أعطاه حبّة تهدّئ أعصابه عندما يختلي بالعروس.
انفعلت أمّ موسى من كلام فراس، وسألته غاضبة:
- ماذا تقول يا فراس؟ هل موسى مجنون؟
ردّ فراس عليها بهدوء:
- من قال هذا الكلام؟ موسى عاقل أكثر منّي ومنك، لكن يبدو أنّ هناك حاجزا نفسيّا بينه وبين عروسه.
أمّ موسى: عن أيّ حاجز تتكلّم؟ فأنا لا أفهم عليك.
فراس: طبعا لن تفهمي ما أقول، لأنّك لا تريدين أن تفهميه، فقد تولّدت في داخله حواجز نفسيّة عندما وُضِع في امتحان، من خلال الطّلب منه بأن يفتح الباب بعد الإنتهاء من معاشرة عروسه، فهذه عادات بالية عفا عليها الدّهر، فالعلاقة بين العروسين تخصّهما وحدهما، ولا دخل لأيّ كان بها.
حسم أبو موسى الحوار بين زوجته وبين ابن أخيه فراس، عندما قال لفراس:
- الحاجز النّفسيّ الذي تتكلّم عنه يا عمّ هو السّحر، فهناك من يسلّطون الجنّ الكافر على العريس؛ ليحولوا بينه وبين عروسه.
استهجن فراس كلام عمّه وقال له:
- هذه خرافات غير صحيحة، اتركوا فراس لي؛ كي أصطحبه إلى طبيب، فمشكلته أبسط بكثير ممّا تتصوّرون.
أبو موسى لفراس: اتّق الله يا فراس فالجنّ والسّحر وردا في القرآن.
فراس: نعم كلامك صحيح، لكن للجنّ عالمهم الخاصّ ولا علاقة لهم بالإنسان. و"ربّنا خلق الدّاء والدّواء."
احتار أبو موسى من كلام فراس، صمت قليلا وقال:
- الأطبّاء لا يفهمون بهكذا أمور، ويعطون لمن يرتادون عياداتهم أدوية تزيد مشكلتهم التي يعانون منها، وإيّاك أن تخدع موسى وتأخذه إلى طبيب.
وجد فراس نفسه أمام حواجز لا يمكنه تخطّيها، فترك الجلسة دون استئذان وهو يقول:
- أنا لا أؤمن إلّا بالطّب، وما دمتم ترفضون ذلك، فأنتم أولى بابنكم.
أمضى أبو موسى صباحه مهموما، فكّر كثيرا بكلام فراس ابن أخيه أحمد، لكنّه حسم أمره بأنّ مشكلة ابنه موسى لن يحلّها سوى" فتّاح"! تشاور مع زوجته حول "الفتّاح" الذي سيطرقون بابه. اقترحت عليه زوجته الفتّاح "أبو ربيع"، صاحب العيادة في المدينة المجاورة، واستشهدت بقدراته الخارقة عندما سألت زوجها:
- هل تذكر قصّة عطاف المحمود التي مرّ على زواجها خمسة عشر عاما دون أن تحمل؟ لم ينفع معها أيّ علاج، وعندما أخذوها للفتّاح "أبو ربيع" هو الوحيد الذي استطاع أن يُخرج منها الجنّ الكافر، فحملت وأنجبت، وابنها الآن عمره أكثر من عشر سنوات.
رغم شعور أبي موسى بالمرارة إلّا أنّه ابتسم وبسمل وحوقل عندما سمع كلام زوجته، وقال:
- اتركينا من حكاية عطاف والنّصّاب "أبو ربيع".
أمّ موسى: اتّقِ الله يا رجل كيف تصف هذا الرّجل التّقيّ بالنّصّاب؟
أبو موسى: هذا ما يقوله كلّ من يعرفونه.
أمّ موسى: إذا كانوا يعرفون أنّه نصّاب فلماذا يتردّدون على عيادته؟
أبو موسى: " لأنّه لبيب اللسان قليل الإحسان." وربّنا يستر على خلقه.
أمّ موسى: نسأل الله أن يحمي أبناءنا من سوء نواياك.
أبو موسى: ربنا يسخطك ويسخطه ويسخطهم، فجميعكم تقولون بأنّ ابن عطاف يشبه "أبا ربيع"؛ لأنّها حملت منه، وليس من زوجها!
أمّ موسى: أنا لا أتذمّم ذلك.
أبو موسى: لأنّ ذمّتك واسعة، فأوّل مرّة سمعت فيها أنّ ابن عطاف يشبه أبا ربيع سمعتها منك والولد رضيع قبل أن يبلغ عامه الأوّل.
استغفرت أمّ موسى ربّها وأنكرت ذلك، لكنّها أكّدته دون أن تنتبه عندما قالت:
- هذا ما سمعته من قريباته، اللواتي كنّ يتغامزن على عطاف وعلى وليدها و"منهن لربهن".
أبو موسى: دعينا من هذه السّيرة، وربّنا يستر على خلقه، لكنّي لا أوافق أن أضع ابني وعروسه بين يديْ هذا الشّيطان الذي يدّعي أنّه يحكم الجنّ.
مبروكة
ارتعدت أمّ موسى ممتعضة، صمتت قليلا وقالت:
- "ضاعت ولقيناها". ما دمت تخاف من " الفّتاحين الرّجال"، سنذهب إلى امرأة فتّاحة.
هل سمعت بالفتّاحة مبروكة؟
أبو موسى: نعم سمعت.
أمّ موسى: هذه امرأة تسكن أطراف المدينة، كلّ نساء بلدتنا يعرفنها، وجرّبن قدراتها، وقد شاهدتها تبصق في فم كلّ امرأة تتعسّر ولادتها، تضربها بكفّيها على وجهها وبإذن الله تتيسّر ولادتها، شاهدتها تبصق في فم المرأة المريضة، وتضربها بخيزرانة؛ لتخرج الجنّ الكافر من جسدها، وبإذن الله تشفى المرأة خلال بضعة أيّام، كما أنّها تفعل نفس الشّيء مع من يتأخّرن بالحمل، وقد شاهدتها تحمي الملح على النّار وتضعه في خرقة، تدور بها على بطن الطّفل المريض، ويشفى هو الآخر. وفي كلّ مرّة كانت تتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئا.
ابتسم أبو موسى ووافق على الذّهاب إلى الفتّاحة مبروكة وهو يقول:
- أن تبصق في فم المرأة أفضل من بصاق أبي ربيع في رحمها!
لكنّه تساءل إذا كانت "مبروكة" تأتي لعلاج من يرتادونها في بيوتهم، بدل بيتها، فلا يليق بي أن أذهب إلى بيت "فتّاحة"؛ لأنّني لا أصدّق أيّ فتّاح، وتحدّثت كثيرا حول ذلك، وأخشى من كلام النّاس، لكنّ للضّرورة أحكاما.
أمّ موسى: حسبما أعرف فإنّها لا تردّ من يطلب مساعدتها، لكن لخروجها من بيتها ثمن يزيد عمّا تأخذه فيه.
أبو موسى: "المال مقدور عليه". لكن هذه الفتّاحة هل اسمها مبروكة أم هذا لقبها؟
أمّ موسى: أعتقد أنّه لقب، وسبق أن سمعت أنّ اسمها الحقيقيّ هو رسميّة.
أبو موسى قلِقٌ ويشعر أنّه يحمل حملا ثقيلا على صدره، قال لزوجته:
- سنذهب أنا وأنت إلى بيت مبروكة وسنتحدّث معها عن مشكلة موسى، فعسى الله يفرجها عليه وعلينا.
أمّ موسى: "ربّنا يضع سرّه في أضعف خلقه."
ذهبا إلى بيت مبروكة قبل ساعة الغروب ببضع دقائق خوفا من أن يراهما أحد النّاس.
استقبلتهما مبروكة برحابة صدر ومسبحتها في يدها، عانقت أمّ موسى، فقد تذكّرت أنّها قابلتها في أكثر من مناسبة في بلدتها.
شرح لها أبو موسى مشكلة ابنه، سألته عن عمر العروسين، كما سألت إن كان ابنهما مجبرا على الزّواج من عروسه، سجّلت أسماء العروسين الرّباعيّة، قدّمت لهما القهوة، طمأنتهما بأنّ مشكلة موسى مع عروسه بسيطة، لكنّها تحتاج وقتا، وسألتهما:
- متى تريدونني أن أكون عندكم لمعاينة الحالة؟
أمّ موسى: هذه الليلة إن كان لديك وقت.
مبروكة: اللقاء الأوّل يجب أن يكون في النّهار.
أبو موسى: لا مشكلة...أيّ ساعة آتي لأصطحبك معي.
مبروكة: هل لديك سيّارة؟
أبو موسى: لا...لكن باستطاعتنا أخذ سيّارة أجرة.
مبروكة: " اللي أوّله شرط آخره رضا". أنا معاينتي لأيّ حالة في بيتي تكلّفكم عشرين دينارا، وإذا ذهبت إلى بيت المريض فعليه أن يدفع خمسين دينارا عن كلّ مرّة أزوره فيها.
استعجلت أمّ موسى الأمور وقالت:
- والله إذا استطعتِ حلّ مشكلة موسى فسأقدّم لك ألف دينار هديّة منّي.
مبروكة: نسأل الله أن يعيننا على عمل الخير، سأنتظرك غدا في الثّامنة صباحا.
أبو موسى: لي عندك رجاء.
مبروكة: تفضّل.
أبو موسى: "البيوت أسرار"، ولا أريدك أن تقولي لأيّ إنسان عن مشكلة موسى، أو أيّ شيء ترينه في بيتنا.
قالت مبروكة بثقة زائدة:
- أعوذ بالله....لست بحاجة إلى تنبيه كهذا...لكنّ أهل بلدتكم يعرفونني، فقد عالجت حالات كثيرة عندهم.
حوقل أبو موسى وقال:
- " اللي مكتوب ع الجبين بتشوفه العين" توكّلي على الله، غدا سأكون عندكِ في الثّامنة صباحا مثلما قلتِ.
عندما توقّفت السّيّارة في نهاية الشّارع على بعد حوالي مائتي متر من بيت أبي موسى، نزلت مبروكة بصحبة أبي موسى، رآها الصّبيان الذين يلعبون في الطّرقات، فهتفوا باسمها، تسابقت النّساء لاستقبالها والسّلام عليها، بعضهنّ ركضن وهنّ يحملن أطفالهنّ الرّضّع، أخريات ركضن حافيات، وبعضهنّ نسين طبيخهنّ على النّار، قبّلن يدي ووجنتي مبروكة، تمسّحن بها طلبا للبركة، الرّجال يتابعون الوضع من وراء نوافذ بيوتهم، فمن غير اللائق أن يركضوا في الشّارع للسّلام على امرأة غريبة، وصلت مبروكة بيت أبي موسى في موكب لم يتوقّعه صاحب البيت ولا غيره، وهذا زاد من إيمان أبي موسى بقدرات مبروكة الخارقة، وجعلها تمشي بخيلاء لم تظهرها، مسبحتها في يدها، لا ترفع رأسها متصنّعة التّقوى والتّواضع، تبسمل، تحمدل وتحوقل بسعادة غير بائنة، فالأمر بالنّسبة لها عاديّ جدّا.
جلسن حولها، كلّ واحدة تريد أن تختلي بها؛ لتطلب مساعدتها في أمر ما يخصّها وحدها، قالت لهنّ أمّ موسى:
- لو سمحتنّ يا أخوات، أهلا بكنّ، لكن زيارة المبروكة لنا هذا اليوم لسبب يخصّنا، فاتركنها لنا، وعندما تنتهي منّا ستزور كلّ واحدة منكنّ في بيتها.
خرجت النّساء الغريبات وبقيت نساء العائلة والقريبات، وهنّ يردّدن بأنّهنّ يعرفن أنّ زيارة المبروكة بسبب موسى وعروسه، وهذه فرصتهنّ؛ ليتبرّكن منها.
ابتسمت المبروكة وهي تحرّك خرزات مسبحتها، وقالت:
- وجودكنّ حولي شرف لي، لكنّ طبيعة العلاج تستدعي أن لا يبقى معي إلا النّساء المحرّمات على موسى كالأخوات والعمّات والخالات والأطفال الصّغار. وفي مرحلة ما لا يجوز أن يبقى أيّ إنسان.
التفتت مبروكة إلى أمّ موسى وقالت لها:
- هل يمكنني أن أجلس مع موسى وعروسه وحدنا؟
- كما تشائين...الآن سأطرق باب شقّتهما.
عندما طرقت أمّ موسى باب شقّة العروسين، فتح لها ابنها موسى الباب، همست له قائلة:
- قرّب فرج الله...مبروكة في بيتنا، ستأتي إليكما الآن، نفّذ أنت وليلى كلّ ما تطلبه منكما.
تفاجأ موسى بما قالته والدته فسألها:
- من مبروكة هذه؟
ردّت والدته عليه بعد أن تلفّتت إلى جميع الجهات -حرصا منها على أن لا يسمعها أحد- وهمست له بصوت مبحوح:
- مبروكة فتّاحة تعلم كلّ شيء، تفكّ السّحر، تشفي المرضى، تردّ الغائب، تفكّ المربوط، تؤلّف بين القلوب، تُزوّج العوانس، تحلّ كلّ مشكلة تُعرض عليها، ولا داعي لكثرة الكلام، الآن سآتي بها إليكما فانتظرها أنت وليلى في الصّالون.
