رواية رانيا 3
رواية رانيا 3
ياسين سليماني
[email protected]
قالت رانيا مهتمّة: وبعد ؟
- أصبحنا لا نجد ما يسدّ رمقنا، نأكل يوما لنجوع أسبوعا... ولكنّه رغم ذلك لم يكن
يبخل علينا أبدا، كثيرا ما كان يستلف من أجل أن أذهب إلى الجامعة... أتذكّر مرّة
أنّي سقطت أرضا من فرط الألم في القلب في ذلك الوقت، وكان الوقت متأخرا جدّا، ولم
يصل الصباح حتى سارع لأحد أصحابه فاستلف منه مبلغا ما لأذهب إلى الطبيب، حين عاد
وقرع الباب كنت أنا من فتح الباب بعد أن ذهب الألم، يظهر أنّه من شدّة الإعياء، حيث
سرْت ذلك اليوم أكثر من اللازم، دخل إلى البيت وهو وجل، رأيت الرعب في عينيه...
ظنّني سأموت...
قاطعته رانيا من جديد: وكيف طبعت الكتاب ؟
أكمل كأنّه لم يسمعها، يظهر أنّ تلك الذكريات قد جثمت على عقله بقوّة بحيث كان
يتحدّث عنها بطريقة كأنّه يعيشها الآن، أو كأنّها لم تحدث إلاّ قبل وقت وجيز جدّا:
درست في العاصمة عامين كاملين، الرواية الأولى أكملتها في ربيع السنة الثانية، كنت
أرجو أن ينشر العمل وأنا أحتفل بعيد ميلادي العشرين لأني قرأت أن الكثير من كبار
المبدعين بدأوا النشر في مثل هذا السنّ، وبعد سنوات من العمل نضجت أعمالهم ولاقوا
نجاحا عظيما.
في ذلك الوقت أنشأت مكتبة المنزل، كانت تضمّ ثلاثمئة كتاب، كنت أشتريها من المصروف
الذي يعطيني إيّاه جدّك بحيث أخصّص أكبر جزء منه للكتب، ولا أنفق في غير ذلك إلاّ
في الأشياء التي لا أستطيع الاستغناء عنها أقلام، أو دفاتر أو في النقل من مكان إلى
آخر أو ما شابه.
في ذلك الصيف كدتُ أُصاب بالاكتئاب، انزويت وحدي في غرفتي لأيّام، ونقص أكلي
وكلامي... العائلة لم تكن تهتمّ لهذه الأشياء، فلم يحدث أن سمعوا عن كاتب إلاّ في
التلفزيون، أمّا أن يصدر ولدهم كتابا فهذا لا، كأنّ الكاتب شخص لا يعيش على أرض مثل
أرضهم، كأنّه من غير المعقول أن أكون كذلك.
في النهاية لجأت إلى أحد الأصدقاء، درس معي في الثانوية، وكان من عائلة ثريّة،
حدّثته عن الموضوع، ووعدته بإرجاع المبلغ له بعد أشهر قليلة... فكّر في الأمر
ووعدني بمحاولة تدبير المال بسرعة، وبعد أسبوع أو عشرة أيّام من ذلك الوقت ذهبت
إليه فوجدته قد جمع الستّ ملايين، لا ينقص منها سنتيم، عندها احتضنته وشكرته بكلمات
كثيرة لم يستطع استيعابها كلّها، بعد يومين اثنين ذهبت إلى تلك الدار، والتقيت
بالمسؤول نفسه لأسأله عن الوقت الذي يستغرقه مثل هذا الكتاب ليخرج إلى النّور، وحين
أخبرني أنه ليس بوقت طويل سلّمته الرواية مصرّا على أن تخرج بالشكل الذي أريده...
حتى غلاف الرواية لم يكن من تصميم الدار ولكن استعنت بأحد أصدقائي لتجهيزه.
كان ذلك في بداية الخريف، حين سلمتُ الرواية للنشر، عدت في ذلك الوقت إلى
الدراسة، السنة الجامعية الثالثة، لم آخذ النسخ من الدار إلا بعد أن بدأت الجامعة
رسميا، وغصّت الإقامات الجامعية بالطلبة، حينها أعلنت في إقامتي عن مسابقة تمنح
لأحد قراء الرواية مبلغها مليون سنتيم لأشجّعهم على اقتنائها.
