شباط 1982 (1)
شباط 1982
(1)
منهل السراج
روائية سورية-استوكهولم
[email protected]
وفي صباح اليوم الثاني، اندلعت أحداث حماة، شباط 1982.
كان ربيع أول من استيقظ على صوت الطفل المنادي عبر مئذنة جامع أبو رحمون:
حيّ إلى الجهاد، حي إلى الجهاد. راح ربيع ابن الثانية عشرة ينتقل من شرفة
البيت الجنوبية حيث الجامع وأصوات النداء، إلى نوافذ البيت الشمالية حيث
يتسارع الصبية والشباب تاركين بيوتهم لتلبية نداء الجهاد. استطاع الولد أن
يلمح بعضهم يرجع ليترك هويته بيد أمه الملهوفة وهي تشده إلى صدرها وتقبله
وتدعو الله أن يحميه.
سيطر الحماس على ربيع، رأى رفيقه في المدرسة يركض مع البقية، لم يستطع أن
يمسك نفسه، الجهاد واجب وكرامة!لم ينتظر، ركض يلبس ثيابه ويلحق بهم، لم
يتردد أو يخف، سعره بسعر رفيقه، وعمره بعمر رفيقه، ورفيقه خرج مع أخوته
الشباب، لا وقت للتردد، حسم أمره.. كان يهم أن يتناول جاكيتة سميكة معلقة
عند باب الخروج، حين أحس بقبضة حازمة تمسك بقبة قميصه من الخلف، التفت
مذعوراً، كان مخلص ينظر إليه بغضب وصمت، ثم دفعه بإصرار إلى داخل البيت، ثم
إلى فراشه، وقال كلمة واحدة:
ـ نم.
لم ينم الولد، ظل مستيقظاً يفكر بمصير رفاقه الذين يهرعون إلى "الجهاد".
كانت المرة الأولى التي يرى أخاه مخلص بهذه الشدة. لم يصبر، أيقظ أخواته
وراح يحكي لهنّ ما شاهد. كادت التأتأة تشل لسانه. لم يذكر أنه فكر باللحاق
بالجهاد ولم يذكر أن أخاه كان مستيقظاً ومنعه من الذهاب. قالت له فدا التي
أدركت سبب حماسه وخيبته في آن: الآن يرجع الأولاد، وينتهي النداء وينتهي
الجهاد.
رجع الكثير من الأولاد إلى بيوتهم، ولكن هيهات، فقد عُرِف من هو الولد الذي
تملكه الحماس، ومن هو الولد الذي نجحت أمه في استبقائه بيتاً.
في اليوم نفسه، قطعت الكهرباء والهواتف ومنع التجول في الطرقات، وحل الرعب
والهلع، ولم ينس أهل المدينة بعد ذلك ما شهدوه.
بذر الجيش في المدينة بوصية واحدة: اقتلوا وانهبوا واهدموا..
أرسلت فرق عديدة وبأعداد كبيرة، دبابات، طائرات.. والمهمة سحق المدينة..
اقتيد الأولاد الذين أصابهم الحماس وأهاليهم، وامتلأت المدارس والمراكز ذات
الساحات الواسعة، بأجساد ترتعد وتنتظر مصيرها، ولم يطل ارتعادها ولا
انتظارها لمصيرها، هناك جرت عمليات القتل الجماعي، وهناك نفذت المجازر،
وهناك حفروا وطمروا، وهناك.. بالشاحنات جمعت أجساد الآلاف ونقلت،
وبالقلابات رميت وكدست، جماعات جماعات قبروا. قتلوا معاً وقبروا معاً.
الابن والأب والجد، الجد والحفيد والعم والخال وابن العم وابن الخال
والأقارب والجيران، لم يمت واحد وحده، لم يقتل أحد وحده، كانوا جماعات،
قامات قصيرة وقامات طويلة، أجساد شابة وأجساد هرمة، وجوه بضة وكانت حالمة
ووجوه خائفة وكانت يائسة، من كل الأعمار ومن كل الأشكال، شباب كثيرون أتوا
لزيارة الأهل بعد امتحان الجامعة، مشتاقون فقط للقمة الأم أو ليأخذوا
الخرجية ويغسلوا الثياب، لكن الثياب لم تغسل، بل تلطخت بالدماء ودفنت مع
الأجساد في المقابر الجماعية
..