قالت ذلك وركضت لتأتي بمبروكة.
عند باب شقّة العروسين ركضت مريم المحمود خلف مبروكة، أوقفتها قبّلت يدها، وقالت وهي تلهث ودموعها تغسل وجنتيها:
- دخيلك يا ستّي مبروكة، زوجي يريد أن يتزوّج عليّ، فالحقيني قبل فوات الأوان.
ابتسمت لها مبروكة....حسّست على رأسها، طلبت منها أن تأتي إلى بيتها بعد صلاة العصر، وهي تحوقل وتدعو الله أن يعينها؛ لتخدم من يحتاجون خدماتها!
فتحت أمّ موسى لمبروكة باب شقّة العروسين، أذنت لها بالدّخول، وهي تلتفت للعروسين وتقول:
- صافحا خالتكما مبروكة وقبّلا يديها.
نظرت ليلى إلى مبروكة نظرة ازدراء، لم تتحرّك من مكانها، بينما قفز موسى ومدّ يده يصافح مبروكة، ويقبّل يدها اليمنى ويضعها على جبينه، حسّست على رأسه، وهي تردّد:
- الله يرضى عليك.
انتبهت مبروكة لليلى وقالت لموسى:
- يبدو أنّ عروسك قويّة!
عندما انتبهت أمّ موسى أنّ ليلى لم تقم من مكانها، التفتت إليها تلومها وقالت:
- عيب عليك يا فتاة، قفي وسّلمي على خالتك مبروكة وقبّلي يديها.
وقفت ليلى غير مقتنعة بمبروكة، مدّت يدها تصافحها، لم تقبّل يدها، لكنّ مبروكة حضنتها وقبّلت وجنتيها. وما أن أفلتتها حتّى دخلت إلى المطبخ، فسألتها حماتها بلهجة غاضبة:
- إلى أين أنت ذاهبة يا ليلى؟
قالت ليلى وهي في مطبخها:
- أعدّ القهوة يا عمّة.
تمعنّت مبروكة بوجه موسى، مسحت جسده بنظراتها من شَعْر رأسه حتّى أخمص قدميه، رأته شابّا وسيما تتمنّاه النّساء، أمسكت خدّه بإبهامها وسبّابتها وكأنّه طفل تداعبه، وقالت له:
- سبحان الخالق، محظوظة ليلى بك.
عندما أحضرت ليلى القهوة، قالت مبروكة لأمّ موسى:
- اشربي قهوتك، واتركيني أنا والعروسين.
رشفت أمّ موسى رشفة واحدة من فنجانها، خرجت وهي تقول:
- بالتّوفيق يا مجيب الدّعاء.
أغلق موسى باب الشّقّة بناء على طلب مبروكة، طلبت مبروكة من موسى وليلى أن تجلس وإيّاهما بعيدا عن صالون البيت؛ ليبتعدوا عن عيون الطّفيليّين، قامت من مكانها قبل أن تسمع جوابهما، دخلت ووقفت بين صالة البيت والمطبخ، تركت طاولة "السّفرة" والكراسي حولها، جلست على الأرض في زاوية الصّالة، سار موسى وليلى خلفها مذهولين، طلبت منهما أن يجلسا أمامها على الأرض، سألتها ليلى:
- لِمَ لا نجلس وإيّاك على الكراسي.
ردّت مبروكة بلهجة آمرة:
- نفّذا ما أطلب منكما دون نقاش.
جلس موسى أمامها كطفل مطيع، بينما بقيت ليلى واقفة حائرة غير مقتنعة بقدرات مبروكة التي سألتها:
- لِمَ لا تجلسين كما أمرتكِ يا بنتي؟
سحبت ليلى كرسيّا من كراسي "السّفرة"، جلست عليه وسألت مبروكة:
- ماذا تريدين منّا؟ من أين أتتك هذه القدرات التي تزعمينها؟ وكيف؟
تصنّعت مبروكة ابتسامة صفراء وأجابت:
- يبدو أنّك فتاة قويّة، هذه أوّل مرّة يتجرّأ فيها إنسان ويسألني هكذا سؤال، ومع ذلك سأجيبك، كونك فتاة في بداية عمرك، ولم تمرّي بتجارب الحياة.
بقيت مبروكة تحرّك خرزات مسبحتها، حوقلت وقالت بصوت مسموع:
- "أصغر منك طبّك واصبر على وعد ربّك".
وأضافت:
- وأنا طفلة في السّابعة من عمري، أصبت بحمّى عجز الطّبّ عن علاجها، ذوى جسمي كفتيلة سراج محترقة، كانت أمّي -رحمها الله- امرأة تقيّة، خافت عليّ كثيرا، وذات ليلة رمضانيّة أخرجت ثدييها، نثرت شعرها، رفعت يديها إلى السّماء ودعت الله بخشوع قائلة: " إلهي أذهب البأس ربّ النّاس، اشف وأنت الشّافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما، أذهب البأس ربّ النّاس، بيدك الشّفاء، لا كاشف له إلّا أنت ياربّ العالمين، اللهم إنّي أسألك من عظيم لطفك وكرمك وسترك الجميل، أن تشفي ابنتي وتمدّها بالصّحّة والعافية، لا ملجأ منك إلّا إليك، إنّك على كلّ شيءٍ قدير".
غفت والدتي مرهقة وقد هدّها الصّيام والسّهر عليّ، وغفوت أنا أيضا وقد هدّني المرض، فجاءني شيخ أشيب الشّعر، بهيّ الطلعة، ربع القامة، يشعّ النّور من وجهه، وضع يده على جبيني وقال:
"انهضي يا ابنتي معافاة من كلّ سوء بإذن الله، فقد استجاب الله-سبحانه وتعالى- لدعاء والدتك التّقيّة النّقيّة ورحم طفولتك البريئة، سأضع أسرارا كثيرة بين يديك، تستطيعين من خلالها مساعدة الملهوفين والمرضى، فاحتفظي بها ولا تبوحي بها لأيّ إنسان."
هلّل موسى وكبّر وهو يرتعد خوفا، بينما ليلى تستمع لكلامها غير مصدّقة، وقف موسى، أمسك يد ليلى وأجلسها على الأرض عنوة بجانبه، فالتفتت إلى مبروكة وسألتها:
- هل اسمك الحقيقيّ مبروكة؟
ضحكت مبروكة وقالت:
- أنت فتاة ذكيّة يا ليلى، لمست ذلك منذ رأيتك، وأنا يعجبني الأذكياء، اسمي الذي أطلقه والداي عليّ ساعة ولادتي هو رسميّة، لكنّ الشّيخ الجليل الذي جاءني في تلك الليلة الرّمضانيّة، تركني وهو يقول: "أنت مبروكة منذ هذه اللحظة." وعندما استيقظت والدتي من نومها في ساعة السّحور وجدتني في المطبخ سليمة معافاة، أبحث عن طعام، دهشت ممّا رأت، فحمدتِ الله على شفائي، ضمّتني إلى صدرها، قبّلت وجنتيّ وهي تقول: أنت مبروكة يا بنتي، فسبحان الله الذي ألهمها أن تدعوني "مبروكة" هي الأخرى! لكنّ هذا الاسم بقي مصاحبا لي حتّى يومنا هذا، حتّى أكاد أنسى اسمي الأوّل.
عادت ليلى تسألها:
- هل أنت متزوّجة؟ وهل لديك أبناء وبنات؟
- نعم تزوّجت وتوفّى الله زوجي بعد زواجنا باثني عشر عاما، ولم يرزقنا الله الأبناء لحكمة لا يعلمها إلّا هو؟
ابتسمت ليلى وعادت تسأل ساخرة:
- ما دمت تملكين هذه القدرات العجيبة، فلِمَ لم تحمِ زوجكِ من الموت، ولِمَ لم تساعدي نفسك؛ لتحملي وتنجبي كبقيّة النّساء؟
استشاط موسى غضبا من أسئلة عروسه ليلى فنهرها قائلا:
- ما الدّاعي لهذه الأسئلة يا ليلى؟
وهنا تدخّلت مبروكة وقالت:
- دعها تسأل كما تشاء، فأنا أعرف الأسباب التي تدفعها لهكذا أسئلة، وهي أسباب مختلفة عمّا في نيّتها، سأجيبها على أسئلتها بكلّ سرور، فزوجي توفّاه الله لأنّ الأعمار بيد الله الذي يقول سبحانه:" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ".
وأمّا عدم حملي وإنجابي فالله سبحانه وتعالى يقول:" للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ." ويقول سبحانه وتعالى:" أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَٰاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا إِنَّهُۥ عَلِيمٌ قَدِيرٌ". وأضافت والله اختار زوجي لجواره وحرمني من الإنجاب لحكمة يعلمها هو، وأنا راضية قانعة بما ارتضاه الله لي.
هلّل موسى وكبّر وقال لليلى:
- اتّق الله يا ليلى ودعيك من هذه الحماقات.
لكن ليلى عادت تقول لمبروكة:
- ما دمت تؤمنين بالله وبما جاء في القرآن فلِمَ تزعمين أنّك تعالجين العاقر؟
أجابتها مبروكة:
- لقد خلق الله لكلّ داء دواء، ومن أعالجهنّ لسن عاقرات، وإنّما يعانين من مرض ما، ويحملن بإرادة الله عندما أعالجهنّ من مرضهنّ، وخير دليل على صحّة كلامي أنّهنّ يشفين ويحملن وينجبن، أمّا من خلقهنّ الله عاقرات فلا شفاء لهنّ. وأضافت: لا وقت لديّ للجدال، أريد أن أسألكما:
- هل تزوّجتما عن حبّ دون إكراه من أحد؟
ردّ موسى بثقة:
- عندما عرض عليّ والداي الزّواج، وقع اختياري على ليلى التي أعجبت بجمالها، فخطبها والداي لي، ووافقت هي ووالداها على طلبنا، في فترة الخطبة التي استمرّت ثلاثة أسابيع عشقتها خلالها بجنون.
أمّا ليلى فقد قالت:
- مجتمعنا لا يسمح بالحبّ بين الرّجل والمرأة إلا بعد الزّواج، عندما طلبني موسى، استشارني أبي فسكتّ كما تفعل بقيّة الفتيّات، و"السّكوت علامة الرّضى"، وموسى كما ترينه شابّ وسيم خلوق، من عائلة ذات حسب ونسب وهذا ما تتمنّاه كلّ فتاة.
طلبت مبروكة من موسى أن يذهب إلى الصّالة؛ لتبقى وحدها مع ليلى، ترك موسى الجلسة دون نقاش، فسألت مبروكةُ ليلى:
- هل تحبّين موسى؟
ليلى: لولا أنّي أحبّه لما وافقت على الزّواج منه.
مبروكة: أنت من جميلات البلدة المميّزات، من طلب يدك قبل موسى؟
ليلى: طلبني بعض أبناء البلدة لكنّنا رفضناهم.
مبروكة: ما هي أسماؤهم؟
ليلى: لا داعي لهكذا أسئلة، فكلّهم ذهبوا في طريقهم وتزوّجوا.
مبروكة: هل تتمنّعين على عريسك عندما تختليان معا؟
ليلى: لا.
مبروكة: كيف تفسّرين عدم قدرته على معاشرتك؟
ليلى: الجواب عنده وليس عندي.
مبروكة: هل حاولت كسر حاجز الحياء والخوف عنده؟
ليلى: نعم.
مبروكة: كيف؟
ليلى: كما تفعل كلّ النّساء مع أزواجهنّ.
مبروكة: هل لا زلت تحبّينه؟
ليلى: نعم.
راقبت مبروكة انفعالات ليلى وحركاتها عند سماع الأسئلة، وعندما تجيب عليها، صمتت قليلا وسألتها:
- كم يوما مضى على زفافكما؟
ليلى: عشرة أيّام.
مبروكة: هل أنت نادمة الآن على زواجك منه؟
ليلى: طبعا لا.
مبروكة: هل أنت حزينة ومستاءة لعدم قدرته على معاشرتك؟
ليلى: أنا مستاءة من أحاديث النّاس وتدخّلهم بخصوصّياتنا.
طلبت مبروكة من ليلى أن تغادر الجلسة، وأن تطلب من موسى أن يدخل إليها.
جلس موسى أمام مبروكة كطفل مطيع لوالدته، جسده يتصبّب عرقا من شدّة الحياء، تحسّست خدّيه وقالت له:
- لا تستحِ يا ولدي، فمشكلتك بسيطة وحلّها بسيط، عروسك حسناء يتمنّاها كلّ رجل يراها، وهي الآن بين يديك، لا داعي لكلّ هذا الحياء والخوف الذي يتلبّسك، سأسألك بعض الأسئلة التي ستساعدنا على حلّ المشكلة، فأجبني بصدق وبصراحة:
أجابها موسى مضطربا وهو يبتلع ريقه:
- تفضّلي.
