الرجل المشرقي
رواية
محمد الرمادي
رواية “ الرجل المشرقي „ حدثت بالفعل وتفاعلتُ معها أوقات إخبار صاحبها بأحداثها لي ، فأخرجتها حسب قدرتي وأردت من خلالها طرح عدة قضايا هامة تهم الإنسان الغربي والمشرقي على السواء ولا ادعي أنني وفقت في معالجتها .. لكنني حاولت .
تنبيه :
اسماء الشخصيات أو الأماكن والأحداث ، نحتها خيال الكاتب تطلبتها الحبكة القصصية ، فإذا صادف واشترك إثنان في الوصف أو الإسم فهذا مجرد تشابه ليس أكثر .
**
الجزء الأول
« الرجل المشرقي »
ازعم أن المشرقي مرورا بشبه القارة الهندية .. وهي أول موطأ قدم لآدم ، أول عاشق للمرأة الموحدة ، الذي اختلس لها بذور زهور ورياحين الجنان قبل أن يهبط لأرض العناء وغرسها في بستان حواء .. المرأة الوحيدة التي تملكت كل خصائص الأنثى وخبأتها بين رقائقها وحشايا جوانبها ثم فجرتها من قلب العاشق الكتوم عند كل لمسة منه وبعد كل نظرة شوق لها ، وجددت شبابه فاسكنته الجنة مرتين ، جنة الرضوان وقت رضا الخالق عنهما ، وجنة حنانها لحظة رضاها عنه ، هذا المشرقي نفسه الذي مر بأرض فارس التي تنازع أهلها في هوية آدم ، فجزيرة العرب التي استقر بها عرش العشق ومُلْكه حين ازدلفت إليه حواء فتعارفا ... ازعم أن هذا المشرقي يعرف كيف يعشق ، بل ازعم أنه يملك أدواته ، فهو القادر ...
وازعم أن العربي هو أول من علق المعلقات ، فلم يجد أفضل من أَستار الكعبة موضعاً ، أول بيت للحب الآلهي ، ليمزج حبَ الخالق بأرقى معانيه مع عشق المخلوقة في أسمى لحظات العفاف ، المخلوقة التي كَمُلت بصنع واجدها بيده ووضع لمساتها الآخيرة على عيّنه وصارت أنثى برعايته ، هذا العربي الذي أبدع تلك المذهبات والتي نقشها بماء الذهب ، وهيّ المجموعة الشعرية التي تلي المعلقات في الجودة ، لتدلا - المعلقات والمذهبات - على مدى قدرته الفائقة على التعبير ليظهر غرضه من الغزل والنسيب بشقَّيْه المكشوف والعفيف ، ولغة العرب هي اللغة الوحيدة التي وضعت لدرجات الحب ما يربو على خمسين معنا ووصفا ، فالعربي لحظة أن أوقد النار في الحطب لإعداد الطعام أو الشاي ، أعدَّ قصائدَه بجوار أميرة شعره قرباً وطرباً أو على شرارة الحطب بعداً وهجراً ، فتنقدح أبيات العشق من صميم فؤاده ، فهو ملك الصحراء وراعي نجوم السماء الذي توّج في ليلة قمراء أميراً على عرش قلبها بيدها البيضاء ولحظة التتويج انسدلت على جبينه خصلة من جدائل فاتنته الحميراء ، فيصفها كما تُظهر الطبيعة مفراداتها كنحات يملك خيال خصب وبيده أدوات التعبير يشكل أنثاه بدقة متناهية على جدارية التاريخ .. فله الفخر .