من الضحايا من كان تاجراً ويغش أحياناً ومنهم من كان صالحاً ولا يغش، لكن
ربما يفضل أولاده الصبيان على البنات. ومنهم من كان متزمتاً مقطباً في يبته
ومرحاً محباً للمزاح خارج بيته، ومنهم من كان متكبراً ومنهم من كان طيباً،
منهم من كان جسوراً وصادقاً ومنهم من كان رعديداً وكاذباً أحياناً، منهم من
كان محباً وكريماً ومنهم من كان شامتاً أحياناً. كثيرون كانوا يخططون للحج
القادم، وكثيرون كانوا يتلاعبون بالضرائب ويكدسون المال، منهم من كان يصرف
المال ليعرض كرمه ومنهم من كان يفعل في سبيل الخير، يقال.. كثيرون كانوا
ذوي حسب ونسب وكثيرون كانوا من الغوغاء، منهم من كان عليه دين لم يسدده،
ومنهم من كان ينتظر حقه، منهم من كان مخلصاً وأميناً ومنهم من لم يعنه
كثيراً صداقة الصديق، ومنهم من كان يحب ومنهم من كان يخون، ومنهم من ينوي
أن يعدل عن خيانته ومنهم من كان قد خلص إلى أن الحياة شطارة.. ومن بينهم
أيضاً، مراهقون لم يلحقوا أن يفعلوا ما يفعل الآباء، لكن ذنبهم كان كبيراً
جداً، كان مقتلهم حماسهم، مقتلهم أن الأهل لقنوهم أن الدم الحامي كرامة وأن
النخوة كرامة وفعلوا تماماً كما لُقّنوا، وقُتلوا ودُفنوا وطُمروا. ومنهم
من كان بين بين، على وشك أن يبدأ مشروعه، يعمل ويتزوج وينجب أطفالاً، كان
لبعضهم طموحاً ولبعضهم أحلاماً.
و كلهم كانوا كما كل الناس الذين يعيشون على الأرض..
كم العدد؟
قيل، ثلاثون ألفاً، وقيل أربعون ألف قتيل، ومع أن المجال بين الرقمين واسع
إلا أن كلمة الآلاف هذه كانت ضئيلة أمام ما حفر في ذاكرة الناس والمدينة من
ذل وقهر.
وقيل همساً عن الضحايا إنهم شهداء، وفتحوا لهم الجنات، افترضت الأم أن
بكرها الذي اقتادوه وقتلوه وحلمت به طويلاً مهندساً أو طبيباً افترضته
أميراً في جنان ربها، والأرملة التي لم تلحق أن تهنأ بعريسها، افترضت أنها
ستلتقيه في الآخرة، حورية تزف إليه، وبالوعد صبّرت نفسها. وافتخرت البنت
بأبيها الذي دللها طويلاً أنها ابنة الشهيد، همساً في المدرسة قالت بنات
كثيرات: أبي شهيد، أخي شهيد، عمي وجدي وابن عمي وابن خالتي وكثيرات قلن،
أهلنا في الجنة جميعاً ينتظرون..
شباط 1982 قسم ظهر المدينة، يسرد من تبقى من أهلها، ما رآه كأسطورة، بوجل
وتعبد ورعب. صارت دمشق والقصر الحاكم أمراً غيبياً غير مدرك الشكل، هل
الحكام من البشر؟ أم من آلهة تقلب الأرض والسماء، تسحق بني آدم والرزق من
الوجود، وتقدم الشتاء على الخريف، تقلب المصير وتصنع الأقدار!
جاءهم خبر أولاد عمهم، أربعة شباب قتلوا في يوم واحد، وصلهم الخبر كالصاعقة
من جارة عمهم، قالت مقطوعة الأنفاس: قتل الأخوان أسعد، لأنهم ظنوا أنه
مخبر، وقتل الجيش أخوته الثلاث، وسكتت سلفة سعاد التي كانت تتشاوف بأبنائها
الشباب.
لم يصدق مخلص، كان يقضي السهرات برفقتهم، يشاركونه لذة الكأس والحديث عن
النسوان، لم يكن لأحدهم اهتمام بغير السهر والتسلية والضحك، لم يبق منهم
أحد، إلا مخلص، فما الذي يمنع أن يُقتل وأخوه ربيع؟ كان ينظر إلى زوجته
وإلى أخواته، ليس في البيت من رجل غيره. أبوه وأمه في دمشق، يشترون
الهدايا، لمن؟ كان مرتدياً جلابية رمادية، ينام ويصحو بها، ينتظر حملة
التفتيش التي ستقوده وتقود أخاه الصغير إلى القتل.