مبروكة: هل سبق وأن اكتشفتَ عالم النّساء؟
لم يفهم سؤالها فأجاب بسؤال استنكاريّ:
- هل النّساء في كوكب مجهول حتّى أكتشفهنّ؟
ضحكت مبروكة من جوابه وقالت:
- أقصد هل سبق وأن عاشرت امرأة معاشرة الأزواج قبل زواجك؟
انتفض موسى وقال:
- أعوذ بالله.....وهل هناك معاشرة بين رجال ونساء خارج الحياة الزّوجيّة؟
ابتسمت مبروكة من إجابته ومن سذاجته، فعادت تسأله:
- هل سبق وأن غازلت فتاة أو أحببتها؟
موسى: لا... فأنا أخاف الله.
صمتت مبروكة هنيهة وعادت تسأل:
- هل مارست العادة السّرّيّة؟
صمت موسى هنيهة وقال وهو يتصبّب عرقا:
- نعم.
مبروكة: متى مارستها آخر مرّة؟
موسى: يوم زفافي.
مبروكة: وهل حصل عندك انتصاب كامل؟
موسى:نعم.
مبروكة: منذ متى وأنت تمارس العادة السّرّيّة؟
موسى: منذ بلوغي.
مبروكة: كم مرّة كنت تمارسها في الأسبوع؟
موسى: يوميّا.
مبروكة: هل تعرف جسد المرأة وكيف يعاشر الرّجال نساءهم؟
موسى: نعم أعرف، حلمت مئات المرّات في نومي أنّني أعاشر امرأة.
مبروكة: هل حلمت بمعاشرة امرأة تعرفها؟
موسى: حلمت مرّات كثيرة أنّني أعاشر امرأة جسمها جميل جدّا، لكنّها بلا رأس.
مبروكة: هل تتمنّع ليلى عليك؟
موسى: لا.
مبروكة: هل رأيت مفاتن ليلى؟
موسى: نعم شاهدتها عارية تماما.
مبروكة: هل حضنتها؟ هل قبّلتها؟
موسى: نعم.
مبروكة: هل تكره ليلى؟
موسى: بالعكس فأنا أحبّها.
مبروكة: إذن ما يمنعك من معاشرتها؟
موسى: لا أعرف. لكنّي عندما أقترب منها أتوتّر.
مبروكة: هل تشعرك ليلى بحبّها؟
موسى: نعم.
مبروكة: هل ستعاشرها هذا اليوم مثلا؟
موسى: أتمنّى ذلك.
مبروكة: سأترككما الآن، وأتمنّى أن تنجح بمعاشرتها.
حملت حقيبتها وغادرت شقّة العروسين. كانت ربيحة وعائشة تجلسان أمام غرفة العائلة كبومتين بلّلهما مطر جوّ عاصف، أشارت عائشة لمبروكة بيدها وهي تقول لربيحة:
- هيّا بنا إلى داخل الغرفة؛ كي لا تلتمّ الجارات حول مبروكة عندما يرينها.
دخلت مبروكة الغرفة تتصنّع التّعب، جلست على فرشة، خلعت غطاء رأسها وهي تتمدّد على جانبها الأيسر ساندة رأسها على كفّ يدها المرتكز كوعها على وسادتين، طلبت من عائشة أن تأتيها بكوب ماء بارد من البئر المجاورة، سألتها ربيحة:
- خيرا يا مولاتنا، ماذا جرى لك؟ هل أنت مريضة؟
تنهدّت مبروكة وهي تتلوّى كممثّلة قديرة على مسرح في مشهد درامي، طلبت من ربيحة أن تغلق باب الغرفة خوفا من أن يأتي رجل على حين غرّة، وقالت:
- لا تقلقا فأنا بخير، لكنّي تعبة ممّا شاهدت.
بسملت عائشة وسألت وقد اصفرّ وجهها:
- خيرا....ماذا رأيت؟
تمتمت مبروكة كلاما غير مفهوم وقالت:
- رأيت أشياء مهولة، خفت على موسى وليلى، فاستجمعت قواي وبذلت جهدي كي لا يريا شيئا.
قالت عائشة وقد جفّ ريقها خوفا:
- يا سواد حظّك يا عائشة، يا ربّ سترك. وسألت: ما الذي أخافك يا مولاتي؟
مبروكة: لا تكثري من الأسئلة، فــ "ليس كلّ ما يعرف يقال". لكن مشكلة موسى ليست سهلة، وقد بذلت جهدي لحلّها، وسأواصل جهدي وأنا في بيتي، وإن لم تحلّ سريعا، فلا بدّ من المندل واستحضار الأرواح.
طلبت مبروكة من عائشة أن تحضر سيّارة؛ لتستقلّها ولتغادر فهناك من ينتظرونها.
ردّت عليها عائشة:
- السّيّارة متوقّفة على الشّارع، وغداؤك على النّار.
مبروكة: اعذروني فلا شهيّة لي للطّعام.
عائشة لا يمكن أن تغادري قبل أن تتناولي طعامك.
حوقلت مبروكة وقالت:
- إذن استعجلوا في إعداد الطّعام؛ لنكسب الوقت.
سمعن نحنحة أبي موسى وهو يقترب من غرفة النّساء وينادي زوجته عائشة.
مدّت عائشة رأسها خارج الباب وقالت:
- نعم يا حمدان...ماذا تريد؟
سألها: ماذا قالت مبروكة عن "الطّواشى"؟
ردّت عائشة بغضب:
- كفانا الله شرّك يا حمدان، ما هذا الكلام؟
استندت مبروكة واعتدلت في جلستها، وضعت غطاء رأسها، وقالت لعائشة:
- دعيه يدخل.
دخل أبو موسى يائسا مكسور الجناح طرح السّلام وجلس دون كلام.
قالت له مبروكة بلهجة هادئة:
- وحّد الله يا حمدان، لا يليق بك ما قلته عن ابنك، فلا تعقّد المشكلة، وتوكّل على الله.
التفت حمدان إلى مبروكة وسألها:
- هل وجدتِ حلّا لمشكلة موسى؟
مبروكة: المشكلة بسيطة...يمكن حلّها بسهولة، وربّما تحتاج وقتا، فالله مع الصّابرين.
غادر أبو موسى الجلسة قلقا وهو يوصي زوجته باستعجال الغداء لمبروكة، فسائق السّيّارة ينتظرها عنده.
أشارت مبروكة لوالدتي العروسين؛ كي تقتربا منها، فجلستا أمامها على بعد أقلّ من شبرٍ منها: همست لهما:
- هل لديكنّ "طاسة الرّجفة"؟
أجابت عائشة بدهشة:
- نعم لدينا واحدة منها ورثتها عن حماتي.
همست لها مبروكة وكأنّها تخفي سرّا:
- املئيها ماء، وبعد أن تقرئي عليها آية الكرسي كلّ مرة، إسقي ابنك موسى مرّتين يوميّا، مرّة بعد صلاة الفجر قبل بزوغ الشّمس، ومرّة بعد صلاة المغرب لمدّة ثلاثة أيّام.
تصنّعت عائشة ابتسامة صفراء وقالت:
- لست حافظة لآية الكرسي.
أخرجت مبروكة من حقيبتها اليدويّة ورقة مقوّاة بحجم راحة اليد، وقالت لها:
- هذه آية الكرسي، اقرئيها على "طاسة الرّجفة".
حوقلت عائشة وقالت:
- " عشنا وشفنا، خلّيني أرجع تلميذة في المدرسة الإبتدائيّة".
سألتها مبروكة: كم صفّا دراسيّا تعلّمتِ في المدرسة.
عائشة: ستّة.
إذن اقرئي أمامي؛ لأسمع مدى قدرتك على القراءة.
قرأت عائشة بتأتأة واضحة:
بسم الله الرحمن الرّحيم: ﴿ اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾.
أخطأت بقراءة بعض الكلمات، فصوّبتها مبروكة، وعند كلّ خطأ تطلب منها أن تعيد القراءة من البداية، حتّى أتقنت قراءتها.
بعد ذلك طلبت مبروكة منهما أن تحضرا ديكين بلديّين، ريشهما أسود، وكلّ واحدة منهما تطبخ ديكا في طنجرة خاصّة، وأن تضيف عليه خلطة بهارات هنديّة يبيعها العطّارون، بشرط أن لا يذوق أيّ إنسان منه شيئا، وأن تضع ربيحة ديكها أمام ابنتها ليلى، وأن تضع عائشة ديكها أمام ابنها موسى، ويمنع أيّ إنسان من مشاركتهما، وإذا تبقّى شيء من الدّيكين أو من أحدهما فعلى من طبخته أن تدفنه مع بقايا العظام في تربة جيريّة بيضاء.
وهنا سألت ربيحة بسذاجة:
- وكيف سنعرف هذه البهارات؟ ومن أيّ عطّار نشتريها؟
حوقلت مبروكة وهي تحرّك خرزات مسبحتها وقالت:
- سأشتريها أنا لكما، وهذا يتطلّب أن تدفع كلّ منكما خمسة دنانير ثمنها.
مدّت عائشة يدها إلى جيب عبّها، أخرجت عشرة دنانير وأعطتها لمبروكة. بعد الغداء غادرت مبروكة بصحبة سائق السّيارة، بعد أن أكّدت على ربيحة وعائشة بأن تحضر إحداهما إلى بيتها قبل العاشرة من صباح غد؛ لأخذ البهارات.
محبّة وقبول
عندما وصلت مبروكة بيتها وجدت مريم المحمود تجلس على الأرض، مستندة على جدار قريب من البيت، تنتظر قدومها، وقفت عندما رأت مبروكة، صافحتها وقبّلت يدها اليمنى، فسألتها مبروكة:
- منذ متى أنت هنا؟
ردّت مريم المحمود وقد جفّ ريقها من العطش ومن هيبة الوقوف أمام مبروكة:
- وصلت هنا بعد صلاة الظّهر مباشرة.
مبروكة: لِمَ هذه العجلة، فقد أخبرتك أن تأتي بعد صلاة العصر؟
مريم: خفت أن يسبقني أحد إليك، وعندما وصلت طرقت باب البيت، ففتح الباب رجل في منتصف العمر، وأطلّ عليّ وهو يفرك عينيه ناعسا ويرتدي ملابسه الدّاخليّة فقط، وكما يبدو أنّه كان نائما، واعتذر لي قائلا:
آسف فقد حسبتك مبروكة.
عندها عرفت أنّك غير موجودة فانصرفت.
اصفرّ وجه مبروكة وسألت:
- هل دعاكِ لدخول البيت؟
مريم: لا، فقد أدرت له ظهري وغادرتُ فورا، ولم أترك له مجالا لمزيد من الكلام.
مبروكة: هل لا يزال في البيت؟
مريم: بعد دقائق من وصولي خرج مرتديّا ملابسه.
تمتمت مبروكة بكلمات غير مفهومة، أخذت شهيقا طويلا وهي تفتح الباب، جلست مع مريم، قدّمت لها ماء باردا وسألتها:
- كيف عرفتِ أنّ زوجك يريد الزّواج من امرأة ثانية؟
مريم: سمعت من نساء أنّه يتردّد على أسرة امرأة شابّة ترمّلت، وهي أمّ لطفلين ورثت عن زوجها المرحوم أرضا ومالا. وروت لي بعض جاراتها أنّها تجلس معه أمام بيتهم بوجود أبيها العجوز، تمازحه وتضحك معه، كما أنّه يداعب طفليها.
مبروكة: ما الغريب في ذلك؟
مريم: الغريب أنّه يتردّد عليهم بشكل شبه يوميّ، يسهر عندهم حتّى منتصف الليل، وكما تعرفين فإنّ "حبّ الأطفال من حبّ أمّهم".
مبروكة: هل توجد بينهما صلة قربى؟
مريم: نعم....هي بنت خاله.
وهل هناك دلائل أخرى لديك؟
مريم: نعم...فقد تغيّرت معاملته لنا، وصار عصبيّ المزاج يغضب بسبب ودون سبب، ويصيح بي وبأبنائنا.
مبروكة: كم ولدا عندك؟
مريم: ولدان وأربع بنات. بنتي الكبرى متزوّجة وأمّ لأربعة، وابني الصّغير عمره ستّة عشر عاما.
مبروكة: كم عمر زوجك؟
مريم: عمره ثمانية وخمسون عاما، وعمري خمسة وخمسون.
تنهّدت مبروكة وقالت:
صدق من قال: "يا مأمنه للرجال يا مأمنه عالميّه في الغربال".
صمتت مبروكة للحظات، لكنّها بقيت تحرّك خرزات مسبحتها وقالت:
- هاتِ كفّك اليمنى يا مريم.
مدّت مريم يدها اليمنى، أمسكت بها مبروكة وقلبت الكفّ ليظهر باطنه، تحسّست كفّ مريم بإبهامها وقالت:
- هات عشرة دنانير "فتوح كفّ"، وعشرين دينارا أخرى لكشف المستور.
دفعت مريم ثلاثين دينارا دون نقاش. بعدها سألتها مبروكة عن اسم زوجها وعن اسم والدته، وما اسم الأرملة واسم والدتها وقالت لها:
- سأعمل لزوجك حجاب"محبّة وقبول" يبعده عنها وعن غيرها من النّساء.
وهنا قطعت مريم حديث مبروكة وقالت:
- زوجي لا يؤمن بالأحجبة.
مبروكة: لا تخافي، لن يعلم بذلك، ما عليك سوى أن تذهبي إلى حدّاد، ليغلّف الحجاب بمعدن خفيف لا يصدأ؛ كي لا تصيبه الرّطوبة، ضعيه في الوسادة التي يضع رأسه عليها، أو خبئيه في الفرشة بموازاة رأسه. وهناك أشياء أخرى يتطلّب منك أن تعمليها.
