الوَبْش
تنويه: : الأسماء الواردة في هذه الرّواية خياليّة، وإن وجدت أسماء حقيقيّة مشابهة على أرض الواقع فهي محض صدفة.
ضياع
دخلت عائشة شقّة ابنها موسى كمن يدخل غرفة غسيل الموتى، تتلاطم في رأسها أحداث كثيرة، فهي في حيرة من أمرها بخصوص كنّتها ليلى، فهل طردها إلى بيت والدَيها سيكون لصالح موسى زوجها أم ضدّه؟ وسريعا حسمت الأمر وهي تقول في نفسها: لتذهب إلى الجحيم، "لتبك كلّ الأمّهات ولا تبكي أمّي"، ولو كان وجود ليلى لصالح موسى، لما مرّ ما يقرب العام على زواجهما دون أن يستطيع معاشرتها.
دخلت الشّقّة تريد تنظيفها وترتيبها، جلست قليلا في البرندة طلبا للرّاحة، صحيح أنّها لم تقم بعمل جسديّ يرهقها، لكنّ التّفكير بمصير ابنها موسى أرهقها، أسندت ظهرها، مدّت ساقيها على "تربيزة" ترتفع إلى مستوى الكنبة، نظرت إلى الطّاولة، رأت ورقة ترفرف مع نسيم الصّباح، لكنّ المنفضة التي تعلو جانبها تمنعها من السّقوط، على الورقة قلم حبر جافّ يتمايل معها، جمعت قّوتها ووقفت؛ لترى ماهيّة هذه الورقة، عندما تناولت الورقة قرأت:
" والديّ العزيزين:
أستميحكم عذرا فما عدت قادرا على الحياة هنا بسبب حماقات فرضتموها عليّ، لست "طواشى" كما حسبتموني، أحببت ليلى، لكنّني لم أستطع معاشرتها لأسباب لا أعرفها، لا تخافوا عليّ ولا تسألوا عنّي، ستصلكم منّي رسائل في الوقت المناسب، سأغادر هذه البلاد إلى بلاد أخرى؛ لأستردّ حرّيّتي، ولأهرب من كلام ونظرات أناس تلاحقني دون ذنب اقترفته.
ابنكم موسى".
لطمت أمّ موسى وجهها بيديها وهي تصرخ بشكل هستيري:
كلّه من أمّ السّحورات وابنتها.
هرع زوجها إليها يستطلع الأمر، وجدها تصرخ لاهثة ككلب، تشتم وتقول:
" يا سواد نهارك، ويا طول ليلك يا ربيحة أنت والمسخوطة بنتك ليلى"!
صاح بها زوجها: ماذا جرى لك يا امرأة؟ هل جننت؟
مدّت إليه الورقة دون أن تتكلّم، قرأ ما كتبه ابنه موسى وقال:
اهدئي....لا أريد أن أسمع صوتك، ما ذنب ليلى ووالدتها؟ المشكلة عند ابنك الطّواشى، لا تخافي عليه، فـ " قعقورة الخراء مانعة"، سيغيب يوما أو أسبوعا عند أحد الأصدقاء على الأكثر، لأنّه ما عاد قادرا على النّظر في وجوه النّاس، وسيعود مطأطئا رأسه كما غادر.
ردّت أمّ موسى بعصبيّة بائنة:
كلّه من أمّ السّحورات وابنتها، ليلى فتاة يتلبّسها جنّيّ كافر، وهو الذي يمنع موسى من معاشرتها، لم تكتف بالبشر، فلجأت إلى السّحر والجنّ.
أبو موسى: دعيك من هذا الكلام الفارغ يا عائشة، فالمشكلة عندك وعند ابنك.
أمّ موسى: أيّ مشكلة عندي وعند ابني يا رجل؟ ألم تسمع ما قالته الحاجّة مبروكة، فقد أكّدت أنّ جنّيا كافرا يتلبّس ليلى، ويعيش في رحمها.
حوقل أبو موسى وقال:
" النّاس بتزوّجوا عشان السّتر، واحنا تزوّجنا وصرنا نقول:" سقى الله على أيّام العزوبيّه والفضايح". مبروكة محتالة ونصّابه. وإيّاك أن تتكلّمي بهذا الكلام أمام أيّ إنسان.
أمّ موسى: وماذا قلتُ أنا؟
أبو موسى: لا أريد أن تذكري اسم ليلى أو اسم والدتها على لسانك، فأنا في غنى عن الوقوع في مشاكل مع النّاس.
أمّ موسى: عن أيّ مشاكل تتحدّث يا رجل؟ والله صدق من قال:" يا غبرا يا مَدْهِيَّه حطّيتِ اللي فيك فيَّ".
أبو موسى: انتهى الكلام، وإن لم تغلقي فمك عن هكذا كلام، فبيت أهلك قريب، ولن تبقي على ذمّتي، وليتحمّل أهلك حماقاتك.
ليلى:
تجلس ليلى في بيت والديها وحدها تفكّر بما جرى وما سيجري لها، بكت حظّها العاثر، صحيح أنّها أحبّت موسى، وتمنّت لو أنّه استطاع معاشرتها؛ لينجبا البنين والبنات مثل بقيّة خلق الله، لكن "المكتوب على الجبين بتشوفه العين"، وها هي ترى نصيبها، فموسى لم يستطع معاشرتها، أشفقت عليه كثيرا وهي تراه مكسور الخاطر، لكنّها هي الأخرى لم تسلم من نظرات النّاس، وتعليقات النّساء اللواتي يحمّلنها المسؤوليّة. صحيح أنّها ضحكت كثيرا من سخافات البعض ممّن استمعن للمحتالة الحاجّة مبروكة، وصدّقنها عندما قالت بأنّ جنّيّا كافرا يتلبّسها ويستوطن رحمها، لكنّها لم تستطع إقناعهنّ بحقيقة الحاجّة مبروكة التي كانت تحتال عليهنّ وتأخذ نقودهنّ القليلة، وقد وجدت نفسها وكأنّها متّهمة بشيء لا يد لها فيه، ولا تقوى على حلّه. لقد تخطّت حدود العذارى وما تربّين عليه من حياء، في محاولتها لمساعدة موسى؛ كي يتحرّر من عقدته، لكنّها لم تنجح في ذلك، وازدادت حيرتها عندما غادر موسى بيته إلى المجهول، وانتشرت إشاعات وصلت إلى مسامعها بأنّ موسى هرب خوفا منها ومن الجنّيّ الكافر الذي يتلبّسها، ويمنعه من معاشرتها، ولا حول لها ولا قوّة؛ لتدحض هذه الخزعبلات.
يتعاطف أشقّاؤها معها، خصوصا عمر، الذي يعرف ضائقتها، ويحاول التّخفيف عنها فيمازحها قائلا:
"نصّ الألف خمسميه"، و"للي بنزل من السّما بتتلقّاه الأرض". ستتطلّقين منه قريبا، وستجدين نصيبك مع من هو أحسن منه.
تتصنّع ابتسامتها التي لا تفارق محيّاها أمام الجميع، لكنّها لا تستسيغ أن تصبح مطلّقة وهي عذراء! فشرط الزّواج الأوّل لم يتحقّق لها عند زواجها من موسى، وقد مرّ على زواجه منها حوالي عام وهي لا تزال عذراء، فهل ستحمل لقب العذراء المطلّقة؟
إلى المحكمة الشّرعيّة:
اجتمعت أسرة ليلى ذات مساء، قال والدها:
لقد مرّ عام على زواج ليلى من موسى، وخلال هذا العام كان موسى فاقدا ذكورته، وكان مثله مثل ليلى، وها هو يختفي في مكان لا نعلمه، كأنّه يهرب من واقعه، لكن ليلى لن تبقى رهينة له، وقد صبرت عليه عاما كاملا، فالذي حلّل الزّواج حلّل الطّلاق.
تنهّدت والدة ليلى وقالت:
لا حول ولا قوّة إلّا بالله.
التفت الأب إلى أبنائه وسألهم:
ما رأيكم؟
قال محمّد شقيق ليلى:
أنا مع ليلى فيما تراه مناسبا لها، والتفت إليها يسألها رأيها.
ردّت ليلى على استحياء:
ما ترونه مناسبا أقبل به.
ضحك عمر وقال:
القضيّة لا تحتاج إلى ذكاء ولا إلى مشورة، فهكذا حالات يجري التّفريق بين العروسين بعد مرور عام على زواجهما.
تنحنح الأب وابتسم عندما سمع كلام عمر، وقال وهو يحرّك خرزات مسبحته:
كلام عمر صحيح، لم يكن من جانب ليلى ولا من جانبنا أيّ تقصير. التفت إلى ابنه عمر وقال:
خذ أختك غدا إلى محام؛ كي يرفع دعوة تفريق في المحكمة الشّرعيّة، واشرح للمحامي أنّ موسى لم يستطع معاشرة عروسه، وأنّه اختفى قبل حوالي شهر إلى مكان لا نعرفه بعد أن ترك رسالة لوالديه يقول فيها بأنّه سيسافر إلى بلد أجنبيّ، وأنّ ليلى تريد الطّلاق؛ لتملك حرّيّتها.
التفت عمر إلى شقيقته ومازحها قائلا:
هل تريدين العودة إلى أمّ موسى؛ لتأتيك بالفتّاحة مبروكة؛ كي تخرج الجّن الذي يتلبّسك؟
ضحكت ليلى وردّت عليه ضاحكة:
اذهب أنت إلى أمّ موسى واستشرها بالأمر، لأنّ مبروكة تريدك أن تشارك معها ومع عائشة وابنها موسى بضربي!
ضحك عمر بملء شدقيه وقال يمازحها:
هذه المهمّة كانت ملقاة على كاهل الوالد، ولولا أنّك محظوظة؛ لكنت الآن في رحاب الله، أو مشوّهة بسبب الضّرب.
ردّت عليه ليلى تمازحه هي الأخرى وقالت وهي تغمزه بعينها اليسرى:
الوالد يعي ما يفعل، ويستحيل أن يصدّق خزعبلات الحاجّة مبروكة، وأنا متأكّدة أنّه لم يوافق على ضربي.
ابتسم عمر وضحك وهو يقول:
"الّلي بِعرف بِعرف والّلي ما بِعرف بقول في الكفّ عدس".
التقطت ليلى المثل سريعا وقالت:
وأنت تعرف أنّني لا أؤمن بهكذا خزعبلات، ولو امتدّت يد عليّ لكسرتها.
غمز عمر بعينه وهو يلتفت إلى أبيه وقال:
وهل أنت على استعداد لكسر يد أبيك؟
ضحكت ليلى وقالت:
أبي لم يضربني يوما في حياته ولن يفعلها.
وماذا بالنّسبة لأمّك لو ضربتك؟
ضحكت ليلى قهقهة وقالت:
أمّي حتّى وإن ضربتني لن تقسو عليّ، ولو ضربتني بناء على طلب المحتالة مبروكة، لضربت مبروكة ضربا مبرحا.
مخاوف:
كثيرون افتقدوا الحاجّة مبروكة، عندما ارتادوا بيتها طامعين بمساعدتها لهم، لكنّهم لم يجدوها، عندما يستمرّون في قرع باب بيتها، فجيرانها يخبرونهم أنّها رحلت إلى مكان لا يعرفونه، وممّن طرقوا بابها عائشة "أمّ موسى"؛ في محاولة منها؛ كي تعرف المكان الذي يتواجد فيه ابنها موسى، بعد أن غادر البيت إلى مكان مجهول، هربا من الحالة النّفسيّة السّيّئة التي وصل إليها بعد أن فشل في معاشرة عروسه ليلى.
احتارت أمّ موسى بتفسير رحيل الحاجّة مبروكة، مع أنّها لم تصدّق أنّها رحلت كما أخبرها جيرانها، عادت إلى بيتها مهمومة " تضرب أخماسا في أسداس"، وعندما رآها زوجها سألها:
ما بك يا امرأة؟
ردّت عليه بتثاقل:
خلّيها على الله.
لم يستوعب أبو موسى جواب زوجته فعاد يسألها:
أخبريني يا امرأة، هل حصل معك أمر سيّء؟
حوقلت أمّ موسى وقالت بصوت منخفض:
ذهبتُ إلى بيت الحاجّة مبروكة؛ لأستعين بها على معرفة المكان الذي ذهب إليه موسى، ولأعرف شيئا عنه، فأخبرني جيرانها أنّها رحلت إلى مكان لا يعرفونه، وقالوا بأنّهم سألوها عن المكان الذي رحلت إليه فأجابتهم: في بلاد الله الواسعة. وهذا كلام غير مقنع، فامرأة بمواصفات الحاجّة مبروكة يستحيل أن تغادر مكانها إلّا لسبب قاهر.
فكّر أبو موسى قليلا وتساءل:
ما المستحيل في ذلك؟ فكثير من النّاس يرحلون إلى المكان الذي يجدون سعادتهم فيه.
ابتعلت أمّ موسى ريقها وقالت:
أسأل الله أن يكون رحيلها حقيقة.
انتبه أبو موسى لما قالته زوجته، "لعب الفار في عبّه" وسأل:
ماذا تقصدين بكلامك هذا يا امرأة؟ هل تشكّين بشيء غير الرّحيل؟
صمتت أمّ موسى قليلا والحيرة بادية على وجهها وقالت:
الحاجّة مبروكة اسم على مسمّى، فهي امرأة مباركة، لها قدرات عجيبة، وإن رحلت حقيقة فهناك أمر ما وراء رحيلها، وأخشى أن تكون قد تعرّضت لمكروه، خصوصا وأنّ كثيرين كانوا يشيعون بأنّ لديها أموالا كثيرة.
فكّر أبو موسى هنيهة، دارت في رأسه أفكار كثيرة، تذكّر أنّ عمر شقيق ليلى قد أعطاه ألف دينار وقال بأنّ مبروكة أرسلتها له معه، وهي مقدار المبالغ التي تقاضتها منهم، مقابل علاجها لابنهم "الطواشى" موسى. وتساءل إذا كان عمر قد طمع بأموال مبروكة فقتلها واستولى على مالها، وأخفى جثمانها.
سألته زوجته:
بِمَ تفكّر يا حمدان؟
تنهّد وهمس لها:
إن قُتلت مبروكة فإنّ قاتلها هو عمر شقيق ليلى والعلم عند الله.
بُهتت عائشة" أمّ موسى" وسألت:
كيف عرفت ذلك؟
أجابها متردّدا بعد أن أوصاها بعدم الحديث في الموضوع مع أيّ إنسان:
لديّ دليل على ذلك إن ثبت أنّ مبروكة قد قُتلت.
عندما علم أبو ربيع باختفاء الحاجّة مبروكة، لم يُصدّق هو الآخر أنّها رحلت إلى مكان آخر، فمن المستحيل أن ترحل دون أن تُخبره بذلك، فعلاقته معها أبعد بكثير من عملهما في الشّعوذة، واستذكر أنّها كانت خليلته لسنوات، قبل زواجها وبعده، كما أنّها كانت تُحيل إليه بعض قضايا النّاس الذين كانوا يرتادون بيتها.
فكّر هو الآخر باحتمال أن يكون أحدهم قد استولى على أموالها واستدرجها إلى مكان خال، وقتلها ودفنها. فكّر بالشّخص الذي اتّخذته خليلا لها يطفئ نيران شهواتها بعد وفاة زوجها، فهو يعرفه جيّدا ويعرف أنّها كانت تنقده مبالغ ماليّة مقابل معاشرته لها. وضع احتمالا بأن يكون أحد جيرانها وراء اختفائها، خصوصا بأنّه لم يكن لها أهل ولا أقارب، وإن وُجدوا فإنّهم لا يتعرّفون عليها، ولا توجد لهم أيّ علاقة بها. لم يغب عن باله أن يكون أحد زبائنها قد اكتشف حقيقتها، وتخلّص منها بعد أن قبضت منه مبالغ ماليّة، دون أن تحلّ له مشكلته، وإن ثبتت صحّة هذا الاحتمال فإنّ الدّور القادم عليه. أصيب أبو ربيع بالهلع وهو يفكّر بهذا، أشغل فكره في البحث عن الحقيقة، استبعد فكرة تقديم شكوى إلى الشّرطة حول اختفاء مبروكة، فماذا سيقول للشّرطة لو قدّم شكوى؟ وماذا سيجيبهم لو سألوه عن أسباب اهتمامه بها؟ وربّما سيكون هو المتّهم الأوّل لو فعلها، واللجوء إلى الشّرطة في هكذا حالات سيفتح عليه أبوابا هو في غنى عنها.
اضطرب أبو ربيع وهو يفكّر بمبروكة وما آلت إليه حالها، صار عصبيّ المزاج، لم تعد له شهيّة بطعام أو شراب، خفّ نومه، لم يعد يداوم في عيادته، اعتصم في بيته، طلب من زوجته وأبنائه أن يخبروا من يطرق بابه بأنّه غير موجود.
عدنان الجحش:
أكثر شخص افتقد مبروكة بعد رحيلها هو خليلها عدنان الجحش، فقد وقع في حيرة من أمره، فهو بحاجة إلى المبالغ الماليّة التي كانت تنقده إيّاها مقابل إطفائه لشهواتها، صحيح أنّه مارس فحولته معها بمتعة لم يجدها في زوجته، فمبروكة شهوانيّة معطاءة في السّرير، تتحلّى بجرأة زائدة وفي ذهنها أنّها صاحبة الفضل، فهي تأخذ متعة جسديّة، وتعطي مقابلها مالا بسيطا قياسا بدخلها المرتفع، لم تعتبر نفسها خارجة عن المألوف، فالخلل في خليلها وليس فيها، وهي أرملة في عزّ شبابها، لها احتياجاتها الجسديّة، بينما خليلها متزوّج وأب لأطفال، ويأخذ أجرته مقابل مجهوده معها.
ضلّل عدنان الجحش زوجته وهو يقضي ساعات من الليل مع مبروكة، قال لها بأنّه يعمل ليلا؛ ليعيل أسرته، وقد اقتنعت الزّوجة المسكينة بذلك، خصوصا وأنّه ينقدها أكثر من ضعف أجرته في عمله بالبناء، ممّا وفرّ لها ولأطفالها حياة رغيدة قياسا بأبناء بلدته، فاخرت كثيرا أمام قريباتها وجاراتها بأنّ زوجها يعمل ليل نهار؛ لتوفير حياة كريمة لها ولأطفالها، كما أنّه بنى بيتا من ثلاث غرف نوم، صالة، منافع، وصالون.
عندما افتقد عدنان الجحش مبروكة بعد رحيلها، وجد نفسه في ضائقة ماليّة، انكمش على نفسه، وقف وقفة حساب مع الذّات، يشعر أحيانا بالرّضا عن الذّات بسبب رحيلها، فضميره يعذّبه لارتكابه الفواحش، ولخيانته لزوجته، فيحمد ربّه على رحيلها، وعندما وجد نفسه في ضائقة ماليّة، وصار عاجزا عن توفير متطلّبات بيته كما اعتاد على توفيرها، أخذه الحنين لمبروكة، بينما صارت زوجته تحثّه على مواصلة عمله ليلا وسألته:
لِمَ لمْ تعد تعمل ليلا؟
أجابها كاذبا بعد تنهيدة عميقة:
عملت عند أناس أثرياء، لكنّهم باعوا أملاكهم وسافروا إلى بلاد بعيدة.
الزّوجة: ابحث عن عمل آخر عند غيرهم.
عدنان: لن أجد شبيها لهم، فهم أثرياء كرماء، لم أتعب عندهم، قدّموا لي طعاما من أطيب ما يأكلون، أحبّوني كأنّي واحد منهم، أعطوني أجرة مضاعفة، وهم من موّلوا بناء بيتنا، لكنّهم ارتأوا السّفر بعيدا كما تقتضي مصالحهم.
وهنا صمت عن الكلام وصار يلوم نفسه، لأنّه سبب رحيل مبروكة، فهو من فضحها عندما خرج من الحمّام في بيتها عاريا، ولم ينتبه للرّجلين اللذين يجلسان معها في صالون البيت، خصوصا ذلك الشّابّ مفتول العضلات، الذي أجبره على الجلوس عارياعلى حافّة السّرير مقعيا ككلب أجرب ضالّ، وجلده بعصا الرّمّان التي يحملها بيده، كما جلد مبروكة على مؤخّرتها. انتفض عندما تذكّر عصا الرّمان، فسألته زوجته:
ما بك يا عدنان؟ بِمَ تفكّر؟
أجابها بانكسار وبصوت خفيض:
لا شيء مهمّ، تذكّرت عندما خرجت ذات ليلة من العمل، وهجم عليّ مجموعة شباب لا أعرفهم، وضربوني ضربا مبرحا؛ لسبب لا أعرفه، هل تذكرين كيف ارتسمت آثار عصيّهم على جسدي؟
ابتسمت زوجته وهي تقول:
طبعا أذكر ذلك، وعليك نسيانه، و"ربنا يجازي أولادد الحرام اللّي ما بناموا ولا بخلّوا النّاس يناموا".
ضحك عندما دار في رأسه أنّه هو ومبروكة من أبناء الحرام!
عادت زوجته تسأله:
لِمَ تضحك؟
أجابها بعصبيّة بائنة:
"اللّي بعرف بعرف، واللّي ما بعرف بقول في الكفّ عدس."
تفاجأت زوجته بما قاله فسألته:
ماذا تقصد بقولك هذا يا عدنان؟ هل تخفي شيئا؟
انتبه لنفسه وردّ عليها دون مبالاة:
ماذا جرى لعقلك يا امرأة؟ ماذا سأخفي عنك؟
فتحت الزّوجة فمها؛ لتقول شيئا، ولكنّ هدير سيّارة توقّفت بجانب البيت جعلتهما يلقيان نظرة من نافذة البيت؛ ليروا من يكون زائر الغفلة هذا. ارتعب عدنان الجحش عندما رأى أبا ربيع يترجّل وينادي بصوت مرتفع:
أينك يا جحش؟
ركض عدنان؛ ليفتح الباب، وقال:
أهلا أبا ربيع....زارتنا البركة....تفضّل.
بهتت زوجة عدنان عندما رأت أبا ربيع، مع أنّها لا تعرفه، ولم تسمع باسمه من قبل، فهي ربّة بيت لا تختلط إلّا بأقاربها وجاراتها، لكنّها رأت الشّيطان يتمثّل بشخص هذا الزّائر الغريب.
دخل أبو ربيع صالون البيت يرعد ويزبد، بيده عصا يتوكّأ عليها، من باب الوجاهة، وإن كان يضمر في نفسه أن تكون سلاحا يدافع بها عن نفسه عند الضّرورة، وما أن جلس حتّى سأل مهدّدا وهو يهزّ عصاه:
هل فعلتها يا جحش؟
تفاجأ عدنان بسؤال أبي ربيع وقال:
وحّد الله يا رجل....عمّ تسأل؟
صاح به أبو ربيع سائلا:
لا تتغابى، هل قتلت الحاجّة مبروكة؟ متى؟ وكيف؟
حوقل عدنان وقال:
ما هذا التّخريف يا رجل؟ اخفض صوتك؛ كي لا تسمع امرأتي، فلا أحد يحبّ مبروكة ويحرص عليها ويفتقدها أكثر منّي.
أبو ربيع: "النّفس أمّارة بالسّوء"، وإذا لم تقتلها أنت فمن سيقتلها؟
عدنان: من قال لك أنّ مبروكة قُتلت؟ ومتى؟ وأين؟
أبو ربيع: إذا لم تُقتل مبروكة فأين اختفت؟
ابتسم عدنان الجحش وقال:
ما علمته من الجيران أنّ مبروكة قد رحلت إلى مكان بعيد كما أخبرتْهم.
أبو ربيع: لو أنّ مبروكة رحلت فعلا، لأخبرتني بذلك قبل رحيلها.
عدنان: ومن المفترض أن تخبرني أنا أيضا، لكنّها لم تفعل.
أبو ربيع: لا تنس أنّني من عرفتك على الحاجّة مبروكة، وقد أنعمت عليك بأموال كثيرة مقابل جهدك معها، فهل أغضبتها حتّى ترحل هكذا، إذا رحلت حقيقة كما تقول؟
فكّر عدنان لحظات وهمس إليه:
لقد غضبت منّي ذات مساء، قبل عدّة أسابيع، عندما خرجتُ من الحمّام عاريا، ولم أنتبه لرجلين أحدهما مسنّ هرم، والثّاني شابّ مفتول العضلات، يجلسان معها في صالة البيت، بعد أن فتحتْ لهما الباب وأنا في الحمّام، لحق بي الشّابّ إلى غرفة النّوم وبيده عصا رمّان قبل أن أرتدي ملابسي، ضربني بعصاه، وعندما لحقت به مبروكة هي والرّجل المسنّ جلدها بعصاه على مؤخّرتها، وهدّدها أن تكفّ عن الاحتيال على النّاس، وإلا فإنّه سيقتلها!
أصغى أبو ربيع لكلام عدنان الجحش باهتمام وسأل:
هل عرفت ذلك الشّاب؟
عدنان: لا.
هل عرفت من أيّ بلدة هو؟
- لا.
- هل عرفتَ الرّجل المسنّ؟
- لا.
اهتمّ أبو ربيع وعاد يسأل:
ماذا حصل بعدها؟ خرج وتركنا ولم نعرف عنه شيئا... وأعتقد أنّ هذه الحادثة هي سبب رحيل الحاجّة مبروكة.
همهم أبو ربيع قليلا، وبدا الخوف على وجهه، وقال:
إذا كان كلامك صحيحا فإنّنا جميعنا في ورطة كبيرة، عليك أن تبحث عن ذلك الشّابّ أو عن المسنّ الذي كان معه، فإذا حصل مكروه للحاجّة مبروكة فهو من يقف وراءه.
وإذا لم تبحث عنه وتعرف من هو فأنت المسؤول الأوّل والأخير عن أيّ أذى لحق أو سيلحق بمبروكة.
استغرب عدنان كلام أبي ربيع، فتساءل:
وهل أنا مسؤول عن الحاجّة مبروكة أو حارس لها؟
ضحك أبو ربيع بسخرية وقال:
أنت أكثر من حارس لها، فأنت المسؤول حقيقة عنها لو كنت رجلا، ألم تكن خليلها، ألم تتمتّع بجسدها وبمالها؟ فالحيوانات تدافع عن إناثها يا جحش.
تجرّأ عدنان الجحش وقال لأبي ربيع:
إذا كانت الأمور كما تقول، فأنت كنت خليلها قبلي أنا.
احتدّ أبو ربيع غضبا وقال:
اخرس يا جحش، وإلا سأقطع لسانك، صحيح أنّ من أطلق عليك لقب جحش قد ظلم الحمير، وقد ظلمتُ مبروكة عندما أهديتها لك، لقد خُدعت بمنظرك وشبابك، لكنّني لم أكن أعرف أنّك نذل وجبان، وإلّا ما عرّفتها عليك.
وجد عدنان الجحش نفسه في حرجٍ شديد، ويده على قلبه خوفا من زوجته إذا سمعت كلام أبي ربيع، لكنّه تجرّأ وقال لأبي ربيع:
أنت في بيتي واحترم نفسك.
هزّ أبو ربيع عصاه في وجه عدنان غضبا وقال:
هئ هئ..! وهل أنت محترم؟ وهل بيتك محترم؛ كي أحترمك وأحترم بيتك؟ تذكّر كيف بنيتَ بيتك، ومن أين حصلت على تكاليفه؟ وإن لم تخرس الآن سأنادي زوجتك وأعمل لك "فضيحة بحناحن واجراس".
غضب الجحش غضبا شديدا وقال بصوت منخفض؛ كي لا تسمعه زوجته:
اسمع يا أبا ربيع: " اللي بيته من قزاز ما براجم حجار على بيوت النّاس" وإذا لم تحترم نفسك فكما قال المثل" عليّ وعلى أعدائي يا ربّ"، سأفضحك وأفضح مبروكة معك عند زوجتك وأبنائك وأمام النّاس كافّة، فالدّماء التي في جسمك وجسم مبروكة حرام، وكلّ شيء عندكم حرام في حرام، وأنا أعرف الكثير عنك، فمبروكة حدّثتني عن حبائلك التي تنصبها للآخرين وتحتال عليهم.
قطعت حديثه زوجته عندما سمع صوتها تناديه دون أن تظهر أمامهما:
عدنان القهوة جاهزة، تعال خذها.
ردّ عليها بهدوء:
ضعيها عندك.
انتفض أبو ربيع من شدّة الغضب، وهدّد الجحش قائلا:
" صار للخرا مَرَهْ ويحلف بالطّلاق"، والله إذا سمعت كلامك هذا مرّة أخرى أو سمعه أحد غيري "لخلّي الذّبّان الازرق ما يعلم فيك"، وصدق من قال:" علّمناهم الشِّحْدِه سبقونا ع الابواب". قالها ووقف ليغادر.
أوقفه عدنان الجحش وقال له:
إيّاك أن تأتي إلى بيتنا مرّة أخرى.
سخر منه أبو ربيع وغادر وهو يقول:
ههههه.... "يخزي العين عنك وعن بيتك" " كأنّه بيتك كعبه يحجّ إليها النّاس".
غادر أبو ربيع غاضبا وشتائم الجحش تطارده.
*******
ما إن غادر أبو ربيع بيت عدنان الجحش حتّى خرجت زوجة عدنان غاضبة تسأل:
من هذا الرّجل يا عدنان؟ وماذا يريد منك؟
اختلق عدنان الجحش كذبة، تصنّع الهدوء وقال:
هذا رجل حقير، كان يعمل في بيّارة للأسرة التي كنت أعمل عندها.
الزّوجة: ماذا يريد منك، ولِمَ صرخ أكثر من مرّة أمامك؟ وما هي الأسرار التي هدّدك بفضحها.
- قلت لك إنّه رجل حقير ومعتوه، لم يصدّق أنّ الأسرة التي عملت أنا في بيتها، وعمل هو في بيّارتها، باعوا أملاكهم وهاجروا إلى بلاد بعيدة. ولقلّة عقله وسخافته فإنّه يعتقد أنّني قتلت الأسرة سرّا، واستوليت على أموالهم.
همهمت الزّوجة مستاءة غير مصدّقة فسألت:
ومن هي مبروكة؟ وما علاقتك بها؟
غضب عدنان الجحش من زوجته وصاح بها:
ما بك يا امرأة؟ هل تتجسّسين عليّ، وكيف تسترقين السّمع عليّ وعلى ضيوفي؟
سخرت الزّوجة من كلام زوجها وقالت:
ليس من طبعي أن أسترق السّمع عليك ولا على غيرك، لكنّ بعض نباح هذا الرّجل وصلني وأنا في المطبخ.
عدنان: قلت لك إنّه رجل معتوه حقير، غير متّزن في كلامه، لا يعرف ما يقوله ويهذي به.
الزّوجة:" بكره بذوب الثّلج ويبان المرج"، و"يا خبر بمصاري اليوم، بكره بصل ببلاش."
ردّ عليها غاضبا:
ماذا تقصدين بكلامك هذا؟
نظرت إليه بازدراء وقالت:
ما سمعته من ذلك الرّجل الشّرير مخيف، وكلامك غير صحيح.
- أنا قلت لك الحقيقة، وأنت حرّة في تصديقها أو لا.
ردّت عليه تستهزئ به وبكلامه:
إذا كان ضيفك حقيرا ومعتوها فمن أين له هذه السّيّارة الفارهة، وكيف يسوقها؟
- لا أعرف.
- قالها وخرج من بيته غضبا مرتبكا.
**************
خرج أبو ربيع من بيت عدنان الجحش ساخطا، ترك رواسب بيضاء على شدقيه، لعابه يسيل على ذقنه بطريقة مقزّزة، يرفع عصاه بيده اليمنى ويهدّد، وهو يقول:" رافق السّبع لو بياكلك"، وأنا رافقت هذا الجحش النّذل، فصار يهدّدني ويتوعّدني، ضغط بقدمه بقوّة على دوّاسة البنزين، فانطلقت السّيّارة بسرعة فائقة يتطاير خلفها غبار كثيف حجب الرّؤية.
فكّر بما دار بينه وبين عدنان الجحش، صار على قناعة بأنّ عدنان الجحش بريء من دم الحاجّة مبروكة إن ثبت أنّها مقتولة. لكنّ تهديداته بالفضائح مريبة، فـ "السّلاح بيد النّذل يجرح"، فالجحش اعترف بأنّ العاهرة مبروكة حدّثته بكل ما تعرفه عنّي، وأمامي خياران لا ثالث لهما، وهما مداراته أو الخلاص منه.
وصل بيته منهكا، جلس على كنبة، أسند ظهره على الكنبة، أمال رأسه جانبا، أغمض عينيه وسيرته تدور في ذاكرته كشريط سينمائيّ، عندما دخلت زوجته صالون البيت فجأة، جفل خائفا، بسملت زوجته وسألته:
ما بك يا أبا ربيع؟ هل أنت مريض؟
نظر إليها بانكسار وضعف ولم يقل شيئا، اقتربت منه، وضعت يدها على جبينه تتحسّس حرارته، وقالت:
لا يوجد عندك حمّى، هل تتألّم من شيء؟ أمسكت يده تقوده وهي تقول: يبدو أنّك مرهق، تعال وتمدّد على فراشك واسترح.
مشى معها كطفل درّاج تقوده والدته، عندما تمدّد على فراشه قال لها بصوت هادئ متقطّع:
إذا سأل عنّي أحد ما قولي له أنّني غير موجود، ولا تسمحي له بدخول البيت.
ردّت له ببراءة ساذجة:
لكنّهم يرون سيّارتك أمام البيت، ولن يصدّقوا أنّك غير موجود.
- لا أريد أن أسمع المزيد من الكلام، وإذا ما انتبه أحد للسيّارة قولي له بأنّني خرجت مع آخرين لا تعرفينهم.
صمتت أمّ ربيع، استدارت بهدوء، خرجت وأغلقت باب الغرفة خلفها.
المحكمة:
في اليوم المحدّد للمحكمة حضرت ليلى، وشقيقها عمر والمحامي، سأل قاضي المحكمة الشّرعيّة:
أين موسى حمدان؟
أجابه محامي ليلى:
كتبتُ في الدّعوى لسماحتك أنّه غادر بيته منذ حوالي شهرين، تاركا رسالة لوالديه، بأنّه سيسافر إلى بلاد بعيدة، ولا نعرف له عنوانا، وقد مضى على زواجه من ليلى حوالي أربعة عشر شهرا، وأمضى معها حوالي سنة دون أن يتحقّق شرط الزّواج الأوّل وهو المعاشرة، ويبدو أنّه هرب بسبب ذلك.
