الحصاد
الاهداء
إلى مَنْ بدَّدَ لي أَوْهامي حينَ ظَنَنْتُ أنَّني اكْتَفَيْتُ من كَسْبِ الْحُبِّ وَمَنْحِهِ....
إلى مَنْ أَبْحَثُ عَنِ الدَّفْءِ في كُلِّ عِناقٍ مِعَهُ...
إلى مَنْ يَنْقُلُني بابتسامَتِهِ الْعَذبَةِ إلى جَنَّةِ الأرْضِ، وَبِقَهْقَهاتِهِ إلى عِناقِ السَّماءِ...
إلى حَفيدي كِنان.
منشورات جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل – رام الله –فلسطين- نوفمبر 2014
تقديم
الحصاد.. أم الحصار؟
بقلم: الدكتور طارق البكري
لا أستطيعُ الزّعمَ أنَّ هذه الكتلةَ الّلغويةَ المتماسكةَ هي - فقط – روايةٌ للأطفال وللناشئةِ، بل هي تُحفةٌ فنيةٌ منحوتةٌ في صخرِ جبالِ فلسطين الشّامخة، ومنقوشةٌ على جبينِ أدبِ الطّفلِ المعاصر.
هي حصادٌ.. أم حصارٌ؟
حرفٌ واحدٌ يجعلُ المعنى مختلفًا تمامًا
فقد حاصرتني روايةُ الأديبِ والنّاقدِ الفلسطيني (الشيخ) جميل السلحوت، والمعنونةُ بكلمةٍ عميقةِ المعنى (الحصاد)، من أوّلِّ حرفٍ حتى آخرِ قطرة.
الرّوايةُ حصدتْ كلَّ مشاعري.. كقارئ، لا ككاتبٍ أنهكتْه السنون وبيّضّتْ شَعْرَ رأسِهِ حتى الثّمالة. ثم أحيتِ الرّوايةُ في نفسِهِ عَبَقَ التّاريخ ووميضَه.
قضيتُ سويعاتٍ أقرأُ هذا النّصَّ الفريدَ بأسلوبِهِ، المتعملقِ في مفاهيمِهِ، حدّقْتُ في كلماتِهِ، متخيّلًا تفاصيلَهُ اليوميّة، من مَوْسمِ الزّرعِ إلى موسمِ الحصاد، وعشتُ تجاربَهُ اليوميّة، كأبٍ وابنٍ صغيرٍ وأمٍّ، مع الأسرةِ كلّها، في تفاصيل لا يملُّ القارئُ نهلًا، بل يزدادُ حماسةً لارتشافِ مزيدٍ من خيالاتِ المؤلّفِ الخصبة، التي تأتي من قلبِ المعاناةِ الحقيقيّة، حيثُ الألم، والعشق، والحرقة، والحلم، والأمل، والصبر، والمعاناة، والكبرياء.
هي مشاعٌر متداخلةٌ توحيها الرّوايةُ بتفاصيلِها، يستطيعُ القارئُ من عَبَقِها أنْ يتنشّقَ عبيرَ التّرابِ الفلسطينيّ، ويسمعَ صوتَ المِعْوَلِ وهو يضربُ الأرض، ويشتمُّ رائحةَ الزّرعِ والنّبْتِ المُخْتَلِطِ بالماء، يسمعَ أصواتَ نِعالٍ المؤمنينَ وهم يزحفونَ نحوَ الأقصى، يحملونَ على أكتافِهِم مشاعِلَ النّصر، رغمَ صلفِ الاحتلالِ وقهرِه، لا يمنعُ الظلمَ الأرضَ من الحياة، ولا المواطِنَ الصّامِدَ من البقاءِ راسخًا فيها، حاملًا ظلمَ التّاريخِ على عاتِقِهِ، صابرًا على الأذى والإهمال، صامدًا في وَجْهِ المحتَلِّ الغاصِبِ لِوَحْدِهِ.. دونَ أنَ يركعَ أو يستسلم.
رايةُ الحقِّ ينقلُها الآباءُ للأبناءِ بصلابَةٍ لا تلين، وهذا ما تُشيعُهُ الرّوايةُ في نفسِ القارئِ، وتجعلُهُ يتنسّمُ عبيرَ الأرضِ المحتلّةِ، بقدسِها، وأقصاها.. وقراها.. ومدنِها.. بالأمِّ التي تعجنُ وتخبزُ وتفلحُ وتزرعُ.. بالأبِ الّذي يحنُّ إلى الحرّيّةِ المسلوبةِ.. بالطّفلِ الّذي يسألُ ولا يجدُ جوابًا.
وفي النّهايةِ يعودُ الأبُ إلى بيتِهِ مرفوعَ الرّأسِ.. كما بدأَ مرفوعَ الرّأسِ.. يحبُّ الأرضَ.. يعشقُ ترابَ فلسطين وسماءَها، ولا ينسى حتّى طيورَها فيدعو لها بالرّزقِ الوفيرِ.
ولا يغفلُ الكاتبُ عن ذكرِ أسماءٍ كثيرةٍ لنواحٍ عِدَّةٍ، تُعَرِّفُ الأطفالَ العربَ على أرضِنا السّليبة.
وهذه الرّوايةُ بالرّغْمِ من أنّها تميلُ إلى المحليَّةِ، فإنّ صداها أوسعُ، ومداها أكبرُ، لأنّ فلسطين ليستْ مساحَةً جغرافيَّةً محدّدةً، ممّا يجعلُ الرّوايةَ واسِعَةَ الأفُقِ، تمتَدُّ من مشرِقِ الأرضِ إلى مغربِها، تطيرُ على جناحِ القِبابِ المقدسيّةِ، تنثرُ أحلامَ طِفْلٍ صغيرٍ يحبُّ أرضَهُ وشعبَهُ وأمَّتَه.
أحلامُ طفلٍ فلسطينيٍّ هو أخٌ لكلِّ طفلٍ عربيٍّ. طفل لا يعرفُ الهزيمةَ، ولا يعترفُ بها. طفل يكبرُ في كلِّ عربيٍّ ولا ينحني.. إلّا ليزرعَ أو ليحصدَ.
فالحصادُ آتٍ آتٍ كما تصوِّرُ نهايةُ الرّوايةِ
. ومعَ الحصادِ ترتفعُ رايةُ النّصرِ الأكيدِ
وكم حريّ بهذهِ الرّوايةِ - التّحفة النّادرة – أن تحلّقَ في سماءِ عروبَتِنا، فيقرأها كلُّ طفلٍ في بيتِهِ وفي مدرَسَتِه.
روايةٌ تحكي للطّفولةَ العربيّةَ صَبْرَ الطّفولَةِ الفلسطينيّة
من هنا تبدأُ حكايَتُنا.. ومن هنا تستمرّ
نكبةُ قدسِنا ستنتهي.. أمّا نكهتُها فسرمديّةٌ.
الحصاد
يَحْرِصُ مَحْمودٌ على أنْ يَكونَ الأوّلَ عَلى طُلّابِ صَفَّهِ، فهو طالبٌ نجيبٌ، مُتَفَوِّقٌ في دراسَتِهِ. اعْتادَ محمودٌ أنْ يُنْجِزَ وَظيفتَهُ البيتيَّةَ فَوْرَ عَوْدَتِهِ مِنَ المَدْرَسَةِ، يستبدِلُ مًلابِسَهُ...يتناوَلُ طَعامَ الغَداءِ بِصُحبَةِ والدَتِهِ وَأشِقّائِهِ وَشَقيقاتِهِ، يَغْسِلُ يَدَيْهِ...يَجْلِسُ عَلى كُرْسيِّهِ أمامَ الطّاوِلَةِ...يَقْرَأُ دُروسَهُ، ويَحلُّ واجباتِهِ، وَبَعْدَها يستأذِنُ مِنْ والدَتِهِ؛ لِيَلْعَبَ مَعَ أشِقَائِهِ وَمَعَ أبناءِ الجيرانِ.
يَعْشَقُ مَحْمودٌ الأَرْضَ، فَفي مَوْسِمِ الحِراثَةِ يلحَقُ والِدَهُ...يُراقِبُ سِكَّةَ المِحْراثِ وَهيَ تَشُقُّ بَطْنَ الأرْضِ، تَحْتَضِنُ حُبوبَ البَذارِ، وتَضُمُّها في بَطْنِها، محمودُ يَقْتَرِبُ مِنْ والدِهِ...يَطْلُبُ مِنْهُ أنْ يُعْطِيَهُ المِحْراثَ؛ لِيَحْرُثَ بَدَلًا مِنْ والِدِهِ، يَبْتَسِمُ الأَبُ لمحمودٍ ويقولُ لَهُ:
عِنْدَما تَكْبُرُ سَتَحْرُثُ يا وَلَدِي.
يَقِفُ مَحْمودٌ عّلى رُؤوسِ أصابِعِ قَدَمَيْهِ، يَرْفَعُ يَدَيْهِ إَلى الأَعْلى وّيَقولُ لِوَالِدِهِ:
انْظُرْ يا أبي...أنا كَبيرٌ...دَعْنِي أَحْرُثُ!
يَبْتَسِمُ الوالِدُ...يَحْضُنُ مَحْمودًا وَيَقولُ: أَنْتَ رائِعٌ يا مَحْمودُ، لكِنَّكَ لا تَقْوى عَلى الحِراثَةِ يا وَلَدي في هذا العُمْرِ.
يَفْرَحُ مَحْمودٌ لِفَرَحِ والِدِهِ...يَبْتَعِدُ قَليلًا...يَحْمِلُ حِجارَةً صَغيرَةً...يَنْقُلُها إِلى طَرَفِ الأَرْضِ، وَيَضَعُها عَلى السِّلْسِلَةِ الحَجَرِيّةِ الّتي تَفْصِلُ بَيْنَ أَرْضِ والدِهِ وِأَرْضِ الجيرانِ، يَسْأَلُهُ والِدُهُ:
ماذا تَفْعَلُ يا مَحْمودُ؟
فَيُجيبُ مَحْمودُ: أَبْنِي سِلْسِلَةً حَجَرِيّةً حَوْلَ أَرْضِنا.
يَسْعَدُ الْأَبُ بِجَوَابِ ابْنِهِ مَحْمودٍ فَيَقولُ:
سَلِمَتْ يَداكَ الجَميلتانِ يا وَلَدِي.
نَهَضَ مَحْمودٌ مُبَكِّرًا في العُطْلَةِ الأُسْبوعِيَّةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَقالَ لِوَالِدِهِ:
اليَوْمُ الجُمُعَةُ وَسَأَذْهَبُ مَعَكَ لِلْحِراثَةِ.
قالَ لَهُ والِدُهُ: هيّا بِنا...أَرْدَفَهُ الوالِدُ خَلْفَهُ عَلى البَغْلِ، وَسارا إِلى الأَرْضِ البَعيدَةِ الّتي تَقَعُ في أَطْرافِ القَرْيَةِ...كانَ في انتظارِهِمْ جَرّارٌ زِراعيٌّ...نَعَفَ الأَبُ بُذورَ العَدَسِ بانْتِظامٍ، وهو يُرَدِّدُ:
الّلهُمَّ أطْعِمْنا وَأَطْعِمِ الطّيْرَ.
سَألَ مَحْمودٌ والِدَهُ:
لِماذا تَدْعو الله يا أَبي أَنْ يُطْعِمَ الطَيْرَ؟
فَأجابَهُ أبوهُ:
لِأنَّني أَخافُ القَحْطَ، وإذا لَمْ تُمْطِرْ فَسَيَضيع البَذارُ سُدًى.
وعادَ مَحْمودٌ يَسْألُ:
وما علاقَةُ الطّيْرِ بالْمَطَرِ والقَحْطِ يا أبي؟
فَرَدّ الأبُ:
لِأنَّ خَيْراتِ الخِصْبِ تَعُمُّ الجميعَ، وَيْسْتَفيدُ مِنْها الإنْسانُ والطّيْرُ والحَيَوانُ.
وَسَأَلَ مَحْمودٌ مَرّةً أخُرى:
وَكَيْفَ تَطْلُبُ مِنَ اللهِ يا أبي أنْ يُطْعِمَنا وَيُطْعِمَ الطَيْرَ، وَأنْتَ تَرْجُمُ رُفوفَ الطّيورِ بالحِجارةِ، وَتَطردُها مِنَ الأرْضِ؟
ضَحِكَ الأَبُ مِنْ سُؤالِ مَحْمودٍ وَأجابَ:
إنّني أطْرُدُها كَيْ لا تَلْتَقِطَ حُبوبَ البَذارِ قَبْلَ دَفْنِها في الأرْضِ بالحِراثَةِ، كي تَنْمُوَ وُتُعْطيَنا حُبوبا كثيرَةً، تَكْفينا وَتَكفي الطّيورَ والحيَواناتِ.
عادَ أبو مَحْمودٍ يَجْمَعُ الحِجارَةَ مِنَ الأَرْضِ وَيَضَعُها عَلى السِّلْسِلَةِ الحَجَرِيَّةِ عَلى حُدودِ الأَرْضِ.
قَفَزَ محمودٌ وَجَلَسَ بِجانِبِ سائِقِ الجَرّارِ الزِّراعِيِّ، يُراقِبُ سِكَكَ مِحْراثِ الجَرّارِ الثَّلاث مُنْدَهِشًا مِنْ سُرْعَةِ الجَرَّارِ، خافَ عَلَيْهِ السّائِقُ أنْ يَقَعَ تَحْتَ تَأْثيرِ اهتِزازِ الجَرَّارِ فَأَنْزَلَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَذْهَبَ لِيُساعِدَ والِدَهُ.
محمودٌ يِحْمِلُ حِجارَةً صَغيرَةً، وَيَضَعُها عَلى السِّلْسِلَةِ الحَجَرِيَّةِ كَما يَفْعَلُ والِدُهُ.
زَرَعوا في ذلِكَ اليَوْمِ قَطْعَةَ أَرْضٍ عَدَسًا، وَقِطْعَةً أخْرى كَبيرَةً زَرَعوها قَمْحًا، والقِطعَةُ الثَالِثَةُ زَرَعوها شَعيرًا، وزرعوا ما تبقّى كَرْسَنّة.