مريم: أيّة أشياء؟
مبروكة سأصفها لك لاحقا، لكنّ هذا يتطلّب منك أن تدفعي خمسين دينارا أخرى.
احتارت مريم وقالت:
- "يا كشل راسي" من أين آتي بها؟
مبروكة: دبري حالك.
حكّت مريم رأسها، فكّرت قليلا وقالت:
- لا عليك سآخذها من والدتي.
مبروكة: متى ستأتين بها:
مريم: غدا أو بعد غد.
مبروكة: سأنتظرك، وستجدين الحجاب جاهزا عندما تأتين، وسأقول لك عن الوصفة، احتفظي بكلّ شيء في سرّك، لا تخبري أحدا عمّا دار بيننا.
مريم: حاضر.
غادرت مريم بيت مبروكة وعناقيد حيرة تتساقط على رأسها، أخذت تفكّر بطريقة تحصل من خلالها على خمسين دينارا من أمّها، لكنّها تساءلت إذا كانت أمّها تملك هكذا مبلغ، خصوصا أنّها في منتصف العقد الثّامن من عمرها، ولم تعد تقوى على فعل أيّ شيء، فمن أين ستأتيها النّقود؟ كانت تطلب من أبنائها بضعة قروش "فراطة"ـ توزّعها على أحفادها الأطفال عندما يزورونها، تعطي الواحد منهم قرشا أو نصف قرش؛ ليشتري به "حامض حلو" من الدّكان، فيسعد الطّفل الحفيد بعطاء جدّته، وتسعد الجدّة بفرحة حفيدها. وجدت مريم عذرا لوالدتها لقناعتها بأنّها لا تملك نقودا، ففكّرت ببيع مصاغها الذي هو عبارة عن قلادة ذهب فيها عشر ليرات انجليزيّة، لكنّها فكّرت بوضعها رهينة عند مبروكة، حتّى تتدبّر الخمسين دينارا، وإن افتقد زوجها قلادتها الذّهبيّة، فستخبره أنّها وديعة عند أمّها، وإذا ما تطوّرت الأمور وسألوا والدتها عنها، فإنّها ستزعم أنّ الوالدة كبيرة في العمر وصارت تنسى أشياء كثيرة، وهكذا مخاطرة مقبولة عليها، ما دامت ستحميها من ضرّة هي على قناعة تامّة بأنّها قادمة لا محالة، إن لم تستطع إيقافها، وكما قال المثل: "بَلوى أهون من بَلوى، وكسّاح أهون من عمى".
مباركة الدّيكين
لم تحضر ربيحة ولا عائشة في اليوم التّالي لأخذ "خليط البهارات الهنديّة من مبروكة، فقد انشغلتا في البحث عن ديكين ريشهما أسود اللون. بعد أسبوعين عثرتا على ديكين مرقّطين، يغلب اللون الأسود على ريشهما، فقرّرت عائشة أن تشتريهما، فإن وافقت مبروكة عليهما، فهذا هو المطلوب، وإن لم توافق سيذبحانهما "تزفيره" للأسرة.
في هذه الأثناء قلقت مبروكة و"لعب الفأر في عبّها".
عندما طرقت بابها عائشة أمّ موسى وهي تحمل الدّيكين، انفرجت أساريرها، وحسبتهما مبروكة هديّة لها فقالت وهي تحرّك خرزات مسبحتها:
- النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قبل الهديّة.
فقالت عائشة محرجة:
- هذان الدّيكان ليسا هديّة يا مولاتي، وإن كنت تحبّين لحم الدّيوك فسأحضر لك ديكين أكبر منهما، لكنّ لون ريشهما مختلف.
وأضافت بأنّها وربيحة تبحثان منذ أسبوعين عن ديكين ريشهما أسود، ولم تجداهما، وبالأمس عثرتا على هذين الدّيكين، فجئت لأخذ البهارات الهنديّة ولأسألك إن كان هذان الدّيكان مقبولين أم لا؟
حوقلت مبروكة، فكّرت قليلا وقالت:
أنا طلبت منكما ديكين أسودين للتّخفيف عليكما، فالمطلوب الصّحيح هو ذبح خروفين أسودي الرّأس، وبقيّة الجسم أبيض، تذبحانهما مع ذكر اسم الله عليهما، وبنيّة من يذبحهما أنّ هذا الرّأس لموسى وذاك لليلى، وأن توزّعا لحمي الخروفين على الفقراء والمحتاجين، وعندما قلت لكما عن الدّيكين الأسودين، فلتوفير ثمن الخروفين عليكم. لكنّي سأطلب من أعواني أن يتقبّلا هذين الدّيكين، وآمل أن يستجيبوا لطلبي.
دبّ الرّعب في قلب عائشة وسألت بصوت يرتجف:
- من هم أعوانك يا مولاتي؟
ردّت عليها مبروكة بلهجة آمرة:
- لا تكثري من الأسئلة يا عائشة، فليس في صالحك أن تعرفي كلّ شيء.
وهنا سمعت عائشة نحنحة رجل من داخل غرفة النّوم، فأصابها الذّعر، خوفا أن يكون "المتنحنح" أحد أعوان مبروكة من العالم الآخر، فاعتذرت من مبروكة، وحملت الدّيكيّن و"البهارات الهندية" التي حضّرتها لها مبروكة من خليط "العُصفُر والفلفل الأسود"، وخرجت مسرعة وهي ترتجف خوفا، ومبروكة تقول لها بأنّها ستزورهم للاطمئنان على العروسين.
أغلقت مبروكة الباب من الدّاخل وعادت لغرفة النّوم وقالت:
- "والله حسكة وعظمة سمكة اللي تطلع روحك"، "يلعن اليوم اللي شفتك فيه"، قلت لك ألف مرّة إذا عطست أو سعلت وعندي زبائن أن تكتم أنفاسك، وأن تتدثّر باللحاف كي تكتم صوتك.
محبّة وقبول
عادت مريم المحمود متسلّلة إلى بيت مبروكة، كثعلب يتسلّل بهدوء، ليسطو على قنّ دجاج، فهي لا تريد أن يراها أحد؛ كي لا ينفضح أمرها، تتحسّس باستمرار جيبها؛ لتطمئنّ على قلادة الذّهب التي سترهنها لمبروكة، طرقت باب مبروكة وهي تتلفّت ذات اليمين وذات اليسار خائفة.
عندما فتحت مبروكة الباب، دخلت مريم مسرعة قبل أن تطرح التّحيّة، التطم كتفها بكتف مبروكة حتّى كادت توقعها أرضا، بسملت مبروكة وسألتها:
- ما بك يا مريم؟ لِمَ أنت خائفة؟ هل هناك من يطاردك؟
مريم تلتقط أنفاسها واضعة يدها اليمنى على الجانب الأيسر من صدرها، وكأنها تريد تخفيف نبضات قلبها التي تزايدت، وقالت:
- أخاف يا مولاتي أن يراني أحد ما ممّن يعرفونني، وبالتّالي ستثور حول مجيئي إليك تساؤلات نحن في غنى عنها.
طمأنتها مبروكة وهدّأت من روعها، وهي تردّد بأنّ الله يستر على المؤمنين، ومن يريد السّتر ستره الله.
وهنا قالت مريم لمبروكة:
- عندي رجاء لك يا مولاتي، أسأل الله أن توافقي على طلبي منك.
ردّت مبروكة وهي تحرّك خرزات مسبحتها، وتسبّل جفني عينيها:
- طلبك يا مريم مستجاب إن قدرت عليه.
مريم: بإذن الله ستقدرين، فكما تعلمين سوء الأوضاع وحاجة النّاس، فإنّني لم أستطع تدبير الخمسين دينارا التي طلبتِها، وقد أتيتك بقلادتي الذّهبيّة لأرهنها عندك حتّى تتيسّر حالي، وأستطيع سداد الخمسين دينارا. وأخرجت قلادتها ووضعتها أمام مبروكة.
سكتت مبروكة هنيهة وقد سال لعابها على القلادة الذّهبيّة، التي يساوي ثمنها أضعاف الخمسين دينارا، وبعد فترة صمت حوقلت وقالت:
- طلبك مستجاب يا مريم، فأنا لا أخيّب ظنّ من يقصدني في أمر أستطيعه، لكنّك تعلمين أنّ أيّ مبلغ أتقاضاه لا أضعه في جيبي، ولا أدّخره، بل أعطيه لمن يعاونونني على عمل الخير، سأقبل قلادتك، وإذا لم تسدّدي الخمسين دينارا خلال ستّة أشهر، سأضطر لبيعها بخمسين دينارا.
شكرت مريم مبروكة وأثنت على كرمها الزّائد! فقامت مبروكة وأخرجت من علبة معدنيّة مركونة في خزانة حائط في صالون البيت ورقة مطويّة على شكل مثلّث، أعطتها لمريم وشرحت لها أنّ هذا هو حجاب"المحبّة والقبول" الذي وعدتها به، وحذّرتها من مغبّة فتحه هي أو غيرها، وأنّها لا تتحمّل مسؤوليّة ما سيحصل لمن يتجرأ على فتحه.
تناولت مريم الحجاب وهي تؤكّد بأنّها ستنفّذ تعليمات مبروكة بحذافيرها.
وهنا قالت مبروكة: أمّا بالنّسبة للوصفة الأخرى فانتبهي لي جيّدا.
مريم: سمعا وطاعة.
مبروكة: أؤكّد لك مرّة أخرى على أهمّيّة السّرّيّة التّامة؛ كي لا يفسد العمل.
مريم: لا تخافي فـــ "سِرّكِ في بير".
مبروكة: عليك أن تجمعي في وعاء صغير الأشياء التّالية: قليلا من دماء الدّورة الشّهريّة، أو دم النّفاس، قليلا من برازك وبولك، ظفرين من أصابع قدميك ومثلهما من أصابع يديك، بعد أن تدقّيهما حتّى التّفتيت، مقدار ملعقة صغيرة من الكبريت، رماد قطعة ملابس لزوجك بعد أن تحرقيها. اخلطيها في وعاء من الماء السّاخن، أضيفي إليها البابونج وملعقة شاي، كي يضيع لونها ورائحتها، قدّميها لزوجك مرتّين واحدة بعد صلاة الفجر والثّانية بعد غروب الشّمس، لمدّة ثلاثة أيّام متتالية، واعلمي أنّ "العلّة الخبيثه لا يشفيها إلا الدّواء النّجس"، وفي هذه المرحلّة تودّدي لزوجك، أشهري له أسلحة الإغراء الأنثويّ وكأنّكما عروسان جديدان، بعدها سيتعلّق بك ولن ينظر إلى امرأة غيرك.
أمسكت مريم يد المبروكة، قبّلتها شاكرة حامدة فضلها وعلمها! وغادرت مطمئنّة راضية، تظلّلها أشجار الجهل والضّياع.
تزفيره
اجتمعت عائشة والدة موسى وربيحة والدة ليلى، الأولى قلقة على مصير ابنها، والثّانية قلقة على مصير ابنتها، كلّ منهما تحمّل أسباب ما حصل للأخرى، وأيّ منهما لا تبوح ما بداخلها للأخرى، سألت عائشة:
- ما رأيك يا ربيحة أن نعطي الدّيكين لليلى؛ لتطبخ كلّ واحد منهما في طنجرة، واحد تأكله هي وواحد لعريسها.
فكّرت ربيحة قليلا وقالت:
- لا يحقّ لنا مخالفة تعليمات مبروكة، أنت تطبخين ديك ابنك، وتقدّمينه له، وتجلسين أمامه حتّى ينهي وجبته، فتحملين ما تبقّى منه مع العظام وتدفنينه في تربة جيريّة كما أمرت مبروكة، وأنا سأفعل الشّيء نفسه مع ليلى وديكها.
عائشة: كلامك صحيح، هيّا بنا؛ لنطلب من موسى أن يذبح الدّيكين.
ربيحة: أخاف أن لا يجرؤ موسى على ذبحهما!
استغربت عائشة كلام ربيحة وسألتها:
- لِمَ تقولين ذلك؟ أليس موسى رجلا كبقيّة الرّجال؟
ابتلعت ربيحة ريقها وهي تبحث عن كلمات لا تستفزّ أمّ موسى، فابتسمت وقالت في نفسها:
- لو كان موسى يجرؤ على ذبح ديك لـ "طخّ الضّبع" ليلة دخلته!
امتعضت عائشة ممّا قالته ربيحة، لكنّها كتمت غيظها، فحملت الدّيكين لزوجها كي يذبحهما، أطلّ أبو موسى على صياح الدّيكين، فسأل زوجته:
- ما هذا يا عائشة؟
ردّت عليه بصوت منخفض:
- اذبح هذين الدّيكين، واحد لموسى وواحد لليلى بناء على تعليمات مبروكة.
استلّ أبو موسى شبريّته من جانبه، أمسك رأس الدّيك الأوّل، الذي تحكم زوجته القبض على جناحيه وعلى قائمتيه، قطع رأسه وهو يقول ساخرا:
- هذا "للطواشى" لعلّ الله ييسّر أموره، وقطع رأس الثّاني وهو يقول: وهذا لليلى.
