(وهذا) مقام الظلّ
محمد الهجابي
إلى روح القاص والروائي الطاهر وطار
أنـا الظلّ. ولمن لا يعرفني فأنا ظلّ السيد الرئيس. أمّا لمن يعرفني فأقول : ليس بالأمر السهل أن تكون ظلاً. بالفطرة كنت الظلّ، لكن بالعناد فرضتُ هذه الصفة لاحقاً إلى أن أضحت لصيقةً بي كما العضو بالعضو، بل كما الواحد منّا بليمه.
لكن ماذا دهى عيني اليمنى ترمشُ من غير توقفٍ؟
هذا الصباح، عندما أفقت شعرت بالخاطر يهرب منّي. كنت منقبضاً، وقلقاً. لا تستقيم لي شريدةٌ، ولا يهنأ لي تفكيرٌ. رحت أراوح بين المطبخ، وغرفة النوم، فالشرفة المطلّة على الشارع الفسيح، لكأنّني أسْتَنْجشُ شيئاً. ولما أعرضت عن الإفطار أوضَحَتْني امرأتي ملياً بنظر غريب، ثمّ استفسرت عم بي؟ وأنا أتحاشى نظرها النافذ ذاك أجبت بأنّ غماً مبهماً غشيني منذ البارحة، لا أدري من داعٍ له. وفي التو ملصت منّي إلى المطبخ، وقد أَدْلَمَتْ شفتها السفلى، فيما بارحت أنا إلى الخارج ميمّماً شطر حانوت بيع الدخان. أحكم البائع، للحظاتٍ، بصره على محياي، ثمّ استنبأني عن لونه الماحل، قلت مداوراً : لعلّه جراء مغصٍ أصابني. ناولني علبة السجائر وقطع الصرف، وهو يَعْجُو بشفتيه. بعد حينٍ ، ولجت سيارتي، وأشعلت سيجارة، وشغّلت المحرك، ثمّ ضغطتُ على الدواسة، وأنا أبسملُ.
انطلقت السيارة تمخر عباب الأزقة والشوارع. بيد أنّني كدت أدهَسُ راجلاً، وأصدمُ طاكسياً صغيراً، فحافلةَ ركاب عمومية، فشاحنةً مثقلةً بالرمل. وكنت كلّما فرملت، استعذت بالله من الشيطان الرجيم، وتمتمت في سرّي : ما هذا يا محمد ؟ ثمّ استأنفت السياقة مولياً عن الوجوه المشخصة إليّ من كلّ الجهات، المستنكرة منها والمبهوتة، ومُصْفِحاً عن الأفواه المكشرة أو اللاّمصة أو الموقعة فيّ بسببٍ أو بدونه، ومتجاهلاً الأيادي المحتجة والملوحة بإشاراتٍ بذيئةٍ.
ولقد ظللتُ، على امتداد الطريق، أجمجمُ، وأدمدمُ، وأرجمُ بالغيب كلّ ذي قلب أسود كالقطران أو كالزفت من المتربصين بي من ذوي السعايات والسفاسفِ، حتّى إذا تجلّتْ بناية المؤسسة في مدّ البصر تنهدتُ، وحمدتُ الله مرةً، وشكرتُه مراتٍ.
لكن ما بال عيني اليمنى ترمُشُ بلا انقطاع؟
ها أنذا في الصف. ها أنذا في الأمام. ها أنذا في الخلف. أنا يسراه. أنا يمناه. احزر إذن، فأينما ترى السيد الرئيس تراني. لست بقريب، ولست ببعيدٍ. أشخصه إلى حيثما توجّه. أنبق من لا مكان إذا ما طلبني كجنّي القمقم. قد أكون لزْقَ امرأتي في مطرحي، وإذ يأتيني صوته، كما خطف البرقيات عبر موجات الأثير، فيقيم على جُرْفِ الأذن، فيما هو ينمّشُ لي بالطلب، تلفاني أنتصبُ عـلى الفـور، وأُدمَجُ في لباسي. وبعد هنيهاتٍ محسوبةٍ، بواسطة عدادٍ للسرعة من ساعتي اليدوية، أكون وزانه أتلقى التعليمات، كيْ أباشر، بدوري، توزيعها على جمهرة الموظفين والأعوان، ثمّ أشْتافُ إليهم، بعين جميع حواسي، حريصاً على إنجاز أوامر سيادته بالدقة المطلوبة، وبالصرامة المشتهاة. فأنا الظلّ، أقصد ظلّ سيادته.