أعاد القاضي الشّرعيّ قراءة دعوى الشّقاق وطلب التّفريق بين الزّوجين" موسى وليلى" الذي تقدّم بها محامي ليلى وقال:
لقد أرسلنا له طلبا للحضور إلى المحكمة على عنوان والديه، ومن المفترض أن يأتي، وإذا كان مجهول الإقامة حقّا فلِمَ لم يوكل والداه محاميا عنه؟ وبناء على عدم حضوره، سنؤجّل المحكمة لمدّة شهر، ويجب عليكم أن تنشروا إعلانا في الصّحف بذلك، لعلّه يقرأه ويحضر للجلسة القادمة، ستأخذون صيغة الإعلان الصّادر باسم المحكمة بعد قليل من المأمور. انتهت الجلسة.
في غرفة الانتظار سأل المحامي:
هل تستطيع يا عمر إيصال طلب المحكمة لوالدي موسى؟ وأنا سأرسل الإعلان للصّحيفة.
ردّ عمر: نعم...سأسلّم بيدي الطّلب لوالده.
عاد المحامي يسأل:
ما هو موقف والد موسى من الموضوع؟ وهل يعلم أنّكم رفعتم دعوى شقاق وفراق؟
عمر: والد موسى رجل فاضل مغلوب على أمره، وقد أخبرته أنا ووالدي أنّه لم يعد مجال إلّا طلاق ليلى من موسى. وهو يعلم أنّ المشكلة عند ابنه.
في جلسة المحكمة الثّانية لم يحضر موسى أو من ينوب عنه، فقال محامي ليلى أمام القاضي بأنّ موكّلته ليلى تطلب الطّلاق للضّرر اللاحق بها من هذا الزّواج، فزوجها موسى حمدان عجز عن معاشرتها خلال عام من زواجها، وصبرت واحتسبت وسترت دون جدوى، وهرب زوجها من البيت إلى مكان مجهول.
طلب القاضي من المحامي ومن عمر أن يخرجا من قاعة المحكمة؛ ليجلس مع ليلى وحدها، فخرجا.
قال القاضي لليلى وهو ينظر إلى الملفّ:
لا تستحي يا ابنتي، فلا حياء في الدّين، هل صحيح أنّ زوجك المدعو موسى حمدان لم يستطع معاشرتك؟
ردّت ليلى وهي تطأطئ رأسها حياء:
نعم لم يستطع.
القاضي: هل أفهم من كلامك أنّك لا تزالين عذراء؟
ليلى: نعم أنا عذراء.
القاضي: هل عرض موسى نفسه على طبيب؟
ليلى: لا أعتقد ذلك، فوالداه يؤمنان بالخرافات والشّعوذة، ولا يؤمنان بالطّبّ، فلجأوا إلى محتالة اسمها الحاجّة مبروكة، تدّعي علم الغيب، وأنّ لها علاقة بالجنّ، لكنّها لم يستفد شيئا منها.
حوقل القاضي وقال لها:
لا بأس يا ابنتي، اجلسي في غرفة الانتظار، ودعي المحامي يدخل.
عاد المحامي وعمر شقيق ليلى إلى قاعة المحكمة، فقال لهما القاضي:
سأصدر قرارا بالتّفريق بين ليلى وموسى، وبحقّ ليلى بمهرها المعجّل والمؤجّل، ونفقة ثلاثة أشهر العدّة الشّرعيّة.
سأل عمر: وهل العدّة واجبة على ليلى مع عدم معاشرة زوجها لها.
همس له المحامي: الخلوة تعادل الدّخول، وبما أنّ الخلوة حصلت، فالعدّة أصبحت واجبة.
قال القاضي: سأكتب قرار التّفريق، وبإمكانكما استلامه من مأمور المحكمة غدا.
شكراه وخرجا.
قال عمر لشقيقته ليلى:
هيّا بنا، غدا سنستلم قرار التّفريق بينكما.
عادا إلى بيتهما، والكآبة ظاهرة على وجه ليلى، التي أصبحت مطلّقة. بينما عمر في منتهى السّعادة، لخلاص شقيقته ليلى من ارتباط فاشل من بداياته، وأنّها الآن أصبحت حرّة طليقة. عندما رأى شقيقته ليلى حزينة كئيبة التفت إليها ومازحها قائلا:
ما بك يا ليلى؟ ألهذه الدّرجة يعزّ عليك فراق موسى؟
نظرت إليه نظرة عتاب وقالت:
صلّ على النّبيّ يا عمر.
أخبر عمر والديه بأنّ القاضي الشّرعيّ قبل دعوى ليلى بالتّفريق بينها وبين زوجها "الطّواشى" الهارب، وأصدر قرارا بالتّفريق بينهما، حمد الوالدان الله على خلاص ليلى بهدوء من زواجها الفاشل.
دخلت ليلى إلى غرفة نومها مرهقة، أغلقت الباب، خلعت حذاءها، تمدّدت على فراشها دون استبدال ملابسها، اجتاحتها نوبة بكاء، صحيح أنّها ارتاحت من ارتباطها بموسى، لكنّها تبكي حظّها العاثر، وكيف سيرافقها لقب مطلّقة وهي لا تزال عذراء. تذكّرت أغنية شعبيّة تردّدها النّساء المعنّفات والأرامل والمطلّقات جاء فيها:
" بختي ردي وفقّوستي مُرّه
ولّلي جرى لي ما جرى لحُرّه."
حمدل الأب عندما سمع بأنّ ليلى قد تحرّرت من زواجها الفاشل، لكنّ عمر الذي فرح بطريقة لافتة بهذه المناسبة، لم يجد سببا لضيق ليلى، وتساءل عن أسباب الحزن الذي بدا عليها، فزواجها فاشل، وعليها أن تفرح بطلاقها. ثمّ قال مازحا:
إذا كانت متمسكة بهذا الزّوج الطّواشى بإمكانها أن تعود إليه إن قبلت بها والدته، فهو هارب من البيت ومجهول الإقامة.
ربيحة والدة ليلى تحرّك خرزات مسبحتها بهدوء وقالت لابنها عمر:
استح قليلا يا عمر، دعك من ليلى، وادعُ الله أن يكون في عونها، فليس سهلا على فتاة بعمر الزّهور أن تحمل لقب مطلّقة، خصوصا وأنّها بقيت عذراء.
قال عمر لوالدته باستهتار:
الذي حلّل الزّواج حلّل الطّلاق، وزواج ليلى من رجل "طواشى" غير مأسوف عليه.
الوالد: اهدأ يا عمر، فطلاق النّساء يختلف عن طلاق الرّجال.
عمر: بِمَ يختلف ما دام الرّجل مطلّقا والمرأة مطلّقة؟
الوالد: النّاس يا ولدي لا يرحمون النّساء، ونظرتهم للمرأة المطلّقة لا منطق فيها.
استفزّ هذا الكلام عمر فقال:
من يغتاب ليلى بسوء سأقطع لسانه، ومن ينظر إليها بسوء سأقلع عينيه. وستتزوّج ليلى من هو أفضل من موسى الطّواشى مئات المرّات.
في البستان
الجوّ لطيف رغم "القتام" الذي يتراكض في الأجواء، رائحة ثمار الجوافة تعجّ في الأجواء، قطوف العنب تتمدّد على أشجارها الأرضيّة، بينما تتدلّى من الأشجار المعرّشة، عصافير الدّوري تتطاير مغرّدة وهي تنتقل بين الأشجار المثمرة، تنقر حبّات العنب والتّين، ولا تلبث أن تنتقل فرادى وجماعات إلى مقاثي البطّيخ والعنب، تنقر ما يملأ حواصلها، تطير إلى أعشاشها؛ لتطعم فراخها الصّغيرة، لا يعكّر مزاجها سوى بعض الغربان التي تترصّدها، عندما تلتقي زقزقة العصافير، مع حفيف أوراق الشّجر، ونسيم الصّباح العليل تتشكّل قطعة موسيقيّة تبعث الفرح في قلوب من يسمعها، وقمّة السّعادة لأصحاب الحقول والواحد منهم يقطف حبّة تين بيده، يدخلها في فمه، ليشعر بلذّة ما زرعت يداه، وبأطايب ما أعطته أرضه، والشيء نفسه يحصل معه وهو يحمل عنقود عنب بيده، فهل الثّمار تغري قاطفها؛ ليقطفها ويتمتّع بمذاقها؟ فطعم الثّمار التي يقطفها بيديه لها طعم مختلف عمّا يقطفه آخرون ويقدّمونه له، ومختلف أيضا عمّا يشتريه من السّوق.
ذات صباح التقت ليلى بمجايلتها غادة، وغادة في طريقها إلى بستان الأسرة الذي يحوي أشجارا مثمرة، تصافحتا وتعانقتا، دعت غادة ليلى لترافقها في قطف قليل من ثمار الجوافة، التّين والعنب، استجابت ليلى للدّعوة مع أنّها كانت هي الأخرى في طريقها لبستان أسرتها المجاور، لبّت ليلى الدعوة دون نقاش، سارتا بدلال وعنفوان العذارى بين الأشجار، قطفت ليلى حبّة جوافة، مسحتها بيديها من الغبار، التهمتها وهي تثني على طعمها اللذيذ، فقالت لها غادة:
أنا لا استسيغ رائحة الجوافة ولا آكلها.
ليلى: تذوّقيها مرّة واحدة، وستجدينها لذيذة المذاق طيّبة الرّائحة.
ضحكت غادة وهي تقول:
سبق وأن "خمشت" قطعة صغيرة، من ثمرة لافتة، ولم أستطع ابتلاعها فبصقتها، لكنّي آكل ثمار التّين بشهيّة، وأتمتّع بالتهام العنب.
التفتت ليلى إليها وتساءلت مبتسمة:
وهل هناك من لا يحبّ التّين والعنب؟
جلستا تحت شجرة تين وارفة الظّلال، تبدو كخيمة دائريّة، أسندت كلّ منهما ظهرها إلى ساق الشّجرة المعمّرة، عادتا بذاكرتهما إلى أيّام المدرسة، استذكرتا زميلاتهما، تلك تزوّجت، وتلك أمّ لطفلين أو أكثر، وأخرى تعيسة بزواجها...إلخ، وفي هذه الأثناء هجم غراب على عشّ طائر مغرّد بناه على غصن ضخم لزيتونة مجاورة، زقزقة العصفورة الأمّ بدت كصياح مذعور، تقترب وتبتعد لحماية صغارها، أرادت غادة أن تنجد العصفورة الأمّ وأن تحمي لها صغارها، لكنّ ليلى أمسكت بها وقالت:
دعيها فهذه سنّة الحياة. ولن تستطيعي عمل شيء، إن هرب الغراب هذه المرّة فسيعود مرّة أخرى وسيأكلها.
استطردتا في حديثهما، سألت ليلى:
لِمَ لم تتزوّجي حتّى الآن يا غادة؟
غادة: لم يأت النّصيب بعد.
قالت ليلى على استحياء:
سمعت أنّك مخطوبة لسعيد ابن عمّك فارس.
غادة: سعيد مثل أخي، وقد تربّينا معا، وهذا الكلام غير صحيح.
عادت ليلى تقول:
صدق من قال" العزوبيّة ولا الزّيجه الرّديّه."، زواجي من موسى الحمدان كان زواجا رديئا.
احمرّ وجه غادة حياء وهي تسأل:
صحيح ما سمعناه يا ليلى؟
وقبل أن تكمل غادة سؤالها قالت ليلى:
نعم صحيح، فموسى الحمدان"طواشى". وأمّه شرّيرة، أمضيت معه سنة كاملة عانيت فيها الكثير، لكن الحمد لله تطلّقت منه.
غادة: كيف تطلّقت منه وهو غائب، فقد سمعنا أنّه هرب إلى مكان مجهول؟ هل عاد؟
ليلى: لم يعد، ورفعت عليه دعوة شقاق في المحكمة الشّرعيّة، فخلعني القاضي الشّرعي منه.
بدا الحزن والخيبة على وجه غادة فصمتت، لكنّ ليلى انتشلتها من حيرتها عندما قالت:
هذه قسمتي ونصيبي، و"ربنا يجيب اللي فيه الخير."
ردّت عليها غادة تواسيها:
"رُبّ ضارّة نافعة"، وبالتّأكيد ستتزوّجين خيرا منه.
استأذنت ليلى بالانصراف بعد أن غلبتها دموعها، قدّرت غادة أحزان ليلى، فتركتها تغادر دون أن تطلب منها البقاء.
ذهبت ليلى إلى بستان أسرتها، عبّأت سلّة صغيرة بالتّين لوالديها، عادت إلى بيتها وهي تفكّر بما قالته غادة، "بالتّأكيد ستتزوّجين خيرا منه"، دعت ربّها أن يتحقّق كلام غادة، لكنّها لامت نفسها على تفكيرها هذا، فكيف تفكّر بالزّواج وهي في عدّتها؟ هذا لا يجوز. لكنّها بقيت تفكّر بردود الفعل حول طلاقها من موسى، تتساءل عمّن سيتقدّم لطلب يدها، وهي مطلّقة! خصوصا وأنّ أمّ موسى أشاعت في البلدة أنّ المشكلة ليست في ابنها موسى، وإنّما في ليلى الّتي يسكنها جنّي كافر! -كما قالت البصّارة المحتالة الحاجّة مبروكة-.
غادة
أشفقت غادة على ليلى التي غادرت باكية، تدرك غادة ماذا تعنيه كلمة "مطلّقة"، في مجتمعات تسلب المرأة إنسانيّتها، لذا فهي تعي الحالة النّفسيّة السّيّئة لليلى، فقد ربطتهما صداقة منذ أيّام المدرسة، فكلتاهما كانتا نجمتي المدرسة بجمالهما واجتهادهما، وقتها لم تكن أيّ منهما تعلم أنّهما قريبتان من جهة الأمّ، قرابتهما ليست بعيدة، فهما تلتقيان عند الجدّة الرّابعة، أمّا من جهة الأب فقرابتهما بعيدة، لا يمكن تحديدها، وقد تزيد عن خمسة عشر جيلا.
ضحكت غادة من باب "شرّ البليّة ما يضحك" عندما تذكّرت علاقتها بسميح بن عيسى السّلمان وكاملة الفنساء، فقد تأكّدت من فحولته، وبالتّالي فلا خوف عليها من أن تقع في الفخّ الذي وقعت فيه ليلى بزواجها من موسى "الطّواشى"، لكن من يضمن أن يتزوّجها بعد أن طلب يدها عدّة مرّات، ولم يوافق والدها على تزويجها منه ولا من غيره، ولولا الحيلة والخديعة التي لجأت إليها، عندما تظاهرت بالجنون، وفطنة المشعوذ أبي ربيع لصارت زوجة لابن عمّها سعيد فارس، ولو تمّ هذا الزّواج لافتضح عدم عذريّتها، وربّما خسرت حياتها جرّاء ذلك، لامت نفسها كثيرا؛ لأنّها فرّطت بجسدها مع سميح عيسى السّلمان. انتفض جسدها رعبا عندما مرّ بخاطرها إمكانيّة موافقة أبيها على زواجها من شخص غير سميح إذا ما تقدّم طالبا يدها، فأبوها يأخذ قراراته بهكذا أمور دون استشارتها أو أخذ موافقتها.
فكّرت بطريقة تنقذها وتنقذ صديقتها ليلى أيضا، ملأت سلّتها بثمار التّين وعناقيد العنب، همّت بحمل السّلّة على رأسها، فوقع نظرها على أفعى تلتفّ على نفسها في زاوية أمام السّلسلة الحجريّة التي تحيط بالبستان، تركت السّلّة ونظرت إلى الأفعى التي تبعد عنها حوالى ثلاثة أمتار، حملت حجرا؛ لتضرب به رأس الأفعى، لكنّها تراجعت والحجر بقبضة يدها اليمنى، وقفت تنظر إلى الأفعى ببلادة، بعد لحظات حطّ جندب أمام الأفعى، انقضّت الأفعى عليه وابتلعته، وهي تعود إلى جحرها بين حجارة السّلسلة.
حملت غادة سلّتها وغادرت المكان بحذر شديد خوفا من أن تدوس أفعى أخرى تخيّلتها. في ظلّ حائط بيت الأهل وجدت أمّها وفاطمة زوجة عمّها فارس تجلسان مسندتين ظهريهما إلى البيت، طرحت السّلام، أنزلت السّلّة ووضعتها أمامهما، صافحت زوجة عمّها وهي تجلس القرفصاء؛ لتقبيل وجنتيها، استأذنت لتأتي بصحنين، وضعت في أحدهما عنقودي عنب، وفي الثّاني ثمار التّين؛ لتأكلا منهما، حملت السّلة لتضعها في المطبخ وهي تقول بأنّها ستعدّ القهوة.
أثنت فاطمة زوجة العمّ على غادة التي جلست قبالتها بعد أن قدّمت القهوة لهما. ارتشفت فاطمة رشفة واحدة من فنجانها وقالت:
الحمد لله على كلّ شيء، كلّه قسمة ونصيب.
نظرت غادة ووالدتها كلّ منهما إلى وجه الأخرى ولم تقولا شيئا.
عادت زوجة العمّ تقول:
أفنيت عمري وأنا أحلم أن يتزوّج ابني سعيد غادة بنت عمّه يا زوادة.
ردّت عليها زوادة والدة غادة:
هذه كانت أمنيتنا أيضا، فسعيد من خيرة الشّباب، ولن تجد غادة أفضل منه، لكنّ هذا الأمر خرج من أيدينا بعد تأكيدات العالم الجليل أبو ربيع بأنّ نصيب سعيد مع غير غادة، ونصيب غادة مع غيره.
ابتسمت غادة عندما وصفت والدتها أبا ربيع بالعالم الجليل وقالت:
سعيد ابن عمّي وتاج رأسي ومثل أخي تماما، وكلّ الصّبايا يتمنّينه.
ابتلعت أمّ سعيد ريقها وقالت:
سأختار لسعيد فتاة جميلة تليق به.
احمرّ وجه غادة حياء وهي تسأل:
هل وقع اختيارك يا خالة على فتاة معيّنة؟
أجابت أمّ سعيد غير مبالية:
البنات " أكثر من الهمّ على القلب"!
ردّت عليها سلفتها زوادة والدة ليلى تجاملها:
سلامة قلبك من الهموم يا أمّ سعيد.
وهنا قالت غادة متردّدة:
التقيت هذا الصّباح بفتاة حسناء ذكيّة مؤدّبة، كانت زميلتي في المدرسة، وأرشّحها لتكون زوجة لسعيد.
نظرت إليها والدتها وزوجة عمّها وسألتاها بصوت واحد:
من هي؟
غادة: ليلى بنت ربيحة.
استنكرتا ما سمعتاه من غادة وقالتا:
ليلى متزوّجة وعلى ذمّة رجل.
غادة: ليلى تزوّجت قبل أكثر من عام من موسى الحمدان، وكل من في البلدة يعرفون أنّه "طواشى"، هرب قبل حوالي شهرين إلى مكان مجهول، وليلى تطلّقت منه.
أمّ غادة: هل أنت متأكّدة أنّها تطلّقت.
غادة: نعم....تطلّقت، وعلمت ذلك منها عندما التقيتها هذا الصّباح في البستان.
صمتت أمّ سعيد وهي تتناول حبّات التّين وتساءلت:
وهل لا يوجد فتيات عزباوات حتّى يتزوّج سعيد مطلّقة؟
غادة: كما تعلمين يا خالة، فليلى تزوّجت موسى "الطّواشى"، وتطلّقت وهي لا تزال عذراء.
أمّ سعيد: لكنّه اختلى بها، وصارت مطلّقة.
غادة: وماذا ينقص المطلّقة؟ كيف نعيب الطّلاق وقد حلّله الله كما حلّل الزّواج؟
أمّ سعيد: لولا وجود عيوب في المرأة لما طلّقها زوجها.
أمّ غادة: ماذا تقولين يا فاطمة؟ هذا كلام غير صحيح، فزينب بنت أخيك تطلّقت بعد أن أنجبت طفلا، وكلّنا نعرف أنّها فتاة مستورة ومؤدّبة والعيب في طليقها وليس فيها، وتزوّجت ثانية وأنجبت وتعيش وزوجها حياة سعيدة.
أمّ سعيد: في ليلى عيب لا يمكن غضّ النّظر عنه، فالفتاة مسكونة بجنّيّ كافر كما تقول أمّ موسى، وهذا ما منعه من معاشرتها.
ضحكت غادة وهي تقول:
هذا كلام غير صحيح، فعائشة أمّ موسى امرأة جاهلة شرّيرة، وقعت في حبائل المحتالة الحاجّة مبروكة. ليلى صبرت وتحمّلت، تطلّقت وهي عذراء، ويبقى الزّواج قسمة ونصيب.
قالت زوادة "أمّ غادة":
ليلى فتاة حسناء، والدتها ربيحة امرأة حسناء أيضا، يشهد لها كلّ من عرفوها بأدبها، ووالدها ابن أصول، كريم، شهم، أصله طيّب. وكما قال المثل: "خذ بنت الأصول ولو يدها بتسخّم الحيط"، وليلى جمالها لافت، والله لو ابني في سنّ زواج ما اخترت له غيرها.
احتست أمّ سعيد قهوتها، تناولت ما طاب لها من ثمار العنب والتّين، عادت إلى بيتها في الجوار، وطيف ليلى يحلّق أمام عينيها، فما قالته زوادة عن ليلى وعن والديها، يقوله أهل البلد كافّة، وهي نفسها تعرف هذا الكلام، لكن التّأنّي في الزّواج مطلوب، وستطرح هذا الموضوع على ابنها سعيد أوّلا، وإذا وافق فمسألة إقناع أبيه سهلة.
بعد أن غادرت أمّ سعيد الجلسة، رقص قلب غادة فرحا، لحديثها عن ابن عمّها سعيد، واهتمامها بزواجه رغم أنّها لا تستسيغه في دواخلها، ولا تطيق رؤيته، وعندما تحدّثت عن جمال ليلى وأدبها وسمعة والديها الحسنة، لم تكذب فقد تحدّثت عن ليلى بما فيها دون زيادة.
لم يخْف على غادة انفعالات أمّ سعيد، التي بدت على وجهها، وتساؤلاتها حول ليلى وزواجها وطلاقها والإشاعات، فغادة لم تأت بجديد عند حديثها عن ليلى، فكلّ ما قالته عنها تعرفه أمّ سعيد ويعرفه غيرها. لكنّ نوايا غادة التي تحتفظ بها لنفسها لا يعلمها إلّا الله، فهي تستعجل زواج سعيد لأسباب في نفسها، فزواجه يعني أنّ طريق زواجها من عشيقها سميح سيكون مضمونا.
عندما عاد سعيد إلى البيت جلست معه والدته بعد أن أسمعته الكثير من كلمات الإطراء، وهي تبسمل وتحمدل طالبة من الله أن يحفظه لها من العيون الحاسدة. مسّدت بيدها على شعره، وكأنّه طفل، بعد أن تناول طعامه، قالت له:
هل وقع اختيارك على فتاة؛ لنطلبها لك؟
لم يتفاجأ بسؤال والدته، فهو يسمع منها يوميّا ضرورة الإسراع في زواجه بعد فشل خطبته من غادة بنت عمّه، ابتسم لوالدته ولم يجبها على سؤالها، فعادت تقول:
اسمع يا ولدي، الزّواج أمر لا بدّ منه، وأريد أن أرى أبناءك وأنا قويّة؛ لأعتني بهم وألاعبهم.
ضحك سعيد وتساءل مازحا:
هل تريدين أن تعتني بهم أم تريدين أن تلعبي معهم؟
لم يعجبها سؤاله، أدارت وجهها إلى نافذة غرفة الصّالون عن يمينها، أخرجت مسبحتها من "عبّها"جيبها وقالت:
الأبناء زينة الحياة الدّنيا، والأطفال طيور الجنّة، والبيت الذي لا أطفال فيه لا تدخله الملائكة، و"ما أغلى من الولد إلا ولد الولد".
قال سعيد: "تنشوف الصّبي بنصلّي ع النّبيّ. ولا داعي للعجلة".
نظرت إليه مستغربة وسألت:
بِمّ تفكّر يا ولدي؟ ماذا يدور في رأسك؟
أجاب دون اكتراث:
أراك تستعجلين الأمور يا أمّي، تتكلّمين عن الأحفاد قبل أن يتزوّج الابن؟
قهقهت أمّه وقالت:
لقد حلمت كثيرا يا ولدي أنّك عريس وأنا أرقص في حفل زفافك، وأغفو فأرى في منامي أنّني أداعب أبناءك، فهل تفكّر بفتاة بعينها حتّى أطلبها لك، أم ستترك الأمر لي؟
انتبه سعيد لكلام والدته فسألها:
هل تفكّرين بفتاة معيّنة يا أمّي؟
قالت وهي تحرّك خرزات مسبحتها:
فكّرت بفتاة تعجبك، فوقع اختياري على ليلى بنت ربيحة، فهي أجمل بنات البلدة، ووالداها من خيرة النّاس، ومصاهرتهم تشرّفنا، وقد سمعت اليوم أنّها تطلّقت من "الطّواشى"موسى الحمدان، و"خير البرّ عاجله"، لا داعي للانتظار خوفا من أن يسبقنا أحد إليها، فما رأيك؟
جحظت عينا سعيد عندما سمع اسم ليلى، ازدادت نبضات قلبه، دون أن يقول كلمة واحدة.
قالت له أمّه:
السّكوت في هكذا حالة من طبائع النّساء، وأنت رجل فلِمَ لا تبدي رأيك؟
ابتلع سعيد ريقه وقال مع عودة أبيه إلى البيت:
ما تقبلانه أنت وأبي أقبل به.
طرح أبو سعيد السّلام وقال:
خيرا....عمّ تتحدّثان؟ وما هو الذي سنقبل به؟
قالت أمّ سعيد:
كنت وسعيد نتكلّم يا فارس عن ليلى بنت ربيحة؛ لنطلبها لسعيد، فما رأيك؟
أشعل أبو سعيد سيجارة وقال:
إذا كانت هذه رغبة سعيد، فأنا" لا أزيد الملح إلا ملاح". فليلى فتاة مزيونة، وأهلها من خيرة النّاس.
عمّ الصّمت، بعدما ذهبت أمّ سعيد لتحضير القهوة، كانت تهمس بكلمات لنفسها، وهي تصبّ القهوة في الفناجين، انتبه إليها أبو سعيد، فقال لها ضاحكا:
ماذا جرى لعقلك يا امرأة؟ هل جُننت؟ لِمَ تتكلّمين وحدك؟
بسملت وقالت:
كفانا الله شرّك، وشرّ الجنون، كنت أدعو الله أن يهدينا لما فيه خير سعيد.
سأل أبو سعيد ابنه سعيدا:
ما رأيك يا سعيد بليلى؟
ارتشف سعيد رشفة من فنجان القهوة وقال:
سأبوح لكما بسرّ لا أريد أن يسمعه أحد غيرنا.
ردّت عليه والدته:
"سرّك في بير" يا بعد روحي.
الفتاة الوحيدة التي حلمت منذ ما يزيد على سنتين أن تكون زوجتي هي ليلى، ولم أقل لكم ذلك؛ لأنّه منذ طفولتي وأبي يقول بأنّ غادة لسعيد وسعيد لغادة، وشاء القدر أن يتزوّج موسى حمدان ليلى، فأصابني حزن شديد لم أخبر به أحدا، وشاءت الأقدار أن لا أتزوّج غادة، وها هي ليلى تتطلّق من موسى، وآمل أن تكون من نصيبي.
ضحك أبو سعيد قهقهة وقال:
لو قلت لي أنّك تهوى ليلى، لطلبتها لك من يومها، لكنّ "المكتوب ع الجبين بتشوفه العين"، فجهّزا نفسيكما؛ كي نذهب لطلب يدها بعد صلاة المغرب، واستطرد قائلا: ما رأيكم هل نصطحب أخي حميدان معنا؟
رفعت أمّ سعيد يدها وهزّتها وكأنّها تلطم الفضاء وقالت:
"استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"، أقترح أن تذهب أنت وحدك لطلب يدها، أو أذهب أنا وحدي لجسّ النّبض مع ربيحة والدة ليلى، وإذا تيسّرت أمورنا وافقت ليلى وأهلها، سنخبر حميدان وغيره.
موانع
فكّر أبو سعيد باقتراح زوجته وقال:
اقتراحك صحيح يا فاطمة، سأذهب أنا وحدي، سأطلبها من أبيها، ونسأل الله التّوفيق.
بعد صلاة المغرب، ذهب أبو سعيد مباشرة إلى بيت أبي محمّد والد ليلى، رحبّوا به بحفاوة، جلسوا في الصّالة بوجود أبنائهم ووجود ربيحة والدة ليلى، بينما ليلى منزوية في غرفتها في عمليّة جرد حسابيّة لزواجها الخائب من موسى، وهروب موسى إلى مكان مجهول، وما تبعه من طلاق حرّرها من زواج فاشل.
أثناء احتسائهم الشّاي سأل أبو سعيد:
سمعنا أنّ ليلى تطلّقت من موسى حمدان.
بعد لحظة صمت قال شقيقها عمر:
نعم ....هذا صحيح، لقد حكم القاضي بالتّفريق بين موسى وليلى.
حوقل أبو سعيد وقال:
الزّواج والطّلاق قسمة ونصيب.
قال أبو محمّد والد ليلى:
هذه هي الحياة، ولا أحد يعرف ما يخبّئ له القدر.
استند أبو سعيد في جلسته، أخرج مسبحته من جيبه، وقال:
يقول تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". صدق الله العظيم.
وأنا جئتكم لأتشرّف بمصاهرتكم؛ لأطلب يد ابنتكم ليلى لولدي سعيد على سنّة الله ورسوله.
ردّ عليه أبو محمّد والد ليلى:
نتشرّف بمصاهرتكم يا أبا سعيد، لكن لا بدّ من سماع رأي ليلى، ونسأل الله التّوفيق.
نظر عمر شقيق ليلى إلى والديه وإلى أشقّائه وقال:
سعيد شابّ رائع، لكن هناك مانعا مؤقّتا، فلا يجوز طلب يد ليلى ولا استشارتها بهذا الموضوع قبل انتهاء عدّتها، وهي ثلاثة أشهر من تاريخ طلاقها.
ردّ عليه أبوه:
ليلى تطلّقت وهي لا تزال عذراء، فمن أين أتيت بالعدّة يا عمر؟
عمر: قرار الطّلاق يتضمّن أنّ على ليلى عدّة شرعيّة لثلاثة أشهر، وفي هذه المدّة تبقى على ذمّة طليقها.
قال أبو سعيد: عدّة الطّلاق يا عمر للتّأكد من أنّ المطلّقة حامل أم لا، فإن ثبت أنّها حامل فعليها الانتظار حتّى تضع وليدها، وإن ثبت أنّها غير حامل فهي حرّة طليقة، وليلى تطلّقت عذراء -كما سمعنا-.
وهنا تدخّل أبو محمّد وقال:
نحن تحت الشّرع ونأتمر بما حلّل وبما حرّم الله.
عمر: الخلوة مثل الدّخول، ويتوجّب على المرأة المطلّقة العدّة وإن تطلّقت وهي عذراء. وجاء بكتاب وقرأ منه:" روى الإمام أحمد والأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أبي أوفى قال: "قضى الخلفاء الرّاشدون أن من أرخى سترا، أو أغلق بابا، فقد وجب المهر، ووجبت العدّة. " قال ابن قدامة: " وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعا".
تعوّذ أبو سعيد بالله من الشّيطان الرّجيم وقال:
ما دام الشّرع ينصّ على العدّة، فهذا أمر لا يجوز القفز عنه أو تجاهله، فما رأيكم أن نقرأ فاتحة سعيد على ليلى، ونرجئ زواجهما حتّى انتهاء العدّة.
فتح عمر كتابه وقرأ منه:
ويقول الفقهاء:" يحرم على الرّجل أن يخطب امرأة في عدّتها لا تصريحا، ولا تلميحا؛ لأن احتباسها للعدّة أمر تعبدّيّ تلتزم به، وأثر من آثار الزّواج السّابق، فلا يجوز الاعتداء عليه، تعظيما لقيمة هذا الرّباط المقدّس قال تعالى: (وَأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظا).
قال أبو سعيد:
لم تُبق لنا بابا يا عمر نتكلّم فيه بهذا الخصوص إلّا أغلقته، سأعود إليكم بعد انتهاء العدّة الشّرعيّة، ونسأل الله أن تكون ليلى من نصيب سعيد.
ضحك عمر وقال:
لم أغلق أيّ باب يا عمّ، لكنّي فتحت لكم أبواب الشّرع، كي لا نقع وإيّاكم في الحرام.
في طريق العودة إلى بيته مشى أبو سعيد يتعثّر بتساؤلات لم يجد إجابات عليها، مشى يتخبط وكأنّه يصارع الفضاء، فتارة يرفع يدا، وتارة أخرى يهزّ عصاه بيده الثّانية، يُسائل نفسه حول "فتاوي" عمر شقيق ليلى، فهل ما قاله هذا "الولد" حول الحلال والحرام بخصوص عدّة المرأة المطلّقة صحيح أم أنّه اختلق ذلك؛ ليصرفني عن طلب يد ليلى لسعيد؟ لِمَ لم تظهر علينا ليلى، فأنا مثل والدها؟ وهل سعيد يحبّ ليلى حقيقة ويريد الزّواج منها، أم هي نزوة عابرة؟ ولماذا هذا التّدلّل من ليلى وأهلها؟ ألا يعلمون أنّها مطلّقة انكشفت على رجل؟ وما فائدة العذريّة بعد هذا؟ ألا يوجد فتيات في سنّ الزّواج حتّى يتزوّج سعيد من مطلّقة؟ توقّف عند سؤاله الأخير محتارا عندما تذكّر أنّه ابن امرأة تزوّجها أبوه وهي مطلّقة، وأمّه امرأة فاضلة لا شيء يعيبها، وإذا وُجد ما يُعيب المطلّقة فهذا يعني أنّ والدته فيها ما يعيبها، تعوّذ بالله من "شرّ الوسواس الخنّاس" وهو يستغيب في سرّه والدته التي تطلّقت قبل زواجها من أبيه، شعر بندم لأنّ والدته توفّيت دون أن يسألها عن سبب طلاقها، ولم يسأل أباه أيضا عن أسبابه عندما تزوّج مطلّقة، لكنّ ضميره وخزه؛ لأنّه ليس من حقّه أن يحاسب والدته أو والده.