سكتت أمّ موسى على مضض، بعد أن همست لزوجها:
- اتّق الله في ابنك، ولا داعي لهذا الكلام.
أعطت عائشة ديكا لربيحة؛ كي تأخذه لشقّة العروسين؛ لتنتف ريشه ولتطبخه، مع تأكيدها عليها بتنفيذ كلّ تعليمات مبروكة، وأغلقت هي باب مطبخها عليها، لتطبخ ديك موسى.
أثناء عمليّة الطّبخ جاء حفيد عائشة من ابنتها فاطمة ابن التّاسعة، طرق باب المطبخ على جدّته عائشة؛ كي تفتح له، فطلبت منه أن ينتظرها عند جدّه زاعمة بأنّها تستحمّ، لكنّ الطّفل لم يقتنع بذلك وعاد يسألها:
- ماذا تطبخين يا جدّتي، فرائحة طعامك تفتح الشّهيّة؟
لم تجبه على سؤاله وصاحت به؛ كي ينتظرها عند جدّه.
في شقّة العروسين قالت ليلى لوالدتها ساخرة ضاحكة:
- هذا خير ما وصفته مبروكة، فأنا أحبّ لحوم الدّجاج البلديّ.
حملت عائشة طنجرتها وذهبت إلى شقّة العروسين، جلست في الصّالون، طلبت من ابنها أن يأكل الدّيك، وأن لا يبقي على شيء منه؛ لأنّها ستدفن ما يتبقّى، كما طلبت من ربيحة أن تجلس أمام ابنتها؛ لتأكل هي الأخرى ديكها.
عندما طلبت ليلى من والدتها ان تأكل معها ردّت عليها:
- لا أستطيع أن أخرق تعليمات مبروكة أو أنتقص منها، ونسأل الله أن يكون هذان الدّيكان الحلّ الشّافي لمشكلة عريسك.
ضحكت ليلى وقالت:
- لا أعتقد أنّ ديكا سيحرّك فحولة رجل.
فنهرتها والدتها عن هكذا كلام، خوفا من غضب مبروكة.
ماءَ قطّان عند باب الشّقّة وهما يشمّان رائحة لحوم الدّيكين، وبجانبهما حفيد عائشة الذي يطرق الباب ويقول:
- أطعميني يا جدّتي مّما تأكلين.
فردّت عليه عدّة مرّات:
- والله لا آكل شيئا.
حملت كلّ من عائشة وربيحة طنجرتها وما تحتويه من بقايا الدّيك، هرعتا إلى "حقل التّين" أمام البيت وفي يد عائشة فأس، حفرتا حفرتين في التّربة الجيريّة عند حافّة الحقل القريبة من الحاجب الصّخريّ ودفنتاهما. بعد دفن بقايا الدّيكين، فركت كلّ منهما يديها بالتّراب، كما وضعت قليلا من التّراب في طنجرتها؛ كي تمتصّ ما علق فيها من زيت أو شحم.
عادتا لتجلسا في مطبخ عائشة، كي تشربا الشّاي كما اقترحت أمّ موسى، جلستا على الأرض وكلّ منهما تسند ظهرها على الحائط، رشفت ربيحة رشفة شاي من كأسها، تذكّرت أنّهما لم تضعا "خليط البهارات" الذي وصفته مبروكة على الدّيكين، وعندما قالت ذلك، لطمت عائشة خدّيها بكفّيها وصاحت بصوت مرتفع:
- يا إلهي! ماذا جرى لنا؟ هل كتب الله علينا التّعاسة بدل الفرح بزفاف موسى؟
شعرت عائشة أنّ جميع الطّرقات مغلقة أمام ابنها، وما أن ينفتح باب حتّى يغلق بابان، وإذا بها تكلّم نفسها قائلة: "لا أحد يعرف طريق السّعادة" لكن "المكتوب عى الجبين بتشوفه العين"، ونسأل الله الفرج.
صمتت ربيحة دقائق معدودة "تضرب أخماسا في أسداس، ولا تقول شيئا، لكنّها لم تفقد الأمل، فقالت لعائشة:
- وحدّي الله يا أمّ موسى، "و"جلّ من لا يسهو"، سنقول لمبروكة أنّنا نسينا أن نضع "خليط البهارات" على الدّيكين عندما طبخناهما، وسنسمع رأيها ونصيحتها لنا، وأكثر ما يمكن أن تقوله هو أن تطلب منّا أن نذبح ديكين آخرين، وربّما ستطلب منّا أن نضع "البهارات" على طعام آخر.
لا تزال عائشة مضطربة، لكنّها استمعت لما قالته ربيحة.
عندما هدأت عائشة سألتها ربيحة:
- هل أسقيت موسى من طاسة الرّجفة؟ وهل قرأت آية الكرسي على الماء كلّ مرّة؟ وهل التزمت بالوقت قبل شروق الشّمس وبعد مغيبها؟
تنهّدت عائشة وقالت:
- من كثرة الهموم والنّكد لم أعد أعرف القراءة ولا غيرها، لكنّني أعتقد أنّني عملت بكلّ تعليمات مبروكة.
في شقّة العروسين لم تصدّق ليلى كلّ ما تقوله مبروكة، لكنّها لم تفصح عمّا في داخلها حرصا على مشاعر الآخرين، عندما خرجت والدتها وحماتها وفي يد كلّ منهما طنجرتها، ضحكت وهي تغسل يديها، غلت فنجاني قهوة واحد لها والثّاني لموسى، جلست بجانبه وسألته بدلال:
- هل أكلت ديكك كاملا؟
نظر إليها بوجه عابس وقال بلهجة حزينة:
- لا شهيّة لي لطعام أو شراب.
ضحكت عائشة وغنجت قائلة:
- أنا أكلت ديكي كاملا، فلحوم الدّجاج البلدي لذيذة.
وقالت بلسانها ما لا يعبّر عن حقيقة ما بداخلها:
- هل تعلم يا حبيبي أنّ هذين الدّيكين سيحلّان مشكلتنا، فمبروكة امرأة صالحة ولها تجربة طويلة مع النّاس ومشاكلهم، بعد أن نحتسي قهوتنا سندخل إلى غرفتنا، لنرى تأثير ديكك. أمّا ديكي فقد بدأت فاعليّته من الآن، وأشعر أنّني بحاجة إلى حضنك.
رشفت قهوتها بسرعة، وقالت له:
سأسبقك إلى غرفة النّوم كي أجهّز نفسي، فاتبعني فورا.
رشّت على نفسها عطرا، كحّلت عينيها، نثرت شعرها، خلعت ملابسها، تمدّدت على منتصف السّرير، سبّلت جفنيها وهي تسند نهديها النّافرين بيديها.
عندما لحق بها موسى إلى غرفة النّوم، نظر إليها نظرة عابرة، تمدّد بجانبها، لم يقل شيئا، وما لبثت أن سمعت شخيره يعلو.
أبو ربيع
سمعة أبي ربيع الطّيّبة وقدراته العجيبة في إيجاد الحلول لمشاكل النّاس تعمّ المنطقة، فهو قادر على علاج الأمراض كلّها، يعيد المفقود والغائب، يحلّ المربوط، يفكّ السّحر، يطرد الجنّ، يعالج قضايا العقم والإنجاب، يؤلّف بين القلوب، يزوّج العوانس، يوفّق بين قلوب الأزواج.
يتحدّث النّاس عن تقواه وورعه، وزهده في الحياة الدّنيا، يحرص على الصّلاة في المساجد خلف الإمام مباشرة، خرزات مسبحته المميّزة تسع وتسعون خرزة، وهي من العقيق طيّب الرّائحة، أهداها له أحد الحجّاج، يطلق لحيته ويحلق شاربيه، يرتدي الثّوب باستمرار، دائم التّسبيح والتّكبير، ينتعل صندلا في فصول السّنة جميعها، يرتاد الكثيرون "عيادته" للتّبرّك منه، ومن يعاني من مرض أو مشكلة يرتاد عيادته؛ طالبا حلّا لها.
ذات يوم طرق باب عيادته محجوب عبدالسّميع، ولمّا أذن له بالدّخول صافحه وقبّل يده اليمنى، جلس أمامه مطأطئا رأسه بخشوع، فقال له:
- ارفع رأسك يا ولدي وقل لي ما حاجتك؟
رفع محجوب رأسه وهو يشبك أصابع يديه، لم ينظر إلى وجه أبي ربيع تأدّبا، وقال متأتئا بعد أن استعاذ بالله من الشّيطان الرّجيم وبسمل:
- مشكلتي يا مولانا أنّني تزوّجت قبل عشر سنوات، كنت في الثّانية والعشرين من عمري، وزوجتي في السّادسة عشرة، ورزقنا الله طفلة بعد زواجنا بتسعة أشهر، بعدها لم تحمل زوجتي، ونريد على الأقلّ شقيقا لابنتنا.
استمع أبو ربيع لما قاله محجوب، وهو يطأطئ رأسه ويحرّك خرزات مسبحته متمتما بكلمات لم يفهم منها محجوب شيئا، لكنّ أبا ربيع لم يقل شيئا، فسأله محجوب:
- هل سمعتَ ما قلتُ يا مولاي؟
أجاب أبو ربيع وهو ينظر إلى محجوب:
- نعم يا ولدي سمعت كلّ كلمة، وسأسألك بعض الأسئلة فأجبني عليها بصدق.
محجوب: تفضّل يا مولانا.
أبو ربيع: هل تحبّ زوجتك؟
محجوب: نعم يا مولانا.
أبو ربيع: هل بينكما مشاكل أو خلافات؟
محجوب: لا يوجد مشاكل جدّيّة.
أبو ربيع: لا حياء في الدّين يا ولدي، هل تعاشر زوجتك كما كنت تعاشرها في العام الأوّل لزواجكما؟
محجوب: نعم...لكن بمرّات أقلّ عددا.
أبو ربيع: كم مرّة تعاشر زوجتك في الأسبوع؟
محجوب: خمس مرّات تقريبا.
أبو ربيع: هل تعاشرها بشهوة ورغبة؟
محجوب: نعم.
أبو ربيع: هل تستجيب زوجتك لرغباتك برضى تامّ؟
محجوب: هذا ما أراه وأعتقده، مع أنّها تتمنّع بعض الأحيان.
صمت أبو ربيع لحظات وقال:
- المشكلة يا ولدي ليست عندك بل عند زوجتك!
محجوب: هل لهذه المشكلة حلّ يا مولانا؟
أبو ربيع: لا أستطيع أن أجيبك على سؤالك قبل أن أرى زوجتك وأتحدّث معها.
محجوب: متى سآتيك بها يا مولانا؟
أبو ربيع: دعها تأتي وحدها، فلا داعي أن تكون معها؛ كي تأخذ راحتها وتتكلّم ما تريده دون حرج.
محجوب: كما تريد يا مولانا.
أبو ربيع: دعها تأتي غدا بين العاشرة والحادية عشرة صباحا.
محجوب: سمعا وطاعة يا مولانا.
قالها واستأذن للانصراف بعد أن دفع عشرين دينارا لأبي ربيع.
غادر محجوب عيادة أبي ربيع، رافعا رأسه فرحا سعيدا، فأن تكون المشكلة عند زوجته أفضل من أن تكون عنده، وكما قال جحا عندما سمع عن اندلاع حريق في بلدته:" بَسْ يسلم راسي"، حدّثته نفسه بالزّواج من أخرى إن لم تعد زوجته قادرة على الحمل والإنجاب، وبالتّأكيد ستوافقه هي الأخرى عندما تتأكّد بأنّ العلّة عندها!
دخل محجوب بيته رافعا رأسه بكبرياء، طرح التّحيّة على زوجته، وقال لها بعد أن قدّمت له فنجان قهوة:
- اسمعيني يا سعديّة، علينا أن نبذل جهودنا، كي ننجب شقيقا لابنتنا.
ردّت عليه مبتسمة:
- شدّ حيلك، ونسأل الله التّوفيق، فهذا ما نتمنّاه.
سعديّة
قال محجوب: مررت اليوم على عيادة "الفتّاح أبو ربيع"، وسردت له قصّتنا مع الإنجاب من أوّلها إلى آخرها.
استمعت له زوجته سعديّة باهتمام بالغ، وسألته:
- طمئنّي....ماذا قال لك؟
محجوب: طلب أن يراك أنت وحدك.
سعديّة: ماذا يريد منّي؟ ولِمَ وحدي؟
محجوب: هذا الرّجل تقيّ، ويتحلّى بقدرات عجيبة، اذهبي إليه غدا عند السّاعة العاشرة صباحا، واسمعي منه، هل تعرفين عيادته.
سعديّة: نعم أعرفها، فقد مررت من أمامها أكثر من مرّة، وعلى مدخلها لافتة مكتوب عليها " عيادة العالم الرّوحاني أبو ربيع".
صباح اليوم التّالي، وما أن غادر محجوب بيته إلى عمله في ورشة بناء في القريّة، حتّى استحمّت سعديّة، ارتدت ثوبها المطرّز الجميل، تجمّلت بما لديها من أدوات الزّينة، تعطّرت بعد أن غطّت شعرها بخرقة بيضاء اللون، وقصدت عيادة أبي ربيع، وصلت العيادة قبل العاشرة بخمس دقائق، طرقت باب العيادة، فتح لها أبو ربيع الباب ومسبحته في يده، ألقت عليه تحيّة الصّباح، فردّ عليها بأحسن منها، وأذن لها بالدّخول، لكنّها سألته:
- هل أنت مولانا أبو ربيع؟
ولمّا أجابها بالإيجاب دخلت بخطى ثابتة.