مَحْمودٌ يَسْأَلُ والِدَهُ:
لِماذا لا تَحْرُثُ أَرْضَنا جَميعَها عَلى الجَرّارِ الزِّراعِيِّ يا أَبِي؟ فَهْوَ أَقْوى مِنَ البَغْلِ.
ابْتَسَمَ الأَبُ وَأجابَ:
الأَرْضُ السَّهْلَيَّةُ يا مَحْمودُ نَحْرُثُها عَلى الجَرَّارِ، أَمَّا الأَرْضُ الجَبَلِيَّةُ فَنَحْرُثُها عَلى البَغْلِ لِأَنَّها وَعِرَةٌ، لا يَصِلُها الجَرَّارُ، وَإِنْ وَصَلَها فَقَدْ يَنْقَلِبُ وَيَتَحَطَّمُ، وَلا يَجوزُ أنْ نَتْرُكَها بورًا.
هَزَّ مَحْمودٌ رَأْسَهُ مُقْتَنِعًا بِجَوَابِ والِدِهِ.
*****
في بِدايَةِ فَصْلِ الرَّبيعِ ذَهَبَ محمودٌ مَعَ والدِهِ إلى حُقولِ القَمْحِ...اسْتَمْتَعَ بِمَنْظَرِ نَباتاتِ القَمْحِ، وَهيَ تَتَماوَجُ بِحَرَكَةٍ تَبْعَثُ الرَّاحَةَ في النَّفْسِ، شارَكَ محمودٌ والِدَهُ في اقْتِلاعِ الأَشْواكِ والأَعْشابِ الضّارَّةِ مِنَ الحَقْلِ، كانَ حَريصًا أَلّا يَدوسَ نَباتاتِ الْقَمْحِ بِحِذائِهِ، كانَ يَضَعُ قَدَمَهُ بَيْنَ النَّباتاتِ تَمامًا مِثْلَما يَفْعَلُ والِدُهُ. مَحْمودٌ لا يَقْوى عَلى اقْتِلاعِ الأَشْواكِ والأَعْشابِ جَميعِها، فَبَعْضُها جُذورُها عَميقَةُ، وَبَعَضُها لها أَشْواكٌ تَخِزُ يَدَيْهِ النّاعِمَتَيْنِ، يَغْضَبُ مِنْها مَحْمودٌ وَيَشْتُمُها، ثُمَّ يَتْرُكُها لِوالِدِهِ.
عِنْدَ العَصْرِ ذَهَبَ مَحْمودٌ مَعَ والِدِهِ إِلى بَطْنِ الْجَبَلِ لِتَبْقيلِ الخُبّيزَةِ؛ لِتَطْبُخَها أُمُّ محمودٍ عشاءً لِلْأُسْرَةِ، فَهذا مَوْسِمُ الخُبّيزَةِ، وَفي الأرْضِ الصَّخْرِيّةِ قَليلَةِ التُّرْبَةِ، وَالّتي لا تَصْلُحُ لَلَحِراثَةِ وَزِراعَة الحُبوبِ، دَلَّ أبو مَحْمودٍ ابْنَهُ مَحْمودًا عّلى "الذُّبّيحِ" وَهو نَبْتَةٌ صّغيرَةٌ لها أَوْراقٌ خَضْراءُ جَميلَةٌ تُؤْكَلُ نَيِّئَةً، وَطَعْمُها لَذيذٌ، وَلَها جَذْرٌ مِثْلَ الإَصْبَعِ مُنْغَرِسٌ في الأَرْضِ، يُقْلَعُ ويُقَشَّرُ وَيُؤْكَلُ نَيِّئًا هُوَ الآخَرُ. وَقَبْلَ نِهايَةِ الرَّبيعِ يَنْبُتُ لِكُلَّ نَبْتَةِ مِنَ" الذُّبّيحِ" زَهْرَةٌ بَنَفْسَجِيَّةً تَسُرُّ النّاظِرينَ، وَتُؤْكَلُ هِيَ الأُخْرى نَيّئَةً. أَكَلَ محمودٌ وَوالِدُهُ ذُبّيحًا حَتّى مَلَأوا بُطونَهَم، وَعَبَّأَ مَحْمودُ جُيوبَهُ ذُبّيحًا لِوالِدَتِهِ وَلِشَقيقاتِه.
بَعْدَها اصْطَحَبَ أبو مَحْمودٍ ابْنَهُ مَحْمودًا وَأراهُ في الحاجِبِ الصّخْرِيّ الًصِّوّانِيّ نَبْتَةَ "الحُمّيضِ" ، وهي نَبْتَةٌ أَوْراقُها تُشْبِهُ أَوْراقَ السَّبانِخِ، لَكِنّها أَثْخَنُ مِنْها قليلًا، وهيَ نَبْتَةٌ رَبيعِيَّةٌ أَيْضًا، تُؤْكَلُ نَيِّئَةً ومطبوخَةً مَعَ الخُبّيزَةِ والعَكّوبِ والْهِنْدِبَةِ، وَتُعْطيها طَعْمًا فيهِ حُموضَةٌ، كَما يَفْعَلُ الّليمونُ، لِهذا سَمّوها بِهذا الاسْمِ. طَلَبَ أبو مَحْمودٍ مِنَ ابْنِهِ محمودٍ أَنْ يَمْلَأ كيسًا صّغيرًا بالْحُمّيضِ؛ لِتَطْبُخَه والِدَتُهُ مَعَ الخُبّيزَة، وَذَهَبَ الوالِدُ لِتَبْقيلِ الخُبّيزَةِ، والحويرْنَةِ.
****
في بِدايَةِ شَهْرِ نِيسان عادَ محمودٌ مِنْ مَدْرَسَتِهِ...وَجَدَ والِدَتَهُ تَنْكُشُ الأَرْضَ الواقِعَةَ أمامَ بَيْتِهِمْ، سَأَلَها عَمّا تَزْرَعُهُ؟ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ:
أَزْرَعُ البَصَلَ والبَنْدورةَ والبامِيَةَ.
تفحَّصَ محمودُ "كَنانيرَ" البَصَلِ الصَّغيرَةَ الّتي تَزْرَعُها والِدَتُهُ في الأَرْضِ، راقَبَ والِدَتَهُ وهي تَزْرَعُها، تَقَدَّمَ مَحْمودٌ مِنْ والدَتِهِ وقالَ لَها:
سَأُساعِدُكِ يا أمَّي.
ابْتَسَمَتْ والدَتُهُ وَسَألَتْهُ: بِمَ سَتُساعِدُني يا مَحْمودُ؟
أجابَ محمودٌ: سَأُساعِدُكِ بِزِراعَةِ البَصلِ.
اقْتَرَبَ محمودٌ مِنْ والِدَتِهِ...ساعَدَها في زِراعَةِ "كُنّارِ" البَصَلِ الصَّغيرِ في الأَرْضِ، وَبِدَفْنِهِ في التُّرابِ.
أَرادَ محمودٌ أنْ يُساعِدَ والِدَتَهُ في نَكْشِ الأَرْضِ، حَمَلَ الفَأْسَ، لكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَرْفَعَها إِلى الأعْلى؛ لِيَهْوِيَ بِها عَلى التُّرْبَةِ. انْتَبَهَتْ والِدَتُهُ إليْهِ وَقالَتْ لَهُ:
الفَأْسُ أَكْبَرُ مِنْكَ يا مَحْمودُ....سَنَشْتَري لَكَ فَأْسًا صَغيرَةً، تَسْتَطيعُ حَمْلَها وَنَكْشَ الأرْضِ بِها.
فَرِحَ محمودٌ بِذلِكَ، وَفي اليَوْمِ التَّالي اشْتَرى والِدُهُ لَهُ فَأْسًا صَغيرَةً...فَرِحَ محمودٌ بالفَأْسِ الصَّغيرَةِ...نَزَلَ إلى الأَرْضِ وَشَرَعَ يَنْكُشُ البَصَلَ الّذي زَرَعَتْهُ والِدَتُهُ...اسْتَخْرَجَ عدَدًا مِنَ "كَنانيرِ" البَصَلِ الصَّغيرَةِ...حَمَلَها وَعادَ فَرِحًا بِها إِلى والِدَتِهِ. وَعِنْدَما عَلِمَتْ والِدَتُهُ مِنْ أيْنَ أَتَى بِها ابْتَسَمَتْ وَسَأَلَتْهُ:
هَلْ ذَهَبْتَ لِتَزْرَعَ أَمْ لِتَخْلَعَ ما زَرَعْنا يا مَحْمودُ؟
لَمْ يَفْهَمْ عَلَيْها مَحْمودٌ. لَكِنَّها أضافَتْ قائِلَةً:
ما زَرَعْناهُ يا مَحْمودُ يَبْقى في الأَرْضِ لِيَنْمُوَ وَيُثْمِرَ، وَبَعْدَها نَحْصُدُهُ. وَغَدًا سَنَزْرَعُ سَوِيّا أَشْتالَ البَنْدورَةِ.
****
اسْتَيْقَظَ مَحْمودُ يَوْمَ الجُمُعَةِ مُبكِّرًا، اسْتَحَمَّ وَارْتَدى بِنْطالُا وَقَميصًا جَديدَيْنِ...رَشَّ عَلى رَقَبَتِهِ قَليلًا مِنَ العُطورِ...قالَ لَهُ والدُهُ:
أَرَاكَ مُسْتَعِدًّا يا مَحْمودُ، إِلى أَيْنَ سَتَذْهَبُ؟
أجابَ مَحْمودٌ: سَأَذْهَبُ مَعَكَ لِتَأْدِيَةِ صَلاةِ الجُمُعَةِ في المَسْجِدِ الأَقْصى.
فَسَأَلَهُ الوالِدُ: وَمَنْ أَعْلَمَكَ أنَّني سَأُصَلّي الجُمُعَةَ في المَسْجِدِ الأَقْصى؟
فَأَجابَ مَحْمودٌ عَلى السّؤالِ بِسُؤالٍ:
هَلْ نَسيتَ يا أَبي أَنَّكَ قُلْتَ لِوالِدَتي مَساءَ الّليْلَةِ الماضِيَةِ، أَنَّكَ سَتُصَلّي صّلاةَ الجُمُعَةِ في المَسْجِدِ الأَقْصى؟
فَأَجابَ الأَبُ: لَمْ أَنْسَ يا وَلَدي.
فَقالَ مَحْمودٌ: إِذَنْ سَأَذْهَبُ مَعَكَ.
الأَبُ: هَيّا بِنا يا مَحْمودُ.
سارا معًا...اسْتَقَلّا الباصَ مِنْ قِمَّةِ جَبَلِ المُكَبِّرِ...عِنْدَ راسِ العامودِ لَمْ يَسْمَحْ حاجِزٌ عَسْكَرِيّ لِلْباصِ أَنْ يُواصِلَ طَريقَهُ...أَشارَ لَهُمْ جُنْدِيٌّ بِأَنْ يَلْتَفّوا حَوْلَ الدُّوّارِ، وَأَنْ يَعودوا طَريقَهُمْ.
نَزَلَ الرُّكّابُ باسْتِثْناءِ المُسِنّينَ مِنَ الباصِ، وَواصَلوا طَريقَهُمْ سَيْرًا عَلى الأَقْدامِ. سَمِعَ مَحْمودٌ امْرَأَةً مُسِنَّةً تَقولُ:
حَسْبِيَ الله وَنِعْمَ الوَكيلُ، وَلَعْنَةُ اللهِ عَلى الاحْتِلالِ وَعَلى جُنودِهِ.
التَصَقَ مَحْمودٌ بِوالدِهِ وَسَأَلَهُ: لَماذا بَقِيَ الشُّيوخُ في الباصِ يا أَبي؟
أجابَ أبو مَحْمودٍ: لأِنَّهُمْ لا يَسْتَطيعونَ المَشْيَ مِنْ هُنا إِلى المَسْجِدِ الأَقْصى.
وعادَ مَحْمودٌ يَسْأَلُ ثانِيَةً:
لِماذا مَنَعَ الجُنودُ الباصَ مِنْ مُواصَلَةِ طَريقِهِ يا أَبي؟
فَأَجابَ الأَبُ: لِأَنَّهُمْ مُحْتَلّونَ لِبِلادِنا يا وَلَدي.
مَحْمود: وَلِماذا احْتَلّوا بِلادَنا يا أبي؟
الأَبُ: لأَنَّهُم لَمْ يَجِدوا مَنْ يَتَصَدّى لَهُمْ يا وَلَدي.
مَحْمود: لِماذا؟
الأَبُ: عِنْدَما تَكْبُرُ سَتَفهمُ ذلِكَ يا مَحْمودُ.
مَحْمودُ: أنا كَبيرٌ يا أبي، فَبَعْدَ شَهْرَيْنِ سَأُنْهي الصَّفَّ الرّابِعَ، وَسَأَتَرَفّعُ إلى الصَّفِّ الخامس.
الأَبُ ضاحِكًا: عِنْدَما تُنْهي الصَّفَّ السّادِسَ سَتَفهمُ الحَقيقَةَ يا مَحْمودُ.
دَخَلوا بابَ الأَسْباطِ... التَفّوا يَسارًا إلى المَسْجِدِ الأَقْصى... وَجَدوا أَمامَهُمْ حاجِزًا عَسْكَرِيًّا، يَقولُ شُرْطِيُّ بِلِسانٍ عَرَبيٍّ مُعْوَجٍ: يُسْمَحُ دُخولُ النِّساءِ وَالأَطْفالِ دونَ سِنِّ العاشِرَةِ، أَمّا الرِّجالُ فالدُّخولُ مَسْموحٌ لِمَنْ هُمْ فَوْقَ الخَمْسين.
وَقَفَ أبو مَحْمودٍ وَقالَ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ:
لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَعَلى اليَوْمِ الّذي رَأَيناكُمْ فيهِ.