عندما وصل بيته، وجد زوجته وابنه سعيد في انتظاره، قبل أن يلتقط أنفاسه قالت زوجته: "بشّر ولا تنفّر".
التقط أنفاسه وقال:
لقد أخطأت بالذّهاب إليهم، فالشّرع لا يبيح طلب يد المطلّقة تصريحا أو تلميحا في أثناء عدّتها الشّرعيّة، وهذا لم أكن أعلمه من قبل. وعلينا الانتظار ثلاثة أشهر حتّى تنتهي عدّة ليلى الشّرعيّة.
استمع سعيد لما قاله والده، فتغيّرت ملامح وجهه، وشعر بكسوف لم يتوقّعه، أمّا والدته فقد قالت وهي تضع أصابع يدها اليمنى ثانية على لحيتها باستثناء سبّابتها الذي يمتد كسهم إلى وجنتها تحت عينها مباشرة وقالت:
لكن............
قطع حديثها زوجها أبو سعيد عندما قال:
لا لكن ولا غيرها، لا يمكن الاعتراض على شرع الله.
فعادت أمّ سعيد تهمس لنفسها وتقول:
"رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا".
الجدّة صفيّة
ذات يوم زارت زوادة والدتها العجوز، وهذا ما اعتادت عليه، إذ أنّها تزورها مرّة كلّ أسبوع، وأحيانا كلّ أسبوعين، وزيارتها الأخيرة هذه جاءت بعد غياب شهر كامل. وجدت والدتها قد وقعت فريسة لأمراض الشّيخوخة، الأمّ العجوز تتمدّد على فراشها مستسلمة للحال الذي وصلت إليه، تتفقّدها كنّتها زوجة ابنها يونس آخر العنقود في أوقات الطّعام، تنظّف غرفتها يوميّا، تساعدها على الاستحمام مرّة كلّ يومين، تغسل ملابسها، كما عوّدت ابنتها البكر وداد أن تنام في غرفة جدّتها؛ لتؤنسها بعد أن صارت تخاف الوحدة منذ ترمّلت قبل عام؛ ولتخدمها في أشياء قد تحتاجها، كأن تساعدها في الوصول إلى الحمّام، أو تقدّم لها كأس ماء إذا ما عطشت. تعود الحفيدة وداد من مدرستها، وقبل أن تستبدل مريولها المدرسيّ تمرّ على جدّتها، تطرح عليها التّحيّة، تقبّل وجنتيها، تغترف شيئا من حنانها، وتسألها إن كانت تحتاج شيئا.
قبّلت زوادة يد والدتها اليمنى، ووجنتيها، جلست بجانبها تستفسر عن حالتها الصّحّيّة، تسألها إن كانت تريد شيئا معيّنا، تحمد العجوز ربّها وتشكره على نِعَمه التي لا تعدّ ولا تحصى، تثني على ابنها يونس وزوجته سعاد، وعلى أبنائه خصوصا ابنته وداد. ولا تنسى بناتها وأبناءها الآخرين الذين يزورونها بين الفينة والأخرى. عند ساعات الظّهيرة قدّمت الكنّة سعاد وجبة غداء لحماتها صفيّة ولابنتها زوادة، وهي عبارة عن طبق من المفتول المطبوخ مع لحم ديكين بلديّين، أكلوا جميعهم بشهيّة مع أنّ الجدّة أبدت امتعاضها من طريقة إعداد المفتول قبل طبخه، فقالت موجّهة حديثها لكنتّها سعاد ولابنتها زوادة:
الله يرحم أيّام زمان، عندما كنت أفتل طحين القمح، كلّ حبّة منه تساوي الأخرى بحجمها، بطريقة تعجز عنها الماكينات الحديثة.
ضحكت كنّتها سعاد وقالت تداريها:
من أين نأتي بكفاءة مثلك، فنحن لا نتقن الأشياء مثلك يا عمّة؟
بينما قالت زوادة بنت صفيّة:
طعام لذيذ يا أمّي، والتفتت إلى سعاد قائلة وهي تغمزها بطرف عينها:
سلمت يداك يا سعاد، شكرا لك على هذه الوجبة الشّهيّة.
بعد ذلك عادت سعاد لأعمالها المنزليّة ورعاية ابنها الرّضيع، بينما بقيت زوادة تتحدّث مع والدتها، ساعدتها فى الاستحمام، استبدلت ملابسها، مشّطت شعرها وهي تقول:
عروس يمّه....ما شاء الله عليك!
قالت الجدّة وهي تئنّ:
من أين يا حسرة، تساقط الشّعر وما تبقّى منه غزاه الشّيب، ولن نأخذ وقتنا ووقت غيرنا.
قصّت زواده أظافر يدي والدتها، وانتقلت تقصّ أظافر قدميها، وإذا بالأمّ العجوز تقول:
رحم الله أيّام زمان.
لم تنتبه زوادة لما قالته أمّها، فسألتها:
ماذا قلتِ يمّه؟
لم تجبها الأمّ على سؤالها فعادت زوادة تسأل:
هل تريدين شيئا يا أمّي؟
الأمّ: أريد منك طبخة معيّنة يا زوادة.
زوادة: حاضر يا أمّي، أيّ طبيخ تريدينه سيأتيك؟
الحاجّة صفيّة:
أريد محاشي كوسا وباذنجان.
زوادة: أبشري يا أمّي سأعدّ لك طبخة محاشي؛ لتكون عشاءك هذه الليلة.
- لا يا ابنتي....أنا لا أتعشّى، أعدّيها غداء لنا ليوم غد.
سمعتها كنّتها سعاد فهرعت وهي تحمل رضيعها على صدرها وقالت:
سيكون غداؤك وغداء أمّ سعيد محاشي يا عمّتي غدا كما تريدين، وسأعدّه أنا لكما.
ردّت زوادة وهي تبتسم:
اسمعي يا سعاد، هذه أوّل مرّة تطلب فيها أمّي شيئا منّي، وغدا سآتيكم بطنجرة "محاشي" غداء لنا جميعنا.
بعد جدال بين سعاد وزوادة، فازت زوادة بطلب والدتها. فخرجت وهي تقول:
" خير البرّ عاجله"، قصدت حقول الخضروات التي تبعد أكثر من سبعمائة متر عن أطراف القرية؛ لتأتي بالكوسا والباذنجان من حقلهم، فهذا هو موسمه.
الواقعة
سارت زوادة بخطى سريعة قاصدة حقلهم حيث زرعوا مقاثي الكوسا، الخيار، البطّيخ والشّمّام، إضافة إلى بعض الخضروات، فهي تستعجل تحضير وجبة المحاشي التي طلبتها والدتها، فالوالدة في وضع صحّيّ غير مطمئن، ستقطف الثّمار المطلوبة، ستصطحب ابنتها غادة؛ لتحمل معها؛ ولتعود معها إلى البيت؛ ولتشاركها في إعداد "طبخة المحشي".
عندما أطلّت زوادة على البساتين والحقول انشرح قلبها، شعرت بعذوبة النّسيم النّقيّ، ازداد نشاطها، متّعت ناظريها بالّلون الأخضر الذي يكسو الأرض المزروعة، رأت أنّ الأرض ترقص لها، المزروعات تعانقها، أشفقت على من لا يزرعون أرضهم ولا يستفيدون من خيراتها، فهي تعلم جيّدا أنّ الأرض معطاءة، تعطي من يخدمها وتغنيه عن العمل المأجور، أكبرت في ابنتها غادة أنّها لا تملّ ولا تشكو من عملها اليوميّ في الأرض، قالت ضاحكة: صدق من قال:" أبو البنات نام شبعان وأبو الاولاد نام جوعان"، وهذه غادة جمل المحامل، فهي تحمل على كاهلها عبء العمل في الأرض، ومردودها هو الدّخل الوحيد للأسرة.
وصلت زوادة بساتين وحقول أسرتها، مدّت نظرها إلى الجهات الأربعة تبحث عن غادة، ثمّ نادت بصوتها:
أين أنت يا غادة؟
جفلت غادة وهي تقف مرعوبة عند انحناءة في الأرض بين هضبتين، نهض معها سميح بن عيسى السّلمان، يرفع سرواله ويعدّل ملابسه، انتبهت زوادة إلى الجهة التي سمعت منها صوت غادة تقول وهي تربط منديلها على رأسها:
نعم يمّه.
بهتت زوادة ممّا رأت، خارت قواها، جلست على الأرض تلهث متعبة. وصل سميح وغادة أمامها، وقفا أمامها كمتّهمين في محكمة، اصفرّ وجهاهما، تزايدت دقّات قلب غادة، جفّ ريقها حتّى إنّها لم تعد قادرة على الكلام، مدّ سميح يده يصافحها وهو يقول:
كيفك يا خالة؟
بينما سألت غادة مرتبكة بعد أن استجمعت:
خيرا يا أمّي؟ ما الذي أتى بك؟
صمتت زوادة والشّرر يتطاير من عينيها، طلبت من غادة أن تملأ سلّة بالكوسا والباذنجان صغير الحجم، وهي تقول:
جدّتك صفيّة تشتهي طبخة محاشي.
وأنا سأملأ بعد قليل السّلة الثّانية بالخيار، الباميا والبندورة هديّة لخالك يونس ولجدّتك.
انصرفت غادة؛ لتنجز مهمّتها، بينما قال سميح:
استريحي يا خالة فأنا سأقطف لك ما تريدين.
نظرت زوادة إليه بغضب وقالت له:
اسمع يا ابن كاملة الفنساء، هل ما زلت ترغب بالزّواج من غادة؟ إذا كان الأمر كذلك فابعث الليلة قبل بكرة من يطلب لك يدها، وإلّا...............
ردّ سميح على استحياء:
نعم يا خالة، لن أتزوّج إلّا غادة، وقد سبق وأن طلبتها خمس مرّات، لكنّ العمّ أبا أحمد -سامحه الله- رفض طلبنا باستمرار، والليلة سيأتيكم والداي لطلب يد غادة لي، وأريد مساعدتك في تهيئة الوضع مع العمّ أبي أحمد. والآن أعطني السّلة؛ لأقطف لك ما تريدين من الثّمار.
ردّت زوادة بلهجة منفّرة:
أنا سأقطف ما أريد، انصرف إلى أرضكم وإيّاك أن تدخل أرضنا مرّة أخرى قبل أن تتزوّج غادة.
في الواقع أنّ زوادة لم تتفاجأ برؤيتها لغادة وسميح منبطحين في أرض خالية، فهي تعرف تماما بأنّ هناك قصّة حبّ بين غادة وسميح، عندما أخبرتها غادة بذلك، يوم قرأ والدها وعمّها فاتحتها على ابن عمّها سعيد فارس. لكنّها مرعوبة ممّا رأته وخائفة من عواقبه، فهي لم تتوقّع يوما أن تسمح غادة لسميح بن كاملة الفنساء أو لغيره أن يختلي بها، أو أن يلمسها. حاولت إقناع نفسها بأنّ جلستهما بريئة، فكثيرا ما يلجأ المزارعون إلى الاستلقاء في أرضهم طلبا للرّاحة، لكنّها فزعت عندما رأت "سميح" وهو يرفع بنطاله، وغادة وهي تربط منديلها على رأسها، تذكّرت ما كانت تقوله لها والدتها الحاجّة صفيّة:
"سألوا مين أشرف النسّاء؟ فقالوا: بُعْد الرّجل عن الأنثى".
لامت زوجها كثيرا، لأنّه رفض تزويج غادة، رغم أنّ من تقدّموا لطلب يدها كثيرون، وقد رأى فيها مجرّد معيل للأسرة، وبرّأت هي نفسها من ذلك؛ لأنّها لفتت انتباه زوجها مرّات كثيرة بضرورة تزويج غادة ممّن ترتضيه زوجا لها.
لم يكن سهلا عليها مجرّد التّفكير بأنّ ابنتها غادة قد فرّطت بجسدها وعذريّتها، لكنّها كبتت غيظها وغضبها حتّى العودة إلى البيت، فلا داعي للفضائح أمام ابن كاملة الفنساء أو غيره.
في الطّريق إلى البيت قالت زوادة لابنتها توبّخها:
ماذا كنت تعملين مع ابن كاملة الفنسا؟
قالت غادة بحياء:
كنّا نستريح في بطين الأرض ونستظلّ بظلّها.
همهمت الأمّ غير مقتنعة بجواب ابنتها وقالت:
- هل من يستظلّ يخلع سرواله أمام امرأة غريبة؟ ومن تستظلّ تخلع حجابها وترفع ثوبها أمام رجل غريب؟
ردّت غادة وهي ترتجف من هول السّؤال:
هذا لم يحصل يا أمّي.
صاحت زوادة بابنتها غادة:
اخرسي لا أريد أن أسمع صوتك، لكن إلى أين وصلت علاقتك بهذا السّفيه سميح؟
قالت غادة ودموعها تنساب على وجنتيها:
لا تذهبي بعيدا يا أمّي، فسميح جارنا في الأرض، وقد جاء لنحتسي الشّاي معا.
قالت زوادة وهي تنتفض غضبا:
على كلّ إذا لم يأت لطلب يدك هذه الليلة، فستندمان أنت وهو على اليوم الذي ولد كلّ منكما فيه، ولو رأى أبوك ما رأيت هذا اليوم، لكنت أنت وابن الفنساء تحت التّراب.
ردّت غادة على استحياء:
لقد طلبني سميح خمس مرّات ولم يوافق أبي.
زوادة: هذه المرّة سيوافق أبوك على طلبه إذا جاء، وإذا لم يأت فهذا يعني أنّه غير جادّ، وآمل أن لا يكون قد استغفلك، وأن لا تكوني غبيّة إلى درجة تفرّطين بجسدك دون زواج.
استذكرت غادة حادثة زواج جمانة الأمين، بنت البلدة قبل ثلاث سنوات، عندما اكتشف عريسها ليلة الدّخلة أنّها ليست عذراء، وهذا ما أكّدته والدتا العروسين، لكن حذاقة والدة العروس وسرعة بديهتها أنقذت الموقف عندما قالت للعريس ولوالدته وهي تبتسم:
لا تسيؤوا الظّنّ بجمانة، فهي أشرف من الشّرف. لكن هذه مقادير الله، وصمتت.
سألتها والدة العريس وهي تلوي فمها محتارة:
ماذا تقصدين بمقادير الله؟
ردّت والدة جمانة:
عندما كانت جمانة في السّابعة من عمرها، كنّا على عجلة من أمرنا في عصر يوم عمل في الأرض، أردفتُها بقوّة على البغل خلف والدها وبقيت تبكي، وفي البيت أمسكت بها؛ لأرى ما يبكيها، فاشتكت من أّلَمٍ بين فخذيها، عندما كشفت عليها وجدتها تنزف دما، فاصطحبها والدها إلى طبيب، حيث أكّد أن الطّفلة تعاني من جرح بين فخذيها، وأنّها فقدت عذريّتها. لطمت وقتذاك على وجهي، فأنا السّبب عندما حملتها وأردفتها خلف والدها على البغل بعنف.
استمع العريس لما قالته حماته، فقال لوالدته:
اكتمي هذا الكلام، ولا داعي للحديث فيه مطلقا على مسمع أيّ إنسان، أنا أحبّ جمانة، ولن أسمح لأحد بأنّ يمسّها بسوء.
رقص قلب جمانة فرحا عندما سمعت كلام عريسها، حمدت الله كثيرا أنّها تزوّجت من رجل يفهم الحياة، لامت نفسها في داخلها عندما تذكّرت علاقتها بفهد المسعود الذي استغلّها وتزوّج من غيرها، لكنّها سعيدة بذكاء والدتها التي اختلقت هذه القصّة التي لم تسمع بها من قبل.
في البيت
في البيت أمرت زوادة بنتها غادة قائلة:
انصرفي إلى المطبخ، "احفري" الكوسا والباذنجان، عبّئيه بالرّزّ واللحم المفروم، سنطبخ طنجرتين، واحدة لنا والثّانية لجدّتك صفيّة ولأسرة خالك يونس، ومن هنا فصاعدا لا خروج من البيت إلّا لبيت الزّوج أو إلى القبر.
ذهبت غادة إلى المطبخ تجرّ أذيال هزيمتها؛ لتنفّذ طلبات والدتها دون أن تتكلّم شيئا، لكنّ مرجل حيرة وغضب يغلي في صدرها، راودتها أسئلة كثيرة حول علاقتها بسميح، لامت نفسها لأنّها فرّطت بجسدها منذ حوالي ثلاث سنوات، لعنت العادات والتّقاليد التي حالت دون زواجها من سميح الذي طلب يدها منذ لقاء جسديهما الأوّل، لم تستوعب مقولة "ابن العمّ بِطَيّح عن ظهر الفرس"، لطمت وجهها بيديها وهي تفكّر بأنّ ابن العمّ قد يكون سببا في التّسريع بالذّهاب إلى القبر.
واصلت زوادة توبيخها لبنتها غادة دون توقّف، فما رأته في البستان مخيف، نتائجه وخيمة إذا ما انكشف، لم تتوقّف زوادة عن هجومها الكاسح على ابنتها غادة إلا عندما عاد بكرها أحمد إلى البيت، وهي حريصة على كتمان ما رأت، وبقيت تدعو في سرّها:
" يا من سترت لا تفضح".
عندما عاد حميدان -والد ليلى- إلى البيت قبل غروب الشّمس بقليل، استقبلته زوجته زوادة بابتسامة مصطنعة، سألته إن كان جائعا؛ لتقدّم له الطّعام، فقال بأنّه تناول طعامه في بيت صديق، لكنّه يريد فنجان قهوة.
أعدّت زوادة ثلاثة فناجين قهوة، وضعت فنجانا أمام زوجها، والثّاني أمام ابنها أحمد، وجلست قبالة زوجها والفنجان الثّالث بيدها، ارتشفت منه رشفة واحدة، همّت بالحديث لكنّ زوجها سبقها قائلا:
موسم الزّراعة هذا العام جيّد، الأسعار جيّدة.
قطعت زوجته حديثه وقالت:
ما دام الأمر كذلك، فَلِمَ لا تقف للأرض، ولِمَ لا يتمّ قطف الثّمار وتسويقها قبل ركود السّوق؟
بسمل أبو أحمد مستغربا تساؤلات زوجته، وسألها:
ماذا جرى لعقلك يا امرأة؟ وهل نحن نهمل أرضنا حتّى تقولي ما قلت؟
ردّت أمّ أحمد بحزم:
نعم نحن نهمل أرضنا، وتسويقك للمحصول غير كاف، والاعتماد على غادة وحدها في العناية بالمزروعات لا يكفي، غدا ستتزوّج غادة فمن سيعتني بالأرض بعدها؟
أشعل أبو أحمد سيجارة، رفع صوته على زوجته وتساءل مستنكرا كلامها:
هل اشتكت لك غادة بأنّها تريد الزّواج؟
ردّت عليه بسخرية:
وهل ستُبقي غادة عازبة حتّى تشكو لك بأنّها تريد زوجا؟ فمن حقّها أن تتزوّج مثلها مثل بقيّة الفتيات، و"العِرض ما بنحمى بالسّيف".
قبل أن يجيب على تساؤل زوجته سمع صوتا أمام الباب يقول:
يا ساتر.
قام أحمد يفتح الباب؛ ليرى من يقف خلفه، وإذا بخاله يونس، وعيسى السّلمان وزوجته كاملة الفنساء، وابنه سميح أمامه، رحّب بهم أحمد، دخلوا إلى صالون البيت، صافحت كاملة الفنساء زوادة وقبّلتها، سألتها عن غادة، وعندما عرفت أنّها في المطبخ دخلت إليها دون استئذان، وجدتها تحفر الكوسا والباذنجان، عانقتها وهي تشمّ رائحتها، تبدي إعجابها برائحتها الزّكيّة، وقالت:
سبحانك ربّي....كأنّ رائحة سميح تنبعث منك، أسأل الله أن تكوني من نصيبه، وأن تعيشا معا، وتنجبا البنين والبنات.
لم تقل غادة شيئا، لكنّها فكّرت بما قالته كاملة الفنساء، حول الرّائحة التي تنبعث منها، تساءلت بينها وبين نفسها عن أنف كاملة المضغوط على وجهها، فهل هذا الأنف قادر على شمّ الرّوائح كما كلاب الأُثر البوليسيّة؟ أم هي كلمة عابرة خرجت من فم امرأة" تهرف بما تعرف وبما لا تعرف"، مرّت لحظات سريعة عندما قالت غادة:
هذه رائحة الأرض يا خالة.
قهقهت الفنساء وقالت:
أنت وسميح ابنا الأرض.
سمعتا صوت زوادة وهي تنادي:
وينك يا أمّ سميح؟
خرجت الفنساء من المطبخ وهي تقول:
ها أنا ...سلّمت على الغالية في المطبخ يا أمّ احمد.
غضبت غادة لأنّ الفنساء دخلت إلى المطبخ دون استئذان، فالمطبخ غير مرتّب وتفوح منه رائحة البصل، لكنّها احتارت بما قالته أمّ سميح حول الرّائحة التي شمّتها! فهل هي شمّت حقيقة رائحة هرمونات وعرَق سميح عليها أم أنّها تتكلّم بعفوية، وتريد لفت انتباهها لابنها سميح؟
لامت غادة نفسها لأنّها لم تستحمّ بعد عودتها من الحقل كما تفعل كلّ يوم، لكنّها وجدت عذرا لنفسها، فوالدتها لم تترك لها مجالا لا للاستحمام ولا لغيره، عدا عن كلمات التّوبيخ التي قذفتها بها دون رحمة.
أطلّت زوادة على بنتها غادة من باب المطبخ، وقالت:
اغسلي يديك وجهّزي القهوة. وما لبثت أن استدركت قائلة:
لا ...لا.. أنا سأغلي القهوة، ثمّ اقتربت منها وهمست لها بحنان زائد:
اتركي كلّ شيء، استحمّي بسرعة، واستبدلي ملابسك يا عروس.
استحمّت غادة واستبدلت ملابسها، رشّت قليلا من زجاجة العطر خلف أذنيها، وضعت أحمر الشّفاه بلون ورديّ يتناسب ولون بشرتها، وجدت أمّها قد أعدّت القهوة وقالت لها:
سأسبقك إلى الصّالون، الحقيني بصينيّة القهوة، قدّميها لكلّ واحد منهم بدءا من عيسى السّلمان، فخالك يونس فسميح، فوالدته وبعدها لوالدك، ثمّ ضعي فنجانا أمامي، وضعي فنجانا أخر لك واجلسي بجانبي.
سألت غادة: لِم لا يقدّم القهوة أخي أحمد، وما الدّاعي لدخولي أنا؟
الأمّ: لا وقت للنّقاش، لا تدعي القهوة تبرد، نفّذي ما قلته لك، واستدارت لتسبق ابنتها إلى الصّالون.
دخلت غادة الصّالون طرحت السّلام وهي تطأطئ رأسها حياء، عندما وقفت بالصّينيّة أمام سميح قال لها:
عمّي أبو أحمد أوّلا.
ردّ عليه أبو أحمد:
لا يُكرم الرّجل في بيته يا عمّ.
تناول سميح فنجانه بعد أن أوعز له أبوه بذلك.
وزّعت غادة القهوة وجلست على يسار والدتها، بينما كانت تجلس أمّ سميح على يمينها.
قال أبو سميح وهو يحرّك خرز مسبحته:
لنا طلب عندكم يا أبا أحمد قبل أن نشرب قهوتنا.
أبو أحمد: حيّاكم الله وطلبكم مستجاب إن كنت أقدر عليه.
أبو سميح: نحن ندخل البيوت من أبوابها، نطلب منكم يد ابنتكم غادة لابننا سميح، وأرجو أن يجد طلبنا هذا قبولكم.
حملت غادة فنجان قهوتها وخرجت من الجلسة حياء، مع أنّ قلبها يخفق فرحا، ابتسمت أمّ سميح وقالت:
غادة-الله يرضى- عليها حييّة، وهذه من عادات العذارى.
ابتسم سميح وردّد في سرّه" اللي بِعْرف بِعْرف، وللي ما بعرف بقول في الكّف عدس".
مع أنّه يتمنّى أن تكون غادة زوجته.
ردّ أبو أحمد على أبي سميح:
اشربوا قهوتكم يا أبا سميح، سأسمع رأي غادة الآن، فإن وافقت فهي مبروكة عليكم.
وهنا تدخّلت زوادة وقالت لزوجها:
توكّل على الله يا أبا أحمد، غادة بنتي وأنا أعرفها جيّدا، لو لم تكن موافقة، لما غادرت الجلسة، ولأسمعتكم جميعكم رفضها.
قال أبو أحمد لزوجته:
لِمَ أنت يا زوادة "مثل البصلة اللي بتدخل كل طبخة"؟ من حقّ البنت علينا أن نستشيرها، وهذا حقّ شرعيّ.
وقفت أمّ أحمد وقالت:
حاضر يا أبا أحمد، سأسمع رأي غادة الآن.
خرجت من الصّالون، ذهبت إلى المطبخ حيث غادة تواصل حفر الكوسا والباذنجان تحضيرا لطبخة "المحشي"، التي طلبتها جدّتها لأمّها صفيّة، اقتربت منها أمّها، أمسكت بطرف إصبعيها السّبّابة والإبهام خدّها بنعومة وقالت:
يصرّ أبوك أن يسمع رأيك بطلب سميح لك، فهل أنت موافقة أم ترفضين؟
ابتسمت غادة ولم تقل شيئا، قهقهت أمّها وعادت تقول لهم:
غادة موافقة يا أبا أحمد.
التفت أبو أحمد لأبي سميح وقال:
مبروكة غادة عليكم يا عيسى. " نعطيكم إيّاها هديّة ما من وراها جَزِيّة".
أبو سميح: خلف الله عليكم، وأنا أرد لكم عطيّتكم بأنّ مهر غادة من مصاغ وكسوة سيكون مثل بناتنا وزيادة، ونحن جاهزون لطلباتكم جميعها.
أبو أحمد: طلبنا هو السّتر يا أبا سميح، ومهر غادة المعجّل ليرة ذهب عثماني، ولولا الشّرع وضع مهرا لما طلبناها، ودعونا نقرأ الفاتحة على هذه النّيّة.
بعد قراءة الفاتحة قال أبو سميح:
دعونا نتّفق على يوم نذهب فيه لشراء المصاغ والكسوة، ونحدّد يوما للخطبة، قبل يوم الجمعة القادم، والجمعة التي تليه يكون يوم الزّفاف.
أبو أحمد: أحضروا المأذون بعد صلاة عصر يوم غد؛ ليعقد زواج سميح على غادة، ولن نختلف على التّرتيبات اللاحقة.
وقفت كاملة الفنساء تقصد باب البيت؛ لتطلق زغرودة فرح وإعلان أنّ غادة خطبت لابنها سميح، لكنّ أمّ أحمد التي فهمت قصدها لحقت بها وأمسكتها، همست لها:
لا داعي لذلك الآن يا أمّ سميح، إذا سمع عمّها فارس وزوجته وأبناؤه الزّغرودة، سيهرعون إلينا الآن، وسندخل في مناكفات لا داعي لها.
اقتنعت أمّ سميح بكلام والدة غادة، خصوصا أنّها تذكّرت كيف جاءهم فارس عمّ غادة وقرأ فاتحة ابنه سعيد عليها بعد أن طلبها أبو سميح لابنه.
قرأوا الفاتحة، باركوا لسميح، فاستأذن يونس خال غادة للانصراف.
طلبوا منه أن يكمل السّهرة معهم، لكنّه أصرّ على الانصراف وهو يقول:
الوالدة صحّتها على غير ما يُرام، لا أستطيع أن أتركها وحدها.
قالت له شقيقته زوادة:
هل طرأ جديد على صحّتها؟ كنت عندها ظهرا، وطلبت طبخة محشي، بنتك وداد عندها، وغدا سنكون عندها جميعنا.
يونس: عندما عدتُ من عملي وجدتها على غير ما يرام، ولولا إلحاح أبي سميح عليّ؛ لآتي معه لطلب غادة لابنه سميح لما تركتها وحدها.
زوادة: عند ظهر يوم غد سنكون عندكم؛ لنطمئنّ على الوالدة، ولنتغدّى سويّا.
يونس: أهلا بكم، سنجهّز غداءكم.
زوادة: الغداء أعددته أنا وغادة، بناء على طلب الوالدة، فلا تقلق بخصوصه.
يونس: وهل نحن قاصرون عن غدائكم؛ كي تحضروا غداءكم معكم.
وهنا قال أبو أحمد موجّها كلامه ليونس:
بيتنا وبيتكم واحد، وهذا الغداء على شرف الحاجّة صفيّة، ولا تعملوا لنا قصّة حول الغداء.
تدخّل أبو سميح وقال:
اسمع كلام أبي أحمد يا يونس.
بعد أن غادر يونس، التفت أبو أحمد إلى زوجته زوادة وقال لها معاتبا:
لِمَ لم تخبرينا بأنّ الحاجّة صفيّة مريضة وتعبانة؛ لنزورها ونطمئنّ عليها
زوادة: لم أزرها منذ شهر، واليوم فقط مررت بها، صحيح أنّ الشّيخوخة أنهكتها، لكنّ صحّتها جيّدة في هذا العمر، عقلها راكز والحمد لله. طلبت اليوم أن أعدّ لها طبخة محشي" كوسا وباذنجان"، وغدا سنزورها جميعنا وسنتغدّى بصحبتها.
أبو سميح: الحاجة صفيّة أصيلة بنت أصايل، وغدا سنزورها؛ لنطمئنّ عليها قبل أن نأتي لعقد زواج سميح على غادة.
زوادة: أهلا وسهلا بكم، تعالوا بعد صلاة الظهر مباشرة؛ لنتناول طعام الغداء بمعيّتكم.
أبو سميح: سنأتي من باب الواجب فحقّ الحاجّة صفيّة علينا كبير، ولا داعي للغداء.
أبو أحمد: القضيّة ليست قضيّة غداء يا أبا سميح، سنزور الحاجّة صفيّة ساعة من الزّمن، وسنعود إلى بيتنا لإتمام عقد زواج سميح وغادة.
صمت أبو سميح قليلا، سرح بخياله إلى حيثيات ما سيجري يوم غد، قرّر بأنّه إذا لم يتناولوا غداءهم يوم غد مع الحاجّة صفيّة في بيت ابنها يونس، فلا مناص من أن يتناولوه في بيت أبي أحمد والد غادة، ولمعرفته بأنّ زوادة وابنتها هما من أعدّتا "طبخة المحشي"، فلا داعي لتكليفهما بغداء آخر، فالتفت إلى أبي أحمد وسأل:
أيّ ساعة ستكونون غدا عند الحاجّة صفيّة؟
ردّت زوادة: سنكون في حدود السّاعة الحادية عشرة.
أم سميح: سنلتقي هناك، وبعد الغداء سنعود إلى بيتكم لعقد زواج سميح على غادة.
نظر أبو سميح لابنه وأمره قائلا:
اذهب الآن يا سميح إلى بيت المأذون الشّيخ محمود، وقل له بأن يأتي إلى بيت عمّك أبي أحمد بعد صلاة العصر مباشرة؛ لنعقد لك وغادة.
وداعا
استيقظت زوادة وبنتها غادة مع بزوغ فجر اليوم التّالي، خبزتا في الطّابون، وضعتا طنجرتي المحشي على بابوري كاز"بريموس" في حدود الثّامنة صباحا، فبعد مشاورات قرّرتا الطبيخ بطنجرتين، وقد حسمت زوادة النّقاش عندما قالت لغادة بأنّ القِدْر كبير، سينضج أسفل الطّبيخ قبل أوّله، وإذا تركناه على النّار حتّى ينضج أوّله فسيذوب أسفله، كما قالت بأنّ القِدْر يحتاج إلى رجلين ليحملاه، وإذا طبخنا بطنجرتين متوسّطتي الحجم سينضج الطّبيخ جيّدا، سأحمل واحدة على رأسي والأخرى ستحملينها أنت على رأسك.
توجّه أبو أحمد وأبناؤه قبل زوجته وابنته إلى بيت صهره يونس، جلسوا في الصّالون بعد أن أخبرهم يونس أنّ والدته الحاجّة صفيّة نامت بعد أن تناول وإيّاها طعام الفطور.
قال أبو أحمد:
طمئنونا عن صحّة الحاجّة صفيّة.
الحمد لله...الحاجّة -أطال الله عمرها- تعبت كثيرا في حياتها، وهي الآن في أواخر الثّمانينات من عمرها.
أبو أحمد: الأعمار بيد الله.
كانت كاملة الفنساء تكنس الأرض أمام بيتها عندما رأت أبا أحمد وأبناءه في طريقهم إلى بيت صهره يونس، أطلّت من النّافذة وقالت لزوجها:
أبو أحمد وأبناؤه مرّوا من الطّريق المقابلة في طريقهم لزيارة الحاجّة صفيّة يا عيسى.
نظر عيسى إلى ساعته وقال:
السّاعة الآن العاشرة والرّبع، اتركي التّكنيس وجهّزي نفسك أنت وسميح؛ لنلحق بهم، سنطمئنّ على صحّة الحاجّة صفيّة، وسنتناول غداءنا معهم؛ ليكون لدينا وقت؛ كي نعود إلى بيت أبي أحمد؛ لننهي عقد زواج سميح على غادة.
لم تناقش أمّ سميح، فقد دخلت إلى البيت، طلبت من سميح أن يرتدي ملابسه بسرعة، غسلت يديها ووجها، استبدلت ملابسها بسرعة، وقالت لزوجها:
أنا وسميح جاهزان يا عيسى.
أبو سميح: هيّا بنا.
استقبلهم يونس وأجلسهم مع أبي أحمد، بعد أن أخبرهم أنّ والدته الحاجّة صفيّة نائمة.
عندما جلست أمّ سميح وجّهت كلامها إلى أبي أحمد:
أين زوادة وغادة؟
ردّ أبو أحمد متكاسلا:
ستحضران في أيّ لحظة فقد جئنا قبلهما.
لم تمض دقيقتان حتّى وصلت زوادة وابنتها غادة، وكلّ واحدة منهما تحمل طنجرة على رأسها، طلبت زوادة من ابنتها غادة أن تدخل بطنجرتها إلى المطبخ حيث زوجة خالها يونس؛ لتضعا الطّبخة في صينيّة ويقدّمنها إلى الرّجال، وأضافت بأنّها ستأخذ طنجرتها إلى غرفة والدتها الحاجّة صفيّة.