هذا العربي نشر معلقاته لكل من قصد البيت المعمور ليصف "أنثاه" بأرق التعابير وأجزلها فعلق المذهبات ولم يجد أغلى من الذهب مداداً لإحساساته فأذابه بشجونه وصهره على نار شوقه وحنينه ، وزين أستار الكعبة بمعلقات تبارى بها مع فحول الشعر فكان له السؤدد ، مستخدماً مادة الطبيعة بمكوناتها الوفيرة وجميع أطياف ألوانها ، ليكسي رموز الكون بما يرى لصياغتها كما يريد هو في كلمات ليقطر بالقرب من قرطها المعلق على أذنها اليسرى القريبة من قلبها عصارةَ حبه وعشقه ومزيج دموعه وآهاته ونحيبه وشوقه ولوعه ، فيلفها كلها في نسيج خياله فترتدي ثوبا قشيبا خيوطه ربطت بقلبه وجدلت بإحكام بلبه فوق غلالة العفاف ، فهو مبدع هذه الصناعة بدون منازع ، ومن قلده من بعده أفلس ، ومن قال بعده ليصفها فهو أخرس ، فمهنة العشق تحتاج لإتقان لا تقليد ، وسر الإبداع يعود لذلك المزج بين روحانية العاشق المشرقي برهافتها ورقتها وشفافيتها وعلوها ـ في بيئتها الأصلية ـ ثم تتساقط كسخات الندى بعد طول ليل السهد حين تلامس جمرات الشوق ، فلهيبه يطيّر كلمات العشق التي خُلدت ، السر يعود إلى ذلك المزج الذي تم بين روحانية المشرقي الذي هبط من جنة عدن وبين احتياجات الإنسان الراقية وفق معايير ومقاييس وُضعت منذ آلاف السنين من عقلية رجل ذاق طعم الإنفراد فستوحش ثم ذاق طعم القرب والأنس فاستأنس ، فرسم في خياله لها صورة ، أبعادها بين الثرى والثريا ، أطرافها بين الكواكب والمجرات ، مربعاتها ما بين المشرق والمغرب ، يضئ المكان وهيج حطب الشوق حين يحضّر في ذاكرته كلماته ليلقيها على قلبها قبل أذنها حين يقابلها أو حين يرسل رسولا أمينا بمكتوب، أو يضئ كراستَه التي امتلئت بمئات من صورها عندما يكتب لها ، قمرُ الليالي ، ومداد قرطاسه يستمده من دموعه التي يخفيها بين حبات الندى الساقطة فوق رمال الصحراء ... فهذا المشرقي ..هو القادر .
اتقن – العربي - العشقَ فلُقبَ بالمجنون ، أبدع في صياغة وجدانه بكلمات تُقرأ فصارت بعد مئات السنين قرآنا يحفظ ، يحتاج لمراجعة وتعليق ، وخبرة عملية تراكمية للعاشق القادم ، صفى المنبع فزدان المورد بفرسان الكلمة واتسع الحوض لمن لديه الموهبة والقدرة فسعدت نساء العرب والعجم جميعاً ..
فيا سعادة المرأة التي خلدها العاشق فأتم ما قام به الخالق في السماء فوصفها لما هبطت على الأرض فبقوله يعيدها كما كانت إلى السماء ، ومَن لم يفهمه سماه المجنون ، ومن غار منه وحسده حبسها في بيت الحريم يفرج عنها لحظة رغبته وحين أصدر أوامر الإعتقال النفسي والإبعاد العقلي ذيّل الفرمان بالسماح لها فقط .. بالإنجاب ، وحين يعود إلى ذكوريته في غابته يلزمها إرتداء حزام العفة الذي صنعه الحداد .
ازعم أن هذا المشرقي يعرف كيف يعشق ، بل ازعم أنه يملك أدواته ، وخير دليل على صحة الزعم : الترجمات من النصوص الفارسية والعربية إلى اللغات الغربية كالفرنسية والألمانية ، والجانب العملي في ممارسة الحب يُؤخذ في الغرب من المعابد الهندية التي أفسدتها برودة الجندي البريطاني زمن الإحتلال ، ومجموعة الكتب التي صورت لحظة الوصال بعد الشوق وهي آتية أيضاً من التقليد الشرقي القديم الذي يعرف باسم " كاما شاسترا " „Kama Shastra“ ، والذي يعود إلى أزمنة سحيقة والبعض يرجعها إلى مابين 200 و 300 بعد الميلاد العجيب ، وأول ترجمة لهذا التقليد للإنجليزية كانت عام 1884م ، أو تؤخذ من كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر" „The Perfumed Garten“ والمترجم للفرنسية عام 1850م ... أذهب إلى أمهات المكتبات وسترى صدق ما زعمت ! .