فَكَّرَ أبو مَحْمودٍ قَليلًا...قَرَّرَ أَنْ يَتَظاهَرَ بِأَنّ عُمرَهُ فَوْقَ الخَمْسين، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الشَّيْبَّ الّذي يُغَطّي رَأْسَهُ سَيَشْفَعُ لَهُ ..مَشى أبو مَحْمودٍ وهو يُمْسِكُ يَدَ ابْنِهِ مَحْمودٍ...وَعِنْدَما اقْتَرَبَ مِنَ الشُّرْطَةِ طَلَبَ أَحَدُهُمْ مِنْهُ بِطاقَةَ الهَوِيَّةِ، مَدَّ أبو مَحْمودٍ يَدَهُ إِلى جَيْبِهِ؛ لِيُخْرِجَ بِطاقَةَ الهَوِيَّةِ، أَعْطاها لِلشِّرْطِيِّ، لَمْ يَنْتَبِهْ أبو مَحْمودٍ بِأَنَّ مَحْمودًا قَدْ واصَلَ طَريقَهُ مُتَشَبِّثًا بِثَوْبِ امْرِأَةٍ مُسِنَّةٍ. وَبِشَكْلٍ عَفَوِيٍّ رَكَضَ أبو مَحْمودٍ خَلْف ابْنِهِ وهو يُنادي بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ:
مَحْمودُ....يا مَحْمودُ. اعْتَرَضَهُ شُرْطِيٌّ بِعَصًا على صَدْرِهِ...وهو يَصيحُ: لِماذا تَهْرُبُ؟
أبو مَحْمودٍ: لَسْتُ هارِبًا...ذَلِكَ الطْفْلُ ابْني...أُريدُ اسْتِرْجاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْتَعِدَ وَيَضيعَ!
الشُّرْطِيُّ: لا تَكْذِبْ...ذَلِكَ الطِّفْلُ يَمْشي مَعَ والِدَتِهِ وهو يُمْسِكُ بِثَوْبِها.
أبو مَحْمودٍ: وَاللهِ إنَّهُ ابْني.
اقْتادوا أبا مَحْمودٍ جانِبًا لِيُجْروا لَهُ تَفْتيشًا شَخْصِيًّا...وهو يُنادي بِأَعْلى صَوْتِهِ عَلى ابْنِهِ محمودٍ. مَرَّ بِهِ جارُهُ العَجوزُ الحاجُّ سَعيدُ الماضي، فَقالَ لَهُ أبو مَحْمودٍ:
يا حاجُّ سعيدُ: ابْني مَحْمودُ دَخَلَ مِنْ هُنا، وَأخافُ عَلَيْهِ أَنْ يَضيعَ...أَرْجوكَ الْحَقْ بِهِ وَأعِدْهُ إليَّ.
تَوَكّأَ الحاجُّ سَعيدُ عَلى عَصاه، اسْتَجْمَعَ قُواهُ مُحاوِلًا الّلحاقَ بِمَحْمودٍ...دَخَلَ ساحَةَ الأقصى...رَأى مِنْ بَعيدٍ طِفْلًا يَرْتَدي قَميصًا أَبْيَضَ الّلوْنِ، وَيَمْشي بِجانِبِ امْرَأَةٍ...اسْتَعانَ الحاجُّ سَعيدُ بامْرَأَةٍ في الثَّلاثيناتِ مِنْ عُمرِها...أشارَ إلى مَحْمودٍ وَقال لَها: الْحَقي بِهِ يا ابْنَتي وَأَعيديهِ إِلَيَّ؛ لِنُعيدَهُ لِأَبيهِ المَحْجوزِ عِنْدَ الشُّرْطَةِ.
رَكَضَتِ الْمَرْأَةُ وَأَمْسَكَتْ يَدَ الطِّفْلِ وَسَأَلَتْهُ ما اسْمُكَ يا حَبيبي؟
أَجابَ مَحْمودُ: اسْمي مَحْمود خالِد عبد الكريم.
الَمَرْأَةُ: أَيْنَ أَبوكَ؟
التَفَتَ مَحْمودٌ إِلى الجِهاتِ كُلِّها...حاوَلَ الافْلاتَ؛ لِيَبْحَثَ عَنْ أَبيهِ، إِلّا أَنَّ المَرْأَةَ طَمْأَنَتْهُ وَقالَتْ لَهُ: لا تَخَفْ وَتَعالَ مَعي يا ابْني لِأُعيدَكَ لِأَبيكَ، فَشُرْطَةُ الاحْتِلالِ تَحْتَجِزُهُ عِنْدَ مَدْخَلِ المَسْجِدِ.
جَلَسَ الحاجُّ سَعيدٌ عَلى الدَّرَجِ القَريبِ...شَكَرَ المَرْأَةَ وَأعادَ مَحْمودًا إلى والِدِهِ.
رَكَضَ محمودٌ إلى والِدِهِ وقالَ لَهُ: هَيّا بِنا يا أَبي لِنُصَلّي.
أعادَ الشُّرْطِيِّ بِطاقَةَ الهَوِيَّةِ لِأَبي مَحْمودٍ وَهْوَ يَقولُ:
انْصَرِفْ أَنْتَ وَابْنُكَ مِنْ هُنا...فَلَنْ تَدْخُلَ الأَقْصى هذا اليَوْمَ.
دُهِشَ محمودٌ مِنْ وَقاحَةِ الشُّرْطِيّ وقالَ:
بَل انْصَرِفْ أَنْتَ مِنْ هُنا.
تَجاهَلَ الشُّرْطِيُّ ما قالَهُ محمودٌ؛ لأنَّهُ مَشْغولٌ بِمُراقَبَةِ المُؤْمنين الدّاخِلينَ إِلى المَسْجِدِ الأَقْصى لِلصّلاةِ.
أَمْسَكَ أَبو محمودٍ يَدَ ابْنِهِ...عادا عَشَرات الأمْتارِ إلى الْخَلْفِ...صّلّيا في الشّارِعِ مَعَ أُناسٍ كَثيرينَ مُقْتَدينَ بْإمامِ المَسْجِدِ الأقصى، الّذي يَصِلُهُمْ صَوْتُهُ عَبْرَ مُكَبِّراتِ الصّوْتِ. وَعادا إلى بَيْتِهِم وَمَحْمودٌ غاضِبٌ.
سَأَلَ محمودٌ والِدَهُ:
لِماذا يَمْنَعونَنَا مِنَ الصَّلاةِ في الْمَسْجِدِ الْأقْصى يا أَبي.
فَأَجابَهُ أَبوهُ: لِأَنّهُمْ مُحْتَلّونَ يا بُنَيّ.
وَعادَ مَحْمودٌ يَسْأَلُ ثانِيَةً: وَلِماذا هُمْ مُحْتَلّونَ يا أَبي؟
فَأَجابَ أَبو مَحْمودٍ: عِنْدَما تَكْبُرُ سَتَفْهَمُ ذلِكَ يا وَلَدي.
صَمَتَ محمودٌ قَليلًا وَقال: أنا أَكْرَهُ الاحْتِلالَ يا أَبِي؛ لِأَنَّهُ سافِلٌ.
*****
وَصَلوا بَيْتَهُمْ وَمَحْمودٌ غاضِبٌ تَعْلو وَجْهَهُ تَكْشيرَةٌ، جَلَسَ حَزينًا عَلى كُرْسِيٍّ في صالَة بَيْتِهِمْ، سَأَلَتْهُ شَقيقَتُه الصُّغْرى رَباب ابْنَةُ السَّنَواتِ الثّماني:
لِماذا أَنْتَ عابِسٌ يا محمودُ؟ أَلا تُريدُ أَنْ تَلْعَبَ مَعَنا؟
فَأَجابَها مَحْمودُ: مُعَلِّماتُ المَدْرَسَةِ وَمُديرَتُها يَقُلْنَ دائِمًا:
قَليلُ الأدَبِ يَحْتاجُ إلى تَأْديبٍ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ!
فَسَأَلَتْ رَبابُ: لِماذا تَقولُ ذلِكَ؟
أجابَ محمودٌ: لِأَنَّ الاحْتِلالَ سافِلٌ وَبِحاجَةٍ إلى مَنْ يُؤَدِّبُهُ، وَيَطْرُدُهُ مِنْ بِلادِنا...تَصَوّري أَنَّ شُرْطَتَهُ مَنَعَتْنا أنا وَأَبي وَآخَرينَ مِنَ آداءِ صّلاةِ الجُمُعَة في المَسْجِدِ الأَقْصى!
غَضِبَتْ رَبابُ وَقالَتْ: لعَنَهُم اللهُ.
سَأَلَ مَحْمودٌ شَقيقتَهُ رَباب: أَيْنَ أُمّي؟
فَأَجابَتْ رَبابُ: أُمِّي تَزْرَعُ أَشْتالَ البَندورَةِ في الحاكورَةِ.
قَفَزَ مَحْمودٌ مِنْ مَكانِهِ وهو يقولُ: هَيّا بِنا يا رَبابُ لِنُساعِدَها.
رَكَضَ إِلى المَخْزَنِ...أَخَذَ "المَنْكوشَ" وَذَهَبَ هو وَرَبابُ إلى الحاكورَةِ لِيَزْرَعا أَشْتالَ البَنْدورَةِ مَعَ والِدَتِهمْ. جَلَسا بِجانِبِ أُمِّهِمْ...راقَباها كَيْفَ تَنْكُشُ التُّرْبَةَ، وَكَيْفَ تَعْمَلُ بِيَدَيْها حُفْرَةً صَغيرَة، ثّمَّ تَضَعَ الشَّتْلَةَ واقِفَةً عَلى جَذْرِها، تُمْسِكُها بِيَدِها اليُسْرى، وَتُهيلُ عَلَيْها تُرابًا ناعِمًا حَتّى تُغَطّي الجَذْرَ، تَضْغَطٌ التُّرابَ بِراحَتَيْها كَيْ يَبْقى مُتَماسِكًا، وَبَعْدَها تَسْكُبُ عَلَيْها كوبَ ماءٍ، ثُمَّ تَبْتَعَدُ بِخَطٍ مُسْتَقيمٍ حواليْ نِصْفَ مِتْرٍ لِتَزْرَعَ شَتْلَةً أُخْرى.
سَأَلَتْ رَبابُ والِدَتَها: لِماذا سَكَبْتِ الماءَ في الْحُفْرَةِ يا أُمّي؟
فَأَجابَتِ الْأُمُّ: كَيْ تَشْرَبَ الشَّتْلَةُ.
وَسَأَلَتْ رَبابُ مَرَّةً أُخْرى: وَهَلْ تَشرَبُ أَشْتالُ البَنْدورَة؟
فَأجابَتِ الْأُمُّ: نَعَمْ، كُلُّ الأحْياءِ تَشْرَبُ الماءَ...فالماءُ عِمادُ الحياةِ، وَبِدونِ الماءِ تَموتُ الكائِناتُ الحَيَّةُ.
فَسَأَلَ مَحْمودٌ: وَهَلْ أَشْتالُ البَنْدورَةِ حَيّةٌ مِثْلنا؟
فَأَجابتِ الْأُمُّ: لَوْ لَمْ تَكُنْ حَيّةً لَما عاشَتْ، وَلَما أَثْمَرَتْ.
******
عادَ أبو مَحْمودٍ إلى البيت يَحْمِلُ في جَيْبِهِ حَفْنَةً مِنْ بُذورِ الفَقّوسِ، وقالَ بِأنّهُ سَيَزْرَعُها في جانِبٍ مِنَ الأرْضِ، فقالَتْ رَبابُ ومَحْمودُ بِأنَهُما يُحِبّانِ الفَقّوسَ، فهو طَيِّبُ المَذاقِ، وَذَهَبا مَعَ والِدِهِما لَيُساعِداهُ، لَحِقَ بِهِما أَشِقّاؤُهُمُ الصِّغارُ زَيْنَبُ وَسُعادُ وَجَمالُ الّذي وَصَلَ الحاكورَةَ حافِيًا ومُتَأَخَّرًا، فهو ابْنُ عامَيْنِ، خَرَجَ مِنَ البَيتِ دونَ عِلْمِ والِدَتِهِ الّتي كانَتْ في المَطْبَخِ تُعِدُّ وَجْبَةَ العَشاءِ، وَلَم ينْتَبِهوا لَهُ، وَلَوْ انْتَبَهوا لَهُ لأَلْبَسوهُ حِذاءَهُ ولَحَمَلوهُ أَيْضًا.
جَلَسَ أبو مَحْمودٍ على الأَرْضِ، نَكَشَ حُفْرَةً صَغيرة بالمَنْكوشِ، وَضَعَ بِذْرَةَ فَقّوسٍ وَطَمَرَ عَلَيْها تُرابًا بِسُمْكِ عَشْرَةِ سنتمتر...ضَغَطَ التُّرْبَةَ بِراحَةِ يَدِهِ؛ لِتَبْقى مُتَماسِكَةً....زَحَفَ عَلى مُؤَخَّرَتِهِ لِيَنْكُشَ حُفْرَةً أخْرى، التَفَتَ إلى مَحْمودٍ وَإِذا بِهِ يَسْكُبُ كوبَ ماءٍ في الحُفْرَةِ الأولى! فَسَأَلَهُ غاضِبًا:
لِماذا سَكَبْتَ الماءَ في الْحُفْرَةِ يا مَحْمودُ؟
فأَجابَ مَحْمودٌ:
كَيْ تَشرَبَ البِذْرَةُ وَتَنْمو كَما فَعَلْنا بِأَشْتالِ البَنْدورَةِ.
ابْتَسَمَ أَبو مَحْمودٍ وقالَ:
بُذورُ الفَقّوسِ تَتَعَفّنُ وَتَموتُ إِذا سَقَيْناها، فَهيَ تَخْتَلِفُ عَنْ أَشْتالِ البَنْدورَةِ.
فَقالَ مَحْمودُ: لكِنَّ والِدَتي قالَتْ بِأَنّ الماءَ عِمادُ الحَياةِ، وَأَنْ لا حَياةَ بِدونِ ماءٍ.