قال لها شقيقها يونس:
الحاجّة نائمة يا زوادة، فلا تزعجيها، اتركيها حتّى تستيقظ وحدها.
وضعت زوادة طنجرتها أمامها، جلست على الأرض بجانب فراش والدتها، مسحت عرقها بطرف خرقتها، نظرت إلى أمّها، فرأت عينيها جاحظتين وفمها مفتوحا، مدّت يدها تتحسّس وجه والدتها، وأطلقت صرخة مدوّية، هرعوا إليها وهم يقولون بصوت واحد:
يا ساتر.
أوّل من دخل الغرفة هو يونس، تحسّس وجه والدته وقال وهو يغلق عينيها، ويطوي منديلها من تحت لحيتها ويربطه على مقدّمة رأسها؛ ليغلق فمها وهو يحوقل ويستغفر الله:
البقاء لله.
قالها ونزلت دموعه.
قال له أبو سميح:
الله يرحمها، لقد شبعت من عمرها، ترحّموا عليها.
طلبت منهم زوادة أن يخرجوا؛ ليتركوها هي وزوجة شقيقها وأمّ سميح؛ لترتيب أوضاع الحاجّة صفيّة قبل أن يجتمع المعزّون والمعزّيات.
طلب يونس من أحمد ابن شقيقته زوادة أن يذهب سريعا إلى بيوت أخواله وخالاته وبعض الأقارب، كما طلب عيسى السّلمان من ابنه سميح أن يدور على بيوت أناس من الأقارب والأنسباء؛ ليخبروهم بوفاة الحاجّة صفيّة، ولم ينس يونس أن يؤكّد عليهما بأنّ الجنازة ستكون بعد صلاة العصر مباشرة.
سأل أبو أحمد:
هل جهّزتم القبر يا يونس؟
يونس: القبر جاهز منذ أكثر من ستّة أشهر، عندما بدأت صحّة المرحومة تتدهور، كما أحضرنا الكفن أيضا.
نظر سميح إلى غادة وهو خارج لتنفيذ مهمّته، وكلّ منهما يبكي حظّه العاثر.
قالت زوادة ودموعها تنساب على وجنتيها:
يا حسرتي على أمّي، لو أنّ الله أطال في عمرها ساعة أو ساعتين حتّى تأكل من الطّبخة التي طلبتها.
ردّت عليها أمّ سميح:
وحدّي الله يا زوادة، انتهى أجلها، ترحّمي عليها الآن.
حملت غادة الطّنجرة من أمام أمّها ونقلتها إلى المطبخ.
قال يونس: ما رأيكم أن تتناولوا طعام الغداء قبل أن يتوافد النّاس لحضور الجنازة؟
ردّ عليه أبو سميح مستنكرا كلامه:
من بقي له شهيّة لطعام أو غيره؟
تنحنح أبو أحمد وقال:
سأذهب إلى المطبخ لآكل حبّة كوسا محشيّة قبل أن أتناول دوائي.
عاد أبو سميح يقول:
ما دامت شهيّتك مفتوحة يا أبا أحمد ابعث لي مع غادة في صحن صغير حبة كوسا ورأس باذنجان.
ابتسم يونس وقال:
أنت من أهل الدّار يا أبا سميح، تعال إلى المطبخ وكلّ كما تشاء.
تبعهم يونس إلى المطبخ وقال لغادة:
ضعي يا خالي لوالدك ولعمّك أبو سميح من المحشي كي يأكلا.
استغربت غادة أن يطلب والدها وعيسى السّلمان الطعام في هكذا مناسبة، وفي وقت كهذا. لكنّها تراجعت قليلا عن موقفها عندما تناول أبوها حبّة كوسا واحدة، وهو يقول: لا يوجد شهيّة لطعام ولا لشراب، ولولا أنّ الطّبيب أوصاني بأن أتناول الدّواء بعد الطّعام، لو مرّ عليّ يومان دون طعام ما جعت.
أكل ابو أحمد حبّة الكوسا على لقمتين، أخرج دواءه من جيبه، وابتلع حبّتين، ناولته بنته غادة كأس ماء، شربه بعد الدّواء، وعاد إلى الصّالون وهو يترحّم على الحاجّة صفيّة، ويقول: رحمة الله عليها كانت حنونة عليّ مثل والدتي-رحمها الله-.
وقال ليونس:
هيّا نجلس في ظلّ الأشجار خارج البيت، فالبيت لن يتّسع للنّساء، فلنفسح لهنّ المجال؛ ليجلسن براحتهنّ.
توافد كلّ من سمع من أبناء ونساء البلدة لحضور الجنازة، وبعد صلاة الظّهر جاء إمام المسجد برفقة من صلّوا في المسجد. جلس الإمام بالقرب من والدي العروسين، وهمس لهما:
هل ستعقدان لسميح على غادة بعد الجنازة؟
صمت أبو سميح؛ ليفسح المجال لأبي أحمد كي يردّ على الإمام.
التفت أبو أحمد إلى الإمام وقال غاضبا:
كيف سنعقد عقد زواج في حضرة الموت؟ فالمرحومة حماتي ومثل أمّي، ووالدة زوجتي، وجدّة أبنائي.
قال الإمام: إذن نترك العقد بعد أن تنتهي أيّام العزاء الثّلاثة.
لم يعجب كلام الإمام أبا أحمد، وهذا ما بدا على وجهه. لكنّ أبا سميح قال:
كلامك جواهر يا مولانا، بعد أيّام العزاء سنعقد عقد الزّواج؟
قال أبو أحمد متسائلا:
لِمَ العجلة؟ هل لدينا نذر أن نعقد عقد زواج غادة يوم وفاة جدّتها أو في فترة الحداد عليها؟ صدق من قال"ناس في عزاه وناس في هناه."
ردّ الإمام بهدوء:
هل تريدون ما يرضي الله أم ما يرضيكم؟
ردّ أبو سميح وأبو أحمد:
لا إله إلّا الله محمّد رسول الله...طبعا ما يرضي الله.
الإمام: قال صلّى الله عليه وآله وسلّم:" لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" متّفق عليه.
أبو أحمد: الحداد عندنا أربعون يوما.
استفزّ كلام أبي أحمد أبا سميح فقال:
الله أكبر، والله لو أنّها شاب ابن عشرين سنة حتّى نحدّ عليها أربعين يوما.
قال الإمام: أربعون يوم حداد هي عادة لا عبادة، وفي كلّ الأحوال عندما تقرّرون يوما معيّنا أخبروني بذلك، ولا داعي لكثرة الكلام في حضرة الموت.
قال أبو سميح:
بعد دفن الفقيدة ستهدأ النّفوس، وسيفرجها ربّنا على الجميع.
أبو ربيع
يعيش أبو ربيع حالة رعب غير مسبوقة، فمنذ اختفاء الحاجّة مبروكة وهو يصارع عواقب خداعه للنّاس واحتياله عليهم، فانزوى في غرفة نومه كفأر يختبئ في جحور متداخلة هربا من قطط تجوب المكان، أصبح في حالة ضياع ذهنيّ لم تستوعبها زوجته وأبناؤه، ولم يستطعوا تفسيرها، ما عاد شرسا في البيت كما هي عادته، يكرّر على زوجته وأبنائه باستمرار أن لا يفتحوا باب البيت لأيّ إنسان، وأن يخبروا أيّ سائل عنه بأنّه غير موجود، ولا يعرفون أين هو موجود.
ذات يوم ألقى نظرة من شبّاك البيت إلى الخارج، فرأى شابّا بيده خيرزانة، ارتعب خوفا ظنّا منه أنّه صاحب عصا الرّمان الذي جلد مبروكة وخليلها عدنان الجحش، عاد إلى فراشه مرتجفا، علا أنينه، فهرعت إليه زوجته وهو يهذي:
لقد جاء....لا تفتحوا له الباب.
اقتربت منه وسألته:
من هو الذي جاء؟ هل تنتظر أحدا؟ هل هناك من يطاردك؟
لم يجب على أسئلة زوجته، لكنّ شكوكا داهمتها هي الأخرى، حول هذا الانقلاب في حياة زوجها، لم تجد سببا لمعاناته وخوفه من النّاس بعد أن كان يمشي كالطّاؤوس، ويتعالى على الآخرين الذين كانوا يرتادون عيادته أو بيته ويرتجفون أمامه.
ذات يوم سأل ربيع والدته:
هل جُنّ أبي، فقد أصبح إنسانا آخر غير الذي نعرفه؟
صمتت الأمّ قليلا وقالت:
والله أنا حائرة بوضعه، فهل يُعقل أنّه تورّط في عمل مشين يخشى عواقبه؟ "وللي في بطنه عظام بِتْقرقع"، ليته يفصح لنا عمّا في داخله؛ لنستطيع مساعدته.
ربيع: ما رأيك أن نصطحبه إلى طبيب يعالجه؟
أجابت الأمّ: لن يقبل الخروج من البيت.
ربيع: نحضر له طبيبا إلى البيت.
أمّ ربيع: سيقيم الدّنيا علينا ولن يقعدها إن أتينا بطبيب إلى البيت، فهو من كان يعالج المرضى الذين كانوا يتزاحمون في عيادته.
ربيع: إذن ما العمل؟
فكّرت أمّ ربيع لبضع دقائق وقالت بعد أن بسملت وتعوّذت:
أبوك عالم روحاني يا ربيع، وأخشى أن يكون "السّحر قد انقلب على السّاحر".
- ماذا تقصدين؟
- أقصد أنّ أباك يتعامل مع الجنّ، وهناك جنّ من الكفّار ربّما انقلبوا عليه.
ذهل ربيع من تخوّفات والدته، فهو يعرف أنّ أباه يعمل " بصّارا"، وله قدرات عجيبة، فتساءل:
ما رأيك أن نفاتحه بالموضوع، ونطلب منه أن يستحضر أتباعه من الجنّ؛ ليخرجوه ممّا هو فيه؟
- إيّاك ثمّ إيّاك أن تتدخّل في هكذا أمور، يكفينا ما نحن فيه، لا نريد ان تلحق بأبيك، "فالطّبيب لا يعالج نفسه"، لكن بإمكاننا طلب مساعدة الحاجّة مبروكة، فلديها قدرات تشبه قدرات أبيك أو تزيد، وقد سمعته مرّات ينصح بعض زبائنه الذين كانوا يأتون بيتنا، ويحوّلهم إليها مشيدا بقدراتها.
ربيع: شاوريه في الأمر قبل أن نتطرّق إلى الحاجّة مبروكة.
ذهبت أمّ ربيع إلى غرفة النّوم حيث ينطوي أبو ربيع على نفسه فيها، جلست بجانب فراشه وقالت متردّدة:
وضعك الصّحّيّ لا يعجبني، ما رأيك أن نرسل ربيعا إلى الحاجّة مبروكة كي تعاينك؟
انتفض أبو ربيع ووقف صارخا:
الحاجّة مبروكة....أين هي؟ هل رأيتِها؟ هل خرجت من القبر؟
ارتعبت أمّ ربيع من صراخه، طلبت منه أن يهدأ، وسألته:
متى ماتت الحاجة مبروكة؟ لم نسمع أنّها ماتت.
أبو ربيع:
لا أعرف إن ماتت أو ما زالت على قيد الحياة، لكنّها اختفت.
- منذ متى؟
- منذ أشهر، وإيّاك أن تذكري اسمها مرّة أخرى أمامي.
خرجت أمّ ربيع من غرفة النّوم، وأشارت لابنها الذي دخل الغرفة عندما سمع صراخ أبيه أن يلحق بها، وقالت له:
يبدو أنّ الأمر خطير، وإذا اختفت الحاجّة مبروكة كما قال أبوك، فهذا يعني أنّ لمرض أبيك علاقة بذلك.
******
اختلفت حياة أبي ربيع، عاش صراعه ليل نهار، راودته أفكار بالرّحيل إلى بلاد لا يعرفه فيها أحد، فكّر كثيرا بالانتحار، لكنّه قرّر في النّهاية أن يكون رجلا آخر، لا يعرف النّاس ولا يعرفونه، ذهب إلى الحمّام، حلق ذقنه، طلب من زوجته أن تقصّ شعر رأسه بماكينة الحلاقة التي كانت تقصّ بها شعر أطفالها. لم تستطع مناقشته بالموضوع بعد أن رأته حليق الذّقن، بحثت عن المقصّ كي تقصّ شعره الطوّيل، فوجدته في الحّمام، حيث "جزّ" أبو ربيع ذقنه الطويلة بالمقصّ كي يستطيع حلقها بالشّفرة.
نظر إلى نفسه بالمرآة فابتسم عندما رأى نفسه شخصا آخر.
طاقيّة الخفاء
طلب من ابنه ربيع أن يذهب إلى السّوق وأن يشتري له بنطالا، قميصا، ومعطفا وحذاء.
سأله ربيع: كيف سأعرف قياساتك يا أبي؟
- طولي طولك لكنّي أسمن منك قليلا.
- ما رأيك أن نذهب سويّا؛ لتقيس ملابسك وحذاءك في المحلّ الذي سنشتري منه.
- اذهب وحدك " عين الحرّ ميزان"، قل لصاحب المحلّ هذه أغراض هديّة لقريب لنا مريض لا يخرج من البيت، وإن لم تكن على مقاسه سنستبدلها.
قبل أن يعود ربيع بالملابس التي طلبها أبوه، ركّزت والدته انتباهها على والده، فقد اعتادت أن تراه يرتدي ثوبا، يطلق لحيته؛ لتسرح على صدره وبطنه كيفما تشاء، يحلق شاربيه، شعر رأسه ينسدل على كتفيه، ينتعل صندلا، وجهه حنطيّ يميل إلى البياض، عيناه زرقاوان، أنفه مستقيم يغلب عليه اللون الأحمر، تتتساقط عنه قشور كثوب الأفعى، أسنانه فرقاء، تكسوها طبقة صفراء منفّرة، تترسّب على شدقيه إفرازات بيضاء، فيبدو فمه كأفواه فراخ الطّيور الصّغيرة، غالبا يمسحها بكمّ يده اليمنى. هذه الأوصاف ليست جديدة عليها، فهكذا كان عندما زوّجها والدها منه دون استشارتها ودون رغبتها، وهو لا يهتمّ بنظافة ملابسه أو جسده، رائحة عرَقِه تدعو إلى التّقيّؤ، يحمل في يده عصا غليظة طويلة، يرفعها بيده اليمنى عندما يمشي، ضاربا طرفها الثّاني بالأرض بكبرياء لا معنى لها.
بعد عِشرة قاربت العشرين عاما، استسلمت لواقعها، ورضيت بما هي فيه، لم تتأفّف أو تتذمّر يوما، خصوصا أنّه ينفق على بيته بسخاء، قياسا بالمحيط الفقير الذي يعيش فيه، اعتادت أن تراه يتظاهر بالتّقوى أمام من يرتادون "عيادته" أو بيته، طلبا لحلّ مشاكلهم وأمراضهم التي لا يعرفون كنهها، فيجلسون أمامه خاشعين يحكون له عن معاناتهم من أمر ما، ويؤمنون أنّه له قدرات خارقة، صدّقت ما يزعمه بأنّ له أتباع من الجنّ يساعدونه على إشفاء المرضى، تقريب قلوب المحبّين، تيسير زواج العوانس، إعادة الغائبين، فكّ السّحروغيرها ، صحيح أنّها سمعت عن قدراته التي يدّعيها قبل زواجها منه، لكنّها صارت تصدّقها لكثرة من يأتونه طالبين المساعدة، يأخذ منهم ما تيسّر له من نقود يملكونها أو يستطيعون استدانتها. لكنّها لم تستسغ علاقته الوحشيّة معها، ومع أبنائه منها، وعزت ذلك لكثرة انشغاله بمعاناة النّاس، وبسبب الجنّ الذين يتعاملون معه،- كما كانت تسمع منه-!
عندما حلق ذقنه وشعر رأسه بشكل مفاجئ، بعد أن انزوى في البيت لعدّة أشهر مبتعدا عن النّاس، استغربت ذلك ولم تجرؤ أن تسأله عن أسبابه، ازدادت حيرتها عندما طلب من ابنه ربيع أن يشتري له معطفا وقميصا وحذاء وملابس داخليّة. صارت تراقب حركاته كلّها ظنّا منها أنّه أصيب بمسّ من جنون.
فكّرتْ أن تستعين بأشقّائه؛ ليطّلعوا على الحالة التي وصل شقيقهم إليها، لعلّهم يصطحبونه إلى طبيب كما نصح بذلك ابنه ربيع، لكنّها لم تحسم الأمر خوفا منه، ولمعرفتها بأنّهم لا يطيقونه.
عندما عاد ربيع يحمل الملابس الجديدة، تناولها أبوه ضاحكا بطريقة هستيريّة، خلع ثوبه أمام زوجته وأمام ابنهما ربيع؛ ليرتدي الملابس الجديدة، فبدا عاريا كما ولدته أمّه. ابتسم ربيع وذهب إلى غرفة النّوم حياء من رؤية عورة أبيه.
ارتدى أبو ربيع الملابس الجديدة قطعة قطعة بدءا بالسّروال الدّاخليّ، وكلّما ارتدى قطعة يطلب من زوجته أن تبدي رأيها بها، بعد أن ارتدى الملابس الجديدة أمسك مرآة ونظر جسده مبتسما، أدخل قدميه في الجوربين وانتعل الحذاء وهو يقول:
ربيع ولد ذكيّ فهو يعرف مقاسات أبيه جيّدا، جلس على كرسيّ في مكتبه، يتحسّس ملابسه ضاحكا، تراقبه أمّ ربيع حائرة فسألها:
أليست هذه الملابس أجمل من الثّوب؟ ألا ترين وسامتي بذقني وشعر رأسي الحليق؟
لم تجبه أمّ ربيع على أسئلته، فهي مشغولة تفكّر بأسبابه التي أوصلته إلى هذا الانقلاب اللافت.
رغم مخاوف أمّ ربيع من الحالة العقليّة لزوجها، ومواصلة دعائها أن تكون عواقب هذا الانقلاب سليمة، إلّا أنّها هذه المرّة الأولى التي تراه فيها رجلا فيه وسامة افتقدتها، لكنّها تتمنّاها.
ذهبت أمّ ربيع إلى المطبخ لإعداد فنجان قهوة طلبه أبو ربيع، فجاء من يطرق الباب، نظر أبو ربيع الطّارق فإذا بها سعديّة ومعها طفل، فتح لها الباب باسما، فسألته دون أن تعرفه:
هل الشّيخ أبو ربيع موجود؟
أبو ربيع: تفضّلي...الشّيخ غير موجود!
سعدية: لقد ذهبت إلى عيادته ولم أجده، وقال الجيران بأنّه لم يفتح العيادة منذ أشهر، فمتى سيفتحها، أو سيستقبل المراجعين في بيته؟
أبو ربيع: لا أعرف متى سيعود فقد سافر إلى بلاد بعيدة؛ ليستزيد علما.
وهنا جاءت أمّ ربيع بفنجان القهوة ، نظرت سعديّة وطفلها. استدارت سعديّة وانصرفت من حيث أتت وهي تحوقل، طلب أبو ربيع من زوجته أن تضع فنجان القهوة في مكتبه، أغلق باب البيت وعاد إلى مكتبه ضاحكا، وهو على قناعة بأنّ تغيير شكله وملابسه الجديدة بمثابة طاقيّة الخفاء التي سيتستّر خلفها دون أن يعرفه أحد، فإذا كانت سعديّة التي سبق وأن عاشرها معاشرة الأزواج في عيادته؛ ليخرج الجنّ الكافر الذي يستوطن رحمها لم تعرفه، فلن يعرفه أحد آخر.
قالت له أمّ ربيع ببراءة وهو يرتشف قهوته:
الطّفل الذي مع المرأة التي طرقت الباب يشبه "ربيع" وهو في مثل عمره.
ردّ أبو ربيع وهو مبتسم:
سبحان الله "يخلق من الشّبه أربعين".
زواج
انتهت عدّة ليلى لطلاقها من "الطّواشى" موسى، حسبها سعيد حميدان باليوم، فقال لوالديه:
اليوم تنتهي عدّة ليلى، ما رأيكم أن نذهب مساء لطلب يدها؟
ضحك أبوه وقال:
دعنا نتريّث أسبوعا على الأقلّ، "في السّرعة ندامة وفي التّأني سلامة."
استفزّ هذا الكلام أمّ سعيد فقالت:
عن أيّ ندامة وسلامة تتكلّم يا فارس؟ نريد أن نفرح بسعيد.
التفت أبو سعيد إلى زوجته وتساءل:
وهل أنا ضدّ الفرح بزفاف سعيد؟ لكن من الحكمة أن نتريّث عدّة أيّام؛ كي لا يتدلّلوا علينا!
قال سعيد بودّ العاشق الولهان:
هل نحن في منافسة معهم حتّى يتدلّلوا علينا؟ أخشى أن يسبقنا أحد على ليلى، فتضيع منّا كما ضاعت المرّة الأولى.
قال أبو سعيد ساخرا:
يا لطيف! إذا سبقنا أحد إليها، مبروكة عليه والبنات كُثُر.
قبل أن يعقّب سعيد على كلام والده سبقته والدته فقالت:
أقترح أن نذهب مساء غد إلى أهل ليلى؛ لطلب يدها لسعيد، ولا داعي للتّأخير، ولا لهذا الكلام.
حوقل أبو سعيد وقال:
سأذهب الآن لشقيقي حميدان، لأخبره بالموضوع، وسنذهب غدا لطلب يد ليلى، لأنّ أمّك يا سعيد "بصلتها محروقة"، ودائما هي في عجلة من أمرها.
أمّ سعيد ضاحكة:
لا بصلة محروقة ولا غيرها "خير البرّ عاجله."
في بيت العمّ حميدان عرض شقيقه فارس عليه أنّ ابنه سعيد يريد الزّواج من ليلى، وسأله عن رأيه بهذا الموضوع، فقال العمّ:
الزّواج قسمة ونصيب، وليلى بنت أصول، وإذا كان سعيد يرغب بالزّواج منها " ما بنزيد الملح إلا ملاح".
أبو سعيد: سعيد "رقبته مكسوره عليها".
ضحك العمّ حميدان وقال:
مبروكة عليه إن وافقت هي وأهلها،" فبنات الغرب للشّرق وبنات الشّرق للغرب."
وهنا تدخّلت غادة بنت العمّ حميدان وقالت:
ليلى فتاة جميلة مؤدّبة، وكلّ الشّباب يتمنّونها، وأسأل الله أن تكون من نصيب سعيد ابن عمّي.
التفت أبو سعيد إلى غادة وقال:
كم تمنّيت أن يكون نصيب سعيد معك يا غادة لكنّ" الظَّلْمَه ما أجت على قدّ إيد الحرامي."
غادة: سعيد ابن عمّي وتاج رأسي، أحبّه مثل إخوتي، والزّواج قسمة ونصيب يا عمّ.
العمّ حميدان موجّها حديثة لأخيه فارس:
إذن لنذهب بعد عصر يوم غد لطلب يد ليلى لسعيد.
أبو سعيد: على بركة الله يا أبا أحمد.
العمّ أبو أحمد: ما رأيك أن نأخذ معنا أمّ سعيد وأمّ أحمد وغادة؟
ابتسم أبو سعيد وقال:
طبعا لا مانع لديّ و" ما بجيبها غير نسوانها".
ضحكت غادة وقالت:
لا تهتمّ يا عمّ، نحن نجلس مع النّساء، تطلبون أنتم ليلى من أبيها وأشقّائها، ونحن نطلبها من نفسها ومن أمّها، وسأقول لهما ما أستطيعه عن سعيد حتّى يسيل لعاب ليلى حبّا له.
أبو سعيد: لا أخاف عليك فأبوك حميدان وأمّك زوادة.
********
بعد صلاة عصر اليوم التّالي توجّهوا يتقدّمهم العمّ حميدان إلى بيت أبي ليلى، استقبلهم هو وزوجته ربيحة وأبناؤه محمد، عمر وعليّ، جلسوا في صالون البيت، بينما قادت ربيحة أمّ ليلى النّساء إلى غرفة أخرى، صافحتهنّ ليلى وأخذنها بالأحضان، غادة كانت آخرتهنّ فضغطت بيدها على يد ليلى وقالت وهي تحتضنها وتقبّلها:
ما هذا الجمال يا ليلى؟
الزّيارة مفاجئة، لكن عندما رأوهم عرفوا أسبابها قبل أن يتفوّهوا بأي كلمة، ليلى ترتدي ثوبا عاديّا، وجهها كما هو دون مكياج، شعرها ينساب على كتفيها متموّجا، عيناها واسعتان، أسنانها بيضاء ناصعة تختبئ خلف شفتيها الرّقيقتين. نظرت إليها أمّ سعيد تتفحصّها، وقالت بعفويّة:
سبحان الخالق!
ضحكت غادة عندما سمعتها وقالت تكمل حديث أمّ سعيد:
الذي خلق فسوّى.
أمرت ربيحة ابنتها ليلى؛ كي تُعِدّ القهوة، لكنّها ما لبثت أن لحقت بها وقالت لها:
اذهبي واستبدلي ملابسك بأخرى جديدة ولائقة.
ردّت عليها ليلى دون اكتراث:
لن أستبدل شيئا.
الأمّ: أنت عروس اليوم، ومطلوب منك أن تكوني بأحسن مظهر.
ليلى: سأبقى كما أنا، ومن لا يقبلني كما أنا فالباب مفتوح، ونسأل الله أن يسهّل طريقه.
حوقلت أمّها وقالت:
بنات آخر وقت.
رفضت ليلى أن تقدّم القهوة للرّجال، وقالت لوالدتها:
خذي القهوة للرّجال، وأنا سآخذها للنّساء.
في صالون الرّجال افتتح الحديث العمّ حميدان فقال لأبي محمّد والد ليلى:
جئناكم يا أبا محمّد نطلب يد ابنتكم ليلى لسعيد ابن أخي فارس على سنّة الله وسنّة رسوله:
في هذه الأثناء رشف سعيد من فنجانه، فنظر إليه أبوه نظرة استغراب لم يفهمها سعيد، فقال له أبوه:
لا تشرب القهوة يا سعيد قبل أن نأخذ طلبنا.
شعر سعيد بالإحراج، فانطوى على نفسه.
التفت أبو محمّد إلى أبنائه وسأل:
هل انتهت عدّة ليلى يا شباب؟
ردّ عليه ابنه عمر:
نعم انتهت يوم أمس.
لكنّ العمّ حميدان استغرب السّؤال والجواب فسأل:
عن أيّ عدّة تتكلّمون؟
ردّ عليه عمر:
عدّة طلاق ليلى من موسى الحمدان، فكما تعلمون ليلى كانت زوجته.
العمّ حميدان: كلّ البلد تعلم أنّ موسى الحمدان "طواشى"، وليلى لا تزال عذراء، فلِمَ العدّة؟
ردّ عليه عمر:
هذا هو شرع الله، فالخلوة بمثابة الدّخول، والطّلاق له عدّة شرعيّة.
تدخّل أبو محمّد والد ليلى وقال:
"قهوتنا لا تبرد" يا إخوان"، طلبكم مستجاب..اشربوا قهوتكم.
وهنا قال أبو سعيد:
فلنقرأ الفاتحة على هذه النّيّة. ونحن جاهزون لتلبية كلّ طلباتكم من مهر وغيره.
قرأوا الفاتحة وباركوا لسعيد. وهنا وقفت ربيحة والدة ليلى، وفاطمة والدة سعيد، وزوادة زوجة العمّ حميدان عند باب البيت، أطلقن رشقات زغاريد متتابعة، وهاهت أمّ سعيد:
أويهـــا
جيــــت أغنّـــي وقبلـــي مــا حـــدا غنّـــى
أويهـــا
بقــــاع وادي فيــــه الطّيــــــر بيستنـّـى
أويهـــا
وريتـــك يـــا سعيد بهــالعـــروس تتهنـــا
أويهـــا
وتظــــلّ ســــالـــم ويظـــلّ الفـــــرح عنّــا
أتبعتها زوادة وربيحة زغرودتين، وهاهت ربيحة:
أويهــــا
ارفـــع عينـــك يــا سعيد واقشعهــــا
أويهــــا
وكـل مـا قلتلـك كلمـه اسمعهـــا
أويهــــا
وكـــل المـال يلّـــي حطيتـــوا
أويهــــا
مــا بيســــوى راس اصبعهــــا
وانطلقت زغرودتان من زوادة وفاطمة، وهاهت زوادة قائلة:
أويها
يا ناس صلّوا على محمّد
أويها
حتى يلين الحديد
أويها
وهاذا فرح مبارك
أويها
ويطعموا لكلّ حبيب
زغردن ثلاثتهنّ دفعة واحدة، وقالت ربيحة وفاطمة لزوادة:
العقبى لفرح غادة.
في هذه الأثناء ألحّت غادة على ليلى؛ كي تذهبا معا إلى غرفتها، وهناك قالت لها:
الآن استبدلي ملابسك بملابس أخرى جديدة ولائقة؛ لنذهب كلّنا إلى صالون البيت؛ لتصافحي العريس ووالده وعمّه. غيّرت ليلى ملابسها دون نقاش، شاركتها غادة في اختيار فستان ورديّ لافت، رشّت عليها عطرا، كحّلت عينيها، ووضعت لها أحمر الشّفاه، عادتا إلى مكانهما مع أمّهاتهنّ، وهنا جاء عليّ شقيق ليلى الأصغر وطلب من أمّه أن يأتين؛ لتصافح ليلى عريسها ووالده وعمّه.
عندما رأى العمّ حميدان ليلى قال:
ما شاء الله! البنات يكبرن بسرعة، آخر مرّة رأيت فيها ليلى قبل حوالي خمس سنوات، كانت طفلة صغيرة، والآن أراها عروسا.
ردّ عليه والدها وقال:
"البنات مثل خُبّيزة المزابل" يكبرن سريعا.
ضحكوا جميعهم عندما سمعوا هذا المثل.
وهنا سأل أبو سعيد:
ما هي طلباتكم يا أبا محمّد؟
أبو محمّد: طلبنا هو السّتر.
حيّاك الله يا رجل، وليلى ستكون مثل بناتنا، وستنتقل من بيت أبيها إلى بيتها معزّزة مكرّمة.
لكنّ تحديد المهر أمر شرعيّ.
وهنا تدخّل عمر شقيق ليلى وقال:
مهر ليلى مثل مهر بناتكم.
تنحنح العمّ حميدان وقال:
مهر ليلى المعجّل عشر ليرات ذهب انجليزي والكسوة. والمهر المؤجّل ألف دينار، فما رأيكم.
ابو سعيد: نحن موافقون، وبالنّسبة للكسوة، تشتري ليلى ما يحلو لها من الملابس.
قال عمر: الوالد قال لكم طلبنا هو السّتر، وأبو سعيد قال أنّ ليلى مثل بناتكم، ونحن لا نشترط عليكم، وما قلته يا أبا أحمد مقبول من طرفنا.
أبو سعيد: حدّدوا يوما لشراء المصاغ والكسوة خلال هذا الأسبوع، والزّفاف سيكون يوم الجمعة في نهاية الأسبوع القادم، إذا لم يكن عندكم مانع.
أبو محمّد: على بركة الله.
ابو سعيد: "خير البرّ عاجله"، فما رأيكم أن نأتي غدا بالمأذون؛ ليعقد الزّواج؟
عمر: على بركة الله.
شكروهم وهمّوا بالمغادرة لكنّ والد ليلى قال لهم:
لن تغادرونا قبل أن تتناولوا عشاءكم عندنا. ومحمد نحر ذبيحتكم.
أبو أحمد: لِمَ هذه الغلبة، نحن لسنا ضيوفا عندكم.
عمر: لا شيء من واجبكم، وأهلا بكم.
******
عندما سمعت غادة بموافقتهم على عقد زواج سعيد على ليلى، ارتاحت نفسيّا ووجدتها فرصة مناسبة، ستفتح الطّريق لعقد زواج سميح عليها، فهي تعيش حالة رعب، فربّما هي حامل، وقد تكون حاملا، وجاءت وفاة جدّتها لأمّها صفيّة كحجر يغلق طريق زواجها السّريع من سميح فارس، عندما عادوا إلى بيتهم، انفردت بوالدتها في المطبخ وسألتها:
ما رأيك بخطبة سعيد وليلى؟
الأم: مبارك لهما ونسأل الله لهما التّوفيق.
ليلى: لِمَ شاركت في الطّلبة وهاهيتِ وزغردتِ؟
استغربت الأمّ سؤال ابنتها وتساءلت بدهشة؟
وما المانع في ذلك؟ فسعيد ابن سلفي ومثل ابني ومن الواجب أن نشاركهم أفراحهم.
ابتسمت غادة بخبث وقالت:
بما أنّك وأبي فرحان بطلبة سعيد وشاركتما فيها، فهل الحداد على جدّتي صفيّة -رحمها الله-مقصور عليّ وعلى سميح؟
التفتت زوادة إلى ابنتها وقالت:
هل تستعجلين الزّواج يا غادة؟ إن كان كذلك فسأكلّم أباك الآن بهذا الخصوص، وذهبت إلى حيث يجلس زوجها وقالت له:
" الطّبيب ما بطبّب حاله يا حميدان".
ردّ عليها مستفسرا:
ماذا تقصدين يا امرأة؟
- أقصد غدا عقد زواج سعيد على ليلى، وزفافهما بعد أسبوعين، وعقد زواج سميح على غادة تأخّر بسبب وفاة الوالدة -رحمها الله-.
- ما دمنا قد شاركنا في طلبة سعيد، والحاجّة صفيّة -رحمها الله- والدتك، وأنا أعلنت الحداد عليها احتراما وتقديرا لك، مع أنّها مثل أمّي أيضا، وإذا أردت إنهاء الحداد على أمّك، فأنا لا مانع عندي.
زوادة: أقترح أن نتّصل بسميح ووالديه؛ كي يحضروا المأذون ظهر غد؛ لنتمّم عقد زواج سعيد على غادة قبل عقد سعيد وليلى، فقد قرأنا فاتحتهما قبل أسبوعين، وجاءت وفاة الوالدة بشكل مفاجئ.
حميدان: فكرة جيّدة، أرسلي ابنك أحمد إليهم الآن؛ ليخبرهم بذلك.
نادت ابنها أحمد فجاء إلى أبيه وغادة تتبعه.
نظر أبو أحمد لابنته غادة وسألها:
ما رأيك يا غادة، أمّك تقترح أن نعقد عقد زواجك على سميح بعد صلاة ظهر يوم غد، وسأرسل أحمد إليهم الآن؛ ليخبرهم بذلك.