وحينما يستدعيني لأقدم لحضرته التقارير أو كشوف الحساب، أحرص، أيّما حرصٍ، على أن أكون في تمام الأناقة، ومنتهى اللّياقة. فأسوّي هندامي كما ينبغي، وأتأكد من انعقاد ربطة العنق عند ملتقى ياقتَيْ القميص بالتحديد، ثمّ أتشمّمُ عطري إن كان فائحاً ما يزال، وأنفخ على سطح كتفيّ لأطرد هِبْرِيَّةَ الرأس وباقي الزوائد، ثمّ أدعك صَفْقَ حذائيّ البنييْن بذيل بنطالي، الحذاء تلو الحذاء، إلى أن يتلامعا كخدّيْ كاعبٍ. وقد أرُشّ رشاتٍ في دافن فمي من مزيل الروائح الكريهة، وأمسد قدراً من ريقي على شعري بأصابعي. آنئذٍ فقط، أقف جوار الباب، وأنتظر قليلاً، ريثما أستجمع أنفاسي، ثمّ أطرق الباب طرقتين اثنتين، خفيفتين، ومنغمتين، حتّى لا أخدش طبلة أذنيّ السيد الرئيس، وأنتظر، من جديدٍ، لهزيزاتٍ، فأدفع الباب على مهلٍ لأتسرّب كاللّص إلى العقر، وأنا أرسم على شفتيّ ما يشبه الابتسامة، وما هي بذلك، بل أسعى إلى أن أمطّط جلدة وجهي كي تبدو لا بمنقبضة ولا بمتـرهّلـة، وإنّما هي بين المنزلتين. أي تلك المنزلة التي اصطلح عليها بالجدية اللذيذة.
على السيد الرئيس قد أُصبّحُ، وقد أُمسّي، ثمّ أصْفِنُ جَنْبَ المكتب الفخم بينما أنا أعرض مضامين ومشمولات الملفات أمام ناظري سيادته مفسراً ما غَمُضَ، وشارحاً ما استبهم. وكلّ ذلـك وأنا لا أني أردّد " نعم سيدي ! "، "واه سيدي! "، "واخ سيدي! "، حتّى إذا جعل السيد الرئيس يهمهم، وينْغَـُض الـرأس بالإيـجـــاب والمصادقة، تأيّدَ لي أنّني أصبت، ولا شك، شِغَافَ قلبه، وحزت رضاه. وتلك، لعمري، أويقات من السعادة أعيشها بكامل جوارحي. ولشدّما تمنيت لو تقاسمتْني امرأتي، وأمّ ولديّ، هاته النهزات البهيجة المغتنمة. لكن هيهات للأسف، فليس من سبيلٍ لتحقيق هذا الحلم. وكنت حالما آخذ إمضاءاته من قلمه العجيب ذي القُزّعَةِ والشوكة الذهبيتين، أنصرف بتُؤَدَةٍ مثلما كنت أقبلت، ساحباً دبري، هذه المرّة، إلى الخلف، مقفعاً هامتي، إلى أن أحاذي الباب فأمسك بيدي على المقبض من وراء ظهري، ثمّ أفتـح، وأنزلق من الفجوة الطولية إلى مكتب السكرتيرة، فالدهليز، فمكتبي.