فَقالَ أَبو مَحْمودٍ:
هذا كلامٌ صَحيحٌ، لكِنْ لِكُلِّ كائِنٍ حَيٍّ مُواصَفات تَخْتَلِفُ عَنِ الكائِناتِ الأخْرى، فَالفَقّوسُ مَثَلًا نَباتٌ لا يَحْتاجُ إلى كُثيرٍ مِنَ الماءِ؛ لِأَنّهُ يَمْتَصُّ حاجَتَهُ مِنْ رُطوبَةِ التُّرْبَةِ.
اقْتَرَبَ مَحْمودٌ مِنْ أَبيهِ وَسَأَلَهُ:
لِماذا تَسْتَعْمِلُ مَنْكوشي يا أَبي، وَلا تَسْتَعْمِلُ الفَأْسَ؟ فَبِماذا أَنْكُشُ أَنا؟
ضَحِكَ أَبو مَحْمودٍ وأَجابَ:
أنا سَأَزْرَعُ وَحْدي، وَعُدْ إلى البَيْتِ أنْتَ وَإخْوَتُكَ، واقْرَؤوا دُروسَكُمْ، وَحُلّوا وَظائِفَكُمْ البَيْتِيَّة.
فَرَدَّ مَحْمودٌ وَرَبابُ بِصَوْتٍ واحِدٍ:
لَقَدْ قَرَأنا دُروسَنا وَحَلَلنا واجِباتِنا المَدْرَسِيَّةَ فَوْرَ عَوْدَتِنا مِنَ المَدْرَسَةِ، وَهذا ما نَفْعَلَهُ دائِمًا. فَهَلْ تَسْمَحُ لي بالمُشارَكَةِ في زِراعَةِ الفَقّوسِ؟
فمازَحَهُ أبوهُ قائِلًا: وَإنْ لَمْ أسْمَحَ لَكَ فَماذا سَتَفْعلُ؟
فَأَجاب مَحْمودٌ: إِذا لَمْ تسْمَحْ لي بالمُشارَكَةِ في زِراعَةِ الفَقّوسِ، فَلَنْ آكُلَ مِنْهُ عِنْدَما يُثْمِرُ.
وَقالَتْ رَبابُ: وَأَنا أَيْضًا مِثْلُ مَحْمودٍ لَنْ آكُلَ فَقّوسًا إنْ لَمْ أشارِكْ في زِراعَتِهِ.
دُهِشَ أبو مَحْمودٍ مِنْ جَوابِ رَباب ومَحْمودٍ وَسَأَلَهُما:
لِماذا يا أبْنائي؟
فَأَجابا بِصَوْتٍ واحِدٍ:
لأَنَّ مَنْ لا يَعْمَلُ لا يَأْكُلُ!
لَمْ يُصَدِّقْ أبو مَحْمودٍ ما سَمِعَتْ أُذُناهُ فَسَأَلَهُما:
مَنْ عَلّمَكُما هذا الكَلامَ؟
التَفَتَ كُلٌّ مِنْهُما إلى الآخرِ وَأَجابَتْ رَبابُ:
هذا ما قالَهُ الحَكيمُ للطّفْلِ الكَسولِ في مُسَلْسَلِ "النّشيط والكَسول" وتَناقَشْنا بِكَلامِ الحَكيمِ فَوَجَدْناهُ صَحيحًا.
فَرِحَ أَبو مَحْمودٍ بما سَمِعَهُ مِنْ رباب وَمَحْمودٍ، فَقامَ واْحتَضَنَهُما، وَطَبَعَ قُبْلَةً على وجَنَتَيْهِما، وَقالَ لَهُما:
إَذَنْ تعالا وَازْرَعا الفَقّوسَ.
*******************
قالَتْ أُمُّ مَحْمودٍ: هذِهِ الأيّامُ سَنابِلُ القَمْحِ مَلأى بالحُبوبِ، ولا بُدَّ مِنْ تَحْضيرِ حاجَةِ الأُسْرَةِ مِنَ الفَريكَةِ قَبْلَ أَن تَجِفَّ السّنابلُ. وقالَ أَبو مَحْمودٍ بِأَنَّهُ سَيَذْهَبُ غَدًا الخَميسَ إلى حُقولِ القَمْحِ؛ لِتَحْضيرِ الفَريكَةِ. فاعْتَرَضَ مَحْمودٌ وَرَبابُ على ذلِكَ وَقالا:
لِماذا سَتَذْهَبُ غَدًا الخَميسَ وَلَيْس بَعْدَ غَدٍ الجُمُعَةِ؟
فَسَأَلَهُما أَبوهُما: وَما الفَرْقُ بَيْنَ الذَّهابِ إلى الحقولِ يَوْمَ الخَميسِ أوْ يَوْمَ الجُمُعَةِ؟
فَقالَ مَحْمودٌ: الفَرْقُ كَبيرٌ، فيَوْمُ الخَميسِ يَوْمُ دَوامٍ مَدْرَسِيٍّ، ولا نَسْتَطيعُ الذّهابَ مَعَكَ فيه، أَمّا يَوْمُ الجُمُعَةِ فهو يَوْمُ العُطْلَةِ الأسْبوعِيَّةِ، وَنَسْتَطيعُ أنْ نَذْهَبَ مَعَكَ فيهِ.
ضَحِكَ الأَبَوانِ مَمّا قالَهُ ابْناهُما، وَقالَ الأبُ:
إِذا كانَتْ هذِهِ رَغْبَتَكُما فَسَنَذْهَبُ يوْمَ الجُمُعَةِ.
وَقالَتْ الأمُّ: إنَّها فِكْرَةٌ رائِعَةٌ، سَنَذْهَبُ جَميعُنا...فالجَوُّ بَديعٌ، وَجَمالُ الرَّبيعِ يُريحُ النَّفْسَ والجَسَدَ.
فَقالَ أبو مَحْمودٍ: إذَنْ فَلْيَكُنْ يَوْمُ الجُمُعَةِ يَوْمَ فَرَحٍ وَسَعادَةٍ، سَأَذْبَحُ خَروفًا؛ لِنَشْوِيَهُ في الحَقْلِ وَسَطَ الرَّبيعِ.
في صَباحِ الجُمُعَةِ، استَيْقَظَ أبو مَحْمودٍ وأمُّ مَحْمودٍ مَع صِياحِ الدّيكِ، ذَهَبا إلى حَوْشِ الغَنَمِ، سَحَبَ أبو مَحْمودٍ خَروفًا، وَذَبَحَهُ بَعيدًا عَنْ أُمِّهِ، بَقِيَتْ أُمُّهُ تَثْغو خَلْفَهُ، في حين حَلَبَتْ أُمُّ مَحْمودٍ النِّعاجَ. أَسْرَعَتْ تَعْمَلُ جُزْءًا مِنَ الحَليبِ جُبْنًا، أضافَتْ ما تَبقّى إلى الّلبَنِ الرّايِبِ، أَشْعَلَتِ المَوْقِدَ تَحْتَ الصّاجِ، وَشَرَعَتْ تَخْبزُ العَجينَ.
وَصَلَهُمْ صوْتُ طِفْلِهم الصَّغير جَمال يُنادي بِصَوْتٍ باكٍ: يمّه...يَمّه، فَرَكَضَتْ أُمُّهُ إلَيْهِ، حَمَلَتْهُ وَعادَتْ مُسْرِعَةً؛ لِتُكمِلَ الخَبيز. وَضَعَتْهُ في حِضْنِها وَواصَلتْ عَمَلَها.
انْتَهى أبو مَحْمودٍ مِنْ سَلْخِ الخَروفِ وَتَقْطيعِهِ، عَمِلَ صَحْنًا مِنَ الشّرائِحِ؛ لِيَشْوِيَها مَع كَبِدِ الخروفِ عَلى الصّاجِ فُطورًا لِلأُسْرَةِ، بَعْدَ أَنْ تُنْهيَ زَوْجَتُهُ رابِعَةَ الخَبيزِ.
اسْتَيْقَظَ بَقِيَّةُ الأَبْناءِ بَيْنَما غَفا جَمالُ الصّغيرُ في حِضْنِ والِدَتِهِ. اصْطَفّوا جَميعُهُمْ حَوْلَ المَوْقَدِ، يَتَخاطَفونَ الشِّواءَ عَنِ الصّاج، وَالنّعْجَةُ أمُّ الخَروفِ الذّبيحِ تَثْغو مُفْتَقِدَةً ابْنَها، كانَتْ تَنْتَقِلَ بَيْنَ الحِمْلانِ الصّغيرةِ، تَشُمُّ هذا وذاكَ ظَنّا مِنْها أنّ واحدًا مِنْها قدْ يكونُ ابْنَها.
انْزَعَجَتْ رَبابُ مِنْ ثُغاءِ النَّعْجَةِ الثّاكِلِ وَسَألَتْ:
لِماذا تَثْغو هذهِ النَعْجَة؟
فَأَجابَتْها أُمُّها: إنَّها تَبْحَثُ عَنِ ابْنِها الذَّبيحِ!
فَسَأَلَ مَحْمودٌ: وَهَلْ تَفْتَقِدُ النِّعاجُ أَبْناءَها؟
فَأجابَتْهُ أُمُّهُ: طَبْعًا الحَيواناتُ كُلّها تُحِبُّ صِغارَها، وَتُدافَعُ عَنْها.
فَسأَلَتْ رَبابُ: وَلِماذا لا يَثْغو الكَبْشُ، وَيَبْحَثُ عِن ابْنِه كَما تَفْعلُ النَعْجَةُ؟
ضَحِكَ الأَبَوانِ لٍسُؤالِ رَبابٍ وَأجابَتْ أمُّ مَحْمودٍ:
الّذّكورُ لا يَسْأَلونَ؛ لأِنَّهُمْ لا يَحْمِلونَ الأَجِنَّةَ في بُطونِهِمْ، ولا يَلِدونَ، وَلا يُرْضِعونَ صِغارَهُمْ كَما الإناث.
قَفزَ أبو مَحْمودٍ وَطَمَرَ دِماءَ الخَروفٍ الذّبيحِ بالتُّرابِ، وقالَ لِزَوْجَتهِ:
خُذي جِلْدَ الخَروفِ إلى المَطْبَخِ كيْ لا تَراهُ أُمُّهُ. وَتَجَهّزوا سَريعًا كَيْ نذْهَبَ إلى الحقلِ.
سَأَلَ مَحْمودٌ: وماذا تَسْتَطيع النَّعْجَةُ أَنْ تَفْعَلَ إِذا رَأَتْ جِلْدَ ابنِها أوْ شَمّتْ رائِحَة دَمِهِ؟
فَأجابَ أبو مَحْمودٍ: رُبّما سَتَموتُ فورًا حُزْنًا على ابْنِها، وهذا ما حَدثَ في زَمَنِ جَدِّك المِرحومِ أبي، فَقَدْ ذَبَحَ خَروفًا، وَنَسِيَ جِلْدَهُ خارِجَ البَيْتِ، وَعِنْدَما عادَتْ أُمُّهُ مِنَ المَرْعى، شَمَّتْ رائِحةَ جِلْدِ ابْنِها، حامَتْ حوْلَهُ صامِتَة، وَسَقَطَتْ مَيِّتَةً بِجانِبِ جِلْدِ ابْنِها.
حَزِنَ مَحْمودٌ عَلى النَّعْجَةِ الثّاكِلِ وَقالَ: مِسْكينَةٌ تِلْكَ النَّعْجَة.
صَمَتَ مَحْمودٌ قَليلًا وَسَأَلَ والِدَهُ:
ماذا بالنِّسْبَةِ لِلنِّساءِ الّلواتي يَقْتُلُ المُحْتَلّونَ أَبْناءَهُنَّ؟ هَلْ يَمُتْنَ حُزْنًا عَلَيْهِم؟
انْفَعَلَ أبو مَحْمودً مِنْ سُؤالِ ابْنِهِ وَأَجابَ:
مَنْ يَقْتُلُ المُحْتَلّونَ ابْنَهُ يَموتُ في اليَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ حُزْنًا عَلى ابْنِهِ، وغَضَبًا عَلى المُحْتَلّين.
سَأَلَتْ رَبابُ: كَمْ مَرَّةً تَموتُ الْمَرْأَةُ التي يَقْتُلُ المُحْتَلّونَ ابْنَها؟
فَأجابَ أبو مَحْمودٍ: الأمُّ الثّاكِلُ تموتُ أَلْفَ مَرَّةٍ في اليَوْمِ.
وَعادَتْ رَبابُ تَسْأَلُ ثانِيَةً: لِماذا يَقْتُلُ المُحْتَلّونَ الأطْفالَ؟
فَأَجابَ أبو مَحْمودٍ: لِأَنّ المُحْتَلينَ يَكْرَهونَ الزّهورَ، وَيَكْرَهونَ الجَمالَ.
رَبابُ: وَهَلْ يَقْتُلُ المُحْتَلّونَ أَبناءَهُمْ كما يَقْتُلونَ أَبْناءَنا؟
أبو مَحْمودٍ: مَنْ يَقْتُلُ أَطْفالَ الآخَرينَ لا يَحْتَرِمُ حَياةَ أَطْفالِهِ!
رَبابُ: لِماذا هُمْ هكذا؟
أَبو مَحْمودٍ: عِنْدَما تَكْبُرونَ سَتَفْهمون ذلِكَ.
وَأَضافَ أَبو مَحْمودٍ: وَالآنَ هَيّا بِنا إلى الحَقْلِ.