ازدادت خفقات قلب غادة من الفرح، فخوفها من الحمل يقضّ مضاجعها، وإذا ما انكشف الحمل سيكون سببا كافيا لقتلها، ومع ذلك تظاهرت باللامبالاة فقالت:
الرّأي لك يا أبي.
صدفة
قبل مغيب الشّمس بحوالي ساعة، وقف أبو ربيع أمام المرآة ينظر نفسه مرّة أخرى بعد أن خلع ثوبه وارتدى بنطالا وقميصا، حلق ذقنه وشاربيه، وقصّ شعر رأسه، رأى نفسه شابّا وسيما! قرّر أن يتمشّى في أسواق المدينة القريبة؛ ليرى إذا كان النّاس سيتعرّفون عليه أم لا، فقد ملّ الحبس المنزليّ الذي فرضه على نفسه، ترك عصاه في البيت، قاد سيّارته من باب البيت، أوقفها في شارع قريب من مدخل المدينة الرّئيس، نزل يتلفّت إلى جميع الجهات، وكأنّه يخاف حتّى من نسيم الهواء، فهذه هي المرّة الأولى التي يرتدي فيها بنطالا منذ خمسة وثلاثين عاما عندما ترك المدرسة قبل أن ينهي الابتدائية، ومنذ ذلك الوقت وهو يرتدي ثوبا وينتعل "بابوجا" صيفا وشتاء، بعد أن التفّ على مجموعة محتالين يتستّرون بالدّين ويتظاهرون بالورع، وصار واحدا من صبيانهم الّلصوص الذين يسرقون لصالح مشغّليهم، علّموه فنون الدّجل والشّعوذة، فأطلق ذقنه وحلق شاربيه بناء على تعليماتهم، وهذا اللبّاس واحد من متطلّبات خداع النّاس للنّصب والاحتيال عليهم، ولمّا شبّ واشتدّت عضلاته انفصل عنهم وامتهن الشّعوذة، فوجدها مصدر رزق دافق لا ينضب.
مشى في شارع المارّة فيه قليلو العدد. بعض أصحاب المحلّات التّجاريّة استغربوا منظره، قال أحدهم لجاره وهو يشير لأبي ربيع:
ذاك الرّجل فيه ملامح من أبي ربيع.
ردّ عليه الثّاني وأبو ربيع يسمعهما:
هذا الرّجل غريب فيه وسامة، لا شبه بينه وبين أبي ربيع، فأبو ربيع إنسان وضيع مقرف، ذقنه يشبه ذقن تيس الماعز، ورائحته كريهة كرائحة التّيس في مرحلة السّفاد. لم يُعرهم أبو ربيع انتباهه، غذّ الخطى يبتعد عنهما وهو يتلفّت حواليه، شعر وكأنّ أحدهم يخزه في مؤخّرته، عندما التفت خلفه لم يشاهد أحدا، استغرب كثرة النّاس الذين ينظرون إليه، احتار إن كانوا قد تعرّفوا عليه أم أنّهم يستغربون شكله، قطع الشّارع بسرعة، عندما انعطف يمينا إلى شارع يكثر فيه المارّة، وجد نفسه وجها لوجه أمام عدنان الجحش، فواصل طريقه وكأنّه لا يعرفه، لكنّ عدنان الجحش لاحظه ولم يتأكّد من شخصيّته، فتبعه قاصدا التّأكد إذا ما كان هذا الرّجل أبا ربيع نفسه أم أنّه شخص يشبهه، غلبه الظّن أنّه رجل آخر، فمن غير المعقول أن يتخلّى أبو ربيع عن ثوبه وذقنه وشعر رأسه الطّويل، فهي جزء من عدّة النّصب التي يحتال بها على النّاس البسطاء.
تتبّعه عدنان الجحش لسبب لا يعرفه، وإذا به يرى عمر شقيق ليلى الذي جلده هو ومبروكة بعصا الرّمان على بعد حوالي عشرين مترا منه، التفّ بسرعة إلى رصيف الشّارع الثّاني، وهو يطأطئ رأسه؛ كي لا يعرفه عمر، رآه أبو ربيع فثنى رأسه يراقبه، وإذا به يصطدم وجها لوجه بعمر الذي لا يعرفه، غضب أبو ربيع من عمر مع أنّه لا يعرفه، فشتم أباه وجدّه وعورة أمّه بصوت عال ودفعه بقوّة وهو يقول:
"عمى يعميك"
انهال عمر عليه لكْمًا وهو يصرخ في وجهه:
جسمك كجسم البغال وعقلك كأحلام العصافير، أنت من صدمتني ومع ذلك تشتم وتضرب.
تدخّل المارّة وفرّقوا بينهما بعد أن وقع أبو ربيع على الأرض، وداس عمر وجهه بحذائه، فنزلت دماؤه من شدقيه بعد أن ضغط حذاء عمر على شفتيه اللتين انغرست نواجذه فيهما.
وقف أبو ربيع وهو يشتم ويهدّد، فقال بعض من تجمهروا بجانبهم:
صوت هذا الرّجل وملامح وجهه، تشبه أبا ربيع، في حين نفى كثيرون ذلك، اقترب أحدهم منه وسأله:
هل تعرف العالم الرّوحاني أبا ربيع؟
تجاهل أبو ربيع السّؤال، لكنّ الرّجل كرّر السّؤال وهو يمسك بيد أبي ربيع، بينما أبو ربيع يلهث ككلب. لكنّه ردّ على السّائل:
لا أعرف الخراء أبا ربيع الذي تسأل عنه.
راقب عدنان الجحش الموقف من الرّصيف الثّاني، حتّى انصرف عمر غير مكترث بما جرى، فاقترب من أبي ربيع يتمعّن وجهه:
تأكّد من صوته ومن طريقة كلامه بأنّه أبو ربيع، فاقترب منه، أمسك يده يقوده، وهو يقول: هيّا بنا.
التفت إليه أبو ربيع وقال غاضبا:
اغرب عن وجهي يا جحش.
حوقل عدنان الجحش وقال له:
دعك من قلّة الحياء وامشِ معي.
سأل المتجمهرون عدنان الجحش:
هذا رجل غريب هل تعرفه يا هذا؟
سبقه أبو ربيع وقال:
من أين سيعرفني هذا الرّجل وأنا غريب أدخل مدينتكم للمرّة الأولى؟
فهم عدنان الجحش من جواب أبي ربيع أنّه بلباسه وحلاقة ذقنه وشَعْر رأسه يتخفّى أمام النّاس، ولا يريد أن يعرفه أحد، وشكّك بأنّه يخطّط لمصيبة كبرى.
لكن أحدهم سأل أبا ربيع:
من أتى بك إلى مدينتنا؟ وماذا تريد؟
لم يحْتج أبو ربيع وقتا؛ ليبتدع كذبة يجيب بها على سؤال الرّجل فقال:
سمعت أنّ في منطقتكم عالمة روحانيّة اسمها الحاجّة مبروكة، وجئت أبحث عنها؛ لتعالجني من مرض أصابني.
ردّعليه أحدهم:
الحاجّة مبروكة رحلت منذ أكثر من عامين، ولا نعرف لها عنوانا، ولا نسمع عنها شيئا.
تمتم أبو ربيع كلاما لا معنى له، واستدار في طريقه إلى سيّارته، فتبعه عدنان الجحش حتّى وصل أبو ربيع سيّارته، فأمسك به الجحش بقوّة وهو يقول:
الآن تأكّدت أنّك أبو ربيع، فلماذا هذا التّخفي؟ هل تخطّط لمصيبة جديدة سترتكبها؟
صاح به أبو ربيع: انصرف يا عدنان وإلا.....
أمسك به عدنان الجحش وقال له:
أنا أبحث عنك منذ أتيتني إلى بيتي وشتمتني وهدّدتني، وأنت تبحث عن مبروكة، ومنذ غادرت مبروكة المكان وأنا في حيرة من أمري، أنفقت كلّ ما ادّخرته، ولم أجد بابا أطرقه إلا بابك، فإن لم تدفع لي ألف دينار سأفضحك أمام النّاس، وسأكشف لهم كلّ ألاعيبك التي احتلت عليهم بها، وسأصطحبهم إلى بيتك؛ ليتأكّدوا أنّك محتال، والرّجل الذي أرداك أرضا وداس بحذائه على وجهك، هو الذي جلدني أنا ومبروكة بعصا الرّمان.
أرغى أبو ربيع وأزبد وقال:
لِمَ لم تقل لي ذلك يا جحش؛ كي أمسك به قبل أن يغادر؛ لأتعرّف عليه وأستفسر منه عن مبروكة؟
ضحك عدنان الجحش وتساءل:
كيف ستمسك به بعد أن طرحك أرضا وداس بحذائه على وجهك، وركلك عدّة ركلات على مؤخّرتك، وصوتك يعلو كخوار ثور هَرِم؟
مدّ عدنان الجحش يده يفتّش جيوب أبي ربيع، وجد في جيب المعطف الدّاخليّ خمسين دينارا، وضعها في جيبه وغادر المكان وهو يقول:
غدا في ساعات الصّباح سأطرق باب بيتك؛ لأستلم تسعماية وخمسين دينارا، وإن لم تفتح الباب ولم تعطني المبلغ المطلوب، سأفضحك أمام الجميع بدءا من زوجتك وأبنائك.
تساقطت دموع أبي ربيع بعد أن شعر بحالة الذّلّ التي وجد نفسه فيها، لامَ نفسه لأنّه هو من سلّم مبروكة لعدنان الجحش، رأى نفسه حقيرا يقطف ثمار ما زرعه من موبقات، مرّ في ذاكرته المثل القائل" علّمناهم الشِّحده سبقونا ع الابواب"، شعر أنّه أخطأ بحقّ الجحش عندما زاره في بيته؛ ليستفسر منه عن مبروكة، وكيف رفع صوته عليه موبّخا على مسمع زوجته، لم يجد مناصا من دَفْع ما طلبه الجحش، رغم مخاوفه من الجحش الذي لن يتوانى عن تكرار طلبه مرّات ومرّات، فكّر بطريقة يتخلّص فيها منه، وما لبث أن تراجع عن ذلك خوفا من العواقب.
عاد أبو ربيع مهموما قلقا إلى بيته بعد مغيب الشّمس بقليل، لمّا رأته زوجته سألته مستغربة:
ماذا جرى لك؟ ما هذه الأوساخ التي على ملابسك الجديدة؟ هل تشاجرت مع أحد؟ ولِمَ هذا الورم على شفتك العليا؟
سحب أبو ربيع شهيقا عميقا وقال:
تزحلقت على الشّارع وسقطت على الأرض كعصا ينخرها السّوس.
لم تصدّق أمّ ربيع ما قاله فعادت تسأله بسخرية:
هل سقطتَ على ظهرك أم على وجهك؟
ردّ عليها بانكسار:
سقطتُ على ظهري، ومن شدّة الألَمِ تدحرجت على وجهي، فالتطمت بخشبة ملقاة على الرّصيف، فأصابت فكّي الأيمن وفمي.
طلب من زوجته أن تُعدّ له فنجان قهوة، وقف أمام المرآة يرى وجهه. عندما رأى الكدمات على وجهه وفمه، امتلأ غضبا وقال بصوت مسموع:
"الدّهر يومان: يوم لك ويوم عليك"، ويبدو أنّ دوري انتهى، فانقلبت الدّنيا عليّ.
سألته زوجته وهي تشكّ بقدراته العقليّة:
بِمَ تهذي يا أبا ربيع؟
نظر إليها نظرة ازدراء ولم يجبها، وضعت له فنجان القهوة على طاولته وانصرفت.
رشف رشفة من فنجان القهوة، فلم يحتمل حرارتها التي لامست جرحا في شفته السّفلى، فقذفها خارج فمه؛ لتحطّ رذاذا متطايرا على الطّاولة أمامه.
غادة وليلة العمر
عندما عقدوا قران سميح على غادة شعر العروسان وكأنهما فراشتان تحلّقان في حديقة غنّاء، تتنقّلان من وردة إلى أخرى، فرحتهما كبيرة؛ لأنّ علاقتهما ستمرّ بهدوء، خصوصا وأنّ غادة حامل منذ ما يقارب الشّهرين، جلسا وحدهما أمام البيت تحت شجرة زيتون، قال سميح وهو يحمدل:
"حمل ثقيل نزل عن ظهري".
ردّت عليه غادة وابتسامة تعلو وجهها:
شعرت بأعراض الوحام منذ وفاة جدّتي، ساورتني مخاوف كثيرة، طار النّعاس من عينيّ، لم تعد لديّ شهيّة للطّعام، عندما أتقيّأ لم يخطر ببال أحد أنّني في فترة وحام، والداي ظّنا أنّني أتعرّض لنوبات من البرد، قال لي أبي أكثر من مرّة:
تغطّي جيّدا فبرد الصّيف أسوأ من برد الشّتاء، أمّا والدتي فتردّد على مسامعي كثيرا:
" يا من سترت لا تفضح"، ولا أعرف إن كانت تقصدني أم لا!
أبدى سميح مخاوفه من فضيحة قادمة عندما يأتيها المخاض بعد زواجهما بسبعة أشهر.
ردّت عليه غادة:
هذه قضيّة بسيطة فهناك نساء يحملن سبعة أشهر فقط.
تمّ زفافهما بعد عقد قرانهما بأسبوع، لم يشعر العروسان بفرحة الليلة الأولى، فقد قطفا ثمارها قبل ما يقارب ثلاث سنوات، مرّ يوم الزّفاف على غادة كيوم عاديّ، لم تتخوّف من شيء، ولم تتحمّس لشيء، بينما كان شيطان الشّهوة يثقل كاهلي سميح.
قبل أن يغلق العروسان باب غرفة خلوتهما أوصت كاملة الفنساء ابنها:
بعد أن تنتهي من مهمّتك افتح الباب وطمئنّا.
ضحك من كلامها وقال:
اطمئني....لن أفتح الباب حتّى الصّباح.
في الفراش سألت غادة عريسها:
هل فهمتَ وصيّة أمّك يا سميح؟
ردّ عليها سميح ضاحكا:
اتركيك من هذا الكلام الفارغ.
عادت غادة تقول:
يبدو أنّك لم تفهم مراد والدتك، فهي تريد أن ترى دم البكارة.
امتعض سميح ممّا سمع، سكت هنيهة وقال:
"ذهبت السّكره وجاءت الفكره" هذه ورطة لم نحسب حسابها، وتساءل:
ما العمل؟
غادة: لا أدري.
سميح: أنتِ المسؤولة عن ذلك عندما استسلمتِ وسلّمتني جسدك، لِمَ لم تحافظي على جسدك ما دمت تعرفين زمان ومكان فضّ البكارة؟
غضبت غادة وتساءلت غاضبة:
هل ارتكبت جريمة عندما بادلتك حبّا بحبّ، ووثقت بك لنكون زوجين؟
ردّ عليها سميح:
هذا الكلام ليس وقته، دعينا نفكّر بمخرج لهذا المأزق.
صمتت غادة قليلا وقالت:
وجدتها.
سأل سميح بلهفة:
ماذا وجدتِ؟
قالت غادة بحماس:
سأجرح طرف إصبعي بمقص الأظافر، وسأعصر عدّة نقاط دم أمسحها بسروالي الدّاخليّ؛ لتطمئنّ أمّك.
تفاجأ سميح من فكرة غادة وقال:
هذه فكرة جيّدة، أنا سـأجرح إصبعي وليس أنت، أين المقصّ؟
أخرجت غادة مقصّ الأظافر من حقيبتها الصّغيرة، فتلقّفه سميح منها، قصّ بها جانبا من اصبعه الخنصر، مسح الدّم بسروال غادة الدّاخليّ وهما يضحكان.
فتح سميح الباب وخرج بينما بقيت غادة في غرفتها وهي ترتدي قميص النّوم، هرعت كاملة الفنساء والدة سميح وزوادة والدة غادة إلى غرفة الخلوة:
رأتا ملابس غادة الدّاخلية ملقاة بجانب الفراش، تفقّدت أمّ سميح السّروال بينما كانت والدة غادة تقدّم رِجلا وتؤخّر أخرى، عندما رأت كاملة الفنساء الدّم أطلقت زغرودة فرحٍ لفحولة ابنها، بينما أطلقت زوادة زغرودة فرح لثبوت عذريّة ابنتها.
لامت زوادة نفسها على توبيخها لابنتها غادة عندما رأتها في الحقول متمدّدة مع سميح، شعرت أنّها ظلمت ابنتها، فها هي دماء العذريّة تشهد على بطلان مخاوفها.
زالت مخاوف غادة بعد ذلك، بينما استسخف سميح هذه العادات.
عادت زوادة إلى بيتها، بينما رجعت كاملة الفنساء إلى صالون البيت حيث يجلس أبو سميح وبعض الأقارب، نظرت إلى ابنها سميح مبتسمة وعلى وجهها فرح طفولي وقالت له:
لا أحد يترك عروسه ليلة الدّخلة؛ ليسهر مع الآخرين، اذهب واسهر مع عروسك.
فتح سميح باب غرفة خلوته وأغلقه من الدّاخل وهو يضحك فسألته غادة:
لِمَ وعلامَ تضحك؟
واصل سميح الضّحك وقال:
مرّت بخاطري فكاهة أضحكتني.
سألته غادة:
أسمعنِها لنضحك معا.
سميح: "يحكى أن أعرابيّا تزوّج، وليلة الدّخلة عاشر زوجته ثلاث مرّات، بعدها تناولا عشاءهما معا، وتسامرا، وعند منتصف الليل قالت العروس لعريسها:
قُمْ لِنَعرس!
فقال لها: لقد أعرسنا.
فردّت عليه: لو كنت أعرف أنّ العرس هكذا لما تزوّجت، لأنّني شبعانة من هذا وأنا أرعى غنمي."
تصنّعت غادة ابتسامة وسألته:
ماذا تقصد؟
ردّ سميح عليها بهدوء:
نحن تعاشرنا منذ ثلاث سنوات، وتزاوجنا في الخلاء طيلة هذه المدّة، ولا معنى لدخلتنا هذه الليلة.
قالت غادة: نسأل الله المغفرة.
تنهّد سميح تنهيدة عميقة وقال:
نسأل الله الغفران لكن...........ولم يكمل.
سألته غادة: لكن ماذا؟
سميح: هناك من أفتى فتوى تصيبنا في مقتل.
غادة: ما فحوى هذه الفتوى؟
سميح: " إن كان الجماع قد حصل قبل عقد النّكاح، فهو زنا، والمولود النّاشئ عنه ابن زنا ينسب إلى أمّه ويرثها وترثه، ولا يحلّ لها إجهاضه، فإن فعلت فقد جمعت بين ذنبين عظيمين هما: الزّنا وقتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ."
شهقت غادة فزعة وقالت:
إذن نحن "بين أمرين أحلاهما مرّ،" فإمّا أن نتستّر على خطيئتنا، وإمّا أن نكشفها، وقد يكلّفنا ذلك حياتنا وحياة الجنين في أحشائي، و"ديننا دين يسر"، ولا أعتقد أنّ الله يقبل ذلك وهو الغفور الرّحيم.
ضمّها سعيد إلى صدره وهو يقول:
اتركينا من هذا الكلام، فرحمة الله وسعت كلّ شيء.
ليلى ومخاوفها:
وجدت ليلى نفسها منقادة إلى زفاف لم تتحمّس له كما كلّ الفتيات في هكذا مناسبات، فزفافها على موسى ترك ندوبا في قلبها، لم تستطع الخروج منها رغم تظاهرها بعكس ذلك، استعادت من ذاكرتها تجربتها مع موسى منذ السّاعة التي طلب يدها فيها، إلى الخطبة والزّفاف وحتّى الطّلاق، وحلمها بأن تبني معه حياة زوجيّة هادئة، تنجب فيها البنين والبنات، لكنّ هذه الأحلام ذرتها الرّياح، وتواصلت عواصفها المتلاحقة حتّى اقتلعت خيمة حياتهما المشتركة.
شعرت ليلى بنوع من الطّمأنينة عندما رأت أخاها عمر متحمّسا لزواجها من سعيد، ووصفه لها بأنّه شابّ خلوق كريم ذو شهامة ومروءة. لكن من يضمن لها ألّا تكون أمّه شرّيرة كأمّ موسى؟
في أثناء خطبتهما لم تجلس معه إلّا بوجود آخرين، استمعت لأحاديثه مع والديها وحواراته مع أشقّائها، وتمنّت لو تنفرد بالجلوس معه؛ لتتعرّف عليه أكثر.
في يوم زفاف ليلى اختارت لها ربيحة والدتها ثوبَ حرير مطرّزا لافتا، وهو الثّوب الذي ارتدته مرّة واحدة يوم زفافها، واحتفظت به؛ لتزفّ بناتها فيه، أعجبت ليلى بالثّوب ورأته أجمل من الثّياب الحديثة البيضاء المزركشة، عندما رأته فاطمة والدة العريس، ضحكت فرحا بملء فيها وقالت لوالدة ليلى:
أحسنت الاختيار يا ربيحة.
عندما أخرجوا ليلى من بيت أبيها، أمسك شقيقها عمر بيدها اليسرى، في حين أمسك العريس سعيد بيدها اليمنى، فهاهت حماتها:
أويها صلاة الّنبي على عروستنا
أويها زيّ القمر ضاوي حارتنا
أويها صلاة الّنبي على عروستنا
أويها احنا المزيونات والزّين عادتنا
وانطلقت عشرات الزّغاريد من النّساء الأخريات.
وغنّت النساء:
يِخلف عليكم كثّر الله خيركم
لفّينا البلد ما لقينا غيركم
يخلف عليكم كثّر الله خيركم
ماعاد نناسِب من النّسب غيركم
ليله سعيده والقمر يتعلّل
ليله سعيده والقمر يتعلّل
كلّه عشانك يا سعيد تِدْلّل
ليله سعيده والقمر هلالِ
ليله سعيده والقمر هلالِ
كلّه عشانك يا سعيد يا غالي
وعادت أمّ سعيد تهاهي:
أويها الطول طول النّاقه و الشَّعر مثل الليل
أويها يا نايمين الضّحى انتبهوا بالليل
أويها سعيد صاد الغزاله
وكل مهاهاة تعقبها زغاريد أخرى.
أمّا ربيحة والدة العروس ليلى فقد تقدّمت صفوف النّساء وهي تغنّي وتردّ الأخريات عليها:
يا امّ سعيد الله يتمّم عليكِ
يا أمّ سعيد يتمّم عليكِ
يا مسعده والسّعد حواليكِ
يا مسعده والسّعد بين ايديكِ
قولوا لفاطمه تفرح وتتهنّا
تْرُشّ الوسايد بالعطر والحنّا
قولوا لفاطمه تا تحنّي ايديها
تِعْزِمْ حبايبها وتعمل الّلي عليها
يا امّْ سعيد الله يتمّْ عليكْ
يا امّْ سعيد يتمّْ عليكْ
عندما اقتربوا من بيت العريس تجمهر الشّباب يدبكون فرحين وممّا غنّوه:
عريسنا شيخ الشّباب
شيخ الشّباب عريسنا
عريسنا ضمّة ورد
ضمّة ورد عريسنا
عريسنا ما ابدعه
مثل القمر مطلعه
عريسنا زين الرّجال
زين الرّجال عريسنا
قبل خلوة العروسين أوصت فاطمة ابنها العريس سعيد قائلة:
بَيِّض وجوهنا.
لم يفهم سعيد مغزى كلام أمّه، لكنّه هزّ رأسه موافقا اختصارا للحديث.
قبل مرور ربع ساعة، ارتدى سعيد منامته وخرج، فدخلت والدته التي كانت تنتظر هذه اللحظة، تفحّصت سروال ليلى الدّاخليّ، ابتسمت عندما رأت قليلا من الدّماء على السّروال:
أطلقت زغرودة فرح وهاهت:
آي ويا مرحبا يا اعزازي
آي ويا مية حمرا تزازي
آي وللي ما فرحت لسعيد
آي وتنكسر كَسر القزازِ
ومن بعيد سمعتها عائشة أمّ موسى طليق ليلى فقالت بصوت مسموع:
"الله يكسر خاطرك يا ليلى وخاطر إمّك." والله أعلم أين دارت الدّنيا بموسى.
سمعها زوجها فقال:
عيب عليك يا امرأة، المشكلة ليست في ليلى ولا في أمّها، المشكلة في ابنك.
شعرت ليلى بسعادة غامرة كتمتها في سرّها، فقد تحقّق شرط الزّواج الرّئيس، وبالتّالي ستعيش حياة هانئة بعيدا عن خزعبلات المحتالين كالحاجّة مبروكة.
عندما تأكّدت فاطمة من عذريّة ليلى، خرجت وقالت لزوجها وهي تحمدل:
ثبت أنّ ليلى عذراء يا فارس، وسعيد فحل مثل أبيه.
نظر إليها أبو سعيد نظرة فيها تساؤلات ولم يقل شيئا.
في الفراش وسعيد يحتضن ليلى فخورا بفحولته، سألها:
ماذا فعل معك موسى الحمدان خلال العام الذي أمضيته معه؟ لِمَ لم يستطع معاشرتك؟
صُعِقت ليلى من سؤاله، انتفضت وتحرّرت من حضنه ولم تجبه، فأعاد عليها السّؤال مرّة أخرى، فارتجفت وجلست وقالت ودموعها تنزل على وجنتيها:
حسبي الله ونعم الوكيل.
فعاد يسألها: ماذا جرى لك يا ليلى؟
التفتت إليه وقالت له بصوت حزين:
ليس من حقّك أن تسأل هكذا أسئلة يا سعيد، أنا الآن زوجتك، وأنت تعرف أنّي كنت زوجة موسى وطليقته قبل أن تطلب الزّواج منّي. فلا تفتح دفاتر انتهت.
سعيد: لا تفتعلي مشكلة من لا شيء، وسأبوح لك الآن بسرّ لا تعرفينه.
لم تُعره انتباها، لكنه عاد يقول:
هل تعلمين أنّني أحببتك قبل أن تتزوّجي موسى، ولو تأخّر زواجك من موسى شهرا لسبقته بطلب يدك؟
لم تصدّق ليلى ما قاله لها، أو هي تجاهلت ذلك.
شعر سعيد بحماقته عندما تكلّم بهذا الموضوع، عاد يضمّها إلى صدره دون أن يعتذر لها، فواصلت بكاءها ونحيبها.
سداد الدّين
طرق عدنان الجحش بعصاه باب بيت أبي ربيع بعنف في ساعات الصّباح، سمع أبو ربيع الطّرق وهو في فراشه، فارتجف رعبا، غطّى وجهه باللحاف، خرجت أمّ ربيع من المطبخ تستطلع الطّارق، رأت عدنان الجحش يقف خلف باب البيت وبيده عصا غليظة، لم يتبادلا تحيّة الصّباح، لكنها قالت له مستفسرة:
نعم...ماذا تريد.
- أين أبو ربيع؟
- خرج.
- متى؟
- منذ حوالي ربع ساعة.
- هذا غير صحيح، فأنا أمام البيت منذ أكثر من نصف ساعة أنتظرخروجه من البيت.
دفعها ودخل البيت عنوة، جلس في المكتب خلف الطّاولة وهو يقول:
أخبريه بأنّني أنتظره.
أمّ ربيع: من أنت؟
- قولي له عدنان في انتظارك.
لم يكن أبو ربيع بحاجة لمن يخبره، فقد سمع الصّوت وعرف صاحبه، خرج من غرفة نومه محدودب الظّهر متظاهرا بالضّعف وقلّة الحيلة. وما إن وصل باب المكتب حتّى صاح به عدنان الجحش وهو يهزّ عصاه:
ارفع ظهرك وانظر إليّ كما الرّجال وإلّا .........
قبل أن يكمل عدنان تهديده، تجمّع أبناء وبنات أبي ربيع أمام المكتب يستطلعون ما يجري، تقدّمهم ربيع ودخل المكتب وصرخ في وجه عدنان:
من أنت؟ ماذا تريد؟ انصرف من بيتنا.
نهره أبوه طالبا منه أن يأخذ إخوته وأخواته وأن يعودوا إلى غرف نومهم، في الوقت الذي رفع فيه عدنان الجحش عصاه؛ ليضربه بها، لكنّه تراجع عندما سمع كلام أبي ربيع معه. قال أبو ربيع بهدوء:
اهدأ يا عدنان، فعهدي بك أنّك رجل عاقل، وهذا ما أكّدته لي الحاجّة مبروكة أكثر من مرّة. ونادى بصوته طالبا من أمّ ربيع أن تحضّر فنجاني قهوة.
- لا أريد قهوتك ولست مشتاقا لرؤية وجهك القبيح.
توسّل إليه أبو ربيع قائلا:
أرجوك يا عدنان، لا تتمادى عليّ أمام زوجتي وأبنائي، ماذا تريد؟
عدنان: "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ".
همس له أبو ربيع:
أنا لست عدوّك يا عدنان، بل صديقك، هل نسيت أنّني سلّمتك الحاجّة مبروكة، وأقنعتها أن تكون خليلتك، وأن تنعم عليك بالمال مقابل جهدك معها؟
- لم ولن أنسى، لكنّك أهنتني في بيتي وأمام زوجتي، واتّهمتني بقتل الحاجّة مبروكة.
- حقّك عليّ، وسأعوّضك عن ذلك.
هدأ عدنان الجحش قليلا وسأل:
ماذا ستعوّضني؟
أبو ربيع: اطلب تُعطَ.
- أنت تعلم أنّني أعرف عنك كلّ شيء، ألاعيبك مع النّساء، احتيالك على النّاس، وقد جنيت من ذلك أموالا كثيرة، ولي فيها نصيب.
- سأعطيك ألف دينار على أن لا تريني وجهك مرّة أخرى.
- سأقبل بها كدفعة أولى!
- هل جننت يا عدنان، ألف دينار ستبني بنصفها بيتا أكبر من بيتك، وبالنّصف الثّاني اعمل لك مصلحة تعيش من ريعها.
- هذا لا يكفي.
- يا رجل أنا تبت توبة نصوحة أن لا أعود إلى الماضي اللعين الذي عشته، وسأحجّ إلى بيت الله الحرام في موسم الحجّ القادم، وسأثبّت توبتي مرّة أخرى عند ستار الكعبة، فما رأيك أن تحجّ معي على نفقتي الخاصّة.
- هئ هئ... هل تحسبني مغفّلا حتّى أصدّق توبتك؟ " القحبة إذا تابت عرّست"! على كلّ سأقبل الآن ألف دينار، ولنا لقاءات قادمة.
- سأعطيك إيّاها الآن، لكن لا أريد أن أراك في بيتي مرّة أخرى.
- قلت لك بأنّ لنا لقاءات أخرى.
قبض عدنان الجحش ألف دينار من أبي ربيع وانصرف دون استئذان، على أمل أن يعود لابتزاز أبي ربيع مرّات ومرّات، وصار على قناعة بأنّ نقطة ضعف أبي ربيع هي الهجوم عليه في بيته.
جلس أبو ربيع في مكتبه حائرا ذليلا، فكّر بخطّة يتخلّص فيها من عدنان الجحش، وفي هذه اللحظة دخلت عليه زوجته وسألته:
من هذا المجنون الذي كان عندك؟ وما علاقتك به؟
غضب أبو ربيع من زوجته وأجابها:
انصرفي من وجهي لعنة الله عليك وعليه.
- لِمَ كان يرفع صوته عليك، وتعودا تتهامسان؟ هل بينكما أسرار؟
- قلت لك انصرفي من وجهي ولا تتدخّلي بعلاقاتي مع الآخرين.
ردّت عليه وهي تكظم غيظها:
سأنصرف من أمامك، لكن عد إلى رشدك، فمنذ السّاعة التي حلقت فيها ذقنك، وقصصت شَعْر رأسك، واستبدلت ثوبك بملابس الشّباب، وأنا في حيرة من أمرك، لم أعد قادرة على فهْم أسبابك؟ فماذا تخبّئ في سرّك؟
- انصرفي..."من تدخّل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه".
متشابهون
تلتقي مريمُ وسعديّةَ وعطاف، وكان لقاؤهنّ صدفة في طرقات البلدة، التقين ثلاثتهنّ مرّة واحدة، وهنّ ذاهبات إلى العمل في الحقول، كلّ واحدة منهنّ تنظر إلى طفل الأخرى، فترى شبها كبيرا بينه وبين طفلها، تحبس تساؤلاتها في ذاكرتها، تقيّد لسانها؛ كي لا تقع في المحظور، تنبش تاريخ سلالتها؛ بحثا عن صلة قرابة ولو كانت بعيدة تربطها بالأخرى، فالمثل يقول: "على مية جدّ بتجيب ثور ابْرَق"، و"العِرِق دسّاس"، فهذا الشّبه بين الأبناء ليس عفويّا. سعديّة تتفوّق على مريم وعطاف بحسن نيّتها، فتسبّح بحمد الله؛ لأنّه "يخلق من الشّبه أربعين"، لكنّ أفكارا سوداوية تنتاب كلّا من مريم وعطاف، وكلّ واحدة منهما تشكّ بزوجها بأنّه أقام علاقة سرّيّة مع زميلتيها فحملتا منه، لكنّهما لا تلبثان أن تتعوّذا بالله من الشّيطان الرّجيم، فتطردان الوساوس التي تنتابهما.
ذات يوم وهنّ يعملن في الحقول، وأولادهنّ يلعبون بجانب الطّريق التّرابيّ، مرّ بهم رجل مسنّ من قرية مجاورة يمتطي حمارا، ضايق الأطفال الثّلاثة الرّجل، ألقوا عليه الحجارة، نهرهم الرّجل؛ ليبتعدوا عنه، لكنّهم لم يرتدعوا، ولما ارتفع صوته وهو يشتم من ربّوهم، ركضت أمّهاتهم؛ لتمسك كلّ منهنّ ابنها، نظر إليهنّ الرّجل وإلى أطفالهنّ وسألهنّ:
هل أنتنّ ضرائر؟
أجبنه بصوت واحد:
لا.
وعدن يسألنه:
لِمَ تسأل هكذا سؤال؟
صمت قليلا وقال وهو يتفحّص الأطفال:
غريب.
وسألنه وهو يدير رأس حماره ليواصل طريقه:
ما الغريب يا رجل؟
واصل طريقه مبتعدا عنهنّ وهو يتمتم بصوت مسموع:
الأطفال الثّلاثة أبناء رجل واحد شرّير، فــ "العِرْق دسّاس."