موقنٌ أنا من أنّ من بين هؤلاء الموظفين الذين تعجّ بهم مكاتب المؤسسة، كما تعجّ الأجْوِرةُ بحيواناتها، من يضْمرُ لي النكد، ويكيدُ لي. بيْدَ أنّني لا آبه. وخاطئٌ من يظنّ أنّني غافلٌ عمّن يشير إليّ بالأصبع من طرف خفي، أو عمّن يقذعُ بلسانه الأجرب في شخصي، فأنا أمهل ولا أهمل. فقط، أترقب أن تعرض لي الفرصة لأردّ الصاع صاعيْن، وأكايل بمكياليْن. وتلك جوانب من الصنعة، أعني صنعة مقام الظلّ، التي لا يفقه أسرارها إلاّ من خبر هذه الحرفة النبيلة، وأخلص لها. أي والله، هي نبيلةٌ وأكثر! فلكم أنفقت من جهدٍ لأنال حظّي منها، وأحذو حذو من سبقوني إليه من شيوخي من حُجّابٍ ومدراء دواوين وكتاب خواص وخلطاء وصَحْبٍ ونصحاء وأصفياء وأخدان وجلسـاء ومستشارين وخلصان ورُصَفاء، وغيرهم من ذوي نظير هذه المكانة الرفيعة داخـل البطانـــات والحواشي. ولقد استلهمتُ من تجاربهـم العبرَ والأماثيلَ، واسترشدت بما تواصوا به، وتوارثوه، عبر الحقب والدهور، إلى أن صرت إلى ما أنا عليه اليوم، والحمد لله، ظلاً يباهي به السيد الرئيس أنـداده، وأقرانه، وخصومه، في المجالس والمنتديات، وفي المواخير والملاهي، ما جعل خبري يُشْرِقُ ويذاع بين زملائي في الحرفة في كلّ الأصقاع والوزارات. ومن ذلك مثلاً، أنّني أعلم الأسماء كلّها، وأَيْمُ الله، أحفظ أسماء الموظفين والأعوان جميعهم، اسماً اسماً، ورتبةً رتبةً، ودرجةً درجةً، الصّيّــاب مـنهـم والطغام، والقدماء والجدد والمتقاعدين والمتزوجين والثيبـات والعـزاب والثكالى والمغيبـــات والأيتام، والمتطبعين بطباع اللين، والممسوسـين بالأمزجة الحادة البلغمية، والصفرية، والسـوداوية، وأكتنهُ ألوانَ عيونهم، وأمراضَهم، و الأبناء ممن هم من صلبهم أو المحتضنين بمقتضى قانون، وأين يستبضعون أغراضهم ومشترياتهم أفي الأسواق الشعبية أم في المراكز التجارية الكبرى، وأيّ المقـاهـي والبارات يرتادونَ، وأيّ المساجد والزوايا والأحزاب يؤمون، وأيّ ألعاب الحظّ يدمنون. بــل وأستظهر الآونةَ التي يأوون فيها إلى فُرَشِهِم، ومـتى يتضاجعون، ومتى يضرطون ويفسون، وأعرف المالكين منهم لأرصدةٍ في الأبناك، والعــدمــاء منهم، والغارقين في الديون والقروض، والطامحيـن إلى المنـاصـب، والفاقدين لكلّ رجـــاءٍ.. واللائحة عندي تطول، وتطول. صفوةُ القول، فلا شذرة تكاد تفوتني. وهذا من فضل ربّي لا يؤتيه إلاّ للنبهاء من طرازي المدركين لتقلّبات الوقت فيتقلبون تبعاً لفصوله وأجـوائه. والغاية أن أسترضيَ السيد الرئيس، وأكسبَ استصوابه لآرائي، واستحسانه لعِمْلَتي، عسى أن أجـترحَ قربَهُ، و أستميل ودّه. و بذلك، أصدّ تخرصات المناوئين لي، والواغرة صدورهم عليّ، بالزجر طوراً، وبالبرطيل طوراً آخر.