******
وَضَعوا في الْخُرْجِ لَحْمَ الخَروفِ، وَخُبْزًا وَقِرْبَةَ ماءٍ وَحَمّلوها على البَغْلِ، امْتَطى أَبو مَحْمودٍ البَغْلَ، وَضَعَ طِفْلَهُ الأَصْغَرَ جَمالًا في حِضْنِهِ، وَأَرْدَفَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ خَلْفَهُ، في حين امْتَطَتْ أُمُّ مَحْمودٍ الحِمارَ، وَضَعَتِ ابْنَتَها سُعاد في حِضْنِها، وَأَرْدَفَتِ ابْنَتَها رَباب خَلْفَها، طَلَبوا مِنْ مَحْمودٍ أَنْ يَمْشيَ على قَدَمَيْهِ، وَعِنْدَ مُنْتَصَفِ الطّريقِ سَيَتبادَلُ مَعَ رَبابٍ، هي سَتَمْشي وهو سَيَرْكَبُ خَلْفَ أَبيهِ عَلى البَغْلِ. ساروا في طَريقِهِمْ إلى حُقولِ القَمْحِ، مَحْمودٌ غَيْرُ راضٍ لِأنَّهُمْ تَرَكوهُ يَمْشي، لَمْ يحْتَجّ مَحْمودٌ عَلى ذلِكَ؛ لِأنَّه مُدْرِكٌ أَنّهُ لا خِيارات أخْرى أمامَهُ.
وَصَلوا مَنطِقَةَ الضُّحْضاحِ في بَرّيَّةِ السَّواحِرَةِ، وَواصَلوا طَريقَهَمْ على امْتدادِ قِمّةِ الجَبَلِ باتَّجاهِ الْجَنوبِ، حَتّى وَصَلوا مَنْطِقَةَ جِنْجِس، وهي خِرْبَةٌ مُرْتَفِعَةٌ أَثَرِيّةٌ فيها آبارُ مِياهٍ وآثارٌ بيزَنْطِيَّةٌ، مِنْها ترى جَبَلَ الزَّيْتونِ الّذي يَحْتَضِنَ القُدْسَ القديمَةَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ، وَلا يَفْصِلُ خِرْبَةَ جِنْجِس عَنْ قَرْيَةِ العبيديَّةِ إلّا واد النّارِ، وَغَرْبُها تَرى مَدينَةَ بَيتَ لَحْمٍ تَتَوَسَّطُ مَدينَتَي بَيْت جالا وَبَيْت ساحور، وَيُطِلُّ مِنْ هُناكَ جَبَلُ المُكَبِّرِ، وامتدادُهُ جَبَلُ الشّيْخِ سَعْد، وَجنوبُه قَرْيَة صورْباهر. وَالنّاظِرُ مِنْ قِمَّة خِرْبَة جِنْجِس إلى الشّرْقِ يُطِلُّ على مَناطِقَ كَثيرَةٍ مِنْها: جَبَلُ المُنطارِ المُرْتَفِع، أمُّ الرَّتَمِ، دِمْنَةُ بَني هِلالٍ، المَخْبِيّة، وادِ الدَّكاكينِ، الزَّرَّاعةُ والخَلايِلُ. وَبَعدَها سَيَرى مُرْتَفَعاتِ السَّلْطِ في الأُرْدُنِّ.
وَإِذا ما الْتَفَتَ إلى الجَنوبِ الشَّرْقيِّ فَإنَّهُ سَيَرى جانِبًا مِنَ الْبَحْرِ المَيِّتِ تَتَلألأُ مِياهُهُ كَصَحْنٍ فِضِّيٍّ عَظيمٍ، وَخَلْفَهُ تَمْتَدُّ جِبالُ مُؤابٍ الأرْدُنِيَّةِ شامخَةً.
بَنَتْ أُمُّ مَحْمودٍ عَريشَةَ خَيْشٍ عَلى مَدْخَلِ الْمَحْجَرِ، الّذي اسْتَخْرَجَ مِنْهُ بَعْضُ الأهالي حِجارَةً سَوْداءَ الّلوْنِ لِلْبِناءِ وَلِمَصانِع ِ الْبَلاطِ. طَلَبَتْ مِنْ أَبْنائِها زَيْنَب ، سُعاد وَجمال أَنْ يَسْتَظِلّوا بِالْعَريشَةِ، وَذّهبَتْ هَيَ وَرَبابُ يَجْمَعْنَ الْحَطَب، وَذَهَبَ أبو مَحْمودٍ لِيأْتِيَ بِنَباتِ الْقَمْحِ، أَمّا مَحْمودٌ فَقَدْ ذَهَبَ يَجْمَعُ ثِمارَ الْمَرْوِ، وَهو نَبْتَةٌ طَيِّبَةُ الرّائِحَةِ، وَتَنْمو لَهُ في فَصْلِ الرَّبيعِ أَغْصانٌ جَميلَةٌ، لا تَلْبَثُ أَنْ تَنْمُوَ عَلى أَطْرافِها عُقَدٌ كالثّمارِ طَيِّبَةَ الْمَذاقِ.
عادَتْ أُمُّ مَحْمودٍ سَريعًا، فالْمَنْطِقَةُ مَلْأى بالْحَطَبِ، وَعادَ أَبو مَحْمودٍ لِيَجْلِبَ الْمَزيدَ مِنْ نَبات القَمْحِ الأَخْضَر المُمْتَلِئَة سَنابِلُهُ، أَشْعَلَتْ أُمُّ مَحْمودٍ النّارَ، وَضَعَتْ عَلَيْها سَنابِلَ الْقَمْحِ، ثُمَّ أَخَذَتْ تَفْرُكُ السّنابِل بِراحَتَيْها، تَنْفُخُ عَلَيْها لَيَطيرَ ما عَلِقَ بِها مِنْ شَوائِبَ، تَضَعُ الحُبُوبَ في صَحْنٍ بِجانِبِها، اسْتَطابَ أبْناؤُها طَعْمَ الْفَريكَةِ، فأَكَلوا حَتّى شَبِعوا، وَبَعْدَهُمْ أكَلَتْ هِيَ، ضَحِكوا مِنْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَهُمْ يَرونَ بَقايا الرَّمادِ تَرْتَسِمُ سَوادًا عَلى مُحيطِ أَفْواهِهمْ.
عادَ مَحْمودٌ فَرِحًا وَبَيْنَ يَدَيْهِ شُنّارَةٌ تَرْتَجِفُ، وَتُحاوِلُ الْفَرارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
قالَ مَحْمودٌ أَنَّهُ رآها تَحْتَضِنُ صيصانَها الصَغيرةَ تَحْتَ نَبْتَةِ قَطَفٍ بِجانِبِ الوادي، فَمَشى مِنْ خَلْفِها بِخِفّةٍ وَانْقَضَّ عَلَيْها، أَمْسَكَ بِجَناحَيْها، فَدَرَجَتْ صيصانُها هارِبَةً بِسُرْعَة كَبيرَةٍ، مَعَ أَنَّها صَغيرةٌ، لا يَتَجاوَزُ حَجْمُ الواحِدِ مِنْها حَجْمَ الُعُصْفورِ الدّورِيِّ، حاوَلَ مَحْمودٌ إمْساكَ بَعْضَ الًصّيصانِ لكنّهُ لَمْ يَنْجَح في ذلك.
قَفَزَتْ شَقيقاتُ مَحْمودٍ وَكُلُّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ تُحاوِلُ أَنْ تَحْمِلَ الشُّنّارةَ، أمّا الشَّقيقُ الأَصْغَرُ جمالُ فَقَدْ بَدَأ بالصّراخِ مادًّا يَدَيْهِ، يُريدُ أنْ يَحْمِلَ هذا الطّائِرَ هُوَ الآخَرُ.
الْتَفَتَتْ أمُّ مَحْمودٍ إلى مَحْمودٍ عاتِبَةً وَقالَتْ:
ما توَقّعْتُ هذا مِنْكَ يا مَحْمودٌ، فَكَيْفَ تُرَوِّعُ طائِرًا تَحْتَضِنُ صِغارَها، وَتُمْسِكُ بِها أَسيرَةً، فهذا لا يَليقُ بِكَ، وَما حاجَتُكَ بِها؟ هَلْ تُريدُ ذّبْحَها وَأكْلَها؟ فَإنِ اشْتَهَيْتَ الَّلحومَ فَأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ مَعنا لَحْمَ خروفٍ. وَهذِهِ الطُّيورُ تُضْفي عَلى الطّبيعَة جَمالًا خَلّابًا، أَلَمْ تَنْتَبِهوا لِتَغريدِها وَزَقْزَقَتِها؟
شَعَرَ مَحْمودٌ بالْخَجَلِ، أعْطى الطّائِرَ لِشقيقاتِه الّلواتي تَحَسّسْنَ ريشَهُ بِحَنانٍ، وَضَعَتْه رَبابُ في حِجرِ شقيقِها الصَّغيرِ جمال، فَأَفْلَتَ الطّائِرُ مِنْهُ، وَدَرَجَ هارِبًا بِسُرْعَةٍ فائِقَةٍ.
ضَحِكَتْ أمُّ مَحْمودً وقالَتْ: سَلِمَتْ يَداكَ يا جَمالُ.
قالَتْ زَيْنَبُ: يَبْدو أنَّ مَحْمودًا كَسَرَ جَناحَيّ الشُّنّارَةِ، أوْ نَتَفَ ريشَهُما، أَلَمْ تُلاحِظِوا أَنَّها هَرَبَتْ دَرْجًا على قائِمَتَيْها وَلَمْ تَطِرْ؟
فَقالَتْ أمُّها: جَناحا الطّائِرِ سَليمانِ، مِنْ عادَةِ الشّنّارِ "الحَجَل" أنْ يَدْرُجَ بِسُرْعَةٍ فائِقَةً، وَهو لا يُحُبُّ الطّيَرانَ، مَعْ أَنَّهُ يَسْتَطيعُهُ، وَإذا ما طارَ فإنَّهُ لا يُحَلّقُ عالِيًا كَبَقِيَّةِ الطّيور.
جاء أبو مَحْمودٍ غاضِبًا يَشْتُمُ الاحْتِلالَ وَمُخَلّفاته، وَقالَ:
لَمْ يَكْتَفِ المُحْتَلّونَ بِمُصادَرَةِ أراضينا، وبِناءِ مُسْتوطناتٍ عَلَيْها، فالْمُسْتَوْطَناتُ تُلَوِّثُ البيئَةَ بِمجاريها السّائِبَةِ في أَراضينا الزّراعِيَّةِ. وَأَشارَ إلى مُسْتَوْطَنَةِ "كيدار" المُقامَةِ على بَيْدَرِ العَبْدِ في مَنْطِقَةِ الْخَلايِلِ القريبَةِ، وَامْتَدَّتْ نَحْوَها مُسْتَوْطَنَةُ "معاليه أدوميم" الْمُقامَةِ عَلى المرَصّصِ وَأمِّ الْخيارِ مِن أراضي قَرْيَتَيّ أبو ديسٍ والعيزَرِيَّةِ؛ لِتُشَكِّلا مُسْتَوْطَنَةً واحِدَةً.
فَسَأَلَتْ رَبابُ: لِماذا يُصادِرونَ أرْضَنا وَيَبْنونَ عَلَيْها مُستوْطَناتٍ؟
فَأَجابَتْها أُمُّها: لِأنَّهُمْ مُحْتَلّونَ ظالِمون.
رَبابُ: وَلِماذا يَحْتَلّونَ أرْضَنا وَيَعْتَدونَ عَلَيْنا؟
فَأَجابَتْ أمُّ مَحْمودٍ: عِنْدَما تَكْبُرونَ سَتَفْهَمونَ ذلِكَ.
يَتَناوَلُ أبو مِحْمودٍ السّنْبُلَةَ مِنَ الْمَوْقِدِ يَفْرُكُها بِراحَتَيْهِ، يَنْفُخَ عَلَيْها لِيُبْعِدَ ما عَلِقَ بِها مِنْ شَوائِبَ، وَيُلقيها في فَمِهِ، اسْتَمَرَّ هكذا حَتّى امْتَلأتْ مَعِدَتُهُ. وَبَيْنَ سُنْبُلَةٍ وَأُخْرى يَشْتُمُ الاحْتِلالَ وَمُسْتَوْطِنيهِ بِعَدَدِ حَبّاتِ السّنْبُلَةِ أوْ يَزيد.
شَرِبَ أبو مَحْمودٍ ماءً حَتّى ارْتَوى، طَلَبَ مِنْ زَوْجَتِهِ أَنْ تَضَعَ الصّاجَ عَلى النَارِ؛ كَيْ يَشْووا الّلحومَ، بَحَثوا عَنْ أَطْفالِهِمْ فَوَجَدوهُمْ في سَفْحِ الْجَبَلِ يَتَمَدّدونَ بِطولِهِمْ، يَمُدّون أَيْدِيَهُمْ فَوْقَ رُؤوسِهِمْ، وَيَنْقَلِبونَ بَطْنًا وَظَهْرًا عَلى الأعْشابِ الْخَضراءَ لِمَسافَةٍ تَزيدُ عَلى العِشرينَ مِتْرًا. وَيُصْدِرونَ أَصْواتًا مُرْتَفِعَةً تَشي بِفَرَحٍ طُفولِيٍّ غامِرٍ.
أَكَلَ أبو مَحْمودٍ قِطْعَةَ لَحْمٍ واحِدَةٍ، فَقَدْ شَبِعَ فَريكَةً، أَمّا أمُّ مَحْمودٍ فَلَمْ تَأكُلْ شَيْئًا سِوَى الْفَريكَةِ، غَيْرَ أَنّها واصَلَتِ الشِّواءَ وَهْيَ تَقولُ:
ما لا يَأْكُلُهُ الْأوْلادُ سَنُعيدُهُ مَعَنا إلى الْبَيْتِ مَشْوِيًّا.