قهقهن ضاحكات وكلّ منهنّ تنظر إلى وجه الأخرى، صمتت سعديّة لكنّ مريم وعطاف تساءلتا ضاحكتين:
هل يعقل أنّ زوجي هو والد الأطفال الثّلاث؟
ردّت عليهما سعديّة ساخرة:
الحمد لله أنّني لا أعرف زوجيكما ولا يعرفانني أيضا.
صمتت سعديّة وهي تعضّ على شفتها السّفلى عندما تذكّرت ما فعله بها أبو ربيع، بذريعة إخراج الجنّيّ الكافر من رحمها، شعرت بغثيان يدفعها للتّقيّؤ، سحبت شهيقا عميقا، والشّكوك تعصف بها، تردّدت كثيرا قبل أن تسأل:
هل عانيتما من مشاكل في الحمل، أو من خلافات زوجيّة؟
لم تنتبها ولم تروادهما شكوك حول مغزى سؤالها فقالت عطاف:
نعم أنا تلبّسني جنّي كافر بعدما تزوّجت، ومنعني من الحمل لمدّة عامين، لكن بفضل الله خرج منّي ذلك اللعين عندما راجعت العالم الرّوحانيّ أبا ربيع في عيادته.
وقالت مريم: أنا مررت بخلافات زوجيّة بعد أن أنجبت ابنتي الأولى، وراجعت العالمة الرّوحانيّة الحاجّة مبروكة، فبصقت في فمي مرّات عديدة؛ لتطهّرني من الجنّ، ولمّا يئست من إصلاح أمري حوّلتني إلى العالم أبي ربيع، وشفيت على يديه.
همهمت سعديّة وهي تقول:
أبو ربيع... أبو ربيع... لعنة الله عليه، وعلى اللعينة مبروكة.
استذكرت كلّ منهنّ ما جرى لها مع أبي ربيع، وسكتن دون أن تفصح أيّ منهنّ عمّا فعله أبو ربيع بها، كلّ منهنّ برّأت نفسها من الخطيئة، لكنّها قذفت بداخلها زميلتيها.
تجرّأت عطاف وسألت سعديّة:
لِمَ شتمتِ أبا ربيع قبل قليل؟
سعديّة: أبو ربيع والحاجّة مبروكة محتالان محترفان.
عطاف: اتّقي الله يا امرأة، فهم صالحان ولهما قدرات عجيبة.
عادت سعديّة تشتمهما بأقذع الألفاظ.
تساءلت عطاف وقالت:
أخاف عليك منهما، فلديهما أتباع من الجنّ ينقلون إليهما كلام من يغتابونهما.
سخرت سعديّة من كلام مريم وقالت:
اللعنة عليهما وعلى من يصدّقونهما.
وهنا تدخّلت مريم فسألت سعديّة:
هل سبق أن ارتدتِ عيادة أبي ربيع؟
صعقت سعديّة من السّؤال، ارتبكت قليلا وأجابت:
لا...فأنا لا أؤمن بهذه الخزعبلات.
لم تصدّقها مريم وعطاف، لكنّ الأخيرة عادت تسأل:
إذن لِمَ تشتمين من لا تعرفين؟
أجابت سعديّة بلهجة حازمة:
لأنّني سمعت قصصا عنهما يشيب من هولها الوِلدان.
تظاهرت عطاف بالسّذاجة وسألت:
هل يقتلان من يلجأون إليهما طلبا للشّفاء؟
سعديّة: بعض المجرمين يقتلون ضحاياهم نفسيّا ومعنويّا ويتركونهم في جحيم الحياة.
ضياع
صار أبو ربيع كفأر تطارده قطط جائعة في فضاء مزبلة، لم تعد لديه جرأة لاستقبال أناس في بيته أو في عيادته، فقد سطوته في بيته، فأبناؤه يبتعدون عنه خائفين من تصرّفاته، صار لغزا محيّرا لزوجته، لا يغادر فراشه إلّا لقضاء الحاجة، فخروجه من البيت لم يعد آمنا، فعدنان الجحش يترصّده أو هكذا خُيّل له، لم ينفعه تغيير شكله بعد أن قصّ شَعْر رأسه وحلق ذقنه، واستبدل ثوبه بملابس أخرى مختلفة، يحلم أحلاما مزعجة؛ فيقفز صارخا من فراشه. أفعاله الشّيطانيّة تدور أمامه في شريط يؤرّقه، هزل جسمه، لم تعد له شهيّة للطّعام، فكّر بالرّحيل إلى مكان بعيد لا يعرفه فيه أحد، ذات يوم طرح الفكرة على زوجته فسألته:
لِمَ سنرحل؟ وإلى أين؟
ردّ عليها كاذبا متذلّلا:
أرهقني التّعامل مع الجنّ والعفاريت.
قطعت حديثه قائلة:
إذن اترك هذا العمل.
- لو تركته فإنّ النّاس هنا لا يتركونني، فقد اعتادوا أن يأتوني لحلّ مشاكلهم ولعلاج مرضاهم.
- قل لهم أنّك لم تعد قادرا على هكذا أعمال.
- لن ينفع هذا معهم.
- إذن ما العمل؟
- سنسافر إلى مكان بعيد أو إلى بلاد أخرى لا يعرفنا فيها أحد.
- كيف سنعيش هناك؟ ولمن سنترك بيتنا وأراضينا؟
- سنبيعها أو نتركها للأبناء إذا عادوا إلى بلادنا بعد وفاتنا. ولدينا من الأموال ما يكفي؛ لنفتح مشروعا تجاريّا، نعتاش منه في البلاد التي سنهاجر إليها.
- مسقط الرّأس غال يا أبا ربيع، و" لا كرامة لإنسان إلّا في وطنه"، وإذا هاجرنا سيضيع أبناؤنا في الغربة.
- لكنّنا سنعيش أحرارا وبكرامة، و" للي معه فلوسه بنت السّلطان عروسه".
استغربت أمّ ربيع ما قاله وسألته عاتبة:
هل سنهاجر؛ كي تتزوّج هناك يا أبا ربيع؟
أبو ربيع: لا تكوني صغيرة العقل، فأنت عندي أفضل نساء الأرض.
صمتت أمّ ربيع على مضض غير مصدّقة كلامه ثمّ قالت:
إذا كنتَ مصمّما على الهجرة إلى مكان بعيد، فسأبقى مع أبنائي هنا، فهاجر وحدك، وعد متى تشاء.
أغمض أبو ربيع عينيه متظاهرا بالنّعاس، فكّر كثيرا بحيلة تخرجه من الحالة البائسة التي يعيشها، قاده تفكيره بأن يعمل وليمة كبيرة يدعو إليها أعيان البلد، وسيعلن فيها توبته عن أعمال الشّعوذة، ولن تنقصه الحيلة والخديعة التي سيقنعهم بها بأنّه قد ترك التّعامل مع الجنّ، أو بالأحرى بأنّ الجنّ قد غضبوا منه وما عادوا يتعاملون معه، وبالتّالي فإنّه سيؤدّي فريضة الحجّ في موسم الحجّ القادم.
استحسن الفكرة وقرّر عرضها على زوجته وابنه ربيع كونه أصبح رجلا يعقل الأمور.
عندما عاد ربيع إلى البيت بعد صلاة العصر، انفرد بوالدته وقال لها على استحياء:
لقد عرضت حالة أبي على إمام المسجد الكبير في المدينة، شرحت له طبيعة عمله في الرّوحانيّات وعن علاقته بالجنّ، فضحك الرّجل منّي وقال:
الجنّ موجودون يا ولدي لقوله تعالى:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، لكنّ للجنّ عالمهم الخاصّ، ولا علاقة لهم بالإنس.
وعندما أكّدت له بأنّ للوالد علاقات بالجنّ، ويستعين بالمؤمنين منهم لطرد أقرانهم الكافرين الذين يتلبّسون بعض البشر، استغرب ذلك وسأل بعد أن تعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم:
من قال لك ذلك يا أمّي؟
وعندما أجبته بأنّ الوالد هو من يقول هذا الكلام، ضحك الإمام وقال:
أبوك مريض يا ولدي وبحاجة إلى علاج.
استمعت أمّ ربيع لما قاله ابنها باهتمام، وبعد لحظة صمت قالت:
لم أعد قادرة على استيعاب تصرّفات والدك يا ربيع، وأعتقد أنّه كما قال لك إمام المسجد بأنّ أباك مريض.
التفت ربيع خلفه خوفا من أن يكون والده يسترق السّمع عليهما، وهمس لوالدته سائلا:
هل سبق وأن رأيتِ الجنّ يا أمّي؟
بسملت الأمّ وهي تتحسّس رأس ابنها وتحوقل وقالت:
لم أرَ، ولا أريد أن أرى الجنّ، ودعك من هذه الأمور يا ولدي، فيكفينا ما نحن فيه.
حلّق ربيع بذاكرته وقال متردّدا:
لن تري الجنّ لا أنت ولا غيرك، ومنذ طفولتي وأناس كثيرون يشفقون عليّ أو يستهزئون بي عندما يعرفون ابن من أنا!
- إذن لِمَ هذه الأسئلة يا ولدي؟
- أريد أن أعرف الحقيقة يا أمّي، فما عدت قادرا على احتمال نظرات النّاس إليّ، وتصرّفات أبي تحيّرني.
وهنا سمعا صوت أبي ربيع ينادي قائلا:
مع من تتكلّمين يا أمّ ربيع؟
ردّت عليه وهي تسير إليه خائفة:
مع ربيع.
- تعالي أنت وربيع.
جلس ربيع بجانب فراش أبيه محاذيا ساقيه، بينما جلست والدته قبالته بمحاذاة صدره، تنهّد أبو ربيع وقال:
أريد أن أستشيركما في أمر هامّ.
أصغيا إليه باهتمام فواصل حديثه:
لم أعد قادرا على احتمال التّعامل مع الجنّ والرّوحانيّات، وأفكّر بعمل وليمة كبيرة أدعو إليها عددا من أعيان المنطقة، وسأعلن أمامهم توبتي عن ممارسة أعمالي السّابقة، كما سأعلن نيّتي على أداء فريضة الحجّ في موسم الحجّ القادم، وسأؤكّد توبتي هذه عند أستار الكعبة المشرّفة، وسأبدأ حياة جديدة.
استمعا إليه ولم يقولا شيئا، فعاد يسألهما عن رأيهما في الموضوع.
سأل ربيع على استحياء:
هل ترى الجنّ وتتعامل معهم حقيقة يا أبي؟
استغرب أبو ربيع سؤال ابنه فسأله مستنكرا:
ألا تصدّقني يا ولد؟
أجاب ربيع متردّدا:
في المدرسة علّمونا أن للجنّ عالمهم الخاصّ ولا علاقة لهم بالإنس، وهذا اليوم سألت إمام المسجد الكبير في المدينة وهو شيخ أزهريّ، فأكّد ما تعلّمته في المدرسة، وعندما شرحت له معاناتك في المرحلة الأخيرة قال لي:
أبوك مريض وبحاجة إلى علاج عند طبيب.
انتفض أبو ربيع عندما سمع كلام ابنه وعاد يسألهما عن رأيهما بالوليمة التي يقترحها.
أجابه ربيع وهو يطأطئ رأسه حياء:
لقد اعتاد النّاس أن يروك بذقن شعرها طويل، وأنت ترتدي ثوبا وتنتعل "بابوجا"، وإذا دعوتهم ورأوك وأنت حليق الذّقن والرّأس، وترتدي ملابس أخرى، فسيستغربون ذلك، ولن يستسيغوا ذلك.
سرح ربيع بخياله فيما إذا نفّذ أبوه دعوته للوليمة، وحضرها أناس لا يصدّقون من يزعمون أنّ لهم علاقة بالجنّ، خصوصا إذا تجرّأ أحد هؤلاء واتّهم أباه أمام الآخرين بالكذب أو بالجنون. انتبه أبو ربيع لشرود ابنه الذّهنيّ فسأله:
بِمَ تفكّر يا ربيع؟
ابتلع ربيع ريقه وقال:
أخشى إذا نفّذت دعوتك وعملت وليمة، "أن ينقلب السّحر على السّاحر."
ذهل أبو ربيع من كلام ابنه وسأله:
كيف؟ ولِمَ؟
ربيع: لا أخفي عليك يا أبي أنّ كثيرين لا يؤمنون بوجود علاقة بين الإنس والجنّ، وأخاف أن يتّهمك أحد من هؤلاء بالكذب والاحتيال على النّاس، وعندها ستقع في مشاكل لا أوّل لها ولا آخر.
احتار أبو ربيع بكلام ابنه، وفكّر بضحاياه الذين احتال عليهم، خصوصا تلك النّساء المغفّلات اللواتي احتال عليهنّ وانتهك أعراضهنّ. لم يخش الفضيحة فهو على قناعة بأنّ ضحاياه لن يعترفوا بما حصل معهم خوفا على أنفسهم من الفضيحة، لا رحمة به.
التفت إلى زوجته وقال لها يستهزئ بها:
أراك تتكوّرين على نفسك مثل" قُفّة الهمّ لا بتنعي ولا بتسكتي ابن النّعّايه". لِمَ لا تُسمعيننا رأيك؟
تصنّعت ابتسامة صفراويّة وقالت:
ربيع تكلّم عنّي وعنه.
ردّ عليها بجلافة بائنة وبسخرية قاتلة:
إذن ابق كما أنت "كالبومة التي قبرت فراخها."
غضبت من كلامه وقالت وهي تغادر الجلسة:
لقد أضعت نفسك وأضعتنا معك، والمصيبة أن لا أحد يسلم من بذاءة لسانك.
البوح الممنوع
مرّ زفاف غادة وسميح كسحابة صيف عابرة، فكلا العروسين لم يعش فرحة الليلة الأولى، ولا هيبة اللقاء الأوّل، فلقاؤهما الأوّل في الحقول قبل حوالي ثلاث سنوات تبعته مخاوف كثيرة، ولو انكشف سرّهما لخسرا حياتيهما، ولطاردهما عار الفضيحة لأجيال قادمة.
استقبلت كاملة الفنساء المهنّئات بسعادة، وهي تتمنّى لهنّ أن يفرحن بزفاف أبنائهنّ.
لعقت غادة جراحات قلبها وهي ترى زوجها سميح قد انقلب عليها بعد زفافهما، فهو يحمّلها مسؤوليّة تسليمها جسدها له قبل الزّواج، وعندما تذكّره بأنّه هو من انقضّ عليها كثور هائج لم تستطع مقاومته، فإنّه يردّ عليها:
أنت السّبب.
فتسأله: كيف؟
أنتِ من أغويتِني.
- لكنّك أنتَ من جئت إلى حقلنا وهاجمتني مستغلا عدم وجود آخرين.
- لِمَ لم تدافعي عن نفسك؟
تصمت غادة قليلا وتقول:
لو صرخت طالبة النّجدة، لقتلوك!
يصمت سميح قليلا ويقول:
"الحديث فيما مضى مضيعة للوقت".
غادة: إذن اطرد هذه الوساوس من رأسك، ودعنا نعيش حياتنا كبقيّة البشر.
فرحت أمّ سميح عندما رأت غادة تتقيّأ باستمرار، ولم تعد لها شهيّة بالطّعام، فهذا برهان على أنّها حامل.
بعد سبعة أشهر وضعت غادة طفلها البكر، سمّوه عيسى على اسم جدّه لأبيه، احتفلوا به كونه الحفيد الأوّل. تساءلوا عن فترة الحمل فقد جاء الوليد بعد سبعة أشهر من زفاف والديه، قالت جدّته كاملة الفنساء:
الطفل السّبعاوي أكثر ذكاء من أبناء تسعة الأشهر، فهو يستعجل القدوم إلى الحياة الدّنيا. بسملت وهي تقول بعفويّة:
ما شاء الله عليه، كأنّه ابن تسعة أشهر وزيادة.
عاد الشّكّ يؤرّق زوادة والدة غادة، فقد استعادت بذاكرتها عندما رأت غادة وسميح في منخفض الأرض في آخر الحقل. تعوّذت بالله من الشّيطان الرّجيم، حمدت ربّها أنّ غادة وسميح تزوّجا، وهي تعلم أنّ هناك نساء كثيرات يحملن سبعة أشهر فقط.
بعد أسبوع من ولادة غادة حملت كاملة الفنساء حفيدها الصّغير، وقالت لابنها سميح:
سبحان الخالق.... يشبهك تماما.
سميح: لكن أنا ابن تسعة أشهر وهو ابن سبعة.
أمّ سميح: الولد كامل النّمو، ويبدو أنّه ذكيّ أكثر منك.
ابتسم سميح وهو ينظر إلى الطّفل ويقول:
أنا لا أجرؤ على حمل طفل بهذا العمر؛ كي لا أؤذيه.
أمّ سميح: مثل أبيك فهو لم يحمل أيّا منكم قبل أن يحبو ويذهب هو إليه.
عندما اختلى سميح بغادة قال لها:
ليتنا لم نُقم علاقة بيننا قبل الزّواج.
غادة: " كلمة ليت ما بتعمّر بيت" ونحن الآن زوجان، ولدينا ابن.
سميح: ابننا ابن سفاح.
غضبت غادة وقالت:
في الأحوال كلّها هو ابننا، وحملي قبل الزّواج سرّ لا يعرفه إلا الله وأنا وأنت، وإذا كان ذلك جريمة فأنا وأنت شركاء فيها.
سميح: نعم هي جريمة ارتكبناها ولا علاقة لهذا الطّفل بها.
صُعقت غادة من كلام سميح، نزلت دموعها وهي تستذكر كلمات الحبّ التي دغدغ بها عواطفها منذ ثلاث سنوات، وكيف تبخّرت بعد الزّواج؟ نظرت إلى وجه سميح وسألت والحزن يغلبها:
هل الحبّ جريمة يا سميح؟
ردّ سميح مستغربا:
من قال لكِ هذا؟
غادة: أنت.
استغرب سميح كلامها وقال:
الخيانة جريمة، أمّا الحبّ المشروع فلا.
غادة: وهل هناك حبّ مشروع وحبّ محرّم؟
سميح: نعم...ولو لم يكن الأمر كذلك لصار النّاس كالبهائم.
غادة: إذا كنت نادما على زواجك منّي، فلِمَ طلبت يدي أكثر من خمس مرّات؟
سميح: لست نادما على زواجي منك، وأنا أحببتك ولا أزال أحبّك وسأبقى أحبّك، لكنّي ما أحببت أن تحملي قبل زواجنا.
غادة: هذا ما حصل، وقد نجونا بزواجنا من فضيحة لو انكشف أمرنا قبل الزّواج.
*****
بعد أربعين يوما من ولادة غادة لابنها عيسى جاءت ليلى وحماتها؛ لتباركا بالمولود الجديد، عانقتا غادة وحماتها كاملة الفنساء بحرارة، ردّت عليهما حماة غادة وهي تشير إلى بطن ليلى المنتفخ:
العقبى لكم عندما نبارك لكم بمولود ليلى.
قالت غادة تمازح ليلى:
ليتك تنجبين طفلة جميلة مثلك يا ليلى؛ لنخطبها لعيسى.
ضحكن جميعهنّ وفاطمة حماة ليلى تقول:
ولد أو بنت، ما يرزقنا به الله مقبول علينا.
بينما قالت كاملة الفنساء:
إذا أنجبت ليلى بنتا جميلة مثلها سيتنافس الخطّاب عليها.
قالت ليلى: كلّه في علم الغيب، وما يعجبنا لا يعجب أبناءنا.
استيقظ عيسى الصّغير ووالدته تعدّ قهوة الضّيافة، حملته ليلى ووضعته في حضنها، رفعت كفّ يده اليمنى وقبّلتها وهي تشبك بدبّوس قطعة ذهبيّة على شكلّ كفّ على صدره وتقول باسمة:
باسم الله ما شاء الله! هذه عربون مهر لك من ابنتي التي سأنجبها.
ابتسم عيسى الصّغير بعفويّة وبراءة، فقالت جدّته الفنساء مازحة:
ها هو عيسى يبتسم لك موافقا.
فضحكن قهقهة على ذلك.
بعد أن انصرفت ليلى وحماتها، حملت كاملة الفنساء حفيدها عيسى، أخرجت من جيبها قطعة بخّور، أشعلتها في منفضة، دارت بالمنفضة حول رأس وصدر الحفيد عيسى وهي تتمتم:
"حوّطتك بالله من عيني وعيون خلق الله
من دارْ لك باله يشغل باله في حاله
كرشته غطا عينيه مانيش أقدر من ربّي عليه."
ضحكت غادة وهي ترى وتسمع "تبخيرة" حماتها لطفلها، وتساءلت:
ما هذا يا عمّتي؟
ردّت الحماة بصرامة:
"النّاس عيونهم فارغة ويحسدون السّالم سلامته".
قالت غادة وهي تنظر وجه طفلها بحنان زائد:
أيّام قليلة وستنجب ليلى بنتا أو ولدا.
- من تنجب البنت تنجب الولد، والعكس صحيح أيضا، لكنّ أيّا من النّساء لن تنجب طفلا بحذاقة ووسامة الحبيب عيسى.
- سمعها أبو سميح من الغرفة المجاورة فعقّب على كلامها ضاحكا:
" القرد في عين امّه غزال".
بسملت أمّ سميح وهي تقول" الملافظ سعد" يا أبا سميح. حملت حفيدها وذهبت به إلى جدّه، وضعته في حضنه وهي تقول:
انظر إليه وتمعّن في خلق الله، فهو يشبه والده تماما.
قبّل عيسى السّلمان جبين حفيده وهو يبسمل، فتح الطّفل عينيه وابتسم وهو ينظر إلى وجه جدّه، قابل الجدّ ابتسامة حفيده بضحكة عريضة وهو يقول:
هذه الابتسامة العذبة سأنحر لها عقيقة كبشين عظيمين، سأدعو إليهما الأقارب والنّسايب.
فقالت غادة تمازح حماها:
وأين نصيب الفقراء في العقيقة يا عمّ؟
ردّ أبو سميح:
نصيب الفقراء كبشان آخران، سأترك توزيعهما على الفقراء لك يا غادة.
قالت غادة تجامل حماها:
أسأل الله أن يطيل عمرك يا عمّ؛ ليردّ لك عيسى هذا الجميل من تعب جبينه.
الجدّ: الأعمار بيد الله، ونسأل الله أن يحمي هذا الحفيد الرّائع.
وهنا قالت الجدّة كاملة الفنساء:
هذا الحفيد سيكبر ويصير رجلا مقداما كجدّه.
وهنا قالت غادة: سيكون مقداما كأبيه وجدّه.
نظر الجدّ لغادة وقال:
ما أغلى من الولد إلا ولَدِ الولدِ يا ابنتي.
مفاجأة
صباح يوم ربيعيّ حمدان وزوجته عائشة والدا موسى "الطّواشى" يتمشّيان في بستان البيت قرب شجرة مشمش، يلتقطان بعض ثمارها النّاضجة سعيدين، يتمازحان وهما يستعيدان ذكرياتهما عندما زرعا أشجار البستان بعد زواجهما قبل حوالي ثلاثين عاما،
قال أبو موسى:
هل تذكرين يا عائشة عندما زرعنا هذه الأشجار؟
أجابت أمّ موسى مفاخرة:
أذكر ذلك جيّدا عندما اقترحتُ عليك زراعة أشتال المشمش، اللوز، البرقوق، الرّمّان، السّفرجل والتّين، ولكنّك عارضتَ ذلك في البداية.
أبو موسى: نعم أذكر ذلك جيّدا، فالفضل في زراعتها يعود إليكِ، ولم يكن في قطعة الأرض هذه سوى أربع شجرات زيتون معمّرة.
أمّ موسى: الأرض لا تخيّب ظنّ من يقصدها زارعا، فثمار هذه الشّجرات تكفي حاجتنا، ونهدي منها الأقارب والأصدقاء، ونبيع ما يزيد ونغطّي بثمنه احتياجات البيت الأخرى.
أبو موسى: ولك الفضل في زراعة الباميا، اللوبيا، الفقّوس، الكوسا، اليقطين وأشتال البندورة بين الأشجار.
أمّ موسى: أرضنا معطاءة يا حمدان، ومن يفلح أرضه لا يحتاج أحدا.
أبو موسى: هذا صحيح فزراعتنا للأرض في أطراف البلدة تغنينا عن العمل المأجور، ومن خيراتها بنينا بيتنا وعلّمنا أبناءنا، وزوّجناهم.
في هذه الأثناء توقّفت سيّارة خاصّة يقودها شاب وسيم يرتدي بدلة سوداء اللون، وربطة عنق حمراء على قميص أبيض، بجانب بيت أبي موسى، ترجّل منها رجل مسنّ ذو مهابة، على رأسه كوفيّة بيضاء اللون يعلوها عقال أسود، عباءته فضفاضة واسعة، طرحا السّلام وسأل الشّابّ:
هل هذا بيت حمدان العلي أبو موسى؟
أجاب أبو موسى:
نعم أنا حمدان العلي أبو موسى، أهلا بكم...تفضّلوا.
طلب أبو موسى من زوجته أن تملأ صحنا من ثمار المشمش النّاضجة، وصحنا آخر من الفقّوس، فتح باب المضافة مرحّبا بالضّيفين.
عندما جلس الضّيفان قال الرّجل المسنّ:
أنا عبدالكريم الأطرش وهذا ابني صلاح.
- أهلا بكما..شرّفتمونا.
- ابني صلاح عاد من الغربة ويحمل معه أمانة لكم.
أبو موسى: أمانة ممّن؟
- من ابنكم موسى.
تفاجأ أبو موسى عندما سمع اسم ابنه، ارتبك للحظات وتساءل: مِنْ موسى؟
أبو صلاح: نعم من ابنكم موسى.
صلاح: اطمئنّ يا عمّ...موسى بألف خير، وأبناؤه ما شاء الله عليهم.
وهنا دخلت أمّ موسى تحمل طبقا من القشّ، عليه صحنان من القشّ أيضا، في أحدهما مشمش وفي الثّاني فقّوس....وضعت الطبق أمام الضّيفين وأرادت الانصراف، إلّا أنّ زوجها طلب منها الجلوس وهو يعرّف إليها:
هذه زوجتي عائشة أمّ موسى. والتفت إليها وقال:
هذا صلاح صديق ابنك موسى في الغربة، وهذا أبوه، وهما يحملان لنا أمانة من موسى.
ارتبكت عائشة عندما سمعت اسم ابنها، شهقت ونزلت الدّموع من عينيها وهي تقول:
طمئنّي يا ابني عن موسى.
صلاح: موسى وأبناؤه بألف خير يا خالة.
قطعت حديثه أمّ موسى حديثه وسألت:
هل تزوّج موسى وأنجب أبناء؟
صلاح: نعم موسى متزوّج وأب لبنت ولولدين. ألا تعلمون ذلك؟
ارتجفت أمّ موسى فرحا من هول المفاجأة، حمدلت وهي تقول:
أسأل الله أن يفرحكم كما أفرحتموني.
أبو موسى: غادرنا موسى قبل تسع سنوات فجأة، واختفى منذ ذلك الوقت وكأن الأرض ابتلعته، ولم نعد نسمع عنه شيئا.
أخرج صلاح من جيبه مغلّفا، قدّمه لأبي موسى وهو يقول:
هذه رسالة لكم من موسى.
ثمّ أخرج من جيب معطفة رزمتي دولارات وقدّمها لأبي موسى وهو يقول:
هذه عشرون ألف دولار أرسلها ابنكم موسى إليكم.
صلاح: تعرّفت على موسى منذ وصوله إلى تلك البلاد مع صديق له، عملنا معا، ووفّقنا الله، ومنذ ثلاثة أعوام اشتركت وموسى في متجر ابتعناه، ونجحنا بحمد الله في تجارتنا، وموسى تزوّج بعد وصوله إلى تلك البلاد بستّة أشهر.
أبو موسى: هل زوجة موسى عربيّة أم أجنبية؟
صلاح: أجنبيّة، وهي من أسرة ثريّة، أحبّت موسى وأحبّها فتزوّجا.
حمل أبو موسى الرّسالة، نظر إليها يتفحّصها، دفعها إلى صلاح وقال له:
اقرأ لنا الرّسالة يا ولدي.
فتح صلاح الرّسالة، تفاجأ عندما رأى فيها شيكّا بنكيّا بثلاثين ألف دولار، نظر إلى الشّيك وقال:
سامحك الله يا موسى، لِمَ لَمْ تخبرني عن الشّيك، فماذا لو سقطت الرّسالة منّي سهوا؟
سلّم صلاح الشّيك لأبي موسى وهو يقول:
هذا شيك بنكيّ بثلاثين ألف دولار أخرى يا عمّ.
أبو موسى: كيف سنصرفه يا عمّ؟
صلاح: هذا شيك بنكيّ، بإمكانك أن تصرفه من أيّ بنك أو أيّ محلّ للصّرافة وتبديل العملة.
أمّ موسى: اقرأ لنا الرّسالة يا ولدي.
فتح صلاح الرّسالة وقرأ:
" إلى والديّ العزيزين:
أقبّل أيديكما الطّاهرة وأتمنّى أن تكونا بصحّة جيّدة.
أعتذر عن انقطاعي عنكما كلّ هذه السّنوات، فأنتما تعلمان الظّروف الصّعبة التي عشتها، خصوصا في العام الأخير الذي عشت عذاباته عندكم، وما رحيلي عن الدّيار إلا محاولة منّي للهروب من واقع ما عدت قادرا على احتماله. وقد كان هروبي فاتحة خير لي ولكم، فقد فتح الله عليّ أبواب النّعمة، وتزوّجت من فتاة جميلة من أهل هذه البلاد، وأنجبنا بنتا وابنين هم قرّة عيني.
أعمل الآن في التّجارة مع شريكي صلاح حامل هذه الرّسالة إليكم، وتوّفقنا في عملنا.
أرسلت إليكما مع صديقي وشريكي صلاح عشرين ألف دولار نقدا، وشيكّا بنكيّا بثلاثين ألف دولار أخرى. تصرّفا بالنّقود كيفما تشاءان، عيشا حياتكما بسعادة وهناء.
في الصّيف القادم سأزوركم أنا وزوجتي وأبنائي، ستسعدون برؤيتهم، كما سيسعدون هم بلقائكما أنتما والأقارب.
ملاحظة: ما هي أخبار ليلى؟ وأين حطّت بها الرّحال.
ابنكم المشتاق
موسى حمدان العلي.
تناولت أمّ موسى الرّسالة، شمّت رائحتها مستمتعة، وشرعت تقرأها.
التفت صلاح إلى أبي موسى وسأل:
من هذه ليلى التي يسأل عنها موسى؟
ردّت أمّ موسى عليه بلهجة غاضبة:
الله لا يسأل عنها ولا عمّن خلّفتها.
نظر أبو موسى لزوجته نظرة زاجرة وقال لصلاح:
ليلى فتاة من القرية تزوّجها موسى، ولم يتّفقا وافترقا، وهي متزوّجة الآن وأمّ لعدد من الأطفال.
قال صلاح: سبق وأن حدّثني موسى عن زواجه الفاشل من فتاة لم يذكر اسمها لي.
قال أبو صلاح: الزّواج قسمة ونصيب، و"الخير فيما اختاره الله".
احتار أبو موسى بكيفيّة صرف الشّيك فقال:
لا أعرف البنوك ولا محلّات الصّرافة، ولم أتعامل معها يوما، فكيف سأصرف هذا الشّيك؟
أجابه أبو صلاح: هذا أمر بسيط جدّا، اذهب إلى أحد محلّات الصّرافة وخذ معك جواز سفرك أو بطاقة تعرّف بها على نفسك، وأعطهم الشّيك، سيطلبون منك أن توقّع على ظهره، وسيدفعون لك المبلغ المكتوب فيه.
تنهّد أبو موسى تنهيدة المغلوب على أمره، وهو يقلّب الشّيك حائرا، انتبه إليه صلاح وقال:
لا تهتمّ يا عمّ، غدا سأمرّ عليك في ساعات الصّباح، وسأحملك معي في سيّارتي؛ لتصرف الشّيك، وبعدها سأعيدك إلى بيتك.
ابتسم أبو موسى عندما سمع ما قاله صلاح، شكره وقال له:
أسأل الله أن يخرجك من كلّ ضيق.
ضحك أبو صلاح وقال لأبي موسى:
الدّولارات ستخرجك من كلّ ضيق.
أمّ موسى: لا نريد دولارات، نريد ابننا موسى ولا نريد غير ذلك.
صلاح: بعد حوالي ثلاثة أشهر سيكون موسى وزوجته وأبناؤه عندكم.
كيوم ولدته أمّه
بقي أبو ربيع يتخبّط بسوء أعماله كثور هرم استقوت عليه ثيران القطيع الشابّة، فصار يحوم حول القطيع ولا يجرؤ على الاقتراب منه، وإذا كانت فحول القطيع الشّابّة تهاجم الثّيران الهرمة، فإنّ أبا ربيع أصبح هدفا دائما لعدنان الجحش، فهو الوحيد الذي يعرف ألاعيب أبي ربيع، فقد زوّدته بها الحاجّة مبروكة.
احتار أبو ربيع في الطّريقة التي تكسبه ثقة النّاس، بعدما أصبح على قناعة بأنّ ألاعيبه وأكاذيبه حول علاقته بالجنّ قد صارت مكشوفة أمام الجميع بمن فيهم زوجته وأبناؤه.
ذات يوم سمع خطبة صلاة الجمعة حول فريضة الحجّ، فالتقط الحديث المرويّ عن أبي هريرة قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ يَقولُ: منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ. متفقٌ عَلَيْهِ."
رأى أبو ربيع أنّ خلاصه قد يكون في أداء فريضة الحجّ، وقد فكّر بهذا منذ سنوات، لكنّ سماعه لهذا الحديث دفعه إلى ضرورة التّسريع بأداء هذه الفريضة، ابتسم وهو يتصوّر النّاس يخاطبونه "الحاجّ أبو ربيع".
عرض أبو ربيع أمر حجّه على إمام المسجد، وقال له:
سأؤدّي فريضة الحجّ في الموسم القادم يا مولانا.
الإمام: تقبّل الله الطّاعات. فحجّ البيت فريضة لمن استطاع إليه سبيلا.
أبو ربيع: نسأل الله أن يعيننا على أداء هذه الفريضة، لكن لي عندك طلب يا مولانا.
الإمام: تفضّل يا أبا ربيع.
- والدي - رحمه الله- توفّاه الله قبل أن يؤدّي فريضة الحجّ، وأريد أن أؤدّي الفريضة عنه.