رفيقي .. المشرقي ـ صاحب هذه الرواية ـ اكتسب سابق كل الخبرات واستفاد من تلك التراكمات ، فرسائله إليها ـ السيدة الغربية التي حبها فعشقها ـ رسائله لها كانت دائماً ملونه ، ولعل دفء جغرافيا مدينته الساحلية « الإسكندرية » وشخصية مؤسسها " .. الأكبر " ومدرسة الإسكندرية الفلسفية ورجالها على مر العصور والحقب التاريخية التي مرت على مدينته ، هذا ، وهو الذي عاش بين أهلها الذين إذا غربوا سبحوا في بحيرتهم " البيضاء المتوسطة " مع الحيتان ، وحين يرفعوا رؤوسهم يتسلقوا إلى السماء وفي أيديهم حبالهم التي نسجت من خيوط ذهبية جدلتها اشعة الشمس فإذا أغتسلت معهم في بحيرتهم وقت الغروب تمسكوا بالحبال الفضية التي هياءها القمر لحظة غياب شمس النهار ، وإذا عطشوا يمموا الوجه المليح إلى الجنوب فيأتهم الشاب الفضي الأصيل بطميّه ورزقه .
جغرافيا مدينته جعلته يحسن تلوين الشمس في الزاوية العليا من رسائله لها فيعطيها حقها من اللون الذهبي كشعرها المنسدل على ظهر أخذ لونه من المزج الدقيق بين نهار وضّاح وبين شَّفَق قبل الغروب ، تلك هيّ المرأة الغربية التي توجت بتاجها الذهبي الفريد ، ثم يكثر من زرقة السماء بدرجتيها الخفيفة والثقيلة ، فهو دائما أينما ذهب ينظر عيناها ، إنه يلون السماء كأن صفحته لها شرفة ، منها يطل على سماء دنياه بعينيها ، ثم يضع حرفا أو أكثر من أوائل اسمها ، أداة التعريف في لغته من اليمين ولغتها من اليسار « ELLE » ، فيضع نصف „ELLE“ ، فيكتب „EL“ في وسط الشمس الذهبية بأشكال مختلفة .
**
« أداة التعريف » |
يصل الرجل إلى ذروة جنونه حين يعشق امرأة تستحق العشق ، فيخلع عليها ألقاباً ويرصع فستانها من ذيله حين يلامس كعب قدميها وهي تجره خلفها إلى حمالته فوق كتفيها بأوسمة ونياشين رصعت بالياقوت والزبرجد وزينت بالماس ورشت بحبات اللؤلؤ والألماظ ، ثم يرفعها إلى الثريا ويسكنها بين النجوم والكواكب والمجرات السيارة ويصل بها لمقام الآلهة ويضع قدميها بين ملائكة السماوات والأرض ويناديها بأجمل النعوت ويصفها بأحلى الأسماء ويعلق شِعرَه بمعلقات في ذهنه كتبها بماء الذهب قبل أن يعلقها على جدران التاريخ ...
… محاولات لتخليد الجميلة الحسناء التي عشقها لحين من الزمان ... أو أحبها عمره كله .
قلت : جُنَّ بها لأنه لا يرى لها شبيه ، وليس لها مثيل ، وتتسع الدنيا على قدر رضاها عنه ، وتضيق إذا أغضبته ، وقد يقوم بأعمال ، يوصفه الناظر أنه جنَّ ولكن المقصود ليس الجنون بل يخبرنا إنها المرأة الوحيدة في حياته ، والتي سلبته العقل فهي محبوبته التي ارتقت به إلى درجة العشق ، ويالها من درجة يفتخر بها الرجل .. العاشق .
رفيقي .. وصفها بأنها التي عرّفته طعم الحياة فأطلق عليه أداة التعريف " الـ .. " ، „EL“ ، ولأنه يوجد الآن في الأسواق عطر „ELLE“ ، وكنا - أنا وصديقي - نحسن استخدام الرموز منذ شبابنا ، فضيفة صفحاتنا القادمات سنطلق عليها „ELLE“ ... عطر الحسناء ، وإن كانت تستخدم غيره واعتادت أنفه سواه .