في السادسة مساء يوم 10 شباط. كان مخلص مقطوعاً من الدخان، ومؤونة البيت في
آخرها، قليل من البرغل تطبخ منه فدا، قليل من الزيت يستخدم للإنارة والطعام
أيضاً. كان جالساً في زاوية الغرفة، يتدفأ على نار الفتيل ويرمق ارتعاشها،
حين طرق الباب طرقاً شديداً، حبسوا أنفاسهم، واتجهت أنظارهم إلى مخلص،
ارتخت عضلات كل الوجوه، همت لينا أن تبكي، أمسكتها أختها ونهرتها، ركض ربيع
إلى وراء الخزانة.
بقلب موجع وريق ثقيل، فتح الباب وبادر بتذلل: والله ياسيدي لادخل لي، أنا
درست فلسفة ولا أنام بدون الكأس. ولا أصلّي.
لم يكمل، صاحوا به أن يخرس ويخرج فوراً.
تناول معطفاً معلقاً عند الباب، ارتداه فوق جلابيته ومضى وراءهم. وقفت فدا
تنظر في أذيال جلابية أخيها وهو يصعد سيارة الصندوق. صفقوا باب السيارة
وأقلعت وابتلعها المنعطف، قبل أن يلملم أخوها أذياله.
ظلّ الحديد "يعصّ" على الذيل الرمادي المتدلي من جلابية مخلص طوال الطريق،
وظلّت فدا مسمّرة على الدرجة الأولى وراء الباب تستحضر تماسكاً ضرورياً
أمام أخواتها وزوجة أخيها المبهوتة.
جلس مخلص في سيارة الصندوق جنباً إلى جنب مع رجال آخرين، يتساءل صامتاً إن
كانوا اقتيدوا بالاسم مثله. كل منهم مطرق وينتظر الرصاصات التي ستميته
وتريحه. أفرغت السيارة بعض الرجال، في المدرسة القريبة وأبقت بعضهم إلى
المدرسة التالية، أنزلت عدداً منهم في مركز شراء الحبوب في منطقة المحطة
وأكملت طريقها، وهكذا ظلت تتوقف وتفرغ وتتنقل بالتدريج، حتى لم يبق في
السيارة إلا مخلص وعدد قليل من الرجال، توجهوا بهم إلى فرع الأمن. أدرك أن
الأمر خطير، ولن يكون قتلاً عشوائياً سهلاً كما سيحدث لهؤلاء الذين أنزلوا
في المدارس أو الساحات، سيخضع للتحقيق والتعذيب أولاً، توجس.
ركلوه وعفسوه بأقدامهم قبل أن يرموه في غرفة الانتظار.
لم تشأ الدموع أن تسيل، كانت عيناه معذبتين وعضلات وجهه تنبض بالقهر،
فتزداد دكنة وجهه، وعروق كفيه تزداد ازرقاقاً.
قبع مخلص ساعات ليلية طويلة. يتناهى إليه أصوات الصراخ والتعذيب الحقيقية
وليست تلك الأصوات المسجلة، والتي تستخدم عادة لإنهاك أعصاب السجين، لم يكن
هناك وقت لرفاهية كهذه. صار التعذيب بالنسبة للبشر نمط حياة وللمحقق نمط
عمل.
جاء دوره. سيتعرض للتعذيب كغيره، فكر بوجل. حاول أن يسترجع دراسته وقراءاته
في علم النفس والفلسفات وكل النظريات التي تمعن فيها وكتب فيها، عله يعثر
على طريقة حوار تمتصّ عدوانية المحقق وتخفف مرور وسيلة التعذيب أو القتل
على جسم الضحية.
فكرة ألحت عليه، وشعر كأنه بانغماسه فيها، يصلي، أو يمارس تصوفاً خاصاً
يمنحه خلاصاً، صبراً، قبولاً، يخفف عنه ثقل اللحظة والألم.