- وبيعت كلّ النسخ ؟ قالت رانيا.
- في وقت قياسي، حوالي عشرين يوما، بعت الألف نسخة، وربحت عدّة ملايين، أرجعت
لصديقي المبلغ الذي أقرضني إيّاه، وأعلنت عن موعد المسابقة بعدما جمعت كلّ أسماء
القراء الذين أخذوا الرواية منّي، وكان المطلوب أيضا من كلّ قارئ أن يعطي رأيه في
الرواية هل هي سيّئة أم متوسّطة أم جيّدة...
نهضت رانيا متلهّفة: وماذا كانت نتيجة سبر الأراء ؟
- أذكر أنّ أكثر من ستمئة قالوا أنّها جيّدة، مئة وعشرون قارئا أو ما يقرب هذا
العدد قالوا أنها متوسطة، أمّا الذين لم تعجبهم وقالوا أنها سيئة كانوا مئتين أو
أكثر بقليل.
ضحك فيصل حين قال لرانيا: اللطيف هو أنّ الفائز في القرعة كان من الذين قالوا أنها
سيّئة، سلّمته المليون وأنا أحتضنه قائلا له: سينسيك هذا المبلغ الرواية السيّئة.
بعد أيّام من ذلك أعدت طبع الرواية، كانت الألف نسخة قد نفذت في الإقامة الجامعية
التي أقيم فيها وحدها، أمّ باقي الإقامات سواء الذكورية أو الأنثوية، والمكتبات
وغيرها فلم أوّزع فيها ولا نسخة واحدة، وبالطريقة نفسها وزعت الطبعة الثانية
والثالثة، إلى أن وزّعت عشرة آلاف نسخة في حوالي ثمانية أشهر.
عشت أحلى سني عمري حين أمسكت بأهداب النجاح...بعد ذلك اقترح عليّ أحد الأساتذة أن
يترجم الرواية إلى الفرنسية... قبلت فورا... فالملايين التي جمعتها والتي تفوق
المئة، تجعلني قادرا على دفع تكاليف الترجمة والطبعة الفرنسية، ولم تمرّ إلاّ أشهر
الصيف حتى وجدت الترجمة قد اكتملت ولم يبق إلاّ دفعها للمطبعة... ظهرت الألف نسخة
بالفرنسية عند عودتي إلى الدراسة، كان ذلك العام الرابع، وفي الصيف سأنال شهادة
الليسانس...في أثناء كلّ هذا كانت رواية جديدة قد بدأت تختمر أفكارها في
ذهني...وهكذا، كتبتها في وقت وجيز ووزعتها مثل الأولى وأكثر...
سألته رانيا: كنت في ذلك الوقت لا زلت تعيش في بيت جدّي ؟
قال: أجل.
فكّرت قليلا ثمّ قالت: وفكرة الصحيفة كيف ظهرت ؟
قال: الروايتان الأوليان ترجمتا إلى سبع لغات، هنا في الجزائر، ووزعناها خاصة في
المعاهد التي تدرّس هذه اللغات، في عنّابة مثلا اتّفقت مع أستاذ هناك ليترجم
الرواية إلى الإيطالية بنسخ محدودة، ووزعتها على طلبة معهد اللّغة الإيطالية،
والشيء نفسه مع الإسبانية والروسيّة في العاصمة...
خلاصة هاتين التجربتين، أنّني حققت نجاحا عظيما، وأصبح لديّ من المال ما يكفي
لتحقيق أحلام أخرى كنت أفكّر فيها ولا أستطيع البوح بها حتى لا يقول أحد أنّه
يتطلّع إلى القمر يريد نواله، كنت حينها في الثانية والعشرين، أقمت علاقات جيّدة مع
مجموعة من الأساتذة، وكان عندي من الزملاء عدد كبير، ومنهم من كان صديقا حقيقيا،
بحيث وجدت كلّ الدعم للبدء في إنجاز مشروع صحيفة أسبوعية هي صحيفة "الصباح".
تساءلت رانيا: من الصعب على شاب لم يعش في وسط صحفي أن يؤسّس مشروعا كبيرا مثل
إصدار صحيفة، فالمشروع يكلّف أموالا كثيرة وخطأ صغير في الحسابات يمكن أن يهدّم كل
ما بـُني من قبل ؟!