مَلَأَ الْبَغلُ والحِمارُ مَعِدَتَيْهِما بِمُخْتَلَفِ أَنْواعِ الأَعْشابِ الّتي يُحِبّانِها، فَأَمامَهُما مَساحَةٌ شاسِعَةٌ مِنَ الأَرْضِ لا يَتَوَفَّرُ لَهُما مِثْلها في القَرْيَةِ، بَلْ إِنّهُما في الْقَرْيَةِ يَعودانِ مَنَ الْعَمَلِ تَعِبَيْنِ، لِيُرْبَطا بالْحِبالِ في حَظيرَتِهَما، يُوضَعُ لَهُما عَلَفٌ غالِبِيّتُهُ مِنَ التِّبْنِ، وَقَليلٌ مِنَ الشّعير، يَأْكُلانِ ويَنامانِ في انْتِظارِ يَوْمِ عَمَلٍ جَديدٍ. وَلا مَجالَ لَهُما للرَّعْيِ لِعَدَمِ وُجودِ مَراعٍ في الْقَريَة، وَحَظّهُما الْيوْم أفْضَلُ مِنْ حَظِّ جيرانِهِما من الْغَنَمِ، فَخَمْسَ عَشْرَة نَعْجَةً وَكَبْشُها تَبْقى دائِمًا في الْحَظيرَةِ، لا تُغادِرُها إلّا مَرّتَيْنِ لِبِضْعِ دَقائِقَ يَوْمِيًّا، عِنْدَما يَسوقُها أَحَدُهُمْ إلى بِئْرِ الماءِ الْقَريبِ؛ لِتَرِدَ الماءَ.
الْيَوْمُ مُمْتِعٌ حَقًّا لِلْجَميِعِ، فَالْأَطْفالُ أَكَلوا وَشَرِبوا وَلَعِبوا وَتَمَتّعوا بِجَمالِ الطّبيعةِ الْخَلّابِ، وَأَبو مَحْمودٍ سَعيدٌ في هذا الْيَوْمِ الْجَميلِ بِصُحْبَةِ زَوْجَتِهِ وَأبْنائِهِ، وَفَرْحَتُهُ كَبيرةٌ بِهذا العامِ الْخَصْبِ، الّذي سَيُوَفّرُ لَهُ مَؤونَةَ البَيْتِ لِعَشْرِ سَنَواتٍ قادِمَةٍ، وَسَيَبيعُ مِنْ فائِضِ الانْتاجِ لِيُغَطّيَ احْتِياجاتِهِ الأخرى، وَأمُّ مَحْمودٍ تَعي ذلِكَ جَيِّدًا، وَفَرْحَتُها مُضاعَفَةٌ لِسَعادَةِ زَوْجِها وَأطْفالِها، مَعَ أَنّها لَمْ تَتَجَوَّلَ بَيْنَ الحُقولِ مِثْلَما فَعَلوا، وَبَقِيَتْ بجانِبِ الْمَوْقِدِ تُعِدُّ الْفَريكَةَ، والشِّواءَ لَهُمْ.
أمّا الْبَغْلُ والْحِمارُ فَقَدْ كانَ الْيَوْمُ فُرْصَتَهُما الذّهَبِيَّة لِيُطارِدا كيْفما يَشاءانِ، وَلِيَرْعَيا ما شاءا مِنَ الأعْشابِ الّتي يُحُبّانها. رَعَيا وَتَمَرْمَغا عَلى فِراشٍ ناعِمٍ مِنَ الأَعشابِ، ناما فوقَ الأعْشابِ، حَتّى أَنّ الحِمارَ انْبَطحَ أَرْضًا على جانِبِهِ الأَيْمَنِ، مَدَّ رَأْسَهُ وَقوائِمَهُ عَلى الأرضِ، وَنامَ نَوْمًا عَميقًا، حَتّى أنَّ مَحْمودًا ظَنَّهُ مَيِّتًا وهو في تِلْكَ الحالَةِ.
نادى أبو مَحْمودٍ أبْناءَهُ كَيْ يَحْضُروا لِتَناوُلِ الشِّواءِ ساخِنًا، إلّا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَجيبوا لِنِدائِهِ، فَقالتْ لَهُ زَوْجَتُهُ:
اذْهَبْ واحْضرِ الأوْلادَ، فالطّقْسُ الْيَوْمَ دافِئٌ والأفاعي تَخْرُجُ مِنْ جُحورِها، وَلَمْ يَعُدْ لَدَيْنا وَقْتٌ، وَعَلَيْنا الْعَوْدَةُ إلى الْبَيْتِ قَبْلَ مَغيبِ الشَّمْسِ، ذَهَبَ أَبو مَحْمودٍ إلى أَطْفالِهِ، حَمَلَ الصَّغيرَ جَمالَ وَقالَ لِلْآخَرينَ:
نَحْنُ عائِدونَ إلى الْبَيْتِ، وَمَنْ لا يَأتي الآنَ سَنَتْرُكُهُ هنا، فَلَحِقوا بِهِ يَتَضاحَكونَ فَرِحينَ.
عَبّأتْ أمُّ مَحْمودٍ الفريكَةَ في كيسٍ نَظيفٍ، رَكَضَ الأَبْناءُ في الطّريقِ عائِدينَ إلى الْبَيْتِ، بِاسْتِثْناءِ الصّغيرَيْنِ سُعاد وَجمال، حيثُ غَفا جمالُ في حِضْنِ والِدِهِ على البَغْلِ، وَرَكِبَتْ سُعادُ على الحِمارِ خَلْفَ والِدَتِها.
*********************
حَدَّثَ مَحْمودٌ وَرَبابُ أَقْرانَهُما في المَدْرَسَةِ عَمّا شاهَدَاهُ في الْبَرِّيَّةِ، وَقالَ مَحْمودٌ:
يَوْم أَمْس الجُمُعَةِ كُنّا أنا وَأبي وَأمّي وَشَقيقاتي، وَشَقيقي جَمالٌ في رِحْلَةٍ إلى مَنْطِقَةٍ جَميلَةٍ في بِلادِنا، مَنْطِقَة فيها حُقولُ القَمْحِ وَالشَّعيرِ والْعَدَسِ وَالْكْرْسَنَّةِ وَالذُّرَةِ، فيها مُخْتَلَفُ أنْواعِ الطّيورِ، وَهي مُطِلَّةٌ عَلى مُدُنٍ وَقُرى كَثيرةٍ. يَسْتَطيعُ مَنْ يَدْخُلُها أنْ يَلْعَبَ وَأنْ يَرْكُضَ فيها كَما يَشاءُ، وَأنُ يَأْكُلَ نَباتاتٍ كَثيرِةً لَذيذَةً مَجّانًا بِلا مُقابِلٍ، فَهي تَنْبُتُ في الأرْضِ وَحْدَها، لا يَزْرَعُها أَحَدٌ. فَسَأَلَتْهُ وَدادُ ابْنَةُ صَفِّهِ:
وَأَيْنَ تَقَعُ هذِهِ الْبَرّيَّةُ وَما اسْمُها؟ وَما اسْمُ الأَعْشابِ الّتي تَتَكَلّمُ عَنْها؟
فَأَجابَها بِلَهْجَةِ العارِفِ الْخَبيرِ:
تَقَع الْبَرِّيَّةُ هُناكَ، وَأشارَ إلى الجِهَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِنَ الْقَرْيَةِ، ولِكُلِّ مَنْطِقَةٍ في الْبَرِّيَّةِ اسْمٌ، وَنَحْنٌ كُنّا في خِرْبَةِ جِنْجِس، وَالأعْشابُ الّتي تُؤْكَلُ كَثيرَةٌ فيها وَمِنْها: الْمَرْوُ، الذُّبيحُ، الْحُمّيضُ، الْحويرْنة، وَهُناكَ الْخُبّيزَةُ والهِنْدِبَةُ وَالْعَكّوبُ وَغَيْرُها، قَطَعَ مَحْمودٌ حَديثَهُ عِنْدَما قُرِعَ جَرَسُ الْمَدْرِسَةِ للاصْطِفافِ الصَّباحِيِّ، فَهَرَعَ هُوَ وَزُمَلاؤُهُ للاصْطفافِ.
دَخَلَتِ الْمُعَلَّمَةُ الصَّفَّ وَطالباتُ وَطُلابُ الًصَّفِّ يَصْطَفّونَ حَوْلَ زَميلَتِهِمْ رَباب، وَهي تَقُصُّ لَهُمْ عَنْ رِحْلَتِها وَأُسْرَتِها إلى الْبَراري، فَسَأَلَتِ الْمُعَلِّمَةُ:
ماذا تَفْعَلونَ؟ لِيَجْلِسْ كُلٌّ مِنْكُمْ عَلى مَقْعَدِهِ.
انْصَرَفَ الطّلَبَةُ إلى مَقاعِدِهِمْ، وَقَفَتْ فاطِمَةُ الّتي تَجْلِسُ في الْمَقْعَدِ الأَخيرِ في زاوِيَةِ الصَّفِّ...اسْتَأذَنَتْ مِنَ الْمُعَلِّمَةِ لِتَسْمَحَ لِرباب كَيْ تُكمِلَ حَديثَها عَنْ رِحْلَتِها، فَوافَقَت المُعَلّمَةُ عَلى طَلَب فاطمة، وَطَلَبَتْ مِنْ رَباب أَنْ تَقِفَ بِجانِبِها أمامَ الطّلَبَةِ، وَأنْ تُكْمِلَ لَهُمْ حَديثَها عَنْ رِحْلَتِها.
انْتَهَتِ الحِصَّةُ وَالطّلَبَةُ يُصْغونَ بانْتباهٍ شَديدٍ لِزَميلَتِهم رباب، وَالْمُعَلّمَةُ مَسرورةٌ مِمّا تَسْمَعُ، خَرَجَتِ المُعَلّمَةُ مِنَ الصَّفِّ، وَأَصْواتُ الطّلَبَةِ تُلاحِقُها:
خُذينا رِحْلَةً يا مُعَلّمَتي إلى الْبَرِّيَّةِ.
في الصَّفِّ الرَّابِعِ حَصَلَ مَعَ مَحْمودٍ ما حَدَثَ مَعَ شَقيقَتِهِ رَباب، حَيْثُ اسْتَجابَتِ الْمُعَلِّمَةُ لِطَلَبِ التَّلاميذِ، فَسَمَحَتْ لِمَحْمودٍ أنْ يَقُصَّ لَها وَلِزُمَلائِهِ التّلاميذِ انْطِباعاتِهِ وَمُشاهَداتِهِ في رِحْلَتِه مَعَ أُسْرَتِهِ إلى الْبراري، انْتَهَتِ الْحِصَّةُ وَالتَّلاميذُ يُلِحّونَ عَلى مُعَلِّمَتِهِمْ أنْ تَأْخُذَهُمْ رِحْلَةً إلى تِلْكَ الْمَنْطِقَةِ. أمّا مَحْمودُ فَقَدْ قالَ:
خُذينا رِحْلَةً إلى الْمَسْجِدِ الأقصى يا مُعَلّمَتي.
بَعْدَ الْحِصّةِ الثّانِيَةِ، وَأَثْناءَ الْفُرْصَةِ الصَّباحِيَّةِ، تَحَدّثَتِ الْمُدَرِّسَتانِ في غُرْفَةِ الْمُعَلّماتِ مَعَ بَقِيَّةِ زَميلاتِهِنَّ عَمّا سَمِعَتاهُ مِنْ رَباب وَمَحْمودٍ، مَعَ أَنَّ أَيّا مِنْهُما لَمْ تَكُنْ عَلى عِلْمٍ بِما جَرى في حِصَّةِ زَميلَتِها الأُخْرى، لَكِنّهُما تَأَكَّدَتا مِنْ تَطابُقِ رِوايَةِ رَباب وَشَقيقِها مَحْمودٍ. وَقالَتْ الْمُعَلِّمَةُ رُقَيَّةُ:
انْتَهى مَوْسِمُ الرِّحْلاتِ هذا العام، وَفي رَبيعِ العامِ الْقادِمِ سَنَعْمَلُ عَلى الْقِيامِ بِرِحْلَةٍ مَدْرَسِيَّةٍ إلى الْبَرِّيَّةِ الّتي تَحَدّثَ عَنْها الشَّقيقانِ مَحْمودٌ وَرَباب.
وَسَأَلَتِ الْمُعَلِّمَةُ هُدى: مَنْ مِنْكُنَّ تَعْرِفُ تِلْكَ الْمَنْطِقَةَ وَتَعْرِفُ الطَّريقَ إلَيْها؟
ضَحِكَتِ الْمُعَلّماتُ جَميعُهُنَّ؛ لِأَنَّ أَيّا مِنْهُنَّ لا تَعْرِفُ الْبَرِّيَّةَ، وَلا تَعْرِفُ الطَّريقَ إلَيْها.
فَقالَتِ المُعَلِّمَةُ رُقَيَّةُ: لَيْسَ شَرْطٌ أَنْ نَعْرِفَ الْمَنْطِقَةَ الّتي سنَذْهَبُ رِحْلَةً إِلَيْها مُسْبَقًا، وَقَدْ ذَهَبْنا في رِحْلاتٍ إلى مَناطِقَ لا نَعْرِفُها أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. وَعِنْدَما نُقَرِّرُ رِحْلَةً إلى الْبَرِّيَّةِ، يُمْكِنُنا الاسْتِعانَة بِواحِدٍ مِنْ لَجْنَةِ أَوْلِياء الأُمورِ، لِيُرافِقَنا كَدَليلٍ.
ابْتَسَمَتْ الْمُعَلِّمَةُ وَدادُ وَقالَتْ مازِحَةً:
هَلْ نَحْنُ سُيّاحٌ حَتّى نَحْتاج دَليلًا؟
فَرَدَّتْ عَلَيْها الْمُعَلِّمَةُ رُقَيَّةُ: مَعَ أَنّكِ تَمْزَحينَ، إلّا أَنّني أُؤَكِّدُ لَكِ أَنّ الرِّحْلاتِ في ربوعِ الْوَطَنِ اسمُها: السِّياحَةُ الدّاخِلِيَّةُ، وَفي بِلادِنا الْكَثيرُ مِنَ الْمَناطِقِ الأَثَرِيَّةِ وَالْحَضارِيَّةِ وَالتّاريخِيَّةِ، وَفيها الْخيراتُ الكَثيرَةُ الّتي لا نَعْرِفُها، وَنَحْتاجُ مَنْ يَدُلُّنا عَلَيْها، وَيُعَرِّفُنا بها.