حين جروه إلى غرفة التحقيق، كان بجلابيته الرمادية كخرقة مهترئة، رأسه
مرتخ، ويداه مستسلمتان تماماً للشد والنبذ والضغط والترك.. تلفّ أفكاره
وتدور. هل يطلب الآن التقليل من العذاب؟ أم كل ما يطلبه الآن هو الاستعجال
بالموت؟ هل الاستسلام للجلاد ينفع؟ أم ادعاء الصمود أنفع؟ قال العقل إن
الاستسلام لا يترك وازعاً للتعذيب، ولكن مؤكد أن كل ضحايا اليوم كانوا
مستسلمين لقاتليهم، فلِمَ لا يهدأ القاتل؟ ربما بسبب أن الضحايا كثر، ولا
يمكن أن يترك ضحية تهرب من يده، وهذا ما يجعله شرهاً للذبح والسلخ. فكر
مخلص وهو في دوامة الخوف، هل جرب هذا الجلاد وسأل الضحايا قبل قتلهم؟ لم
يفعل، ليس لديه الوقت لهذا. مخلص لا يعرف أبداً عما سيسأل، هل أنت من
التنظيم؟ سيجيبه مثل كل المتعوسين: لا لست كذلك، وسينال أول وجبة تعذيب.
وسوف يستمر الأول بنفس السؤال مع التنويع عليه، وليس لدى مخلص من جواب آخر
مثل كل الذين اقتيدوا معه. فكيف يمكن اختصار هذا الفعل، السؤال والإنكار
والتعذيب والشتم؟
كان العسكري الذي يقتاده يتصرف كآلة وظيفتها إنهاك الضحية قبل وصولها إلى
المحقق، وعلى الضحية ألا تتعب المحقق وتأخذ وقت غيرها. آلة لا تصغي لأي
نداء أو رجاء أو غمز أو لمز، وهذه الآلة التي تلهث من الحنق والكره، لابد
من المرور عليها.
لم يكن الأمر كما تصوره مخلص، اتهام وسؤال وإنكار وتعذيب، كان شيئاً آخر،
كان هولاً حقيقياً. فالمحقق لشدة انشغاله وتعبه من كثرة ما عذب من مواطنين،
ومن قلة النوم وكثافة أعداد الضحايا، أخذ التحقيق رتماً خاصاً.
يقاد المواطن كنعجة، والجزار يقوم بالذبح باعتياد. فإذا كانت النعجة تذبح
لتفيد ببضعة كيلو غرامات من اللحم، فإن المحقق يستثقل الآن حتى عبء أجساد
الضحايا، أين يذهب بكل هذه الجثث؟ وأين يجد أرضاً تحفر لطمر هذا العدد
الهائل؟ هذا عدا عن أن بعضهم لم يمت تماماً، مازال بين الجثث أحياء يقاومون
نزيفهم وجروحهم، ويتمسكون بالرمق الأخير.
قرر مخلص أن يجيب عن الأسئلة بصدق وليكن ما يكون، الموت حاصل حاصل.
ـ اسمك مخلص؟
ـ نعم.
ـ منذ متى وأنت مع الخروات؟
أجاب ببساطة:
ـ لم أكن يوماً معهم ولا أعرف أحداً منهم.
أدرك مخلص سريعاً أنهم لم يرموه في المدارس كغيره ليقتل من دون تحقيق لأنهم
يشتبهون بأن لديه معلومات، تلك المكتبة الضخمة واللعينة والتي أبت أن تنتهي
بيد أبو أيمن وهو يملأ كل يوم "شوالاً" من الكتب ويرميه خارجاً. أو ربما
بسبب شباب الحارة الذين خرجوا للجهاد، أو بسبب أولاد عمه الذين قتلوا
بسلاحين متضادين، لكن السبب كان غير ذلك، والسبب خطير ولا يحتمل جدلاً.
تسلم مخلص من أبيه مشروع بناء سكني صغير، وقبل أن ينتهي من تشطيبه، اندلعت
الأحداث، وككل الأبنية الفارغة، لجأ إليها الأولاد
"المجاهدون"
وقتلوا فيها، وكان لبناء مخلص النصيب في هذا.
لم يصغ المحقق لجوابه، كان يطرح أسئلته ولا ينتظر الجواب، يبدو أن الحكم
صادر سلفاً. جولات التعذيب لم تكن طويلة ولكنها كانت لحدتها شبه قاضية.
لم يكن هناك فرق بين الصراخ والبكاء والرجاء والتعنت والصمود.. كلها مشاعر
انتابت مخلص دفعة واحدة. وفي نهاية جولات التعذيب، كاد مخلص أن يغيب
تماماً، تصعقه الأوجاع في كل خلية من جسده. استغاث بكلمتين:
ـ خلصونا، خيو.
(1) فصل من رواية جديدة تصدر قريباً.