ردّ فيصلا قائلا: هذا ما كنت فكّرت فيه في ذلك الوقت، ولكنّي ركّزت في تلك الفترة
على أن ألتقي بمجموعة من أساتذة الصحافة في الجامعة، خاصة أنّ الكثير منهم لديه
تجربة التعامل مع هذا الموضوع، إضافة إلى كوني التقيت بمجموعة لا بأس بها من
الصحفيين، فأمدوني الكثير من المعلومات.
في هذا الوقت كنت قد ارتبطت بوالدتك، التقيت بها في الجامعة وكانت ترفض إقامة
علاقات، إلى أن تقدّمت إلى أسرتها خاطبا، فتمّ الأمر بسرعة... كانت تهتمّ بدراستها
أكثر من شيء آخر وحتّى الآن تهتمّ بعملها على حساب كلّ شيء حتى أسرتها.
فهمت رانيا من حديثه أنّه عاتب على زوجته، فسألته محاولة تغيير الحديث عن أمّها
والعودة إلى الكتابة.
- وكيف انتقلت إلى هنا ؟
- قبل أن تصدر الصحيفة كنت قد ابتعت بيتا صغيرا هنا في العاصمة لأتفرّغ تماما
لعملي كصاحب مؤسسة صحافية يتطلّب منه مركزه أن يولي اهتماما بالغا لكلّ شيء كي ينجح
أكثر وأكثر، وهو البيت الذي عشت فيه أنا وأمّك سنتين، ثمّ اشتريت هذا المنزل الواسع
لما بدأت الصحيفة في الانتشار وأصوات المادحين لها في ازدياد.
قالت: وهل كانت بهذا الشكل منذ البداية ؟
- أيّ عمل جديد وإن كان جيّدا فإنّ مرور الوقت يجعل صاحبه يحاول تطويره من الأفضل
إلى الأفضل منه ، كنّا في كلّ مرّة نأتي بشيء جديد، مواضيع جديدة، حتى الشكل
غيّرناه أكثر من مرّة، وأعطينا للقراء الفرصة الأكبر ليحسّوا أنّها صحيفتهم، من
صنعهم هم، وبآرائهم هم، الشيء الوحيد الذي لم يتغيّر فيها منذ أوّل عدد هو المستوى
الذي تصدر به... لم أكن أسمح بمواضيع بسيطة وساذجة أن تنشر في الصحيفة... كنت
أريدها أن تكون عونا للمبدعين الشباب، لأنّي عرفت معنى ألاّ يكون هناك أحد بجانبك
يساعدك وينير دربك... لذلك حاولت مساعدة الكثير منهم.
قالت رانيا وقد عرفت أنّها المرّة الأولى التي يحكي فيها والدها هذا الكلام: ألهذا
كان يفرح كثيرا عندما أنال علامات جيّدة ؟ فكّرت في هذا ثمّ طرحت السؤال نفسه
فوجدت:
- أنت عمري كلّه يا رانيا، كلّ هذا النجاح الذي حقّقته لا يمثّل شيئا لي إذا لم
أعرف إسعادك، لا يوجد غيرك في هذا القلب، لذلك لا تفعلي إلاّ ما يجعلك تنجحين
وتنجحين فقط...
- والفشل ؟
قال ببساطة: الفشل ممكن دائما، المهمّ أن نقوم بواجباتنا، وبما نعتقده في صالحنا
وإذا لم تكن النتائج كما نتوقّعها فلا بأس بالمحاولة والاستفادة من الأخطاء.
تساءلت: وماذا عن جدّي وجدّتي ؟
قال مبتسما: ربّما وجدا أنّ نجاح أحد أبنائهما مفرح لهما ...لم يكن جدّك يظهر فرحه،
أمّا جدّتك فكانت تبدي سعادتها دائما... الحقيقة أنّي لم أكن أستطيع الاستمرار هناك
أكثر، يكفي ثمانية عشر عاما ذهبت سدى...
أنكرت رانيا قوله: كيف تقول أنّها ذهبت سدى، وقد تعلّمت فيها ونلت فيها نجاحاتك،
وعرفت فيها حبّ الكتاب والكتابة، أليس هذه السنوات هي التي جعلت منك مشروع كاتب
كبير ورئيس تحرير صحيفة ممتازة.