*******
نَشَرَتْ أُمُّ مَحْمودٍ الفَريكَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ عَلى سَطْحِ الْمَنْزِلِ، كَيْ تَجِفَّ تَمامًا قَبْلَ تَخْزينِها، فَلا يَزالُ فيها بَعْضُ رُطوبَةٍ، وَيَجِبُ تَقْليبُها أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ يَوْمِيًّا، كَيْ لا يَتَعَفَّنَ مِنْها شَيْءٌ، وَبِجانِبِ الْفَريكَةِ عَلى السَّطْحِ هُناكَ الَلبَنُ "الْجَميدُ" الّذي عَمِلَتْهُ أُمُّ مَحْمودٍ عَلى شَكْلِ أَقْراصٍ، مَنْشورٌ هو الآخَرُ تَحْتَ الشّمْسِ عَلى السَّطْحِ كَيْ يَجِفَّ تمامًا، ويُصْبِحَ صَلْبًا كالْحِجارةِ قَبْلَ تَخْزينِهِ، وَفي زاوِيَةِ السَّطْحِ الْقَريبَةِ مِنَ ميزابِ تصْريفِ المِياهِ عَلّقَتْ أُمُّ مَحْمودٍ خَريطَةَ قِماشٍ مَلْأى بالَّلبَنِ؛ كَيْ تَنِزَّ مِنْها السَّوائِلُ الزّائِدَةُ، فَتَبْقى"الَّلبَنَةُ" الّتي يَحْتَفِظونَ بِجُزْءٍ مِنْها في الثَّلّاجَةِ للاسْتِهلاكِ الْيَوْمِيِّ، وَما يَزيدُ تَعْمَلُ مِنْهُ لَبَنًا جامِدًا.
نَظّفَتْ أُمُّ مَحْمودٍ الحويرْنَةَ الّتي جَمَعها أبو مَحْمودٍ مِنَ الْبَرِّيَّةِ جَيِّدًا، وقامَتْ بِتَقْطيعِ أوْراقِها إلى قِطَعٍ صَغيرَةٍ، وَنَقَعَتْها في الماءِ لِتَكْسِرَ حِدَّةِ طَعْمِها الْحارِقِ، وَبَعْدَ ساعَتَيْنِ أَضافَتْ لَها لَبَنًا رائِبًا وَحَرّكَتْها جَيّدًا.
تَعْمَلُ أُمُّ مَحْمودٍ أكْثَرَ مِنَ النَّحْلَةِ؛ لِأَنَّ النّحْلَةَ تَعْمَلَ في النَهارِ، بَيْنَما أُمُّ مَحْمودٍ تَعْمَلُ النَّهارَ كُلَّهُ، وَجُزْءًا طَويلًا مِنَ الَّليْلِ، فهي تَحْلِبُ النِّعاجَ مَرَّتَيْنِ، واحِدَة في الصَّباحِ قَبْلَ شُروقِ الشّمْسِ، والثّانية بَعْدَ غُروبِها، وَتَصْنَعُ الحَليبَ جُبْنًا وَلَبَنًا وَلَبَنَةً، وَتوقِظُ أبْناءَها، وَتًجَهّزُهُم، وَتُقَدِّمُ لَهُمْ فُطورَهُمْ، وَتُلْبِسُهُمْ مَلابِسَهُم ُ الْمَدْرَسِيَّةَ، وَتَحَثّهُمْ على الذّهاب إلى مَدْرَسَتِهمْ لِيَصِلوها قَبْلَ بَدْءِ الدّوامِ بِرُبْعِ ساعَةٍ على الأَقَلَّ. وَبَعْدَها تُنَظّفُ الْبَيْتَ، وَتَغْسِلُ المَلابِسَ، وَتَعودُ لِتَحْضيرِ وَجْبَةِ الْغَداءِ.
تَعْرِفُ أُمُّ مَحْمودٍ كَيْفَ تَسْتَغِلُّ وَقْتَها جَيِّدا، صَحيحٌ أَنّهُ لا وَقْتَ لَدَيْها، لَكِنَّها تَعْرِفُ كَيْفَ تُقَسِّمُ ساعاتِ يِوْمِها، فَفي فَصْلِ الرّبيعِ تَضْغَطُ وَقْتَها لِتَعْمَلَ الزّبْدَةَ والسّمْنَ الْبَلَدِيَّ، تَأْتي بــِ "السّقا" الّذي تَضَعُ فيه الّلبَنَ، تَنْفُخُ فيهِ حَتّى يَنْتَفِخَ تمامًا، تَثني رِجْلَها الْيُمْنى مِنْ عِنْدِ الرُّكْبَةِ، تَضَعُهُ عَلَيْها، تُمْسِكُ طَرَفَيْهِ بِيَدَيْها، تُحَرِّكُهُ بِسُرْعَةٍ فائِقَةٍ يَمينًا وَيَسارًا، فَتَتَجَمَّعُ الزَبْدَةُ كُتَلا، تُخْرِجُها أُمُّ مَحْمودٍ بِيَدَيْها، تَضَعُها في وِعاءٍ، لِيَبْقى الّلبَنُ بدون دَسَمٍ جاهِزًا لِعَمَلِه لَبَنَةً و"جَميدًا". ما يَزيدُ عَنْ حاجَةِ الأسْرَةِ مِنَ الزّبْدَةِ تَعْمَلُهُ أُمُّ مَحْمودٍ سَمْنًا بَلَدِيًّا، تَطَبُخُ الزّبْدَةِ عِلى النّارِ مَعَ قَليلٍ مِنَ الأَرُزِّ بِنِسَبٍ مُعَيَّنَةٍ حَسَب كَمِّيَّةِ الزّبْدَةِ، إنَّها طَريقَةٌ تَعَلّمَتْها نِساءُ الْقَرْيَةِ مِنْ أُمّهاتِهِنَّ، وَيُعَلّمْنَها لِبَناتِهِنَّ أَيْضا.
تُؤْثِرُ أُمُّ مَحْمودٍ زَوْجَها وَأَبْناءَها عَلى نَفْسِها، فهي تُجَهَّزُ وَتُقَدِّمُ لَهُمْ كُلّ شَيءٍ يُريدونَهُ، وَهذا ما تَرَبّتْ عَلَيْهِ هِيَ وَبَناتُ جيلِها.
أبو مَحْمودٍ لَدَيْهِ أّيّامُ فَراغٍ كَثيرَة لا عَمَلَ لَهُ فيها، لَكِنَّهُ لا يُساعِدُ زَوْجَتَهُ إلّا نادِرا، كَأنْ يَعْلِفَ الأغَنامَ والْبَغْلَ والحمارَ، وَيورِدها الماءَ، لِذا فَهو يقضي ساعاتٍ مَعَ أَقْرانِهِ يَلْعبونَ "السّيجَةَ"، أَوْ يَقْضونَ قَيْلولَةً تَحْتَ شَجَرَةٍ.
يُقَلِّدُ مَحْمودٌ والِدَهُ، وَلا يُشارِكِ في الْعَمَلِ الْمَنْزِلِيِّ، بَيْنَما رَبابُ تُساعِدُ والِدَتَها عَنْ طيبِ خاطِرٍ.
سَأَلَتْ رَبابُ شَقيقَها مَحْمودًا: لِماذا لا تُساعِدُ والِدَتَنا بِعَمَلِ الْمَنْزِلُ مِثْلَما أُساعِدُها أنا؟
ارْتَبَكَ مَحْمودٌ قَليلًا وَأَجابَ: هّذِهِ أَعْمالٌ تَخُصُّ النِّساءَ وَحْدَهُنَّ!
فسَأَلَتْهُ رَبابُ مَرَّةً أُخرى: مَنْ قالَ لَكَ هذا الكَلام؟
مَحْمودُ يُجيبُها مُتَسائِلًا: ألا تُلاحِظينَ أنَّ أبي لا يَقومُ بِأَيِّ عَمَلٍ في المَنْزِل؟
وَتَتساءلُ رَبابُ أيْضًا: وَهَلْ تَعْتَقِدُ يا مَحْمودٌ أنّ عَدَمَ عَمَل أبي في المَنْزِلِ أَمْرٌ صَحيحٌ؟
مَحْمود: طَبْعًا صَحيح، فَأبي يَحرُثُ الأَرْضَ وَيَزْرَعُ وَيَحْصُدُ، وَيَدْرُسُ الزّرْعَ.
رَبابُ: وَأمّي تَنْكُشُ وَتَزْرَعُ وَتَحْصُدُ أيْضًا، وَتَحلِبُ الأغْنامَ، وَتَعْمَلُ الْأجْبانَ والّلبَنَ، والزّبْدَةَ والسّمْنَ، وَتُعِدُّ الطَّعامَ وَتَغْسِلُ وَتُنَظَّفُ.
فَأَجابَ مَحْمودٌ: هذا لَيْسَ شَأني، فَأنا أعْرِفُ أنَّ العَمَلَ المَنْزِلِيَّ للنّساء فَقَطْ، وَإنْ لَمْ تُصَدَّقيني، اسْأَلي مُعَلِّمَتَكِ لِماذا تُخَصِّصُ مدارِسُنا حِصَّةً تَدْبيرٍ مَنْزِلِيًّ للطّالِباتِ فَقَط؟
قَلِقَتْ رِبابُ مِنْ إجابَةِ شَقيقِها مَحْمود، وَبَقِيَتْ تُفَكِّرُ بِها ساعاتٍ طَويلَةٍ، وفي صَباحِ الْيَوْمِ التّالي سَأَلَتْ رَبابُ مُعَلِّمَتَها رُقَيّة:
لِماذا توجَدُ حِصَّةُ تَدْبيرٍ مَنْزِليٍّ للطَالباتِ دونَ الطّلابِ؟
ذُهِلَتْ الْمُعَلِّمَةُ مِنْ سُؤالِ تِلْميذَتها رَباب وَأَجابَتْها:
عِنْدَما تَكْبُرينَ سَتَفْهَمينَ الإجابَةَ.
لَمْ تَقْتَنِعْ رَبابُ مِنْ إجابَةِ مُعَلّمَتِها، وَانْصَرَفَتْ خائِبَةً وهي تُرَدِّدُ:
مَنْ لا يَعْمَلُ لا يَأْكُلُ.
******************
لَمْ يَمْضِ شَهْرٌ عَلى الزّراعَةِ الصّيْفِيَّةِ حَتّى بَدَأتْ تُعْطي ثِمارَها، فَنَبْتَةُ الْفَقّوسِ الّتي امْتَدَّتْ فُروعُها لِأَكْثَرَ مِنْ مِتْرٍ بَدَأَتْ تُزْهِرُ بِطَريقَةٍ لافِتَةٍ، تَرى زُهورَها الْيَوْمَ وَتَجِدُها قَدِ انْعَقَدَتْ وَنَمَتْ ثِمارًا بِشَكْلٍ سريعٍ جِدًّا، لِتَنْمُوَ بَعْدَها زَهْراتٌ أخْرى وَهَكَذا، بَيْنَما تَنْعَقِدُ زَهراتُ أَشْتالِ الْبَنْدورَةِ بِبُطءٍ، فَهْيَ لَيْسَتْ عَلى عَجَلَةٍ مِنْ أَمْرِها، تَنْعَقِدُ ثَمَرَةً كُرَوِيَّةً خَضْراءَ صَغيرَة، تَنْمو عَلى مَهْلِها، وَتَصْطَبِغُ بالّلوْنِ الأحْمَرِ ناضِجَةً، وَكَأَنّها تُنادي زارِعَها لِتَقولَ لَهُ: لَقَدْ نَضَجْتُ تَعالَ وَاقْطُفْني، عَلى عَكْسِ ثِمارِ الْفَقّوسِ، فَإنَّها جاهِزَةٌ لِلْأَكْلِ في مَراحِلِها المُخْتَلِفَةِ.
يَنْهَضُ الأَطفالُ مِنْ نَوْمِهِم فَيَتراكَضونَ لِقَطْفِ ثِمارِ الْفَقّوسِ ذاتِ الطّعْمِ الشَّهِيِّ، وَهْيَ مُبَلَّلَةٌ بالنَّدى، وَمَكْسُوَّةٌ بِشُعَيْراتٍ نَباتِيَّةٍ شَفّافَةٍ، إِزالَتُها بِالَّلمْسِ لا تَحتاجُ جُهْدا، والْتِهامُها مَعَ الثِّمارِ يَفْتَحُ الشَّهِيَّةَ.
لِقَطْفِ الثّمارِ مِنَ الأَرْضِ مُباشَرَةً مُتْعَةٌ لا يَعْرِفُها إلّا مَنْ مارَسَها، وَطَعْمُ الثّمارِ في الْحُقولِ يَخْتَلِفُ عَنْهُ في السّوقِ، حَتّى أَنَّ مَحْمودًا وَرَباب أَشْفَقوا عَلى مَنْ لا أَرْضَ لَهُم، أَوْ لَهُمْ أَرْضٌ وَلا يَزْرَعونَها.
يَكْتَفي مَحْمودٌ وَرَبابُ بالْفَقّوسِ وَحَبّةِ بَنْدورةٍ في وَجْبَتِهِمِ الصَّباحِيَّةِ، وَيَضَعونَ عَدَدًا مِنَ الثّمار في حقائِبِهِمْ يُوَزِّعونَها عَلى أَصْحابِهِمِ الْمُقَرَّبينَ في الْمَدْرَسَة.
يَعودُ مَحْمودٌ وَرَبابُ مِنَ الْمَدْرَسَةِ فَيَتسابَقونَ إلى المِقْثاةِ؛ لِيَأكُلوا الْفَقّوسَ والْبَنْدورَةَ، وَقَدْ يَلْتَهِمُ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما قَرْنًا مِنَ البامية.
تَقْطِفُ أمُّ مَحْمودٍ ما يَزيدُ عَنْ حاجَة بَيْتِها مِنَ الْفَقّوسِ والبَنْدورَةِ، تَضَعُها في سِلالٍ وَتُهديها لِبَعْضِ الْأَقارِبِ وَالأَصْدِقاءِ، وهي مُؤْمِنَةٌ بِأَنَّ الْخَيْرَ يَعُمُّ الْجَميعَ.