جلس خلف طاولته وأمرها بالجلوس قبالته، فجلست مطمئنة، تمعنّ بوجهها وسألها بعد أن قال لها سبحان من وهبك هذا الجمال!:
- من أنت؟
ردّت عليه باستحياء وقالت:
- أنا سعدية زوجة محجوب الذي كان عندك يوم أمس.
رحّب بها... صمت قليلا وقال:
- نعم تذكّرت...تفضلّي واسردي لي مشكلتك مع الإنجاب؟
ضحكت سعديّة وسألته:
- ألَم يسردها لك محجوب يوم أمس؟
أبو ربيع: نعم حكاها لي، لكنّي أريد أن أسمع منك.
سعديّة: تزوّجنا قبل عشر سنوات، وبمشيئة الله حملت ليلة الدّخلة، وبعد تسعة أشهر أنجبت طفلة، ولم يحالفنا الحظّ بحمل ثان.
أبو ربيع: هل تزوّجتما عن حبّ؟
سعديّة: تزوّجنا زواجا تقليديّا، وبعد الزّواج أحببته وأحبّني.
أبو ربيع: هل لا تزالين على حبّك لزوجك كما أحببته في السّنة الأولى من زواجكما؟
سعديّة: نعم أحبّه ويحبّني.
أبو ربيع: هل العلاقة الحميمة بينكما تتمّ بانسجام وبموافقة الطّرفين؟
سعديّة: نعم.
أبو ربيع: هل تحلمين في نومك أحلاما سعيدة أو مزعجة؟
سعديّة: كل النّاس يحلمون، وغالبيّة أحلامي مرعبة ومخيفة.
أبو ربيع: هل تشعرين في أحلامك بأنّك تكادين أن تختنقي، وتستيقظين مذعورة؟
سعدية: أحيانا.
أبو ربيع: هل تشعرين أحيانا بانقباضات أسفل بطنك؟
سعديّة: نعم .... وأتحسّس بطني لأنّها تضايقني.
حوقل أبو ربيع وقال:
- هذا ما كنت أخشاه؟
سعديّة: ممّ تخشى يا مولانا؟
أبو ربيع: أخشى أن يكون جنّي كافر قد تلبّسك، ودخل رحمك، وهو من يمنع الحمل.
بسملت سعديّة، اصفرّ وجهها، شعرت بخوف غير مسبوق، جفّ ريقها ولم تعد قادرة على الكلام، أحضر لها أبو ربيع كأس ماء، وضع حافّة الكأس على فمها، وهو يقول:
- اشربي ماء ولا تخافي.
جمعت قواها وسألت بعصبيّة:
- هل أنت متأكّد ممّا تقول؟
أبو ربيع: هذا تخمين مبدئيّ، سأتأكّد بعد الفحص، إذا لم يكن عندك مانع.
سعديّة: طبعا لا مانع عندي، أريد أن أطمئنّ على نفسي.
أبو ربيع: هذا ما توقّعته، ولا تخافي فإن ثبت وجود الجنّيّ فإخراجه سهل، ادخلي إلى هذه الغرفة، تمدّدي على السّرير، واكشفي عن بطنك لأفحصك.
دخلت سعديّة إلى الغرفة التي أشار إليها أبو ربيع، تمدّدت على السّرير، ورفعت ثوبها حتّى صدرها.
تبعها أبو ربيع مبهورا بجمالها ورشاقتها، جلس على جانب السّرير دون أن ينظر إلى جسدها بشكل مباشر، جسّ فخذيها بيديه ضاغطا بإبهاميه عليهما، عند التقاء الفخذين بالحوض رفع كفّيه إلى أسفل خاصرتيها، ضغط بإبهاميه على منتصف بطنها فوق الحوض مباشرة وسألها:
- هل تشعرين بانقباضات هنا في أيّامك العاديّة؟
سعديّة: نعم.
وقف أبو ربيع وأدار لها ظهره وقال لها:
- اتبعيني إلى المكتب.
عادا وجلسا على جانبي طاولة المكتب، أدار أبو ربيع وجهه إلى يساره، وقال:
- لا تخافي...مشكلتك بسيطة، يوجد في داخلك جنّيّ كافر، وهو من يمنع الحمل عندك، سأتغلّب عليه وسيعينني أتباعي من الجنّ المؤمنين على إخراجه.
سعديّة: باركك الله يا مولانا.
أبو ربيع: إذا أردتِ أن تشفي، قبل كلّ شيء عليك أن لا تبوحي لأحد عن أيّ شيء أقوله لك، أو يدور بيني وبينك؛ حتّى لا يفسد العلاج.
سعديّة: حاضر يا مولانا.
أبو ربيع: أعطني اسم والدتك واسم والدة زوجك، كي أعمل لكما حجابا، ويجب أن تعودي لي مرّة ثانية.
سعديّة: حاضر...متى؟
أبو ربيع: بعد أن تتطهّري من الدّورة الشّهريّة القادمة بثلاثة أيّام، لا تسمحي لزوجك بمعاشرتك، وتعالي إليّ.
دفعت سعديّة عشرين دينارا وخرجت، عادت إلى بيتها مهدودة القوى، أرهقها التّفكير بالجنّي الكافر الذي منعها من الحمل والإنجاب، لم تشكّ بقدرات أبي ربيع، فالرّجل تقيّ ورع يعلم ما يخفى على غيره من البشر، كشف الجنّيّ الكافر بجلسة واحدة، ولخوفها من هذا الجنّيّ فقد تحسّست بطنها كثيرا، شعرت بانقباضات أسفل بطنها، تحسّست المواضع التي تحسّسها أبو ربيع في جسدها دون أن ينظر إليها، لكنّها على قناعة تامّة بأنّ أبا ربيع قادر على إخراج هذا الجنّيّ الكافر من جسدها، وأنّ الحجاب الذي سيعمله سيحول دون عودة الجنّيّ إليها، استحت أن تخبر أبا ربيع بأنّها في اليوم الثّاني من دورتها الشّهريّة التي تستمرّ سبعة أيّام، وحمدت الله أنّه لم ينظر إلى وسطها، ولم يعرف أنّها حائض.
عندما عاد زوجها من عمله سألها:
- خبّريني...ماذا حصل معك؟
ردّت عليه باختصار شديد:
- الحمد لله... لم يحصل إلّا الخير....طلب منّي أن أعود إليه بعد أسبوع.
عدّت سعديّة أيّام الأسبوع بالدّقيقة، فهي تستعجل خروج هذا الجنّي اللعين الذي منعها من الحمل والإنجاب.
الجنّيّ الكافر
بعد خمسة أيّام عادت سعديّة بكامل زينتها وعطرها الفوّاح إلى عيادة أبي ربيع، وما أن دخلت العيادة حتّى أغلق الباب الرّئيس وقال لها:
- لقد أعددت لك الحجاب المطلوب، دعينا نكسب الوقت، ادخلي إلى الغرفة، اخلعي ثيابك كاملة وتمدّدي على السّرير.
- لم تعترض، دخلت الغرفة دون نقاش أو سؤال، خلعت ملابسها وتمدّدت على السّرير، لحق بها أبو ربيع كالثّور الهائج، رفع ثوبه واعتلاها، عاشرها معاشرة الأزواج وهو يردّد:
- ادخل يا مؤمن، واخرج يا كافر.
حصل ذلك وهي مبهوتة، لم تقل شيئا، انتهى منها وعاد إلى مكتبه وكأنّ شيئا لم يكن، ارتدت ملابسها وعادت إليه، ناولها الحجاب وقبض منها خمسين دينارا، وهو يقول:
" لقد خرج الجّنّيّ مذموما مدحورا"، وإذا شعرت بانقباضات في بطنك مرّة ثانية عودي إليّ، أوصاها بأن تعيش حياتها بشكل طبيعيّ، وأمرها بأن تغري زوجها؛ ليعاشرها في هذه الليلة.
عندما خرجت من عند أبي ربيع لامت نفسها؛ لأنّها سمحت له بمعاشرتها، وقالت في سرّها: "والله لولا أنّه علاج لقلت أنّه زنا في وضح النّهار"!
بعد عصر ذلك اليوم اجتمع عدد من الأقارب ومن الجيران المسنّين في بيت محجوب وبحضور والده، تداولوا أحاديث كثيرة ومتشعّبة، تطرّق أحدهم إلى قدرات مبروكة وأبي ربيع الخارقة، وما يتحلّيان به من تقوى وورع، وإذا بخال محجوب يسرد حكاية تقول:
" كان لأحد العمال زوجة تتظاهر بأنّها تصوم النّهار، وتقوم الليل، دائمة التّسبيح والتّهليل، وعندما كان يعود زوجها من عمله مساء مرهقا تعبا، كانت تُحضر له الطعام وفنجان قهوة، فيأكل ويشرب ثم ينام، ولا يفيق الا في صباح اليوم التّالي .
ذات يوم أخبره أحد أصدقائه بأنّ زوجته تخرج في الليل لتمارس الدّعارة، فلم يُصدّق ما سمعته أذناه ، فنصحه صديقه بأن لا يشرب القهوة مساء، ويوهمها بأنّه شربها، لأنّه كان يشكّ بأنّها تضع له فيها مادّة منوّمة.
فعل الزّوج كما قال له صديقة، فلم يشرب القهوة، سكبها من النّافذة وهي لا تراه، تظاهر بالنّوم. وبعد عدّة دقائق ارتدت الزّوجة أحسن ثيابها، وخرجت بخفّة من البيت، فقام الزّوج وأغلق الباب من الدّاخل.
وفي ساعة متأخرة من الليل عادت، ووجدت الباب مغلقا، فطرقته فقال لها زوجها:
- اذهبي الى المكان الذي كنتِ فيه، لن أفتح لكِ الباب.
فقالت له : إن لم تفتح الباب سألقي نفسي في البئر – وكانت البئر قريبة من باب الدّار – وستتحمّل أنت كافّة النّتائج المترتّبة على ذلك .
فقال لها: وماذا يهمّني؟ ألقِ بنفسك في البئر إن شئت، فحملت حجرا كبيرا وألقته في البئر، واختبأت بجانب الباب. لما سمع الزّوج صوت ارتطام الحجر بالماء، ظنّ أنّها ألقت نفسها في البئر فعلا.. فخلع ملابسه وفتح الباب وخرج مسرعا؛ لينقذها خوفا من أن يُتّهم بقتلها .. فدخلت بدورها في البيت، وأغلقت الباب من الدّاخل .. فأخذ الزّوج يطلب منها أن تفتح الباب وهي ترفض وتقول له بصوت مرتفع:
- لن أفتح لك، اذهب عند النّساء اللواتي كنت عندهنّ حتّى هذه الساعة!
وكان الزّوج المسكين عاريا. ولمّا يئس منها، وأيقن أنّها مصرّة على عدم فتح الباب له، التجأ إلى زقاق قريب يواري سوأته. وصادف أنّ لصوصا قد قاموا بسرقة خزينة الدّولة في تلك الليلة، فقامت قوى الأمن باعتقال كلّ الرّجال الموجودين في طرقات البلدة بعد أن عرفوا بحادث السّرقة، وكان من ضمن المعتقلين الزّوج المسكين.
في صباح اليوم التّالي حضر المحقّقون، وبدأوا بالتّحقيق مع المعتقلين، ولمّا جاء دور الزّوج البائس سأله المحقّق:
هل سرقت خزينة الدّولة؟
فأجاب: نعم، ولكن معي شركاء.
المحقّق: من هم شركاؤك؟ فذكر اسم رجل يتظاهر بالتّدين وحاز على منصب رفيع في تلك البلدة .. فاستغرب المحقّق من ذلك ورفع الأمر للملك؛ كي تستطيع الشّرطة اعتقال صاحب المركز الرّفيع الذي يتستّر بالدّين بمثل هذه التّهمة، فوافق الملك على اعتقاله، وعندما أحضروه وضعوه في نفس الغرفة مع الزّوج، فقال رجل الدّين للزّوج:
- أنا خطّطت واشتركت بسرقة الخزينة، لكنّك لم تكن معنا فكيف عرفت بنا؟
فأجاب الزّوج : لأن صلاتك مثل صلاة امرأتي."
ضحك الحضور عندما سمعوا الحكاية، بينما ارتعبت سعديّة التي كانت تسترق السّمع خلف النّافذة، خصوصا عندما قال خال محجوب:
- وأخشى أن تكون تقوى مبروكة وأبي ربيع مثل تقوى ذلك الشّيخ المتستّر بالدّين.
لطمت سعديّة وجهها بكفّيها، عادت إلى رشدها بعد سماع الحكاية، لامت نفسها كثيرا على فعلتها مع أبي ربيع، لم تنم وأمضت ليلتها مرعوبة خائفة من انكشاف أمرها، وانفضاح أمرها.
بينما قال محجوب لخاله:
- اتّق الله يا خال ولا تظلم النّاس الأتقياء.