« الإحسان والإتقان » |
وأيُّ عاشق ـ كرفيقي ـ وإن لم يحسن الخط والكتابة وتلوين الرسائل إلا أنه يبدع ، اسألوها إن لم تصدقوا ما اقوله (!) ، ما يلونه في رسالته لها يريد أن يخبرها في جملة واحدة بقوله :" أنتِ شمس عمري ، أنتِ الشمس التي تضئ حياتي ، بل أنتِ كل الكون لي " ، ثم يطرز المرسال ، فقبل أن يَكتب حرفاً يحدد إطار الورقة ، يريد أن تكون وثيقة مسجلة ، غالباً حين يكون في سفره يضع ختمه : " دمعة " شوق من مقلة سهرت في بعادها على وثيقة عشقه ، وفي أسفل الصفحة يأتي بعشب أخضر جميل من أعلى هضبة في جزيرة العرب وينثره على ذيل الصفحة تنبثق منه أزهار ملونه ، وفي وسطها شجرة ذات فروع خضراء تقترب من شمس الصفحة وسمائها ويبعثر بعض حبات التفاح بين أوراقها وعلى عشبها ، وجذورها ثابتة ، كأنه يقول لها : " أريد أن ألون حياتي بجوارك كما أريد! " ، ثم يوثق المرسال بتاريخ ويوم الكتابة بل يزيد ويذكر الساعة والدقيقة ، وهو يبدأ بوصفها في أول سطر أو سطرين، وبنعتها ثم يبين ما هي بالنسبة إليه ويتخيّر كلماته ، رفيقي ما استفاض معي في كلماته عنها ، كان يقول لي :" كتبتها مرة واحدة فقط لها ، وأنتَ لا يصح لك أن تعرف ماذا كتبت ، بل عليك أن تتخيل تعبيرات وكلمات عاشق مشرقي لامرأة من الغرب شقراء فاقع لونها تسرني أنا وحدي دون غيري ، غير أنه وليس بوقت بعيد يبدأ في أعادة تركيبة الكلمات التي سطرها ، وكأنه أراد أن يلغي التحذير الأول بأنه كتب لها وحدها وليس لأحد آخر وأن ما كتبه ليس للنشر ، بيّد أن التاريخ يخبرنا أن العاشق يريد فضح أمره وإن كنّى وأخفى ملامح الصورة ، وستر اسمها ، ويحمّل الريح وجدانه فباح باسمها للزهور واعترف بما جرى بينهما في لحظات الوصال لأمواج البحر الأحمر وفي باطنه الأعشاب المرجانية التي منها صنع لها عقدا فريدا ، فحملت جزيئات الماء إلى المتوسط مشاعره فحفظت داخل أصداف البحر الأبيض لحين يضع حبة اللؤلؤ في أصبعها كخاتم عشق إلى محبوبته ، وقصيدته رددتها أسماك المحيطات وتغنى باسمها على مسامع طيور السماء فتغني باسمها فوق الأشجار فنفضح أمره في كل الغابات ، العاشق وإن لم يرد فضح أمره ، إلا أنه من العسير أن يكتم صدره سره وحبه الكبير يغلي بداخله فتسمع أَزِيزا كأَزِيزِ المِرْجَل أو تلاطم الحمم كما يثور البركان .
حين ينتهي من كتابه لها يقول لي :" كنت أشعر بأنني أمير البلاد وملك القارة الأوروبية برمتها بل كنت أشعر بأنني حاكم الكون كله ، وكنت أريد أن أقبل يد أول امرأة تقابلني في الطريق قد تحمل بعض ملامحها وكنت أريد أن أنحني أمام كل النساء وكان البعض منهن يفهمن إنني أريد مغازلتهن ، وهذا ليس بصحيح ، غير أن الغربيّات والشرقيّات على السواء - فهن نساء - لديهن فضول عجيب ، أُولَتهن تبدي تجاوباً فتسأل فيحدث حوار ، وثانيتهن تتحرج من السؤال فتنظر من تحت حجاب العين وليس من تحت حجاب الرأس وفضولها لم ينتهي بعد ، يكمل فيقول لي :" حين أنتهي من مرسالي أبدأ افتش عن الثغرات بين السطور وبين الجمل وأزين وثيقتي ببعض الزهور أو رسم قلب هنا أو هناك على قدر المساحة المتاحة لي " .