لكن ما لعيني اليمنى ترمشُ كما لم ترمش من قبل؟
وها قد بلغت بناية المؤسسة، وليت السيارة طوّحتْ بي إلى وهدةٍ غطيسةٍ، أو صدمت نصب إشارة مرورٍ، أو عمود كهرباء، فتعطلت، وحالت دون بلوغي. فلقد عودت حارس الموقف أن أرسي سيارتي في موضعها المعهود، كما تقرّ به سنن التراتبية الإدارية، عند الساعة الثامنة بالتعيين، ثمّ أمشي جهة المصعد. والحارس هذا، بالمناسبة، من قدماء العساكر. فكان متى أبصرني إلاّ وحمل يده إلى صدغه الأيمن، وألصقها به، ثمّ رفع قدمه اليمنى قليلاً، وخبطَ بها على الأرض جامعاً إيّاها بالقدم اليسرى. وكان بفعله هذا يثير أعصابي فيما يعدّه هو من قبيل تقديم آيات التبجيل و التوقير. لكنّ هذا الصباح ما إن وطأت عجلات سيارتي أرضية الموقف الكلسيّة والمحصبة، حتّى صعدت إلى منخري رائحةً حامزةً ترنّقُ في الهواء. فها موقع سيارتي قد احتجز من طرف سيارةٍ أخرى، على غير ما أفتت به التقاليد المرعيّة. وها الحارس، ودون أن يتثنى أو يقدم التحيّة، يحدجني بعينٍ صاردةٍ ترجفُ ما بين لوح كتفيّ، وها أنذا أسأله عمّن سمح بهذا الاختلال الفاضح في التوازن الإداري، فيهز الكتفين، ويفقّعُ، ويتلمّظ بشفتيه السوداوين، والمقشرتين، بفعل تبغٍ رخيصٍ، ثمّ يعوّجُ ناحية باب الموقف، وقد تركني خلفه كالكبش المزقّقِ معلقاً من كرعيّ إلى حبلٍ لا يبين. وها جسدي كلّه يتبضع عرقاً بارداً. فهل يا ترى يعلم بما لا أعلمه أم أنّ الهواجس التي تزحم بالي هي التي زاغت بي إلى مثل هذه الخُرْقَة؟
أذكر أنّني لما بكرتُ خففت إلى المرحاض أتخلص من فضلاتي، وإذْ قابلت المرآة رأيت جيوب جفنيّ أشدّ انتفاخاً، وزادت غضون الجبين تعقداً وانكماشاً، فيما تخلّلت بياض عينيّ خطوطٌ دقيقةٌ حمراء، ومشّجرة، فجفلت، وارتعبت، وناضتْ عروقي، وطفقت أهتف في كِنّي داعياً لي بحسنِ العاقبةِ و المآلِ السليمِ.
وأزعم أنّ هيئتي الزريّة تلك هي التي دفعت امرأتي لتنبلني، في ذلك الصباح، بنظرٍ غريبٍ، ومرتابٍ. ولربّما سمعتني طوال الليل أهذي، وأهلوس، وأنا أتلوّى على الفراش على صراط بين الغياب والحضور. وفي الصباح فضلت أن لا تشي بنأمةٍ تفضح مستوري، إنّما انتظرت حتّى أخرج من المرحاض. ولما عاينت امتقاع لوني سألت : ما بك ؟ وماذا عساي أجيب به سوى أنّ كدراً داخلني منذُ البارحة لم أفهم له سبباً! وماذا عساها تفعل هي غير أن تُلامحني، وتجنح إلى المطبخ، وأغادر أنا إلى خارج الشقة. والحقّ أقول، لكم صبرت هذه المرأة على تهوري وانزياحاتي لكأنّما هي صهيرة من حديد وإسمنت. أقول هذا لا من باب الاعتراف والإنصاف. فلهذه المرأة دَيْنٌ عليّ. إنّني مدينٌ لها بالشيء الكثير. وإن أنسى لا أنسى أنّها قبلت بي بعلاً لها وأنا لا أزال شاباً غريراً لا يحتاز من الشهادات المدرسية إلاّ ما يصنفه ضمن طائفة الأعوان، ومع ذلك تغاضـت، وكابـرت، وغالبت، وحايدت، وتساهـلـت، وتسامحت. أفنت