تُخَلِّلُ أمُّ مَحْمودٍ الْفَقوسَ، وَلِحِرْصِها عَلى صِحَّةِ أُسْرَتِها فَإنَّها لا تَسْتَعْمِلُ الكيماوِيّاتِ، لِذا فَهي لا تَسْتَعْمِلُ حامِضَ الخَلِّ وَلا تَسْتَسيغُهُ، وَلَها طَريقَتُها الخاصّةُ في تَخْليلِ الْفَقّوسِ، فَتَلُفُّ كُلَّ واحِدَةٍ بِوَرَقَةِ عِنَبٍ، تُرَتِّبُها في وِعاءٍ زُجاجِيٍ حتّى يَمْتَلِئ، تُضيُفُ إِلَيْها ماءً وَمِلْحًا، وَبَعْدَ أسْبوعٍ تُصْبِحُ جاهِزَةً لِلْأَكْلِ.
يَجْلِسُ أبو مَحْمودٍ وَصَحْبُه تَحْتَ عريشَةِ الْعِنَبِ، يَأْكُلونَ الْفَقّوسَ وَالْبَنْدورةَ والْبَصَلَ الْأخْضَرَ وَيَلَعَبونَ السّيجَة.
أُمُّ مَحْمودٍ امْرَاَةٌ مُدَبِّرَةٌ تَحْرِصُ عَلى تَوْفيرِ احْتياجاتِ بَيْتِها حتّى المَوْسِمِ الْقادِم، فَقَدْعَمِلَتْ قَلائِدَ كَبيرِةً مِنَ الْبامية، جَفّفّتْها تَحْتَ الشّمْسِ، وَخَزّنَتْها لِتَطْبُخَها متى شاءَتْ في أَيِّ يَوْمٍ مِنْ أيّامِ السَّنَة.
وَفي مَوْسِمِ الْعِنَبِ تَعْمَلُ أُمُّ مَحْمودٍ الزّبيبَ وَطَبيخَ العِنَبِ الّلذين يُحُبُّهما أَبْناؤُها.
***************
بَدَأَ مَوْسِمُ حَصادِ الكَرْسَنَّةِ في الأسْبوعِ الْأوَّلِّ مِنْ أَيّار، فالْكَرْسَنَّةُ أَوَّلُ مَحْصولٍ يَحينُ حصادُهُ، ما زَرَعَهُ أبو مَحْمودٍ مِنَ الْكَرْسَنَّةِ هذا العامِ يَحْتاجُ حَصادُهُ عَشْرَةَ أَيّامٍ لِشَخْصٍ واحِدٍ، يَمْتَطي أبو مَحْمودٍ الْبَغلَ صَباحَ كُلِّ يَوْمٍ مَعَ صِياحِ الدّيكِ، فَيَصِلُ الأَرْضَ قَبْلَ شُروقِ الشَّمْسِ، يَحْصُدُ بِيَدَيْهِ الاثْنَتَيْنِ مُسْتَغِلًا النَّدى قَبْلَ أَنْ يَتَبَخَّرَ، حَصَدَ بِنَشاطٍ واضِحٍ، عادَ إِلى الْبَيْتِ مَساءَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مُنْهَكًا، تَناوَل عشاءَهُ وَغَفا قَبْلَ أذانِ الْعِشاءِ، وَعِنْدَ مَساءِ الْخَميسِ قالَتْ زَوْجَتُهُ أنَّها سَتُرافِقُهُ هِيَ وَالأَوْلادُ؛ لِيُساعِدوهُ في حَصادِ الْكَرْسَنَّةِ، ناموا مُبَكِّرينَ حتّى يَسْتَيْقِظوا مُبَكّرينَ أَيْضًا.
اسْتَيْقَظَتْ أُمُّ مَحْمودٍ عَلى صِياحِ الدّيكِ، أَعَدَّت ابْريقَ شايٍ، أَيْقَظَتْ زَوْجَها وَأَبْناءَها وَصِياحُ الدّيكِ يَعْلو، احْتَسوا الشّايَ وَامْتَطوا الْبَغْلَ وَالْحِمارَ عَلى عَجَلٍ، وَصَلوا الأَرْضَ وَبَدَأوا يَحْصُدون، الصّغيرُ جمال نائِمٌ، جَهّزوا لَهُ مكانًا فَوْقَ الْكَرْسَنَّة، وَغَطّوهُ بالْكَرْسَنَّةِ أَيْضًا، حَصَدوا أَكْثَرَ مِنْ ساعَتَيْنِ والشَّمْسُ لَمْ تُشْرِقْ بَعْدُ فَقالَ أَبو مَحْمودٍ:
يَبْدو أنَّ الدّيكَ غفا، وَاسْتَيْقَظَ مُبَكِّرًا، فَرَأى مِنْ قِنِّهِ ضوءَ أَحَدَ الْبيوتِ؛ فاعْتَقَدَ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ أَشْرَقَتْ وَبَدَأ يَصيح.
ضَحكَ مَحْمودٌ وَرَبابُ عِنْدَما سَمِعا ذلك، وَسَألَ مَحْمودٌ:
أَلا تَصيحُ الدِّيَكَةُ مَعَ أذانِ الْفَجْرِ لِتوقِظَ النّاسَ للصَّلاةِ؟
ابْتَسَمَتْ أُمُّ مَحْمودٍ وَقالت:
الدِّيَكَةُ لا تُؤَذّنُ، وَلا تَدْعو للصَّلاةِ، وَإِنَّما تَصيحُ عِنْدَما تَرى ضوءَ النَّهارِ، لِيَفْتَحوا عَنْها القِنَّ كَيْ تَخْرُجَ مِنْهُ لِتُمارِسَ حَياتَها.
انْتَهوا من حصادِ الْكرْسَنَّة جَميعِها قبل عَصرِ الْيَوْمِ، الْتَفَتَتْ أُمِّ مَحْمودٍ إلى زَوْجِها وَقالَت: " رُبَّ ضارَّةٍ نافِعَة" فما أنْجَزْناهُ هذا الْيَوْمِ يَعودُ الْفَضْلُ فيهِ لِصِياحِ الدّيكِ في غَيْرِ وَقْتِهِ المُعتادِ.
عادوا إلى بَيْتِهِم وَأبو مَحْمودٍ أَكْثَرُهُمْ سَعادَةً. لَمْ يَغْفُ مُبَكّرًا كَما كانَ يَفْعَلُ كُلَّ لَيْلَةٍ مُنْذُ بَدَأَ الْحَصادُ.
أَصْبَحَتْ حقولُ الشّعيرِ في مُنْتَصَفِ أَيّار صَفْراءَ ذَهَبِيَّةً، فَقَدْ حانَ حَصادُها، تَموجُ مَعَ نَسَماتِ الهَواءِ، كَحَفْلٍ كَبيرٍ راقِصٍ عَلى أنْغامِ سِمْفونِيّةٍ أَبْدَعَتْها الطَّبيعَةُ، وَاسْتَغَلَّتْها طُيورٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَشْكالِ وَالْأَلْوانِ، تَغوصُ فيها مُغَرِّدَةً، وَتُغادِرُها وَقَدْ امْتِلَأَتْ حَواصيلُها بِما تُنْبِتُ الْأَرْضَ. بَلْ إِنَّ بَعْضَ الطُّيورِ بَنَتْ أَعْشاشَها وَسَطَ حُقولِ الْحُبوبِ، وَوَضَعَتْ بَيْضَها فيهِ، وَرَبَّتْ صيصانَها في الُحُقول.
قَرَّرَ أَبو مَحْمودٍ أَنْ يُؤجِّلَ حَصادَ الشَّعيرِإلى آخِرِ الشَّهْرِ؛ حَتّى يَحْصُدَهُ مَعَ القَمْحِ بِآلَةِ الْحَصادِ الّتي تَجْمَعُ الْحُبوبَ في شِوالاتٍ كَبيرَةٍ، والْأَتْبانَ في "بالاتٍ" مُحْكَمَةٍ.
جَمَعَ أَبو مَحْمودٍ غَلّةَ الْقَمْحِ والشَّعير، كانَ الْخَيْرُ كَثيرًا، احْتَفَظَ بِمَؤونَةِ عامَيْنِ مِنَ الْقمْحِ لأِسْرَتِهِ، وبِمِثْلِها شَعيرًا وَكَرْسَنَّةً لَأَغْنامِهِ. باعَ فائِضَ الانْتاجِ، واسْتَعَدَّ لِحَصادِ الْعَدَسِ، فَقَدْ جاءَ أوَانُهُ هُوَ الآخَرُ.
أخَذَ أبو مَحْمودٍ عَشْرَةَ حَصّادينَ مَعَهُ، أنْهوا عَمَلَهُمْ في يَوْمَيْنِ مُتتالِيَيْن وَهُمْ يُغَنّونَ:
مِنْجَلي يا مِنْ جَلاهْ**** راحْ لِلصّايِغْ جَلاهْ
ما جَلاه إلّا بعِلْبِهْ*** ريتْ هالْعِلْبِه عَزاهْ
وهذِهِ الْأُغْنِيَةُ لِلْمُساعَدَةِ في رَفْعِ الْهِمَّةِ وَالنَّشاطِ أَثْناءَ الْعَمَلِ:
مِنْجَلي يا بُو الْخَراخِشْ ***يالّلي في الزَّرِعْ داحِشْ
وهذه أَيْضًا:
مِنْجَلي يا بُو رَزِّهْ***** يَلّلي اشْتَريتَكْ مِنْ غَزِّهْ
****
وِالزَّرِعْ دَلّى عْنُوقُهْ**** وِبِالْمَناجِلْ لَنْسوقُهْ
وَكانَ الْحَصّادونَ يُرَدِّدونَ الأَغانِيَ الّتي يَحُثّونَ فيها أَنْفُسَهُمْ عَلى عَدَمِ الْمَلَلِ وَمُواصَلَةِ الْحَصادِ، وَمِنْها:
وعِنْدِ الِعْصيرِ الماسي**** وبَيَّنِ الْفَلّاسِ
والْمَكْوي عَ الْعَرْقوبِ****والغالِبِ من الْمَغْلوبِ
وعِنْدِ الِعْصيرِ الماسي**** بَيَّنِ الْفَلّاسِ
ويومٍ توقَفِ قْبالَهْ ***** وبَيَّنِ الّرّدى خالَهْ
********
والزَّرِعْ لَ أَعْطى قَفاهْ **** واضُرْبُهْ بِالْعَقَفَاهْ
واضُرْبُهْ يا بْنِ الْهَبْلَهْ**** واضُرْبُهْ وِاقْطَعْ قَفاهْ
وَالْحَصّادونَ يَسْخَرونَ مِنَ الْحَصّادِ الْكَسولِ، وَيَصِفونَهُ بِأَنَّهُ لا يَصْلُحُ إلّا لِلْأَكْلِ:
ويا مْفَلِّسْ رَوِّحْ عَ الدّارْ**** تِلْقى الطّنْجَرَهْ عَ النّارْ
تِلْقاها مَلْيانِهْ جْريشِهْ**** وَاللهْ يِقْطَعْها مِنْ عيشِهْ
الْحَصّادونَ يَنْقَسِمونَ إلى قِسْمَيْن ، قسم يُمَثِّلُ دَوْرَ صاحِبِ الْعَمَلِ، مالِكِ الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ، والقِسْم الثّاني هُم حَصّادو الْأُجْرَةِ، وَيُرَدّدونَ هذِهِ الْحِوارِيَّةِ:
العُمّال: يا مْعَلِّمْ حِلْنا
صاحِبُ الْعَمَلِ: حالِفْ ما حِلْكُمْ حَتّى يْميلْ ظِلْكُمْ
العُمّال: ظِلْنا مَيّلْ ومالْ
واعْتَلى روسَ الجْبالْ
وَبَعْدَ دِراسَةِ الزَّرْعِ وَتَذْرِيَتِهِ، وَبِالتّالي عَزْل الْحُبوبِ عَنِ التَّبْنِ، عَبّأوا الْحُبوبَ في شِوالاتٍ مِنَ الْخَيْشِ وَهُمْ يُرَدَّدونَ:
بَرْكَةْ رَبّي ****هانا طُبّي
بَرْكَة حيدَرْ**** في هالْبيدَرْ
وِتَمازَحَ أبو مَحْمودٍ مَعَ جيرانِهِ في الْبَيْدَرِ الْمُجاوِرِ وَرَدَّدَ:
بَرْكَةْ بيدَرْكُمْ عَ بيدَرْنا
وَرَدّوا عَلَيْه بِالْمِثْلِ، وَمَعَ كَثْرَةِ التّكْرارِ لِهذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإنَهُمْ يُخْطِئونَ فَيَعْكِسُ الْواحِدُ مِنْهُم فَيَقول:
بَرْكَةْ بيدَرْنا عَ بيدَرْكُمْ
فَيَضْحكان مَعاً بِصَوْتٍ رَنّانٍ لِهذِهِ الّلعْثَمَةِ النّاتِجَةِ عَنِ السُّرْعَةِ وَالتّكْرارِ.
أعطى أبو مَحْمودٍ الحَصّادينِ أجْرَتَهُم عَدَسًا كَما أرادوا، باعَ ما يَزيدُ عَنْ حاجَةِ أُسْرَتِه...عادَ إلى بَيْتِهِ مَرْفوعَ الرّأسِ، اجْتَمَعَ بِزَوْجَتِهِ، وَبِحِسْبَةٍ بَسيطَةٍ وَجَدا أنَّ دَخْلَهُما السّنَوِيَّ مِنَ الزّراعَةِ يُعادِلُ دَخْلَ ثَلاثَةِ عُمّالٍ مِهَنِيّينَ، يُضافُ إليْهِ مَخزونٌ غِذائِيٌّ يَكْفي الأسْرَةَ لِعامَيْنِ...ناما لَيْلَتَهُما سعيدَيْنِ، وفي ساعاتِ الْفَجْر الأولى اسْتَيْقَظَ الأهالي فَزِعينَ على صَوْتِ مَآذِنِ الْمَساجِدِ تُنادي بِأَنَّ جَرّافاتِ المُسْتوْطِنينَ تَجْرِفُ الأراضِيَ الزِّراعِيَّةَ.