يتنهد طويلاً وينظر في سماء الغرفة فالمكان يضيق به وإن اتسع لي ثم يردف :" كلماتي لها .. كنت أريد أن تُحفر في مخيلتها وفي ذهنها ، كنت أجهد نفسي كثيراً فأنا لا أريد أن تقع عينها على الكلمة المقرؤة ، بل أريد ان يقع التعبير أولاً على قلبها ، ويا لها من مهمة شاقة أن تعبر عن خيال المشرقي بــ ... " ، يتوقف عن الحديث ويعبث بشئ ما تخيله أمامه كأنه يريد أن يمسكه في فضاء كونه الإفتراضي لا أراه بعيني ثم يكمل :" .. مهمة شاقة أن يعبر المشرقي عن خياله بكلمات لغة غربية ليكشف عن حاله " .
يسمر ـ رفيقي ـ عينه على صورة نسجها أمامه دون أن يطلعني عليها ثم يقول:" ... وغالباً كانت تأتي منها مداخلة قائلة :" لقد فهمت قصدك ولكن الكلمات ليست مناسبة للمعنى ، أنت تأتي بكلمات لم يستخدمها أحد من قبل من أدبائنا ، كما وليس لها وجود في قاموس لغتي القديم منه والجديد ، فكلمة „Honigkeit“ مثلاً ليس لها وجود في القاموس ولكنني أفهم ما تريد قوله ، لأنك تشرح الكلمة ، أقصد أنك تشرح مشاعرك تجاهي وهذا ما يجعلني افهم ماتريد أن تقوله ، فأحيانا كثيرة تنحت كلمة من مخيلتك ، كلمة جديدة ليس لها أصول في لغتنا ولم تستخدم من قبل ولكنها وفق مقياس خاص بك وصغتها في قوالب صنعتها بيدك ، أنت تكتب بشكل جميل وافهم كل ما ترسله لي ، كم أنا سعيدة بمشاعرك وبتعبيراتك ، والغريب أنك تغوص في مسائل عدة ، واجلس وقتاً طويلا افكر في تلك الآطر التي تضعني فيها رغما عني ، لأفكر كيف تكتب وكيف تصفني وكيف تعبر عن حبك لي ، كم أنا أحبك ... وكم أنتَ .. حقاً .. مجنون! ، وكم هو جميل أن تُجنَّ بسبب حبي وأخشى منك العدوى !!" .
ابتسم لها كالنشوان ، ومد يده في فضاء كونَّه الإفتراضي ليمسك معصمها ليحلق بها فوق سحاب ما يعلوه سحاب ... ومددتُ أنا يدي على الٲرض التي ٲعيش عليها ، لمعصمه لأتمنى له الشفاء .
رفيقي لا يتركها طويلا تفكر في كلماته بل يلمس أطراف أصابعها فيقرب يدها من شفتيه ليضع قبلة الغرام مع انحناءة الأمير العاشق ، قائلا لها :" أنا أكتب فقط لك ، فأنتِ أمام عيني دائماً وفي مخيلتي ، أينما ذهبت فأنتِ ترافقينني في حلي وترحالي وفي خيمتي التي صنعتها لكِ وحدك ، وفي يقظتي ومنامي ، في مترو الأنفاق حين أتحرك داخل مدينتي وإثناء تواجدي في غرفة عملي ، وبين أوراق الملفات التي فوق مكتبي ، أنتِ بجواري على دَرج بيتي أو في المصعد وحين أزور اصدقائي ، في جلستي مع أعضاء المؤسسة الخيرية التي أنشط فيها ، وإثناء عضويتي مع الجماعة الإسلامية التي انتمي إليها ، فأنت التي تقدم لي منشفَ قطنٍ حين انتهي من وضوئي وتعدّلين حذائي في رفه حين أصلي الجمعة أو صلوات الأعياد في المركز الإسلامي ، وتسرعين الخطى حين أهم بالخروج وأريد أن أرتدي جاكتتي فأنتِ معي في كل الأماكن ، أنتِ زماني الذي أعيش معه والمكان الذي أعيش فيه .