المرأة جسدها وروحها في خدمتي، أنا الظلّ. فلقد كانت ناهضةَ القدّ، فأمست، الآن، بدينةً، ثقيلةَ الأطراف، وكانت قائمةَ النهدين، فباتت، الساعة، تحمل في صدرها زُكْرَتَيْنِ رخوتين. وكنت لمّا أعود في الأماسي المتأخرة منهوكاً أو ثملاً تلاقيني عند الباب، وقد تشـوَّفــت، وتزيّقت، وصارت أبهى وأحلى، ثمّ ما تعتم أن تبدّ ذراعيها المرمريين لتحضـنـني، وتطبطب على ظهري. وبينما أكون أنا في الحمام أتروّقُ، وأعيد العافية لجسمي، تكون هي في المطبخ تعدّ لي عشائي، وفيما أكون أنا ألهطُ الطعام لهطاً، تسبقني هي الى غرفة النوم لتحضّر السرير. أمّا اليوم، بعد أن نشفت عظامنا من الماء، وكبر الولدان، وبارحا إلى الخارج، لم تعد تنتظر. تتعشّى بمفردها، وتطفرُ إلى الفراش. وحينما أفتح الباب يأتيني غطيطها كما كركرات سيارة متقادمة أعدمت كلّ نفَسٍ.
تستوفزُ فيّ المشاهد الأولى من حياتنا المشتركة تحاريق الحنين الممضّ؛ مشاهد ذهبت مع الريح. و ها الإناء فهَقَ بما حمل. لذلك تراني متى آويت إلى نفسي أقول إنّني ظلمت هذه المرأة. ثمّ لا ألبث أن أقرّر، في الوقت ذاته، بأنّني مغلوب. فأن تكون ظلاً معناه أنّك لست في مقام عاد، بل أنت في مرتبة الاستثناء. فما كلّ جِرْمٍ بمكتسب لمقام الظلّ بالمعنى الصحيح للفظ. والظلاّل فنون، فمنها الوارف والعرقوبي، ومنها الحاضن والخُلْديّ والمراوغ والوفي والساتر والكاشف، ومنها المطواع والعنود والسلس واللّوطيّ.. وهلمجراً. هي فنون إذن، بيد أنّ احتياز ظلّ كُفى ظلّي، الظلّ الذي سلخ في هذا المقام ما يربو على ربع قرن من الخدمة الصادقة الحثيثة، والشاكرة، فهو أمر لا يصدُقُ كيفما اتفق. وبهذا أحسب أنّ ما يشفع لي في ما قصّرتُ منه في حقّ امرأتي، إذا ما قصرت حقاً، هو أنّني امتهنت حرفةً رفعت من شأن بيتنا عالياً، عالياً. فمن كان يصدّقُ أنّني سأقرفُ السيد الرئيس، وسأناسمُهُ، وهو الملاثُ الذي ليس له من بديدٍ. أذكر أنّني ما إن وقفت في ذلك الزمن البعيد عياناً على ترقيتي إلى هذا المنصب، بموجب مذكرةٍ إداريةٍ، جالت كلّ المديريات، والأقسام، والمصالح، والمكاتب، حتّى سارعت إلى نقل الخبر إلى حليلتي، فصخبت بالفرح، ونقلته، بدورها، إلى الأقارب والأهل والأحباب، الأدنيين والأبعدين، فخفّوا، هم الآخرون، يصفقون، ويرقصون، ويزغردون. ولقد سارت بالخبر ألسنة الركبان والجرائد، فهذا يهاتف من هذه الضفة، وذاك يبرقُ من تلك الضفة، ومنهم من راسل، ومنهم من شدّ الرحال ليهنئ ويبارك. و تقدّر لي أن أدخل على هذه الحرفة المصونة، كما دخلت قبلاً على امرأتي، في حفلٍ بهيج مع اختلاف واحد هو أنّ الحفل الأخير شرّفني فيه السيد الرئيس بحضوره الشخصي في مقدمة وُصْلَةٍ من الموظفين المنتقين بإمعانٍ، ولو لثوانٍ معدوداتٍ، فيما خلا حفل العرس الأول من وجه من هذا الطراز المرموق.