- هذا من برّ الوالدين، لكن عليك أن تؤدّي الفريضة عن نفسك أوّلا.
- أعلم هذا يا مولانا، لكن لا أحد يعلم متى يحين أجله، فما رأيك أن ترافقني في الحجّ على نيّة أن تحجّ عن المرحوم أبي، وسأتكفّل أنا بكلّ تكاليف الحجّ، وبمصاريف أسرتك حتّى نعود.
فكّر الإمام قليلا وقال:
هذا فضل من الله، وفيه ثواب لي ولك ولأبيك.
أبو ربيع: الحمد لله ونسأل الله المغفرة.
الإمام: الحجّاج سيقصدون الدّيار الحجازيّة بعد شهر، فجهّز نفسك.
أبو ربيع: أنا جاهز يا مولاي.
مدّ أبو ربيع يده إلى جيبه، ونقد الإمام مئة دينار وهو يقول:
هذه لك يا مولانا؛ لتجهّز بها تكاليف بيتك.
الإمام: جزاك الله خيرا يا أبا ربيع، وعليك أن تحضر لي ثلاثمائة دينار؛ لتكون في جيبي، فأنت تعرف تكاليف الحجّ.
أبو ربيع: سآتيك بها عند صلاة مغرب هذا اليوم.
الإمام: زادك الله من نِعَمه وخيره.
قبل صلاة المغرب بقليل طرق عدنان الجحش باب بيت أبي ربيع وهو يرغي ويزبد، أطلّت عليه أمّ ربيع وقالت غاضبة:
أبو ربيع في المسجد.
توجّه عدنان الجحش إلى المسجد، وفي يده عصا غليظة، دخل المسجد واتّجه إلى أبي ربيع وهو يتحدّث مع الإمام، لم يطرح التّحيّة وخاطب أبا ربيع متهكّما:
لي عندك مئة دينار حان موعد سدادها.
حوقل أبو ربيع ومدّ يده إلى جيبه، عدّ مئة دينار وناولها لعدنان الجحش دون نقاش. استلمها عدنان وغادر وهو يقول:
يبقى لي في ذمّتك أربعمائة دينار.
التفت الإمام إلى أبي ربيع وقال:
قبل الحجّ عليك تبرئة ذمّتك من حقوق الآخرين، فالحجّ لمن استطاع إليه سبيلا.
أبو ربيع: توكّل على الله يا مولانا، فخير الله كثير.
بعد صلاة العشاء رجع إمام المسجد إلى بيته، وهو يدعو الله أن يرزق أبا ربيع الرّزق الحلال، وأن يغفر له ذنوبه.
عندما أخبر إمام المسجد زوجته أنّه عقد العزم أن يؤدّي فريضة الحجّ، نيابة عن شخص متوفّى سألته:
من هو هذا الشّخص؟
طلب منّي أبو ربيع أن أحجّ بصحبته عن والده، وتكفّل بتكاليف الحجّ، ومصاريف البيت والأسرة.
زوجة الإمام: من هو أبو ربيع هذا؟ هل هو ذاك المشعوذ المحتال الذي يزعم أنّه يحكم الجنّ، ويعلم الغيب؟
الإمام: اتّقي الله يا امرأة، فالغيبة والنّميمة من الكبائر، يقول صلّى الله عليه وسلّم:" أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذِكْرُكَ أخاكَ بما يكره، قال: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه". وأمّا النّميمة فقد حذّر منها النّبيّ صلّى الله عليه بقوله "لا يدخلُ الجنةَ نمَّام".
- لو تستمع إلى ما يقوله النّاس عن أفعال أبي ربيع، لقلت بأنّه يجب إقامة حدّ القتل عليه.
استغفر الإمام ربّه وهو يتلو قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ".
- "ربّنا يُمهل ولا يُهمل"، وأنا لا أنصح بأن تحجّ على حساب أبي ربيع، فأمواله حرام.
- لنا الظّاهر والله يتولّى السّرائر، فالرّجل يرتاد المساجد، يصلّي ويصوم، ويتصدّق ممّا رزقه الله. ويريد أن يؤدّي فريضة الحجّ، وإن كان يخفي غير ما يظهر، فربّه أدرى به.
*****
أخبر أبو ربيع زوجته وأبناءه أنّه سيؤدّي فريضة الحجّ، ويسأل الله الغفران. تجاهلت زوجته كلامه وكأنّها لم تسمعه، فسألته:
ما قصّتك مع ذلك الرّجل المدعو عدنان الجحش؟ لقد جاءنا غاضبا كثور هائج يسأل عنك وفي يده عصا غليظة.
حوقل أبو ربيع وقال:
هذا رجل معتوه شرّير، سأدعو الله عند أستار الكعبة أن يريحنا منه.
وهنا تدخّل ربيع وقال لأبيه:
لكنّك لم تجب على سؤال الوالدة، فما علاقتك بهذا الرّجل؟ ولماذا يأتينا غاضبا يهدّد ويتوعّد كلّ مرّة؟
أبو ربيع: قلت لكم أنّه معتوه شرّير.
ربيع: إذا كان شرّيرا فلن يردعه إلّا مقابلة الشّرّ بالشّر، وإذا جاء مرّة أخرى، سأخرج له بعصا غليظة طويلة، وسأضربه ضربا مبرحا سيتوب بعدها عن الاقتراب من بيتنا.
ابتسم أبو ربيع وقال:
لا يا ولدي...اتركه لي، سأصرفه بالّتي هي أحسن إذا عاد إلينا.
لم يقتنع ربيع بكلام أبيه فعاد يقول:
يبدو أنّ هناك سرّا بينك وبين هذا الرّجل، وأنّك تخشى من فَضْح هذا السّرّ.
غضب أبو ربيع من ابنه وتساءل:
ما هذه الوقاحة يا ولد؟ ألا تصدّقني؟
نظر أبو ربيع لزوجته وقال في محاولة منه لصرف ابنه ربيع عن الموضوع:
ما رأيك أن ترافقيني إلى الحجّ؟
ردّ عليه ربيع:
أمّي لن تحجّ إلّا من تعب جبيني.
حوقل أبو ربيع وقال لابنه غاضبا وهو يغادر الجلسة:
لا ردّك الله ولا ردّ أمّك معك، " كلّ شاة معلّقة بعرقوبها".
جلس أبو ربيع على مكتبه في البيت، قرّر أن يؤدّي فريضة الحجّ بصحبة إمام المسجد في سيّارته، كتب في دفتر مذكّراته الهدايا التي ينوي شراءها من بلاد الحرمين؛ ليقدّمها لمن يأتونه مهنّئين مباركين بالحجّ وبسلامة العودة. وقرّر أن يشتري مثلها لإمام المسجد أيضا؛ كي يذكره بالخير وبالتّقوى في المسجد وفي المجالس الخاصّة.
وفجأة داهمته فكرة أن يعرض على عدنان الجحش أن يرافقهما لأداء فريضة الحجّ، وأن يغطّي عنه تكاليف الحجّ كاملة غير منقوصة، على أمل أن يتوب هو الآخر عن الحرام في بلاد الحرمين، ابتسم لهذه الفكرة التي ارتأى أنّها طريق خلاصه من استغلال عدنان الجحش له. نام مطمئنّا بأنّ الجحش لن يضيّع فرصة كهذه.
في اليوم التّالي استيقظ أبو ربيع مبكرا، صلّى الفجر في المسجد خلف الإمام مباشرة، عاد إلى بيته، تناول طعامه، احتسى قهوته، جلس في مكتبه وفي نيّته أن يزور في ساعات الضّحى عدنان الجحش في بيته؛ ليعرض عليه أنّ يحجّ معه وعلى نفقته الخاصّة.
خرج أبو ربيع من بيته في الثّامنة صباحا؛ ليذهب إلى بيت عدنان الجحش، دخل إلى سيّارته وجلس خلف المقود يريد تشغيلها، وإذا عدنان الجحش يظهر فجأة كعفريت خرج من قمقمه، فتح باب السّيّارة وجلس بجانب أبي ربيع يشتم ويهدّد، فقال له أبو ربيع:
اهدأ يا عدنان، فسبحان الله يبدو أنّ عمرك أطول من عمري، فلو تأخّرت دقيقة لكنت في طريقي إليك في بيتك.
صاح به الجحش:
ماذا تريد منّي؟
أبو ربيع: لا أريد منك شيئا، بل أريد لك الخير.
عدنان: أنت لا تريد الخير لنفسك، فكيف تريده للآخرين؟
- أريد لك خير الدّنيا والآخرة، فقد هداني الله أن أؤدّي فريضة الحجّ هذا الموسم بصحبة إمام المسجد، وارتأيت أن أصطحبك معي على نفقتي الخاصّة؛ لنتوب إلى الله، وكما تعلم فإنّ الله غفور رحيم.
- هيء ...هيء...ماذا تخطّط؟ فأنت أبعد النّاس عن الدّين والتّقوى، وإذا كانت ألاعيبك تنطلي على الآخرين، فإنّها لن تنطلي عليّ.
- اتّق الله يا رجل فالله تعالى يقول:" فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّـهَ يَتُوبُ عَلَيْه إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ."
وأنا تبت عن الحرام، وسأؤكّد توبتي إلى الله عند الكعبة المشرّفة.
عدنان الجحش: لكنّ الأموال التي ستحجّ بها حرام، وإن كنت صادقا ردّ الأموال إلى أصحابها.
أبو ربيع: أنا لم أسرق مالا من أحد؛ كي أردّه إليه.
عدنان: لكنّك احتلت وكذبت وخدعت وانتهكت الأعراض.
أبو ربيع: يقول تعالى:" إِلّا مَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَأُولـئِكَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمونَ شَيئًا."
فكّر عدنان الجحش قليلا ثمّ سأل:
عمّ ستتوب؟
أبو ربيع: سأتوب عن كلّ حرام ارتكبته.
عدنان: هل ستقول لزوجتك ولأبنائك عمّ ستتوب؟
أبو ربيع: لا علاقة لزوجتي ولأبنائي بأعمالي، والإنسان مأمور بالسّتر، والتوبة إلى الله، وعدم إبراز معصيته وإظهارها للنّاس، ومن تاب، تاب الله عليه، ولهذا يقول: من ستر مسلمًا؛ ستره الله في الدّنيا والآخرة، فالمؤمن يستر نفسه، ولا يعلن معصيته.
فكّر عدنان الجحش بطريقة يحتال فيها على أبي ربيع فسأله:
كم دينارا يكلّف الحجّ؟
أبو ربيع: مهما كلّف سأدفعه أنا عنك.
– لكنّك لم تجب على سؤالي.
- يكلّف حوالي خمسمائة دينار.
- أعطني خمسمائة دينار، ولن أحجّ معك.
حوقل أبو ربيع وقال:
سأعطيك ما طلبت، ولا أريد أن أرى وجهك مرّة أخرى.
عدنان: لن ترى وجهي مرّة أخرى إذا كنت صادقا في توبتك.
*******
لم يوافق إمام المسجد أن يحجّ مع أبي ربيع في سيّارته الخاصّة، وقال له:
الطّريق طويلة يا أخي، و"الموت مع الجماعة فرج".
لم يعترض أبو ربيع على اعتراض الإمام، واتفّقا على الحجّ مع شركة للحجّ تسيّر حافلاتها للحجّ.
******
في الطّريق إلى الحجّ، وأينما توقّفت الحافلة عند استراحة معيّنة في المنطقة الصّحراويّة مترامية الأطراف، كان أبو ربيع يشتري زجاجة عصير وكوب قهوة لكلّ شخص في الحافلة، يدفع ثمنها من ماله الخاصّ، وهو يسأل:
هل يريد أيّ منكم شيئا آخر، فجميعكم مثل أخواتي وإخوتي؟ ويبادر بمساعدة أيّ حاجّ كأن يحمل بعض المتاع عن كبار السّنّ، أو أن يقود أحدهم للنّزول من الحافلة أو الصّعود إليها. أكبروا فيه نخوته وشهامته، صاروا يشكّكون بصحّة الكلام السّلبيّ الذي سمعوه عنه، فهم يعرفونه، خصوصا وأنّهم جميعهم أبناء بلدة واحدة، انتبه إمام المسجد لهمسات زملائه الحجّاج حول أبي ربيع، فقال في موعظته التي اعتاد أن يلقيها عليهم بعد صلاة ظهر كلّ يوم، يقول تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ." وأخذ يشرح الآية الكريمة دون أن يذكر اسم أبي ربيع، أو يلمّح لما كانوا يتحدّثون به عنه.
عندما أنهى الإمام موعظته، قال له أبو ربيع:
أحسنتم يا مولانا.
فردّ الإمام بتواضع:
أحسن الله إلينا وإليكم.
أمّا الحاجّ أبو مرعي فقد همس لزوجته التي تجلس بجانبه:
"ياما في السّجن مظاليم"!
عندما وصلت الحافلة الميقات المكانيّ، طلب الإمام من الحجّاج ارتداء ملابس الإحرام، والنّيّة لتأدية مناسك الحجّ والعمرة، وسألهم إن كانوا يعرفون الحكمة من ارتداء ملابس الإحرام، ولمّا لم يسمع جوابا من أيّ منهم قال:
" أراد الله تعالى أن يذكّر عباده أنّهم سيلقونه ويحاسبهم عن كلّ ما بدر منهم، فأمرهم في الحجّ بارتداء زيّ الإحرام الذي يشبه ما يكفن فيه الميّت من قماش؛ فتهون الدّنيا في قلبه، ويستحضر عظمة الله ويعمل ليوم الحساب."
فهلّلوا وكبّروا وردّدوا بصوت واحد خلف الإمام:
"لبّيك اللهمّ لبّيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لبّيك لا شريك لك".
صدفة
عندما وصلوا المدينة المنوّرة، صلّوا بخشوع في المسجد النّبويّ الشّريف، وعندما مرّوا ببعض الأسواق اشترى أبو ربيع خمسين كوفيّة رجّاليّة بيضاء الّلون، ومثلها نسائيّة؛ ليهديها لمن سيأتون إليه مهنّئين مباركين بعد عودته إلى بيته بعد فريضة الحجّ، ثمن الواحدة منها نصف ريال سعوديّ، وهذا يعادل ربع ثمنها في بلاده، عدا عن هالة القداسة التي تصاحبها كونها تعمّدت ببركات بلاد الحرمين، وعندما أراد شراء المسابح قال له إمام المسجد الذي يرافقه:
لا داعي لشراء المسابح من هنا، فستجد مثلها وربّما أفضل منها في مكّة المكرّمة.
وهنا انتبه أبو ربيع للإمام، واشترى للإمام مئة كوفيّة أخرى مثل التي اشتراها لنفسه. وبينما الإمام يعدّ الكوفيّات بعد أن استلمها من البائع حانت من أبي ربيع التفاتة إلى محلّ مجاور، وكانت المفاجأة أن رأى الحاجّة مبروكة تمسك بيدها طفلا في حدود السنّة الخامسة من عمره، تمعنّ بها ليتأكّد أنّها مبروكة، وليست امرأة أخرى تشبهها، شهق أبو ربيع من هول المفاجأة، تقدّم إلى المرأة باسما وهو يقول:
مبروكة.
التفتت إليه وتفاجأت هي الأخرى برؤيته، مدّ يديه ليحضنها، لكنّها وضعت يدها اليمنى على صدرها ودفعته بيدها اليسرى وهي تقول:
تأدّب يا أبا ربيع فنحن في أقدس بقاع الأرض.
وأشارت إلى رجل مُلتحٍ يبتاع أغراضا من المحلّ وقالت:
هذا زوجي يا أبا ربيع.
ثمّ أشارت إلى الطّفل الذي تقوده وقالت:
وهذا ابني محمّد.
– هل أنت متأكّدة أنّه ابنك؟ كيف أنجبت وأنت عاقر؟
– لم أكن عاقرا مع أنّك أقنعتني بأنّي عاقر، فمنك لله.
عاد أبو ربيع يسأل:
أين اختفيت يا مبروكة، فقد قلبت الدّنيا وأنا أبحث عنك؟ خفت عليك كثيرا، وخاصمت عدنان الجحش من أجلك، واتّهمته بأنّه قد قتلك طمعا بمالك.
مبروكة: تلك قصّة طويلة لسنا في مجال سردها الآن.
عندما انتهى زوج مبروكة من ابتياع أغراضه اقترب منها وهي تتحدّث مع أبي ربيع، فقالت له وهي تشير إلى أبي ربيع:
هذا الشّيخ محمود" أبو ربيع" ابن خالتي يا ابراهيم.
ابتسم زوج مبروكة لأبي ربيع وصافحه بحرارة.
افترقا بعد أن أخذ أبو ربيع عنوانهم في البلاد من الزّوج.
استعاد أبو ربيع ذكرياته مع مبروكة وتعوّذ بالله من شرّ الوسواس الخنّاس. بينما استغفرت مبروكة ربّها وهي تلعن اليوم الذي عرفت فيه أبا ربيع، ومن بعده عدنان الجحش.
حدّ السّرقة
في مكّة المكرّمة، وبينما الحجّاج يتزاحمون لدخول المسجد الحرام للطّواف حول الكعبة المشرّفة، والسّعي بين الصّفا والمروة، سرق أبو ربيع محفظة من حاجّ هرم متعب، وابتعد معتمدا على قوّة جسمه، ورغم آلاف الحجّاج المتواجدين في المكان إلّا أنّ أبا ربيع اعتقد بأنّ أحدا لم ينتبه له، فوضع المحفظة في جيب قطعة الإحرام التي يلفّها على الجزء السّفليّ من جسده، وإذا بشابّين يرتدي كلّ منهما ثوبا أبيض اللون يمسك كلّ واحد منهما بواحدة من يديه، أخبراه أنّهما من الأمن السّعوديّ، اقتاداه عنوة إلى الخلف قليلا، وقال له أحدهم:
أخرج ما في جيبك لو سمحت.
اصفرّ وجه أبي ربيع خوفا، تلكّأ وهو يخرج محفظته من جيبه، وهما يراقبانه، فقال له أحدهما:
أخرج المحفظة الثّانية.
تردّد أبو ربيع وهو يقول كاذبا:
هذه محفظة وجدتها في وسط الزّحمة وأريد تسليمها للأمن؛ لأنّني لا أعرف صاحبها.
انتزعها أحدهما من يده، واقتاداه إلى سيّارة للشّرطة، وجدا في المحفظة جواز سفر صاحبها، وبضع مئات من الدّولارات، وبضع مئات من الرّيالات السّعوديّة، حملته سيّارة الشّرطة مكبّلا إلى مخفر للأمن، في المخفر كتب أحد رجال الأمن الذي شارك في القبض عليه تقريرا بالجرم المشهود، ومن هناك حوّلوه إلى القاضي الشّرعيّ الذي حكم بإقامة حدّ السّرقة عليه، فقطعوا يده اليسرى بعد أسبوع من الحكم عليه.
افتقده إمام المسجد الذي يرافقه في الحجّ، وعندما لم يعثر عليه استعان برجال الأمن المتواجدين في مكان السّكن، أجروا اتّصالاتهم، وأعادوا أبا ربيع بعد أسبوع ويده اليسرى مقطوعة بعد أن كفله إمام المسجد، وتعهّد أن لا يتركه وحده، وأن يقوده لمراجعة العيادة الطّبّيّة لتمريض يده اليسرى التي قطعت من الرّسغ.
جلس أبو ربيع مع الإمام حزينا غاضبا ذليلا وقال له:
هؤلاء رجال لا يخافون الله، اتّهموني بالسّرقة رغم براءتي، فقد وجدت محفظة يدوسها الحجّاج وسط الزّحام، فالتقطتها؛ لتسليمها للأمن؛ كي يردّوها لصاحبها الذي لا أعرفه، فأمسك بي رجلا أمن يرتديان ثوبين أبيضي اللون، وأخذا المحفظة منّي، وشهدا بأنّهما وجداها في جيبي، أخذ أحدهما إفادتي في المخفر ثمّ اقتاداني إلى قاض، وشهدا بأنّي سارق، فحكم بقطع يدي، فقطعوها كما ترى.
حوقل الإمام وتساءل معاتبا أبا ربيع:
ألم ترَ اللافتات المكتوب عليها:" يمنع التقاط أيّ شيء ملقى على الأرض درءا للشّبهات".
- رأيتها وقرأتها، وأنت شرحت لنا ذلك أكثر من مرّة، لكن لا رادّ لقدر الله.
بكى أبو ربيع كفّ يده الذي سبقه إلى القبر، ودفن بعيدا عن بقيّة الجسد الذي سيدفن في البلاد حينما تحين ساعته.
تهامس الحجّاج من أبناء بلدة أبي ربيع، والذين يرافقونه في الحافلة نفسها التي تقلّهم، وقال أحدهم للآخرين:
" ربّنا يمهل ولا يهمل." إنّه يكذب، فلا يقام حدّ السّرقة على من يلتقط شيئا عن الأرض.
في حين قال آخر:
"ذنب الكلب أعوج دائما."
انزوى أبو ربيع في زاوية غرفة السّكن مكتئبا في وقفة مع الذّات، استعاد من ذاكرته الخطايا التي ارتكبها في حياته، أبدى ندمه بعد فوات الأوان، لكنّه نسي التّوبة عن الحرام التي قطع على نفسه عهدا أن يعلنها وهو يطوف حول الكعبة.
رعى بعض حجّاج الحافلة وفي مقدّمتهم إمام المسجد زميلهم أبا ربيع، حاولوا التّخفيف عنه طلبا للثّواب، في حين ابتعد بعضهم عنه، كي لا يأثموا إذا ما اقتربوا منه.
بعد أن انتهوا من آداء فريضة الحجّ طلب أبو ربيع من إمام المسجد أن يرافقه إلى أحد أسواق مكّة المكرّمة؛ لشراء مسابح كهدايا لمن سيأتون للسّلام عليهما مهنّئين بسلامة العودة، ومباركين بآداء فريضة الحجّ. التفت إليه الإمام ولم يقل شيئا، بعد تفكير لدقائق سأل أبو ربيع الإمام بلهجة حزينة:
ماذا سأقول للنّاس عندما يرون يدي مقطوعة؟ وماذا سيقولون عنّي؟
حوقل الإمام ولم يجبه على أسئلته، فعاد يقول:
جئت أؤدّي فريضة الحجّ، لأعود نظيفا من الآثام كما ولدتني أمّي، وها أنا أعود بيد مقطوعة.
التفت إليه الإمام وقال:
لا تيأس من رحمة الله، وعسى أن يكون في قطع يدك خير لك فـ "ربّ ضارّة نافعة".
غضب أبو ربيع من كلام الإمام وتساءل غاضبا:
أيّ نفع سيأتيني من قطع يدي؟
الإمام: اهدأ يا أبا ربيع فالله يختار لخلقه ما فيه خير لهم، وإقامة حدّ السّرقة عليك في الدّنيا أهون من نار جهنّم في الآخرة.
استاء أبو ربيع من كلام الإمام فقال غاضبا معاتبا:
يبدو أنّك غير مصدّق أنّني بريء ولست سارقا.
الإمام: الله وحده من يعلم السّرائر.
أراد أبو ربيع أن يصرف الإمام عن الموضوع فسأل:
متى سنذهب إلى السّوق؛ لنشتري مسابح نأخذها معنا هدايا؟
حاول الإمام أن يتهرّب من تلبية طلب أبي ربيع فقال:
لقد اشتريتَ مائة كوفيّة وأعتقد أنّها تكفي.
أبو ربيع: وسنشتري أيضا مائة مسبحة فاخرة، وخمسين سجّادة صلاة.
حاول إمام المسجد أن يصرف أبا ربيع عن الحديث في مشتريات جديدة، فهو لم يعد قادرا على رفقة أبي ربيع خصوصا بعد أن قطعوا يده، كتم مشاعره وندمه على قبوله لأداء فريضة الحجّ عن والد أبي ربيع، دعا الله وهو يصلّي في بيته الحرام أن يغفر له؛ لأنّه وافق على ذلك، تذكّر ما قالته له زوجته عندما أخبرها بموافقته على طلب أبي ربيع؛ للحجّ عن أبيه، حيث وصفت أبا ربيع بأنّه مشعوذ كذّاب، يدّعي علم الغيب ويزعم أنّه يحكم الجنّ!
يعزّي الإمام نفسه لأنّه قبل بذلك طلبا في الثّواب، مع أنّه صار على قناعة بأنّ مال أبي ربيع لم يكن كسبا حلالا.
قرّر الابتعاد عن أبي ربيع قدر استطاعته، رغم أنّ أبا ربيع ازداد التصاقا به، فتحمّل ذلك مرغما على أمل أن يقطع أيّ علاقة مع أبي ربيع عندما يعودان إلى بلدهما، وسأل الله الصّبر حتى يعود كلّ منهما إلى بيته.
********
رغم حرارة الجوّ في الدّيار الحجازيّة إلّا أنّ أبا ربيع اشترى معطفا، يرتديه بشكل دائم؛ ليضع يده اليسرى في جيبه؛ كي تخفى على النّاس أنّها مقطوعة حتّى الرّسغ، وبالتّالي سيختصر تساؤلات بعض المتطفّلين من معارفه، الذين قد ينتبهون ليده المقطوعة، وربّما سيسألون عن أسباب قطعها، فيقع في صحراء تيه من الأكاذيب؛ لتبرير ذلك.
عند الحدود وهم في طريق عودتهم إلى ديارهم، وفي التفاتة عفويّة من أبي ربيع وهو يصطفّ مع سائق الحافلة لختم جوازات السّفر كمغادرين، رأى مبروكة تفترش الأرض وفي حضنها طفلها، فأدار وجهه إلى الجهة المعاكسة بعد أن طوى كوفيّته على وجهه، تمنّى أن تبتلعه الأرض؛ كي لا تراه مبروكة وتسأله عن سبب قطْع يده، ولم ينتبه أنّ زوجها يصطفّ في الدّور في صفّ موازٍ لصفّه، فطأطأ رأسه نحو الأرض؛ كي لا يتعرّف الرّجل عليه. بعد أن ختموا جوازات سفرهم، واستداروا إلى الخلف؛ ليعود كلّ منهم إلى رفاقه؛ كي يواصلوا مسيرتهم، تعرّف زوج مبروكة على أبي ربيع، فطرح عليه السّلام وهو يمدّ يده ليصافحه، لكنّ أبا ربيع تجاهله وغذّ الخطى باتّجاه الحافلة.
تقبل الله الطّاعات:
عندما وصلت حافلة الحجّاج بلدتهم طلب إمام المسجد من السّائق أن يمرّ من باب بيت أبي ربيع، وهمس له على استحياء:
مع الرّجل حقيبتان كبيرتان، ويده اليسرى مقطوعة -كما تعلم-.
صكّ السّائق على نواجذه وقال:
ليتهم قطعوا رأسه وأراحونا منه.
حوقل الإمام وقال:
اتّق الله يا رجل فأنت عائد من الحجّ.
تساءل السّائق حانقا:
هذا رجل غريب في تصرّفاته، يستحيل أن يستقيم في حياته، ويبدو أنّه حجّ للتّستّر على مصائب سيرتكبها لاحقا.
استغفر الإمام ربّه وهو يقول:
هداك الله يا أخي، فكلامك غيبة ونميمة والله سبحانه وتعالى يقول:" وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا".
أشفق السّائق على الإمام خصوصا وأنّه كبير في السّنّ فقال:
لا تحزن يا مولانا، سأوصل أبا ربيع حتّى باب بيته، وسأنزل حقيبتيه حتّى أدخلهما في بيته، مع أنّه لا يستحق ذلك، لأنّه لم يتورّع عن السّرقة في المسجد الحرام.
عاد الإمام يحوقل وقرأ قوله تعالى:" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" وأضاف مخاطبا السّائق: لا نريد يا ولدي أن نحمل إثما بسبب أبي ربيع، وإن كنت لا تريد أن توصله إلى بيته، فلك ما تريد، وأنا سأحمل حقيبتي، وإحدي حقيبتي أبي ربيع، وهو يحمل الحقيبة الثّانية بيده اليمنى.
ضحك السّائق وقال:
قلت لك يا مولانا سأوصله إلى باب بيته احتراما لك، فلا تقلق.
عندما وقفت الحافلة، وبينما السّائق ينزل حقيبتي أبي ربيع أمام بيته، رأتهم أمّ ربيع، فوقفت عند نافذة البرندة وهاهت بأعلى صوتها:
هاي ويا سمسم برسمه
هاي ويا حلّ اليوم قسمه
هايي ويمسّيكم بالخير يا حجّاجنا
آي ويا كلّ واحد باسمه
هيه ويا باب النّبي بنوره
هيه ويا نضوي يا ضوّ الشّمعه
هيه ويا مسعد من زار محمّد
هيه ويا صلّى صلاة الجمعه
وبعدها أطلقت زغرودتين متتاليتين.
في هذه الأثناء نزل ربيع درجات البيت الخارجيّة ركضا، عانق أباه وإمام المسجد والسّائق، ولوّح بيديه مرحّبا ببقيّة الحجّاج داخل الحافلة، حمل حقيبتي والده، وصعد الدّرجات برشاقة بائنة، وقفت أمّ ربيع خلف باب البرندة تنتظر دخول أبي ربيع، فمن غير اللائق أن تخرج أمام الحجّاج والجيران؛ لتصافحه خارج البيت.
دخل البيت فتلقّفت زوجته يده وقبّلتها، ثمّ قبّلت وجنتيه، وهي تهنّئه بسلامة العودة، وتبارك له بالحجّ، بينما هو نهرها مؤنّبا متسائلا:
من أمرك أن تهاهي وتزغردي؟
ردّت عليه بكسوف:
من حقّنا أن نعبّر عن فرحتنا بعودتك سالما، فأنت عمود البيت.
التفت إليها باستكبار كما تعوّد وقال:
دعيك من هذا الكلام الفارغ، وإيّاك أن تغنّي مرّة أخرى بهذه المناسبة، أعدّي لي فنجان قهوة بشكل سريع.
جلس أبو ربيع في مكتبه خلف الطّاولة وأولاده حواليه، وعندما قدّمت زوجته له القهوة قالت في محاولة منها لاسترضائه:
نوّر بيتنا بعودة عموده إليه.
نظر إليها أبو ربيع وهو يرفع يده اليمنى؛ ليتناول فنجان القهوة، وفي غفلة منه أخرج يده اليسرى من جيب المعطف، ومدّها على الطّاولة، انتبه له ابنه ربيع، فصُعق عندما رأى يد أبيه مقطوعة حتّى الرّسغ، فتساءل مذهولا وهو يقترب من يد أبيه ويتحسّسها:
أين يدك يا أبي؟ ماذا جرى لك؟
التفت إليه أبوه متظاهرا باللامبالاة وقال له:
اسكت يا ولد، هذا قضاء الله وقدره.
سألت أمّ ربيع ودموعها تنهمر على وجنتيها:
وهل قضى الله أن تذهب إلى الحجّ، وأن تعود إلينا بيد مقطوعة.
عاد أبو ربيع يتظاهر باللامبالاة وقال:
الخير فيما اختاره الله.
وفي محاولة منه لصرف زوجته وأولاده عن الموضوع قال لزوجته:
أنا جائع ومرهق، حضّري طعاما سريعا، وأريد أن أنام، وأمر أبناءه قائلا:
اتركوني وحدي. واذهبوا لوالدتكم؛ كي تفتح الحقيبتين، وأن تخرج منها هديّة كلّ واحد منكم.
انطلقت الزّغاريد من بيوت الحجّاج العائدين في أرجاء البلدة، تهافت بعض الأهالي لتهنئة الحجّاج بسلامة العودة، ولتهنئتهم بأداء فريضة الحجّ، بعضهم قدّم لكلّ واحد من زائريه فنجانا من ماء زمزم، وقدّموا الحلويّات أيضا، ووزّعوا الهدايا على حسب صلة القرابة ومدى العلاقة الشّخصيّة، فبعض الحجّاج الميسورين قدّموا لكلّ زائر سجّادة صلاة ومسبحة، وحبّة تمر واحدة يتناولها الزّائر من صينيّة مع فنجان القهوة المرّة"السّادة" التي تقدّم له.
بعض المهنّئين يمكث الواحد منهم بضع دقائق في بيت كلّ حاجّ. يتفاوت عدد المهنّئين بين حاجّ وآخر حسب مكانته الاجتماعيّة، محاباة الأثرياء من الحجّاج لم تخف على أيّ إنسان، أعيان البلدة ابتدأوا تهانيهم بإمام المسجد، سهروا عنده حتّى ساعة متأخّرة من الليل. عندما وصل مختار الحارة أتاحوا له الجلوس في صدر صالون البيت، بعد أن احتسى قهوة التّرحيب، تناول حبّة تمر وسأل الإمام:
هل صحيح ما سمعناه يا شيخ؟
تساءل الشّيخ:
عمّ تسأل؟ وماذا سمعتم؟
المختار: أسأل عمّا سمعناه عن أبي ربيع؟
الإمام: هداه الله وغفر له، اتركونا من سيرته.
المختار: لقد خدعنا هذا الرّجل كثيرا، لكن "حبل الكذب قصير"، وها هو ربّنا يفضحه ويعاقبه في أقدس مكان.
وجد الإمام نفسه في ضائقة كبيرة، تمنّى ألّا يكون أهل البلدة قد علموا أنّه حجّ على حساب أبي ربيع، نيابة عن أبيه، وأجاب المختار:
"كل واحد ذنبه على جنبه" و" للي بتقتله إيديه ما حدا ببكي عليه."
قال أحد أبناء البلدة:
كلّ بيوت من عادوا من الحجّ مضاءة باستثناء بيت أبي ربيع.
تساءل المختار باستهزاء:
من سيسلّم على شخص سارق أقيم عليه الحدّ في موسم الحجّ؟ فـ "على نفسها جنت براقش."
دافع أحدهم عن أبي ربيع قائلا:
لا أعتقد أنّ أبا ربيع سارق، ولو كان سارقا حقيقة ما سرق عند بيت الله الحرام.
التفت إليه المختار وقال:
" الطّبع غلب التّطبّع".
الرّجل: اتّقوا الله يا ناس، فأبو ربيع عرفناه تقيّا نقيّا.
الإمام: خالقه أولى به، ودعونا من غيبته.
دار عدنان الجحش على بيوت الحجّاج في البلدة مهنّئا بسلامة العودة، ومباركا بتأدية فريضة الحجّ، عندما وصل بيت إمام المسجد، دخل بجرأة بائنة، صافح الإمام وقبّل وجنتيه، جلس بجانب المختار وقال:
تقبّل الله الطّاعات.