**
« Raubtier » |
ينبغي أن أقول أن رفيقي كان دائم الحركة فهو لا يقدر أن يبقى طويلا في موضعه ، وفي السفر وما يرافقه من بُعد عنها وشوق لها يأخذ معه أدوات الكتابة بل يأخذ معه بعض الخيوط الرفيعه الملونة وأبرة خياطة وقطع من القماش وصفحات ملونة كثيرة يعددها حسب طول فترة السفر أو قصره ليرسم بأبرته وخيطه الحريري الملون إطار وثيقة حبه ، ويرسلها بالبريد على عنوانها ، أو صندوق بريد الحي الذي تسكنه ، وأيضا الظَّرْف ، الذي يكتب عليه اسمها الحقيقي ولقبها الذي تحمله منذ وقت زواجه في مكتب توثيق العقود في مدينة جراتس ويلونه ، كان يريد أن يشغلها أكثر من 24 ساعة في اليوم الواحد ، وهذا ما دعاني إلى القول أن رفيقي كما سألته آحداهن :" إذا وددت أن تكون كائناً آخر فماذا تريد أن تكون!!؟ ، وقبل أن يجيب وصفته بقولها : „Raubtier“ ، وأردفت أنت تهجم على من تريدها كنمر على غزال ، المُخبرة ، زميلته في العمل امرأة تراقبه ولم يستطع أن يفتح فمه بكلمة ويبدو أنه أعجبه نعتها ، فهي أحسنت الوصف وهو بحق ينطبق عليه هذا الوصف .
**
« محور قصة » |
محور القصة يدور حول لحظات معدودة يتعمد الإنسان فيها أن يغيّب ضميره وينتقل إلى عالم آخر يصنعه في معمل خياله فيعبث في زمن وجيز لا يحق له العبث فيه ، في زمن أطلق عليه فترة النقاهة من مرض ما ، فأبدع الرجل فكرة « ظله » ، ويغلب على ظني أنه أبدعها منذ زمن طويل ، وليس فقط زمن الإمبراطورية النمساوية المجرية فيعبث بامرأة آخرى ، غير زوجته أو خليلته ، غير سانيته أو سيدة بيته أو راعية شؤونه ، المهم امرأة آخرى ، لا يعرفها ، فقط جاورته ـ وهذا حديثاً ـ خلال فترة النقاهة في مقعد المائدة التي يتناول عليها طعامه أو سارت معه بضع خطوات من غرفة علاج إلى آخرى أو بعد إنتهاء يوم العلاج المجدول له ويتبقى لديه بعض الوقت فكيف يصرفه! ، فيبحث عن امرأة رسمها في خياله ولعله وجدها في منتجعه ، وهو ـ أو احياناً كثيرة هي أيضاً ـ يريد الراحة من الحياة الروتينية التي يعيشها فيعيش كما يظن لبعض الوقت ... ومن هنا جاء تسمية الجزء الأول من الرواية
„KURSCHATTEN“
وهي حقيقية في بنيانها ، خيالية في إخراجها ، وهي القضية القديمة الجديدة التي تتكرر طالما وجدت امرأة أنثى تحتاج لرجل بحكم طبيعتها وطالما وجد رجل لا تقف أمامه حدود وهو الذي يرسمها على جلود البشر .