لكن لماذا ترمش عيني اليمنى على هذا النحو من الخطفِ المجنون؟
فها أنذا محشوراً في المصعد أعرُجُ إلى الطابق الثالث. وهذا رقم ينطفىء ورقـم يشتعل. و ها هوذا المصعد ينفتح لأندلق منه إلى الفسحة الرحيبة. وها هي ذي القبة تتوّجُ الفراغ الممتدّ في البهْرةِ المربعة إلى الأسفل. وها هي ذي الرائحة الحامزة تحُوصُ حول الطابق الأخير من البناية الباذخة فتقرع فتحتيْ منشقي، وتجيّشُ هواجسي. وها هوذا ديوان السيد الرئيس قدامي، هناك في عمق الدهليز. وعلى اليمين، بثلاثة أمتار قبله، يكون مكتبي. وعلى الشمال، بعد مكتبي بمتر ونصف، يكون مكتب سكرتيرة سيادته. وها أنذا أدرج على البلاط المجصّصِ اللاّمع بخطوٍ متعثرٍ كأنّني أنسلك في سديم لا يـكشـف. وثمة هدوء موحش وآسر. لا، ليس كذلك تماماً. فمن جوف مكتب السكرتيرة تصدر فرقعات عَلَكٍ. بل هي أصداء مبهمة لوقعات أنامل على لوح حروف الكومبيوتر. عجب! فها السكرتيرة قد ابتكرت الإدارة على غير عوائدها. فما الذي تحتجنُ عليه اللئيمة حتّى تسبق موعد ورودها؟ وها هوذا عطرها الحاد، الصريف، يهاجمُني، كما تهاجم السهام الطريدة، فيخنق مسارب الهواء فيّ، ويبعثر منّي الـكـيان. وهذا باب مكتبها مشرع عن آخره. لكأنّها كانت تترصّدُ مجيئي، فهبّتْ تُمهّدُ، وتُوظّبُ. ولكأنّ قرون استشعاري أدركت ما تلوبُ عليه، فأوحت لي بأن أسير إلى مكتبي أولاً. بيد أنّها ما فتئت أن لاحقتني بنحيمٍ، فتطارشْتُ. وأنا أحرك المفتاح في ضبّة الباب، أعادت نحيمها، فتصاممتُ عنه. ولم تبطئ عليّ إذا بها تندَهُ: محمد، آآآ محمد! (هكذا وقوقت بالاسم الشخصي وحده دون أن تستهلّهُ بنعت الحاج كما كانت تفعل؟ ! ) وها قد حرنْتُ بمكاني أتميّز غيظاً بينما يدي ممتدة بالمفتاح في الضبّة ما تزال. وتمنيتُ لو شججت رأسها بنطحةٍ من رأسي، وشبّحْتُها في بركة دمٍ. لكن ما بال الضبّة نَبَتْ عن المفتاح؟ قلت بين أسناني: ما علينا! ثمّ مضيت صوبها. ومن غير أن أخطو إلى الداخل أغلقت باب مكتبها بكامل جسمي، كأنّما أتعجّلُ الانصراف. بل كنت أستعجلهُ.
وها الشمطاء، بدتْ، وهي تتثبّتني ببصرها، كما لو كانت تستنفر زُبانى ذنَبِها، وتستعد لتَسْلِمني سمّاً زعافاً، فتبطل في أوصالي اشتغال الروح، وتخمد في شراييني دفق الحياة. وها أنذا إذ أنظر إليها أشعر مثلما لو كنت أهوى في جبٍ سحيقٍ، بلا قرارٍ. ثمّ إنّها حرّكت شفتيها تفضي إليّ بالخـبر، أو هكذا تخيلت. وما أدراني؟ فهذا عرقي يتسحسح، وتتخلّى عنّي قـواي، وترتـجّ ركبـتـايَ، وتتضبّبُ الرؤية في حدقتيّ. وها أنذا أغيبُ، وأغيبُ، وأغيبُ.