الإمام: منّا ومنكم صالح الأعمال.
احتسى عدنان فنجانا من ماء زمزم، وفنجان قهوة مرّة"سادة"، وسأل الإمام:
هل صحيح ما سمعناه يا مولانا؟
حوقل الإمام وتجاهل السّؤال، لكنّ عدنان كرّر سؤاله.
ردّ عليه الإمام سائلا:
ماذا سمعت؟
عدنان: سمعنا أنّ الأمن السّعوديّ ألقى القبض على أبي ربيع متلبّسا بالسّرقة، وحكمت عليه المحكمة بقطع يده.
تهرّب الإمام من الجواب وقال:
إن كنت معنيّا بمعرفة ما جرى، بإمكانك الذّهاب إلى أبي ربيع والسّلام عليه، وستجد الجواب عنده.
ضحك الحضور عندما سمعوا كلام الإمام، أمّا المختار فقد سأل عدنان:
هل جئت للسّلام على الإمام، أم للتّحقيق معه؟
لم يستسغ عدنان سؤال المختار فقال:
إذا أزعجكم سؤالي فأنا أسحبه وكما قال المثل: " إذا كان خبر اليوم بمصاري فبكره ببلاش".
صمتوا قليلا وهم ينظرون وجوه بعضهم، فقطع عدنان حاجز الصّمت وقال:
"ذنب الكلب اعوج دائما".
التفت إليه المختار وسأله:
من تقصد بهذا المثل؟
عدنان: بالتّأكيد ليس أنت، لكن "اللي على راسه بطحه بحسّس عليها."
ضحك المختار وقال لعدنان:
إذن ضع يدك على رأسك وحسّس كثيرا عليها.
غضب عدنان الجحش من كلام المختار وسأل:
ماذا فعلت أنا؛ لتطلب منّي هكذا طلب؟
قبل أن يجيبه المختار، قطع الإمام الحديث وقال:
اتّقوا الله يا إخوان، واتركونا من القيل والقال.
همّ المختار بمغادرة الجلسة فوقف وقال:
الإمام مرهق من السّفر، فليذهب كلّ منّا لبيته، اتركوه ليرتاح.
******
عاد عدنان الجحش إلى بيته على نيّة الذّهاب في اليوم التّالي إلى بيت أبي ربيع، وفي ذهنه أن يبتزّه ماليّا، أمضى ساعات يتقلّب في فراشه، وهو يبحث عن طريقة يجبر فيها أبا ربيع على دفع ما لا يقلّ عن ثلاثمائة دينار. احتار في اختيار السّاعة المناسبة لتنفيذ مهمّته، وفي النّهاية قرّر أن يزوره في الثّامنة صباحا، حيث سيجده وحده، فمن المستحيل أن يأتي إليه الآخرون في هكذا ساعة؛ ليهنّئوه بسلامة العودة، وليباركوا له بأداء فريضة الحجّ، ضحك عندما دارت برأسه فكرة التّهنئّة بسلامة العودة، فالرّجل عاد بيد مقطوعة! استيقظت زوجته على قهقته، جلست في فراشها، نظرت إلى وجهه، لترى إن كان مستيقظا، أم أنّه ما زال نائما ويحلم، فسألها:
عمّ تبحثين يا امرأة؟
بسملت الزّوجة وقالت:
سمعت قهقهتك، ولم أعرف إن كنت مستيقظا أم أنّك تحلم وأنت نائم.
ردّ عليها: أنا مؤرّق هذه الليلة.
- ما الذي يؤرّقك؟ "نصّ الألف خمسميه".
- هموم الحياة كثيرة.
- عن أيّ هموم تتكلّم؟
- نامي واتركيك من هذه الأسئلة، وأنا الآن سأنام أيضا.
استيقظ عدنان الجحش مبكرا، احتسى قهوة الصّباح، حمل عصاه وخرج قاصدا بيت أبي ربيع قبل أن يتناول فطوره، لم يستجب لطلب زوجته بأن يتناول طعام الفطور معها ومع الأولاد.
طرق باب بيت أبي ربيع بعصاه، وعندما فتح ربيع باب البيت؛ ليرى الطّارق، دخل عدنان الجحش عابس الوجه دون استئذان ودون أن يطرح تحيّة الصّباح واكتفى بقوله:
الحمد لله على سلامة الوالد. وجلس في مكتب أبي ربيع، وسأل:
أين أبوك يا ربيع، نريد السّلام عليه؟
ومن المطبخ قالت أمّ ربيع مستاءة بصوت منخفض:
"صباح الفار ولا صباح الجار".
ربيع: أبي نائم.
- أيقظه فلا وقت لديّ.
ذهب عدنان إلى المطبخ حيث والدته، وجدها قد أعدّت فنجاني قهوة، حمل فنجاني القهوة واتّجه إلى المكتب بعد أن طلب من والدته أن توقظ أباه؛ لأنّه لا يطيق رؤية عدنان الجحش أو الجلوس معه.
عندما تناول عدنان فنجانه، صرخت أمّ ربيع قائلة:
ربيع.
قفز ربيع واتّجه إلى غرفة نوم والديه؛ وهو يتساءل:
ماذا جرى؟
قالت له أمّه وهي تغلق عيني وفم والده:
أبوك ميّت يا ربيع.
شهق ربيع غير مستوعب الحدث، تقدّم إلى السّرير، وضع يده على جبين أبيه يتحسّسه فوجده باردا، وضع أذنه أمام أنف أبيه؛ ليتأكّد إذا ما كان يتنفّس أم لا.
حوقل وعاد يقول لعدنان الجحش:
يبدو أنّ الوالد ميّت يا عمّ، تعال وانظره.
وقف عدنان وقال:
لا تخف" أبوك مثل القطط بسبعة أرواح"، فكيف يموت؟
مشى عدنان خلف ربيع إلى غرفة النّوم، وضع يده على جبين أبي ربيع، ثمّ رفع الغطاء عنه؛ ليجسّ نبض يده، وفي نيّته أن يتأكّد من يده إن كانت مقطوعة أم لا.
عندما رأى يده اليسرى مقطوعة حتّى الرّسغ سأل:
من قطع يده. ولِمَ؟
وعندما لم يسمع جوابا خرج وهو يحوقل ويقول:
سبحان الحيّ الباقي، "ربّنا يمهل ولا يهمل" و"الميّت لا تجوز عليه إلّا الرّحمة".
لم يبد عدنان الجحش أيّ أسف على وفاة أبي ربيع، لكنّه تمنّى لو أنّ الله أطال عمره لساعة أخرى؛ كي يبتزّه ببضع مئات من الدّنانير.
طلبت أمّ ربيع من ربيع أن يذهب لأعمامه وعمّاته والأقارب يخبرهم بأنّ أباه قد مات، كما طلبت منه أن يخبر إمام المسجد بالوفاة؛ كي يعلن عنها عند صلاة الظّهر.
عندما علم إمام المسجد بوفاة أبي ربيع، حوقل وترحّم عليه، وهو يقول في سرّه:
" أراح واستراح".
عند صلاة الظّهر لم يبد المصلّون أسفا ولا حزنا على وفاة أبي ربيع، وصرّح البعض منهم بأنّه لن يحضر جنازته. سمع الإمام كلامهم فقال:
اتّقوا الله يا إخوان، فالمشاركة بتشييع الموتى فيه ثواب، وقد رَوَى البَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ مَرْفُوعًا:" مَنْ أَتَى جِنَازَةً فِي أَهْلِهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ. فَإِنْ تَبِعَهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ. فَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ. فَإِنِ انْتَظَرَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطٌ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْجِنَازَةِ قِيرَاطًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَقَادِيرُ الْقَرَارِيطِ".
وفي حديث آخر عن أبي هريرة:" من اتّبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلّى عليها، ويفرغ من دفنها، فإنّه يرجع من الأجر بقيراطين، كلّ قيراط مثل أُحُد، ومن صلّى عليها، ثم رجع قبل أن تدفن، فإنّه يرجع بقيراط"رواه البخاري.
فسأل أحدهم: وما يدرينا أنّ أبا ربيع كان مسلما؟
فردّ الإمام: يا إخوان، الرّجل عاد يوم أمس من الحجّ، وكان يرتاد المسجد يصلّي ويصوم. ونحن لنا الظّاهر والله يتولّى السّرائر.
وتواصل الجدال بين المصلّين، فقال الإمام:
يجوز للمسلم المشاركة في جنازة غير المسلم، وقد شارك بعض الصّحابة في تشييع أمّ الحارث بن ربيعة وقد كانت نصرانيّة، ولعلّ المشاركة يكون لها أثر إيجابيّ في نفوس أهل الميّت فتقرّبهم للدّين وتحبّبهم فيه.
التّجارة
احتار أبو موسى وزوجته عائشة في كيفيّة التّصرّف بالخمسين ألف دولار التي بعثها ابنهما موسى لهما مع صديقه وشريكه صلاح، فهذا مبلغ كبير لم يعتادا أن يدّخراه، قالت أمّ موسى:
هذا تعب الولد، وسأحتفظ به حتّى يعود؛ ليتصرّف به كما يشاء.
لم يوافقها أبو موسى على رأيها فقال:
لقد سمعت بأذنيك ما قاله شريكه صلاح، فقد وفّقه الله منذ أن ابتعد عن وجهك ووجه المحتالة مبروكة، والمبلغ الذي أرسله فائض عن حاجته، وأرسله إلينا؛ لنعيش حياة رغيدة.
أمّ موسى: موسى-الله يرضى عليه- وفّقه الله بسبب دعواتي ودعائي له، بعد أن فارق وجه النّحس ليلى.
حوقل أبو موسى وقال:
الدّنيا حظوظ،" إنّما الأعمال بالنّيّات" وموسى نيّاته حسنة، وهداه الله أن يهرب من البلاد؛ ليبتعد عن شرورك وشرور المحتالة مبروكة، والخير فيما اختاره الله.
أمّ موسى: من يوم ما غاب واختفى موسى، وأنا كلّ يوم أستحمّ بدموعي شوقا إليه وخوفا عليه.
أبو موسى: قال صلاح شريك موسى بأنّ موسى سيعود بعد ثلاثة أشهر، وقد انقضى منها شهر، ولا بدّ من عمل مشروع نعتاش منه، ويُرضي موسى.
أمّ موسى: ما هي المشاريع التي تعرفها؟ وهل تعرف شيئا غير العمل في الأرض؟
أبو موسى: أبواب الرّزق واسعة، وربّنا طرح البركة في التّجارة، سأعمل بقّالة في حارتنا.
أمّ موسى: قبل أن تفتح بقّالة فكّر بمن أرسل لنا الدولارات، ويجب تأثيث شقّته بأثاث فاخر؛ ليسكن هو وزوجته وأطفاله سكنا يليق بهم.
ابتسم أبو موسى وقال:
هذه هي المرّة الأولى التي أسمع فيها فكرة حسنة منك.
غضبت أمّ موسى من كلام زوجها وردّت عليه بحدّة:
هئ هئ....منذ تزوّجتك وأنا حريصة عليك وعلى بيتك، وعملت في الأرض أكثر منك، ولولا شقائي وحكمتي لانفضحتَ أمام النّاس.
ضحك أبو موسى وقال ساخرا:
أكيد لولاك لمُتنا جوعا. والحقّ عليّ أنا لأنّني استشرتك، رحم الله أبي ومجايليه فقد سمعتها مرّات منهم وهم يقولون:" شاوروهن واخلفوا شورهن"، وأكبر خطأ ارتكبته في حياتي عندما قبلت بمشورتك، ووافقتك على الذّهاب إلى المحتالة مبروكة؛ لحلّ مشكلة موسى بعد أن فشل بمعاشرة ليلى.
بدأت أمّ موسى ترغي وتزبد، فتركها أبو موسى وغادر البيت، ذهب إلى صديقه سفيان في المدينة المجاورة، استشاره بنيّته فتْح بقّالة في بلدته، فشجّعه صديقه على ذلك، ووعده بأن يساعده في إعداد محلّ البقالة، وبتعريفه على تجّار الجملة في المدينة؛ ليأخذ بضاعته منهم.
شكره أبو موسى وطلب منه أن يساعده بشراء أثاث جديد لبيت ابنه موسى، بعد أن شرح له بأنّ موسى وأسرته سيصلون البلاد بعد شهرين.
تفاجأ الصّديق سفيان بأنّ موسى لا يزال على قيد الحياة، وأنّه تزوّج من امرأة أجنبيّة، وعمل هناك بجدّ واجتهاد، فهنّأ أبا موسى على سلامة ابنه، ورافقه إلى معرض للأثاث الفاخر، فاشتروا سريرا للزّوجين، وثلاثة أسّرة لأطفالهما، طقم "كنبات" فاخر، طاولة سفرة، وأدوات منزليّة.
دعا أبو موسى صديقه سفيان إلى بلدته؛ ليختارا موقعا مناسبا، للبقالة التي سيؤسّسها أبو موسى.
في البلدة وعلى بعد حوالي مائتي متر من بيت أبي موسى، رأى سفيان الصّديق بناء مبنيّا دون تعمير، يقع على طريقين ترابيّين، سأل عن صاحب البيت.
أجابه أبو موسى:
هذا البناء لأحد أبناء البلدة، بناه ليزوّج ابنه فيه، لكنّ الابن هاجر للعمل في بلاد أخرى، فتركه الأب دون تعمير.
قال سفيان الصّديق إذا باعه لك فابتعه، وأسّس بقالتك فيه، فموقعه يتوسّط الحارة، والطريقان يمرّ منهما أبناء الحارات الأخرى.
حكّ أبو موسى رأسه، اقتنع بالفكرة، طلب من صديقه سفيان أن يرافقه إلى بيت صاحب الأرض وهو يقول:
"خير البرّ عاجله".
رحبّ بهما مالك البيت، ولمّا عرض شراء البيت، ردّ عليه الرّجل، الأرض التي أمام البيت تزيد مساحتها على الدّونم، ولن أبيعه إلّا مع الأرض.
نظر إليه أبو موسى نظرة فاحصة وسأله:
كم تريد ثمنا للبيت وللأرض.
ردّ الرّجل متسائلا باهتمام:
هل تريد أن تشتري حقّا يا أبا موسى؟
ضحك أبو موسى وقال:
وهل تراني أمزح معك يا رجل؟
ما حاجتك بها؟ فلديك بيت.
- أريد أن أفتح فيها بقّالة.
- هل تريد كلمة واحدة أم المفاصلة؟
- كلمة واحدة يا رجل.
- البيت مع الأرض بخمسة عشر ألف دينار.
فكرّ أبو موسى قليلا، نظر إلى صديقه الذي يرافقه، وقال:
وأنا اشتريت.
دفع أبو موسى ثمن البيت والأرض في ساعات المساء برفقة المختار وإمام المسجد، الذي جاء بناء على طلب أبي موسى؛ ليكتب وثيقة البيع والشّراء، وليشهدا عليها.
في اليوم التّالي أحضر أبو موسى حدّادا وقصّيرا، وبدأ بتعمير البيت بسرعة فائقة.
انتهى من تعمير البيت في ثلاثة أسابيع، جهّز الرّفوف، اشترى البضاعة برفقة صديقه ابن المدينة. وافتتح البقّالة بعد أن وضع على جانبيها المحاذيين للطّريق لافتتين، وسمّاها "بقّالة الأصدقاء."
يصلّي أبو موسى الفجر في المسجد، ويذهب ليفتح بقّالته، ارتادها أبناء الحارة ذكورا وإناثا؛ ليستطلعوها، اشتروا منها ورأوا فيها أنّها وفّرت عليهم ارتياد المدينة، فهم يجدون في البقّالة ما تحتاجه بيوتهم.
أعلنت أمّ موسى حربها على زوجها منذ أن ابتاع البناية والأرض المحيطة بها، تحضّر له قهوته وطعامه، تضعها أمامه دون أن تطرح التّحيّة، حتّى إنّه ينام في غرفة الضّيافة، وهي تنام في غرفة النّوم، وعندما تراه تطلق كلاما تعبر فيه عن غضبها منه، معتبرة أنّه يضيّع المال الذي أرسله ابنهما موسى، عندما علمت أنّه اشترى البناء والأرض التي أمامه سألت غاضبة:
هل تنقصنا أرض يا حمدان حتّى تبعثر تعب موسى؟
ردّ عليها دون اهتمام:
بل ينقصك قليل من العقل، ولو أنّ العقول تباع وتشترى لاشتريت لك عقلا.
سخرت منه وقالت:
أمّا أنت ما شاء الله على عقلك!
نظر إليها بغضب وقال:
" اللي ما بسمع منّك اتركك عنّك"، انصرفي لبيتك.
وذهب هو؛ ليشرف على العمّال. ومنذ ذلك الوقت وهي تخاصمه.
عندما افتتح البقّالة ورأت أبناء الحارة وبعض المارّة في الطريق يرتادونها ويبتاعون منها، صارت تجلس أمام بيتها وتراقب الدّاخلين إلى البقّالة والخارجين منها، بعد أسبوع انتبهت أنّ أّكثر الزّبائن من النساء في ساعات النّهار، فأبناؤهن يذهبون إلى المدرسة وأزواجهنّ يذهبون إلى العمل في حقولهم، أو في المدينة المجاورة. بعضهنّ تدخل وحدها وتخرج وحدها، شعرت بنار الغيرة تحرقها، عندما رأت إحداهنّ تدخل البقّالة، انتعلت حذاءها ومشت بخطى سريعة قاصدة البقّالة؛ عندما اقتربت مشت ببطء كي لا يسمع أحد خطواتها، نظرت من طرف النّافذة، رأت المرأة تنتقي مشترياتها وتضعها على الطّاولة أمام أبي موسى، الذي كان يضع المبيعات في أكياس ورقيّة بعد أن يسجّل ثمنها، دخلت من الباب والمرأة تحمل أغراضها؛ لتنصرف بعد أن دفعت ثمنها، طرحت السّلام، صافحت المرأة، تناولت كرسيّا من القشّ وجلست عليه قبالة زوجها بعد أن دارت في المحلّ تتفقّد الأغراض التي فيه، وقالت:
يبدو أنّك وجدتها فرصة لك؛ لتتحدّث مع النّساء كيفما تشاء.
حوقل أبو موسى وقال:
ماذا تقصدين يا عائشة؟ وماذا تريدين؟
التفتت إليه دون مبالاة وقالت:
أريد أن أعمل معك في المحلّ.
ضحك وهو يسألها:
ماذا ستعملين؟
- كما تعمل أنت.
- أنا أشتري البضاعة من المدينة، أرتّبها في المحلّ، وأبيع من يشتري وأقبض ثمن مشترياته.
- وأنا سأساعدك في ترتيب البضاعة، وسأدلّ النّساء اللواتي لا يعرفن مكان ما يردن شراءه.
سألها ساخرا: وماذا بالنّسبة للرّجال؟
ردّت عليه بثقة:
ربّنا حلّل البيع والشّراء، أنت تخبرني عن أسعار البضاعة، وعندما تغيب عن المحل لأيّ سبب، كأن تذهب لشراء بضاعة، سأقف أنا في المحلّ وحدي حتّى تعود. وفي وقت الغداء سأذهب إلى البيت وأعدّ الطّعام، أداوم في المحلّ وأنت تذهب إلى البيت؛ لتتناول طعامك.
نظر إليها أبو موسى وقال:
اجلسي في المحلّ كما تشائين، لكن عليك أن تعرفي كيف تتعاملين مع الزّبائن.
- لا تخف... سأتعامل معهم أفضل من معاملتك أنت.
ضحك أبو موسى وقال ساخرا:
هذا أمر مؤكّد فلسانك يقطر عسلا!
حرصت عائشة بعد ذلك اليوم على تحسين العلاقة مع زوجها، أغوته ليشاركها النّوم في غرفة النّوم في فراش مشترك.
البلاد طلبت أهلها:
يحرص حمدان على فتح البقّالة من بعد صلاة الفجر حتّى ساعات ما بعد صلاة العشاء، شجّعه على ذلك الأرباح التي يجنيها، فقد وجد العمل في التّجارة يدرّ دخلا أكثر من الزّراعة، تأتيه زوجته بطعام الفطور في حوالي السّاعة الثّامنة صباحا.
تنزعج أمّ موسى من بعض المسنّين الذين أدمنوا على اللقاء عند دكّانة أبي موسى، يجلسون أمامها على التّراب، أو يفترشون الأرض، يكرمهم أبو موسى بتحضير القهوة في دلّة نحاسيّة بشكل يوميّ، يضع تحتها بعض الجمر أمام المحلّ، لتبقى ساخنة، تطبخها أمّ موسى على بابور الكاز"بريموس"، وتديرها في الدّلّة بعد أن توقد الحطب تحتها.
يتسامر المسنّون بصحبة أبي موسى الذي يطيب له الجلوس معهم، وقد وجدت زوجته في ذلك فرصتها السّانحة؛ كي تنفرد في البقّالة، تبيع وتقبض الثّمن، وإذا ما التبس عليها ثمن غرض ما، كانت تطلّ من الباب وتسأل زوجها. صارت هي الأخرى تجالس النّساء اللواتي يرتدن المحلّ للشّراء، حتّى أنّ بعض المسنّات كنّ يأتين دون سبب ليجالسنها. يستعيد كلّ منهم ومنهنّ ذكريات زمان مضى.
ذات يوم انتبه أبو موسى لسيّارة وقفت أمام منزله، نزل منها رجل وامرأة ترتدي ملابس قصيرة، ومعهم أطفال، قفز أبو موسى من مكانه كالملدوغ قاصدا بيته وهو يقول:
وصل موسى يا عائشة.
ركضت خلفه أمّ موسى قبل أن تقبض ثمن مشتريات من زبون، تركت البقّالة مفتوحة، وقف المسنّون الجالسون أمام البقّالة يستطلعون الأمر، قال أحدهم:
هل سمعتم ما قاله حمدان لزوجته؟
ردّ أحدهم محتارا:
سمعته يقول: وصل موسى يا عائشة.
قال آخر: هل المقصود ابنه موسى الذي اختفى منذ سنوات؟ وإن كان يقصد ذلك فهذا معه امرأة وأطفال، وموسى كما تعلمون "طواشى".
قال ثالث: كثيرون لم ينفعوا ليلة دخلتهم، وعادت إليهم فحولتهم عندما تزوّجوا مرّة ثانية.
تيقّنوا من أنّ القادم هو موسى الحمدان، عندما سمعوا أمّ موسّى تهاهي:
وهاي يا مرحبا يا اعزازي
وهاي يا مية حمرا تزازي
هاي وللي ما فرحت لعودة موسى
هاي وتنكسر كسر القزازِ
أغلقوا المحلّ وذهبوا للسّلام عليه. عندما وصلوا بيت أبي موسى وقف موسى في استقبالهم، بينما كانت أمّ موسى تحتضن أحفادها وتقبّلهم ودموع الفرح تنساب على وجنتيها، وقفت زوجته الأجنبيّة بجانبه تصافحهم هي الأخرى، عرّفهم عليها وعرّفها عليهم:
التقطوا اسمها" إليزابيث" مع أنّ بعضهم وجد صعوبة في لفظه، بينما كانت هي تهزّ رأسها مع ابتسامة ولم تحفظ اسم أيّ منهم.
عندما سألوه عن أسماء أبنائه قال:
البنت بكرنا وسمّيتها عائشة على اسم أمّي، والثّاني ولد أسميته حمدان على اسم أبي، والثّالث سميته محمّدا.
ضحكت زوجته وقالت:
آيشه، همدان ومهمد.
ضحكوا لعجمتها وقال أحدهم مازحا:
اهمد يا همدان.
جاء أبناء البلدة بمن فيهم والد وأشقّاء طليقته ليلى للسّلام على موسى، وتهنئته هو ووالديه بسلامة العودة، على مدار ثلاثة أيّام، كانت مظاهر الثّراء بادية على موسى، وهذا زاد احترامه عند أبناء بلدته، خصوصا بعدما قال للمختار بأنّه سيتبرّع ببناء مدرسة نموذجيّة في بلدته.
في اليوم التّالي واصل المهنّئون القدوم إلى مضافة أبي موسى بعد عودتهم من أعمالهم، وكلّما وصل شخص أو مجموعة يتبادلون التّحيّة بقولهم:
الله يمسيّكم بالخير، ويخصّون موسى بالتّحيّة قائلين:
الله يمسّيك بالخير بالخير يا أبا حمدان.
استغرب سميح عيسى السّلمان هذا الاحترام الزّائد وغير المعتاد لموسى وهو من مجايليه، وكانا أبناء صفّ دراسيّ واحد وأصدقاء، فقال في اليوم الثّاني لوصوله:
الله يمسّي مصرياتك بالخير يا طواشى.
فانخرط الحضور ضاحكين، بينما قال المختار لسميح:
" اللي ما معه قرش ما بسوى قرش" يا ابن كاملة الفنساء، وليتنا كنّا جميعنا طواشات ونجحنا في أعمالنا مثل موسى.
وهنا قال فراس ابن عمّ موسى:
المشكلة أنّنا طواشات في عقولنا، التي نتركها نائمة.
ضحك الشّباب بينما الأغلبيّة ومن ضمنهم المختار لم يفهموا ما يرمي إليه.
دون تخطيط
ذهبت ليلى إلى المدرسة مع ابنيها فارس وحسن، لتسجيل ابنتها الصّغرى فاطمة في المدرسة، عندما مرّت ببقّالة أبي موسى أصرّ أطفالها على شراء بعض السّكاكر، أعطت ابنها البكر فارس خمسة قروش، وطلبت منه أن يشتري له ولإخوته، بينما أمسكت ولديها حسن وفاطمة بيديها، دخل فارس المحلّ وقال:
السّلام عليكم.
ردّت عليه أمّ موسى التي تجلس على كرسيّ خلف طاولة على مدخل الجانب الأيمن من المحلّ:
صباح الخير يا ولدي.
انتقى فارس ثلاث قطعٍ من الحلوى ووضعها على الطّاولة أمام أمّ موسى، ووضع القروش الخمسة أمامها؛ لتأخذ ثمنها وهو يقول:
تفضّلي يا جدّتي.
في هذه الأثناء أفلت شقيقاه حسن وفاطمة من يديّ أمّهما ولحقا به إلى الدّكّان،
أعطى كلّ واحدة منهما قطعته من الحلوى، لكنّ فاطمة مدّت يدها إلى بالون وأخذته وهي تقول لشقيقها:
ادفع ثمنه يا فارس.
ضحكت أمّ موسى لفاطمة، وهي تنتبه لفارس بعد أن سمعت اسمه، فسألته:
ابن من أنت يا فارس؟
فارس: ابن سعيد.
ما اسم أمّك؟
فارس: أمّي ليلى وهي تنتظرنا في الطّريق.
أطلّت أمّ موسى من نافذة المحلّ ورأت ليلى، راقبتها وهي تمسك يد بنتها وتواصل طريقها، شتمتها بصوت منخفض، تمنّت لو أنّها بقيت زوجة لابنها موسى، وأنّ هؤلاء الأطفال أبناء موسى، لكنّها حمدت الله بأنّ موسى قد هرب منها، وتزوّج في غربته وأنجب ثلاثة أطفال، وعاد إلى البلاد بثروة أخرجتهم من حالة الضّيق التي التي يعيشونها.
عندما وصلت ليلى المدرسة وقبل أن تدخل إلى غرفة الإدارة؛ لتسجيل ابنتها، توقّفت أمام المدرسة سيّارة أنيقة، ترجّل منها ثلاثة أطفال مع والدهم، نظر الرّجل إليها وأدار وجهه عنها وهو يتكلّم مع أبنائه بلغة أعجميّة، فانتبهت إليه وإذا به موسى، ارتجفت من المفاجأة عندما عرفته، تمنّت لو أنّهما لم يلتقيا، ولو عرفت أنّها ستلتقيه لما دخلت إلى المدرسة حتّى يخرج منها، فكّرت قليلا واقتربت منه، صافحته وهي تقول:
حمدا لله على سلامتك، وسألته:
هل هؤلاء أطفالك؟
- تسلمين، نعم إنّهم أطفالي.
- حفظهم الله ورعاهم، وأشارت إلى أبنائها وقالت:
- وهؤلاء أطفالي.
واصلت طريقها عندما خرج مدير المدرسة لاستقباله، ذهبت إلى غرفة السّكرتيرة، سجّلت ابنتها، بينما دخل ابناها إلى صفّيهما، وعادت طريقها إلى بيتها.
بقي موسى يفكّر بليلى، اجتاحته نوبة حزن عندما تذكّر زواجه الفاشل منها، حاول نسيان الموضوع وهو يقول:" ربّ ضارّة نافعة"، فلولا فشل ذلك الزّواج لما سافرتُ، ولما استطعت الحصول على الثّروة التي جمعتها في الغربة.
انتهى الجزء الثّاني من الليلة الأولى.
أواخر العام 2023
جميل السلحوت:
- جميل حسين ابراهيم السلحوت.
- مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
- حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربيّة.
- عمل مدرّسا للغة العربيّة في المدرسة الرشيدية الثّانويّة في القدس من 1-9-1977 وحتّى 28-2-1990.
- اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبريّة لمدّة ستّة أشهر.
- عمل محرّرا في الصّحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر، الكاتب، الشّراع، العودة، ورئيس تحرير لصحيفة الصّدى الأسبوعيّة. ورئيس تحرير لمجلة"مع النّاس"
- عضو مؤسّس لاتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، وعضو هيئته الإدارية المنتخب لأكثر من دورة.
- عضو مؤسّس لاتّحاد الصّحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الإداريّة المنتخب لأكثر من دورة.
- عمل مديرا للعلاقات العامّة في محافظة القدس في السّلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.
- عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسّسة ثقافيّة منها: المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ.
- فاز عام 2018 بجائزة القدس للثّقافة والإبداع.
- منحته وزارة الثّقافة الفلسطينيّة لقب"شخصيّة القدس الثّقافيّة للعام 2012".
- أحد المؤسّسين الرّئيسيّين لندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس والمستمرّة منذ آذار-مارس- العام 1991وحتّى الآن.
- جرى تكريمه من عشرات المؤسّسات منها: وزارة الثّقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، جامعة بيت لحم، جامعة خضوري في طولكرم، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، ندوة اليوم السّابع، جمعيّة الصّداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائريّة، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنّشر والتّوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.
شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:
- مؤتمر "مخاطر هجرة اليهود السّوفييت إلى فلسطين"- حزيران 1990 – عمّان.
- أسبوع فلسطين الثّقافي في احتفاليّة "الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009."
- أسبوع الثّقافة الفلسطينيّ في احتفاليّة الجزائر "قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015".
- ملتقى الرّواية العربيّة، رام الله-فلسطين، أيّار-مايو-2017، وعام 2020.
-حصلت رولا غانم على رسالة الدكتوراة من جامعة طنطا عام 2019 برسالة"القدس في روايات جميل السلحوت."
اصدارات جميل السلحوت
الأعمال الرّوائيّة
- ظلام النّهار-رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.
- جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.
-هوان النّعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.
- برد الصّيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.
- العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014. ترجمها إلى الانجليزية الأستاذ سهيل أقيور، وصدرت عام 2023 عن دار الأمير للنشّر والتّوزيع في مرسيلية في فرنسا.
- أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.
- زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.
- رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.
- عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017
- نسيم الشّوق-رواية-مكتبة كل شيء، حيفا 2018.
- عند بوابّة السّماء- مكتبة كل شيء-حيفا 2019.
- الخاصرة الرّخوة-مكتبة كل شيء-حيفا 2020.
- المطلقة- رواية-مكتبة كل شيء حيفا 2020.
- اليتيمة-رواية-مكتبة كل شيء-حيفا 2021.
- الأرملة- مشتركة مع ديمة جمعة السمان- مكتبة كل شيء-حيفا 2023.
- الليلة الأولى- مكتبة كل شيء-حيفا 2023. ترجمتها إلى الفرنسية الكاتبة المغربيّة فاطمة أكوراي، وصدرت عام 2023 عن دار فكرة كوم للنّشر والتّوزيع في الجزائر،
روايات اليافعين
- عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.
- الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، 2014، بيتونيا-فلسطين.
- البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.
– لنّوش"-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.
- "اللفتاوية" رواية لليافعين. دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس 2017.
- كنان يتعرّف على مدينته-رواية لليافعين-مكتبة كل شيء-حيفا 2020.
- أنا من الديار المقدسة-رواية لليافعين-مكتبة كل شيء- حيفا 2020.
- "مايا" روية لليافعين-مكتبة كل شيء-حيفا-2022.
- جبينه والشاطر حسن-رواية للفتيات والفتيان-مكتبة كل شيء—يفا 2023..
قصص للأطفال
- المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.
- الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.
- كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.
- الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.
- باسل يتعلم الكتابة، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.
- ميرا تحبّ الطيور-منشورات دار الياحور-القدس 2019.
- النّمل والبقرة- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.
- كنان وبنان يحبّان القطط- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.
- زغرودة ودماء-منشورات دار إلياحور-القدس 2020.
أدب السّيرة:
- أشواك البراري-طفولتي، سيرة ذاتيّة-، مكتبة كل شيء-حيفا 2018.
- من بين الصخور-مرحلة عشتها، سيرة ذاتية، مكتبة كل شيء-حيفا 2020.
- ابن العمّ أبو شكاف، سيرة غيريّة، دار الرّعاة للنر والتّوزيع-رام الله، فلسطين 2023
أبحاث في التّراث.
- شيء من الصّراع الطبقي في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات صلاح الدّين – القدس 1978.
- صور من الأدب الشّعبي الفلسطينيّ – مشترك مع د. محمد شحادة منشورات الرّواد- القدس 1982.
- مضامين اجتماعيّة في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
- القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.
بحث:
- معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس 2002
- ثقافة الهبل وتقديس الجهل، منشورات مكتبة كل شيء- جيفا،2017.
أدب ساخر:
- حمار الشيخ.منشورات اتّحاد الشّباب الفلسطيني -رام الله2000.
- أنا وحماري .منشورات دار التّنوير للنّشر والتّرجمة والتّوزيع – القدس2003.
أدب الرّحلات
- كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
- في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
يوميّات
- يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.
الرسائل
- "رسائل من القدس وإليها"، مشترك مع صباح بشير، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا-2022.
أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :
- يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلشسطيني – القدس 1997.
- ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
- قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.
- في أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
- الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.
- أدب السجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.
- نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.
- أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.
- حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012
- بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.
-نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.
- من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.
- مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.
وسوم: العدد 1084