ردّ عليها: لو كنت تعلّمت في العاصمة منذ البداية، ربّما كنت سأصبح أفضل بكثير،
هكذا أقول دائما في نفسي، ولا أعرف إن كان صحيحا ما أراه أم لا.
رنّ حينها محمول رانيا، قال والدها:
- اكملي اتّصالك، والحقي بي إلى المكتبة، سآخذ هذه الكتب وأجد لها مكانا بين
الكتب الأخرى بعد أن أقرأ شيئا منها.
كان حسام هو المتصل، وأخبرها أنّه سيكون عندها في الغد، أنهت اتّصاله الغالي وعادت
إلى والدها في المكتبة.
* * * *
في تلك الليلة عادت كريمة من عملها من التلفزيون متأخّرة، فمكثت في فراشها إلى
الساعة الحادية عشر نهارا، أمّا فيصل فقد غادر كعادته صباحا، واتّصلت رانيا بحسام
لتعرف موعد مجيئه، وعلمت أّنه سيصل على العاشرة، لذلك فقد أخبرت والدها قبل ذلك
بخروجها ودعاها لزيارته في المؤسّسة التي غابت عنها عدّة أشهر.
التقاها في كافيتيريا "le
café d'or"بشارع
العربي بن مهيدي في قلب العاصمة، كان يرتدي سروالا بنّيا وصدارا أسودا، ويعتمر قبعة
بنّية اللون تشبه لون السروال، وكان ملفتا للانتباه بهذه الوسامة التي تحبّها
رانيا، وتفكّر فيها ،وقد انتعل حذاء رياضيا أسود اللون، في تناسق جميل بين ما
يرتديه، دخل الكافيتيريا حيث كانت تنتظره، وقد بدا من خلال كأس عصيرها الممتلئ
أنّها لم تدخل إلاّ منذ دقائق، وكانت تلبس سروالا أبيضا من القماش الرقيق وسترة في
اللون نفسه، أمّ تسريحة الشعر فكانت كما يقول حسام " ذنب الفرس" وهي أجمل تسريحة
تعجبه وحين يرى رانيا قد سرّحت شعرها هكذا يبدأ في إسماعها قصائد حبّ لا تنتهي...
- كيف صحّة "قلبي"؟ بخير ؟
قالت مبتسمة: اسأل الدكتور وأنصحك بأخصائي في القلب... أنا يا حبيب عمري لا أعرف
هذا المجال.
قال وهو يجلس: أقول لك ما تعرفين ؟
- ماذا ؟
- إشعال القلوب... زلزلة القلوب...، ...
قاطعته ضاحكة: هل أنا مجرمة لهذه الدرجة ؟ أعتقد أّنك تبالغ..على كلّ حال...
تضيّفني أم أضيّفك؟ قال: نسيت كلّ شيء حين رأيتك... أتريدين شيئا غير هذا العصير ؟
ردّت مبتسمة: فكّر في نفسك، أنا بالكاد سأشرب هذا الكوب.
من بعيد كان أيّ واحد يدخل المكان يرى مدى الانسجام الذي بينهما... كأنّهما خلقا
لبعضهما... أيّ جمال هذا يملأ نفسيهما حتى تصبحان أرقى من الملائكة ؟ وأيّ صفو هذا
و رقّة تجعلهما أبدع من الأطفال الصغار ؟
الآن أصبحت هي التي تسأل:
- لم تقل لي ماذا تفعل في هذا الصيف ؟ هل من مشاريع سوى البكالوريا ؟
ابتسم وهو يرشف من ذلك العصير الذي طلبه:
- يعني تريدين منّي أن أكون فنّانا مثلك ؟
وضعت الكأس وهي تنظر إليه:
- حديثك معي يدلّ على موهبة... على مستوى أدبي عال... شيء من هذا القبيل.
ضحك: قولي مرّة واحدة أنّي أديب، لعلّي أنا نيرودا أو ماركيز وأنا لا أعرف.
قالت ببساطة ولمَ لا، كيف بدأ هؤلاء ؟ لم يولدوا وفي يدهم قلم ودفتر.
- كلامك يوحي وكأنّك عثرت على رواية مفقودة أو ديوان شعر كتبته ونسيت أمره... كيف
لم تحكمي إلاّ على طريقة كلامي.