الحاجّة نفيسة
تتبّعت مبروكة أخبار العروسين موسى وليلى من أبناء بلدتهما الذين يرتادون بيتها طلبا للشّفاء، استغربت أنّ والدتي العروسين لم تراجعاها ما دامت مشكلتهما قائمة، خافت أن يكون أحد "الزّناديق" قد حرّضهم عليها، وأنّهم استجابوا له فقرّروا عدم العودة إليها. لم تعرف مبروكة أنّ والدتي العروسين لم تجرؤا على العودة إليها؛ لأنّهما نسيتا وضع "البهارات" على الدّيكين، وأنّهما تجوبان البلدات المجاورة بحثا عن ديكين أسودين، كبديلين للدّيكين اللذين أكلهما موسى وليلى دون إضافة "بهارات مبروكة" عليهما عند طبخهما، وهما على قناعة تامّة بأنّ مشكلة موسى مع عروسه لم تحلّ بسبب هذا التّقصير غير المقصود، وكلّ همّهما أن لا تعلم مبروكة نسيانهما للبهارات، وتخافان من غضبها إن علمت بذلك، عندها من سيحميهما من أتباعها من الجنّ؟
لم تطل حيرة مبروكة كثيرا، فقد جاءها رجل من بلدة موسى وليلى يستجدي خدماتها لعلاج والدته العجوز التي هدّتها أمراض الشّيخوخة، فسألته:
- أين أمّك؟ لِمَ لم تحضرها معك؟ ما اسمها؟
- أمّي الحاجّة نفيسة عجوز لا تقوى على المشي، ولا تحبّ الخروج من البيت، وبإمكاني أن أصف لك ما تعاني منه.
تصنّعت مبروكة ابتسامة حائرة وتساءلت:
- كيف سأستطيع علاجها إذا لم أفحصها وأشخّص حالتها؟
حوقل الرّجل وقال على استحياء:
- هل يمكنني أن أطمع بكرمك، بأن تعوديها في بيتنا؟
- بالطّبع....فهذا هو دوري الذي كتبه الله لي في الحياة، وسألته:
- أين يقع بيتكم؟
أجابها وهو يطأطئ رأسه أمامها إجلالا واحتراما:
- قرب المسجد من الجهة القبليّة. يوجد هناك ثلاثة بيوت، بيتنا هو الوحيد المكوّن من طابقين.
هزّت مبروكة رأسها وهي تحرّك مسبحتها وقالت له:
- آه...عرفته...إذن أرسل لي سيّارة بعد صلاة ظهر يوم غد؛ لتقلّني إلى بيتكم.
- هل يجوز أن تؤجّلي الموعد إلى ما بعد صلاة العصر حتّى أعود من عملي؟
فكّرت مبروكة وقالت:
- لا داعي لحضورك...اترك مع زوجتك ثلاثة وخمسين دينارا، أنا سآخذ سيّارة وسأدفع أجرتها ثلاثة دنانير.
شكرها الرّجل وأثنى على لطفها وكرمها، وقال:
- طلبك مستجاب، سأطلب من زوجتي أنّ تجهّز لك غداء أيضا واستأذن بالإنصراف.
في اليوم التّالي وصلت مبروكة بيت العجوز بعد صلاة الظّهر بنصف ساعة، استقبلتها كنّة العجوز نفيسة بأن قبّلت يدها اليمنى ثلاث مرات، وهي تضع يدها على جبينها بعد كلّ قبلة، تحسّست رأس المرأة الشّابة وهي تدعو الله أن يرضى عنها، طلبت منها أن ترى حماتها نفيسة، قادتها الكنّة إلى الطّابق الثّاني حيث تجلس العجوز، وجدتها تجلس في غرفة تفوح منها رائحة كريهة، طرحت عليها السّلام، لكنّ العجوز لم تنتبه لها ولم تردّ التّحيّة بمثلها، اقتربت مبروكة من نفيسة العجوز وهي تسأل الكنّة عن مصدر الرّائحة الكريهة، فأجابتها الكنّة على استحياء:
- هذه العجوز يا مولاتي لا تدرك شيئا، ولم تعد تعرف أحدا، حتّى أولادها وبناتها لا تعرفهم، لم تعد تذهب إلى الحمّام لقضاء حاجتها، فتقضيها في ملابسها، نهتم كثيرا بنظافتها، نغيّر لها ملابسها ونحمّمها أكثر من مرّة في اليوم. وإذا خرجت من البيت رغم ضعفها وقلّة حيلتها إلّا أنّها لا تدرك كيف خرجت وإلى أين ستذهب؟ لذا فنحن نغلق باب الشّقّة عليها ونحتفظ بالمفتاح معنا. لقد أصيبت بالخرف منذ ستّة أشهر، أخذها ابنها إلى طبيب فقال الطّبيب بأنّها مصابة بمرض يعجز الطّبّ عن علاجه اسمه "الزهايمر"، وكتب لها دواء عندما نعطيها إيّاه تنام لساعات.
حوقلت مبروكة واقتربت من العجوز، جلست القرفصاء بجانبها، أمسكت يدها وسألتها:
- هل تعرفينني يا خالة نفيسة؟
لم تجبها العجوز وعندما شدّت على يدها وكرّرت سؤالها التفتت إليها وقالت:
- نعم أنت الغضيبة سلوى!
التفتت مبروكة إلى الكنّة وسألت:
- من هي الغضيبة سلوى؟
- سلوى بنتها موجودة منذ خمسة عشر عاما مع زوجها المهاجر إلى دولة أجنبية.
وقفت مبروكة وقالت للكنّة هيّا بنا إلى صالة البيت، وضعت الكنّة الطّعام على طاولة المائدة، دعت مبروكة لتناول غدائها. بعدها غلت فنجاني قهوة لها ولمبروكة، احتستا القهوة والمبروكة تحرّك خرزات مسبحتها وتتمتم بكلمات غير مفهومة، وعندما سألتها الكّنّة عن مرض حماتها أشارت لها مبروكة بيدها كي تسكت، فسكتت. بعد حوالي ربع ساعة قالت مبروكة:
- هذه العجوز في رأسها ميدان سباق، يتصارع فيه عدد من الجنّ الكفّار مع عدد من الجّن المؤمنين، ولم يحسم الصّراع بينهما، الجنّ الكفّار يريدون أن يبعدوها عن إيمانها؛ لتموت كافرة والعياذ بالله، والجنّ المؤمنون يشفقون عليها ويحاولون حمايتها، وبإمكاننا مساعدة المؤمنين بضرب العجوز؛ لنخرج الكفّار من رأسها، لكنّ جسدها لا يحتمل، وهي في أواخر عمرها، فاتركوها وشأنها، وما عليك سوى رعايتها، ليحفظ الله لك أبناءك، وليثيبك الله على تعبك عليها، حتّى ينتهي أجلها، واستأذنت مبروكة كي تنصرف، فأوقفتها الكنّة ونقدتها ثلاثة وخمسين دينار وهي تشكرها.
وجدت مبروكة سائق سيّارة الأجرة ينتظرها بعد أن أوقف سيّارته تحت شجرة الخرّوب المعمّرة قريبا من البيت؛ ليستظلّ بظلّها، فتح كرسيّ القيادة إلى آخره، فتح نوافذ سيّارته، وعلا شخيره. استيقظ عندما فتحت مبروكة باب السّيّارة وطبقته خلفها بقوّة وهي تحوقل، فرك عينيه وسأل:
- إلى أين يا مولاتي؟
- أعدني إلى بيتي.
بعد حوالي مائتي متر مرّت السّيّارة بعائشة "أمّ موسى"، التفتت المرأة ورأت مبروكة، فصاحت بصوت مرتفع: حاجّة مبروكة.
أمرت مبروكة السّائق بالتّوقّف، ركضت أمّ موسى باتّجاهها، مدّت يدها تصافح الحاجّة مبروكة، التي أخرجت يدها من نافذة السّيّارة، فقبّلتها أمّ موسى وهي تقول:
- نحن بانتظارك، لِمَ لم تمرّي علينا؟ هل تستطيعين زيارتنا الآن؟
فكّرت مبروكة قليلا وقالت:
- هذا اليوم لا وقت لديّ، سأزوركما غدا بإذن الله في حدود العاشرة صباحا.
وأضافت: أخبري ربيحة "أمّ ليلى"؛ كي تنتظرني هي الأخرى عندكم، وأمرت السّائق أن يواصل طريقه إلى بيتها.
المشكلة في ليلى
رغم أنّ ليلى تعيش حالة قلق غير مسبوقة إلّا أنّها تتظاهر بغير ما هي عليه، تلبس أجمل ثيابها، تتزيّن بما يليق بها كعروس، تبتسم للآخرين، تمازحهم، وكأنّها تعيش حياة طبيعيّة.
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على زفافها يزداد قلقها يوما بعد يوم، فما دام عريسها موسى فاقدا فحولته، فمن المستحيل أن تستمرّ حياتها معه، تتمنّى كلّ دقيقة أن تُحلّ مشكلته لكن دون جدوى، رأت أنّها تهين نفسها وتتعدّى حدود حياء العذارى في محاولاتها لإغرائه، فقالت بينها وبين نفسها:" تزوّجنا طلبا للسّتر صرنا نتحسّر على أيّام العزوبيّة".
لاحظت والدتها قلقها فقالت لها:
- "المكتوب على الجبين بتشوفه العين"، هذا نصيبك في هذه الحياة، لا تكترثي يا بنيّتي، إذا استمرّت مشكلة موسى، فالشّباب كثيرون، ستتطلّقين منه وسيأتيك نصيبك، وكما قال والدك سنصبر عليه مدّة سنة كما يقول الشّرع، فإن لم يفلح "ذنبه على جنبه".
شعرت ليلى بغصّة دفعتها إلى التّقيّؤ اللا إرادي عندما سمعت كلمة الطّلاق، فكيف ستكون مطلّقة وهي عذراء، لاحظت والدتها ذلك وسألتها:
- ماذا بك؟
ردّت ليلى والحزن ظاهر على وجهها:
- لا شيء يا أمّي....فالطّلاق قد يكون نعمة.
عندما وصلت الحاجّة مبروكة بيت أبي موسى، كانت أمّ موسى تجلس مع سلفاتها وجاراتها، تحت شجرة التّين القريبة من البيت، وقفن جميعهنّ لاستقبال مبروكة، قبّلن يدها وهي تدعو لهنّ برضا الله وستره. حاولت النّساء الانصراف منعا للإحراج، لكن مبروكة قالت لهنّ بأنّه لا توجد أسرار تخفى عليهنّ، فتحلّقن حولها خاشعات بشكل دائريّ، وهي تجلس ساندة ظهرها إلى جذع التّينة وتمدّ ساقيها أمامها، فسألت أمّ موسى:
- أين العروسين؟ أين ربيحة "أمّ ليلى"؟
- موسى في عمله وربيحة عند ابنتها.
رفعت صوتها تنادي ربيحة، أطلّت ليلى من نافذة البرندة على صوت حماتها التي طلبت منها أن تخبر والدتها بقدوم الحاجّة مبروكة. عندما رأت ليلى مبروكة تعوّذت بالله من الشّيطان الرّجيم، وشتمت عورتها، فنهرتها والدتها وهي تنتعل حذاءها وتخرج مسرعة، رأت ليلى والدتها وهي تجلس القرفصاء أمام مبروكة وتقبّل يدها، فغضبت وتساءلت عن أسباب هذه الخزعبلات التي تجبر امرأة أن تقبّل يد امرأة أخرى تصغرها عمرا وقدرا، وشتمت في سرّها مبروكة التي تواصل غيّها وتقبل بذلك.
التفتت مبروكة إلى ربيحة وعائشة وسألتهما:
- هل أكل العروسان الدّيكين، والتزما بما قلتُه لكما؟
طأطأتا رأسيهما وكلّ منهما تنتظر الأخرى كي تجيب، فأعادت عليهما السّؤال مرّة أخرى بلهجة آمرة، فردّت عليها ربيحة:
- نعم...لقد طبخنا الدّيكين كما قلتِ، أكل كلّ منهما ديكه، ودفنّا ما تبقى منهما، لكنّنا نسينا أن نضع "البهارات" التي أعطيتِنا إيّاها. ومنذ ذلك الوقت ونحن نبحث عن ديكين ريشهما أسود؛ لنصحّح الخطأ الذي وقعنا فيه.
واصلت مبروكة تحريك خرزات مسبحتها، وتتمتم دون أن ترفع نظرها، بينما النّساء الأخريات ينظرن إلى وجوه بعضهنّ، وكلّ منهنّ تتساءل بينها وبين نفسها عن السّرّ في الدّيكينّ، ولم تجرؤ أيّ منهنّ على السّؤال علنا عن هذا السّرّ، لكنّ مبروكة وبعد مرور حوالي ثلاث دقائق قالت:
- هذا ما توقّعته.
فتجرّأت الحاجة صبحة سلفة أمّ موسى وسألت:
- ماذا توقّعت يا مولاتي؟
ردّت الحاجّة مبروكة بهدوء رغم استغراب الأخريات من جرأة صبحة وسؤالها:
- توقّعت أنّ ذبح الدّيكين وطبخهما لم يتمّ حسب الأصول والتّعليمات.