ردّت عليه: الإنسان يظهر من طريقة كلامه وتصرفاته... لا من شيء آخر. قال: ولنفرض
أنّي أكتب شيئا...
قاطعته سعيدة: تعترف إذن... تعترف إذن...
ولم ترد أن تترك له الفرصة ليتحدّث فأضافت:
أوّل ما ترجع إلى قسنطينة ترسل لي بكلّ ما كتبته... أريد أن أقرأه... يا همنغوايي
العزيز
ضحك حتى بانت نواجذه: آه... وصلنا إلى المهمّ... تأكّدت اليوم من شيء كنت أشكّ فيه.
قالت باهتمام: ما هو ؟ ما هو ؟
نهض قائلا: تعالي نخرج وسأخبرك في الطريق.
دفع الحساب وخرجا، ركبا السيّارة التي جاء فيها وسألته حين استوت في مقعدها:
- لم تقل لي ما الذي تأكّدت منه اليوم.
تنفس بعمق قائلا وهو ينظر إليها: أنّك مجنونة يا حياتي.
ضحكا كثيرا من طريقة حديثه وأكملا الرحلة...
كان وقتا ثمينا ذلك الذي أمضياه معا، كان حسام يعتبر رانيا ذلك سحابا يجود
بأمطار من المشاعر الرقيقة الجميلة وبشقاوتها المحبّبة إليه، كان ينظر إليها كقطة
مع كرة الصوف، تداعبها، تخبشها... ولكنّها في النّهاية تحبّها، وكانت رانيا ترى فيه
مثال الشابّ الجيّد، يحبّها بشكل عجيب، ويدنيها إليه ويقرّبها ضنّا منه عن كلّ ما
يمكن أن يلهيها عنه... كان يعشقها وكانت تعشقه، عشقا لمْ يُر إلا نادرا في هذا
الزمن، زمن الجسد وعواطف الحجر والإسمنت.
استيقظت كريمة عند الحادية عشر، نهضت متثاقلة، ولجت الحمّام فغسلت وجهها
ورتّبت شعرها، ثمّ نادت على رانيا فلم تسمع جوابا، فذهبت إلى غرفتها ودقّت الباب
ونادت، وحين لم تجب دخلت فلم تجدها، حاولت الاتصال بها فلم تستطع، لذلك اتّصلت
بفيصل، وعرفت منه أنّها استأذنت منه للخروج بعض الوقت لشراء بعض الأشياء، لذلك لم
تحمّل نفسها مشّقة الاتصال ثانية والانتظار ولم يكن لديها عمل إلاّ في الليل، لذلك
فضّلت أن تبقى في المنزل حتى المساء، وتتجه بعدها إلى التلفزيون، وعادت رانيا عند
الرابعة مع والدها، فبعد أن غادر حسام العاصمة تذكّرت أنّه دعاها لزيارة الصحيفة
فأحبّت ذلك وفرح كثيرا لـمَرْآها.
* * * *
دخلت زينة على حسام في ذلك اليوم وجدته يكتب في دفتر برتقالي... سألته عمّا يفعل
فأخبرها بأنّه يكتب قصّة... ضحكت وقالت: قصّة ؟! وأنا أتساءل دائما ما به يفكّر في
شيء آخر، ماذا ستستفيد من هذه الأشياء ؟
وكان يعرف أنّ أمّه رغم أنّها مديرة ثانوية، وقد تعلّمت ودرست في الجامعة إلاّ
أنّها لا تحترم مثل هذه الأشياء... كلّ ما كان يرضيها هو المال فقط...
سألته: لا تقل لي أيضا أنّك تريد أن تكون كاتبا في المستقبل ؟
قال لها حالما: أتمنّى ذلك... أتمنّى...
ردّت متجهّمة: كاتب ؟ كم يأخذ هذا ؟ هل هناك الآن علم أو كتب ؟ لا مجال للقصص
والحكايات الفارغة.
اسألني أنا عندي سنوات في الثانوية، لا أحد يقترب من المكتبة للمطالعة... كلّ ما
يقرؤونه لا يتعلق إلاّ بدراستهم. وفوق ذلك هل يحني الكاتب من كتبه شيئا ؟ لا.. لا
أعتقد.
قال حسام: هذا ما يجعل مسؤولية الكاتب أكبر.
تساءلت: كيف ؟
أخذ نفسا عميقا ثمّ قال: حين ينتشر كتاب في وسط معروف بالقراءة، ليس شيئا عظيما،
ولكنّ العظيم أن ينتشر الكتاب نفسه في وسط لا يقرأ، وهنا المعادلة الصعبة.
قالت لتقطع هذا الحديث: أقول لك، سأعود إلى المطبخ أقوم بواجباتي أحسن، سيفهم منك
والدك أحسن منّي... قال كاتب، إيه... كاتب...
ذهبت وسمع صفيق الباب بعدما بعدما أغلقته بعنف:
ما بها تتصرف هكذا ؟ وسرعان ما ترك ما في يده وخرج... ولم يخط إلاّ خطوات قليلة حتى
رأى والده يدخل، مع بعض الأكياس في يده.
التقته زينة: أحضرت الأغراض التي ذكرتها لك...
ابتسم لحسام الذي كان واقفا وقال: للأسف نسيت، أمّا هذه فهي له... لحسام...
نظرت إليه ولم تقل، في حين قال صالح لحسام:
- ادخل أمامي... ادخل... هذه لك.
وفي المكتبة قال له والده:
- هذه كتب أوصيت أحد أصدقائي لجلبها من القاهرة لأنّها غير موجودة عندنا...
بدأ حسام في إخراجها، وجدها مجموعة لا بأس بها لم يرها في قسنطينة ولا في العاصمة.
قال والده: هذه كتب متميّزة حقيقة، انظر هذا "زمن الرواية" كتاب مهمّ ورائع لناقد
جيّد، وهذا الكتاب بالانجليزية "on
writing the
short story"
لـ "هالي برنيت" كاتبة أمريكية ذات خبرة كبيرة في مجال القصّة... وهذا "ما الأدب"
لسارتر بالعربية، ومعه نسخة أخرى بالفرنسية وهذا "الرواية في الوطن العربي" للدكتور
علي الراعي... هذه الكتب التي أحضرتها لك، أمّا الكيس الثاني فكتب في مجال علم
النفس، تخصصي، وأعدك بالمزيد.
قال حساما مرحا: كتب جميلة... ولكن هل قلت أنّي أريد كتبا تتحدث عن الأدب والقصص
والروايات ؟
قال صالح ضاحكا: أيّها الخبيث أتظنّني لا أعرف أنّك تكتب قصصا ؟
- من قال هذا ؟ سأل مستفسرا.
ردّ والده: لا أحد، أن تأخذ دفترا وقلما في وقت ما فتخربش ثمّ تتوقف ثمّ تعود
لتخربش، معناه أنّك ترسم أو تغنّي، وليس معناه أنّك تكتب.
ابتسم ولده: وفي الوقت نفسه ليست كلّ خربشة قصّة ؟
ردّ صالح: يمكن أن تكون خواطر، أشعار، قصص، المهمّ أنّها تنضوي تحت لواء الأدب أليس
كذلك ؟
قال منهزما: أجل، عندك حقّ، ولكنّني أكتب ثمّ أعود فأمزّق ما كتبته لأكتبه من جديد.
- أنت تعترف الآن أنّك ارتكبت هذه الجريمة، جريمة كتابة القصة، وأكيد أنّ بحوزتك
أدوات الجريمة كما هي، أليس كذلك ؟
- ابتسم حسام: أجل، أعترف.
- أضاف والده: إذن، أنا كقاضي أعلى في جمهورية صالح الديمقراطية الشعبية أحكم
عليك بالأشغال الشاقّة ابتداء من اليوم.
ضحك ابنه: ما نوع هذه الأشغال أيّها القاضي ؟
أجاب صالح: القراءة المستمرّة والمحاولة الحثيثة للإجادة، ويمنع منعا باتّا دخول
الغرباء إليك.
- دخول الغرباء ؟ لم يفهم حسام.
- أجل، الغرباء، اليأس، الملل، الإحباط، هذه المجموعة وغيرها تسمّى سارقة
الأحلام والحظوظ، ولا مكان لها بيننا.
قال حسام: إذن اتفقنا.
ضحك الاثنان وانهمكا في تصفح الكتب ثمّ توضيبها.