ضحكت الحاجّة صبحة وقالت مازحة:
- إذا كانت الدّيوك تنشّط فحولة الرّجال، فعلى كلّ واحدة منكنّ أن تكثر من ذبح الدّيوك لزوجها، لكن هل هناك ديوك أو دجاج لتنشيط أنوثة النّساء؟
ضحكت بعض النّساء في حين كتم البعض الآخر ضحكته احتراما لمبروكة وهيبة منها. لكنّ مبروكة نظرت إلى الحاجّة صبحة نظرة فيها تساؤلات وقالت لها:
- لا داعي لهكذا مزاح يا صبحة، وإذا كنت بهذا الشّبق فعليك أن تعرفي كيف تتدبّرين أمورك مع زوجك.
فتحت الحاجّة صبحة فمها؛ لتقول شيئّا، لكن أمّ موسى قالت لها:
- اتّقي الله يا صبحة واسكتي.
واصلت الحاجّة مبروكة التّسبيح بصمت، ثمّ قالت:
- نسيانكما للبهارات وعدم وضعها على الدّيكين لم يكن أمرا عاديّا، فله أسبابه التي لا علاقة لكما به!
انتبهن لما قالته....نظرن إليها بعيون مفتوحة وانتظرن معرفة أسباب النّسيان، لكنّها واصلت صمتها المريب، وما لبثت أن طلبت من عائشة أن تعدّ قهوة لجميع الحاضرات، وطلبت منها أن تقدّمها في فناجين داخلها أبيض ناصع لونه.
عندما أحضرت عائشة القهوة بدأت بتقديمها للحاجّة مبروكة التي التفتت لربيحة وقالت لها:
- خذي فنجان قهوة لبنتك ليلى، اجلسي بجانبها واطلبي منها أن تحتسيه حتى النّهاية، وبعدها أحضري لي الفنجان قبل أن تغسليه.
سألت ربيحة بعفويّة:
- لِمَ لا ننادي ليلى؛ لتجلس معنا، وتحتسي القهوة أمامنا.
نظرت إليها الحاجّة مبروكة نظرة استغراب، حوقلت وقالت لها:
- نفّذي ما أقوله يا ربيحة، وإن كنت تعِبة سآخذ أنا الفنجان لعائشة!
همّت الحاجّة مبروكة بالقيام؛ لتوصل فنجان القهوة لليلى، إلّا أنّ النّساء المتواجدات أمسكن بها، وهنّ يستغفرن ربّهنّ على ما قالته ربيحة، التي قفزت هي الأخرى وحملت الفنجان لبنتها، وهي تتساءل عن الذّنب الذي اقترفته!
عندما رأت ليلى والدتها تدخل إليها وفي يدها فنجان قهوة، ابتسمت وقالت:
- إذا كنت تريدين احتساء القهوة فلِمَ لم تطلبي منّي أن أعدّها لك؟ من أعدّ هذه القهوة؟
- هذا فنجان قهوة أعدّته حماتك لك بناء على طلب مبروكة.
ضحكت ليلى وقالت ساخرة:
- هذه هي المرّة الثّانية التي تخدمني فيها مبروكة دون أن تدري، ففي المرّة الأولى أوصت بطبخ الدّيك وتقديمة لي.
الأمّ: لا داعي لهذا الكلام يا ليلى، فمبروكة امرأة تقيّة صالحة، لها قدرات خارقة، وإذا ما سمعتْ كلامك فربّما تلحق بك الأذى.
عادت ليلى تضحك وتتساءل:
- من أين أتتها القدرات الخارقة؟ كيف تصدّقون امرأة عاهرة محتالة كهذه؟
وضعت ربيحة كفّ يدها على فم بنتها ليلى تغلقه وهي تقول:
- اخرسي يا بنت فهكذا كلام سيلحق بك الأذى.
أبعدت ليلى يد والدتها عن فمها وقالت وهي تضحك:
- "رزق النّصّابين على الهبايل والكلّ رزقه على الله."
نهرت ربيحة ابنتها وعادت تطالبها بألّا تتلفّظ بهكذا كلام، هدّدتها بأن تصفعها على وجهها إن لم تسكت.
سكتت ليلى خضوعا لرغبة والدتها، لعنت في سرّها حظّها العاثر، حتّى صارت على لسان كلّ من يعرفونها. استغربت التقاليد التي تسمح للنّاس أن يتساءلوا، وأن يتدخّلوا في خصوصيّات الآخرين، حتّى العلاقة الحميمة بين الزّوجين لا تنجو من أقاويل النّاس، احتست قهوتها دون أن تتكلّم، حملت والدتها فنجان القهوة وعادت به إلى مبروكة.
قلبت مبروكة فنجان القهوة على وجهه في الصّحن الذي يجلس عليه، أمسكت صحن القهوة بيدها اليمنى والنّساء ينظرن إليها، بعضهنّ خائفات والبعض يتغامزن ويكتمن ضحكاتهنّ، وضعت مبروكة الصّحن على الأرض بمحاذاة جانبها الأيمن، نقلت مسبحتها من يدها اليسرى إلى اليمنى، راقبت وجوه النّساء وحركاتهنّ، تجاهلت من يتغامزن، ركّزت على من رأت علامات الخوف على وجوههنّ، لم تعط الحاجّة صبحة الموقف أيّ اهتمام، وسرحت بأحاديث جانبيّة مع من يجلسن بجوارها، هناك ثلاث نساء شابّات يجلسن مصغيات، يبدو من ملامحهنّ أنّهنّ غير مؤمنات بقدرات الحاجّة مبروكة، لكنّهنّ لا يجرؤن على الحديث في هذا المشهد خوفا من حماواتهنّ الموجودات، فليس من اللائق أن يتحدّث الصّغار بوجود الكبار! إحداهنّ حمدة كنّة الحاجّة صبحة لم ترتح بجلستها، أحيانا كانت تضغط بإبهامها وبإصبعها الأوسط على صدغيها. مبروكة تراقب الجميع بطريقة ذكيّة، ترصد الحركات والابتسامات والهمسات، تخزّنها في ذاكرتها ولا تعقّب عليها.
قبل أن تمسك مبروكة فنجان القهوة الذي احتسته ليلى وتنظر داخله، تنحنحت، تعوّذت بالله من الشّيطان الرّجيم، بسملت وحمدت الله وقالت:
- "لا حياء في الدّين" يا أخواتي، من كانت منكنّ حائضا أو على نجاسة، عليها أن تغادر جلستنا.
سألتها الحاجّة صبحة مازحة:
- هل مطلوب منّا أن نكون على وضوء يا مولاتي؟
الحاجّة مبروكة: كلامي واضح، ولم أقل من لم تكن على وضوء.
لم تتحرّك حمدة من مكانها مع أنّها حائض، حماتها الحاجّة صبحة تعرف ذلك، نظرت إليها وغمزتها بإشارة منها كي تغادر، لكنّها تجاهلت حماتها في محاولة منها لاختبار مبروكة إن كانت تعلم أم لا، لكنّ مبروكة فهمت ما ترمي إليه الحاجّة صبحة، انتظرت قليلا وعادت تطلب من النّساء الحائضات أو من كنّ على نجاسة أن يعتزلن مجلسها، لكنّ أيّا منهنّ لم تتحرّك من مكانها.
حوقلت الحاجّة مبروكة وقالت:
- في هذه الجلسة نساء حائضات وأخريات على جنابة لم يغتسلن منها، هل سيغادرننا طواعية، أم سأغادر أنا، لأنّني غير مستعدّة أن أكون سببا في إلحاق الأذى بأيّ إنسان؟
غادرت الحاجّة صبحة وكنّتها وامرأتان أخريان الجلسة، بعد أن ابتعدن قليلا، التفتت حمدة وراءها وتساءلت:
كيف علمت مبروكة أنّي حائض. لقد لاحظتُ ذلك من نظراتها،؟ وتساءلت الأخريات بمن فيهنّ الحاجّة صبحة أيضا حول كيفيّة معرفة مبروكة أنّهنّ لسن على طهارة!
تناولت مبروكة فنجان القهوة ونظرت داخله وهي ترفعه بيدها اليمنى، لفّته بشكل دائريّ عدّة مرّات وهي تردّد:
- يا لطيف...يا لطيف!
اصفرّ وجه ربيحة والدة ليلى، بينما حملقت عائشة "أمّ موسى" بالحاجّة مبروكة، متلهّفة لسماع ما ستقوله. لكنّها لم تقل شيئا، وضعت الفنجان جانبا وعادت تحرّك خرزات مسبحتها. الصّمت يخيّم على المكان.
بعد حوالي خمس دقائق مرّت على ربيحة وعلى عائشة وكأنّها خمس ساعات، استأذنت مبروكة من الحاضرات؛ كي تنفرد بربيحة وعائشة، قامت ومشت باتّجاه بيت أبي موسى، لم تسمح للنّساء الأخريات بالمغادرة، بل أكّدت عليهنّ أن تبقى كلّ منهنّ في مكانها.
في غرفة أمّ موسى همست الحاجّة مبروكة لربيحة وعائشة بصوت مبحوح:
- ليلى لديها مشكلة كبيرة، فهناك جنّي كافر يتلبّسها، يعشقها ويريد الزّواج منها، المسكينة لا تعلم ذلك، لكنّ هذا الجنّي هو من يمنع موسى من معاشرة ليلى، وموسى لا يعرف ذلك، لا يعلم شيئا، لكنّه ما أن يهمّ بالاقتراب من ليلى، حتّى يعيق هذا الجنّيّ حركته، ويقيّد قواه.
ارتجفت ربيحة وعائشة من شدّة الخوف، سألتا مبروكة بصوت واحد وهما يبسملن:
- هل يوجد حلّ لهذا الجنّيّ اللعين؟
الحاجّة مبروكة: هناك حلّ مؤلم، وهو أن يقوم موسى ووالد ليلى أو شقيقها بضرب ليلى بخيزرانة وهما يقرأان المعوذّتين، وبإمكانكما المشاركة بضربها، وأنا سأكون متواجدة معكم، لأستحضر جنّيّا مؤمنا؛ كي يساعد بطرد الجنّيّ الكافر من جسد ليلى.
عائشة: وهل سيخرج هذا الجنّيّ يا مولاتي.
مبروكة: إن خلصت النّوايا سيخرج.
عائشة: وإن لم يخرج ما العمل؟
مبروكة: إن لم يخرج خلال أسبوع، فهذا يعني وجود سحر يمدّه بالقوّة، ويربط موسى عن معاشرة ليلى.
ربيحة: وهل هناك حلّ لهذا السّحر؟
مبروكة: نعم سأعمل "المندل"، وسأستحضر الجنّ المؤمنين، ليأتوني بالسّحر.
قالت ربيحة ودموعها تنهمر من عينيها:
- قلبي لا يطاوعني يا مولاتي على ضرب بنتي ليلى أو مشاهدة عمليّة ضربها، فهل أستطيع عدم المشاركة والحضور؟
حوقلت مبروكة وقالت:
- أعرف حنان الأمّ ورقّة قلبها على أبنائها، لكنّ ضَرْبَ ليلى ليس عقابا لها أو اعتداء عليها -لا سمح الله-، بل هو علاج لها؛ لتحريرها من سطوة الجنّيّ الكافر اللعين، الذي يريدها زوجة له.
عائشة: متى سنبدأ العلاج؟
مبروكة: أخبرا موسى ووالد ليلى، وإيّاكما أن تعلم ليلى شيئا عن هذا الموضوع، ومتى يوافقان سنباشر عملنا.
عادت ربيحة تسأل وهي ترتجف خوفا على بنتها ليلى:
- لكن يا مولاتي كيف يتزوّج الجنّ من الإنسان؟
قالت مبروكة بلغة العالم الواثق:
- نحن لا نرى الجنّ، لكنّهم يروننا، والجنّيّ الذي يرى إنسانة حسناء يشتهيها، ويتسلّل إليها ويعاشرها معاشرة الأزواج، وكذلك تفعل الجنّيّات مع الرّجال الوسيمين، لكن لا الرّجال ولا النّساء الذين يُبتلون بمعاشرة الجنّ يجرؤون على التّصريح بذلك، وبعضهم يرتعب ممّا يحصل معه ولا يتذكّره.
عادت ربيحة تسأل:
- من يقوم بعقد النّكاح بين الإنس والجنّ؟ وإذا كان هناك زواج بين الإنس والجنّ فهل يحلّ للمرأة أن تجمع بين زوجين أحدهما إنسيّ والثّاني جنيّ؟
مبروكة: أنا لم أقل زواجا بين الإنس والجنّ، وإنّما قلت معاشرة كالأزواج، "فالمتعة حاصلة، فقد يتمتّع الإنسي بالجنّيّ، والجنّيّ بالإنسيّ".
ربيحة: أليس هذا زنا يا مولاتي؟
مبروكة: لا أحبّذ هكذا أسئلة خوفا من الوقوع في المحظور! لكنّي أؤكّد وجود الجنّ ومنهم الكّفار ومنهم المؤمنون، وبالتّأكيد فإنّ الجنّ الكفّار هم من يعاشرون الإنس؟
ربيحة: وهل تحمل النّساء من الجنّ؟
مبروكة: قلت لكما إنّ هكذا أسئلة توقعنا في المحظور، وما يهمّنا هنا هو أن نعمل على إخراج الجنّ الكافر من جسد ليلى، وأضافت:
لم يعد لديّ وقت، سأغادر الآن، وسأنتظر الرّدّ منكما عند موافقة موسى وأبي ليلى على تحديد موعد لعلاج ليلى.
وسوم: العدد 1024