والغريب أن تطول هذه الفترة عن المسموح به من قبل مؤسسة التأمينات الإجتماعية النمساوية فهي سمحت بـ 22 يوماً أو تزيد أسبوعاً آخر للعلاج ، والأغرب من ذلك أن يوصي أحد أطباء المنتجع الصحي بالعلاج في " الظل " وأوضح بدون لبس أن المؤسسة الرسمية لا تتحمل ما ينتج عنه من أعراض جانبية ، أما الغريب العجيب حقاً أن تطول شهورا وسنوات فهذا قد لا يعطي الدقة الكافية في استخدام المصطلح التي تم التعارف عليه ، والطريف أن هزل لعبة الحب جد ، والذي سعى أن يعبث بأمراة قد يقع في حبها والذي رسمه في مخيلته ويبحث عنه فينسى حاله ووضعه وحياته التي اعتاد عليها سنوات طوال قبل فترة نقاهته ، والظاهر أن بيوت المتعة وأوكار اللذة لن تغلق أبوابها ، فالرجل لا يجد لها قفلاً والمرأة خبئته في حقيبة يدها ، وخلال مسيرة الإنسان عبر التاريخ استعملت مسميات جديدة وأشكال وقوالب متعددة ، والأمر ينصب في نهايته : كيف يشبع الإنسان غرائزه وحاجاته العضوية بصورة مقبوله عند غيره فتسن كقانون ، أو غير معلومة فتظل تحت الطاولة مطروحة للنقاش أو الإبتزاز .
والصديق الذي روى لي قصته ، ـ وقد تقع للعديد منا ـ لم يبحث عن بيت متعة أو وكر لذه ، بل شاهدَ من كان يبحث عنها فوجدها في منتجعه ، ولعل خلو البال من إنشغالاته وتفرغه التام سواء الذهني أو الجسدي عاملان ساعدا رفيقي على الوقوف طويلا تحت " الظل " ، فرفيقي موجود في المنتجع إما لتلقي العلاج أو مراجعة بعض ملفات عمله أو قراءة كتب أراد أن ينتهي من مراجعتها ، بيد أن ملابسات عدة ساعدته بشكل مباشر فصار العاشق الذي قرأ عنه في كتب مكتبته وله خيال في ذهنه ، وهو تألم بحق وحزن كاليتيم على أن فترة نقاهته انتهت غير أنه سعيد بالتجربة .
إنه الرجل ، بيَّد أن اللحظة المرصودة في روايته عنها " ظله " سبقتها مراحل إعداد لهذا الرجل المقصود والذي نتعامل معه الآن ، فرجلنا المشرقي يروي لنا قصة عشقه ورفيقه كتب ديباجة لها ... فادعوكم لقراءة القصة .
**
« قصة عشق »
العشق
« ظلال المنتجع الصحي »
„KURSCHATTEN“
حالة غير طبيعية مؤلمة أحيانا ومبهجة أحيانا كثيرة لإنسان سوي يعيش بين بشر لا يفهمونه فلا يتألمون لما يتألم له ، ولا يجدون مبرراً مقنعاً فيبتهجون لما يبهجه ، ولا يشاركونه المعاناة فيحزنون لما يحزنه ، فهم لا يشعرون بحاله ، فهناك غموض ما لا يدركه الرائي ولا يستوعبه السامع ، فقط يفهمه العاشق ، وهو لا يستطيع أن يوضح لهم ما اصابه ، وهذه ليست مهمته .
كل امرأة في العالم لها مذاقها الخاص ونكهتها التي تصاحبها أينما سارت وهي بجوار رجلها وحين تحدثه وتترك خلفها عطرها عندما تودعه ، والمرأة الغربية طراز خاص يعجب المشرقي ، فكم هو جميل أن تعشق امرأة من دين الحب ، وغير مفهوم أن تعشق امرأة تدير لك خدها الأيمن بعد ان تلطمها على الأيسر كما يقول راعي كنيستها ، وكم هو إحساس نبيل كفارس حين تنحني وتمد يمينك لترفعها أمامك على جوادك عندما ترافقها إلى معبدها وتحضر القداس معها دون أن تشاركها فيه ثم تصاحبك فتمر على أربع عشرة محطة رسمت أو نحتت على جدران كل الكنائس تبين مسيرة ابن الآله الأخيرة ليخلّص الإنسان فترى جسدا نحيلا معلقا على خشبة صليب الآلام تعبده فهو ربها ليموت ابن الإنسان ليحي الإنسان بلا خطيئة ، والمرأة ذاتها تريد أن تعلقك أنت على خشبة عشقها لتعبدك فأنت رجلها وسيدها .
قصة عشق بدأت حيت قابل رفيقي والذي كان يُشَبِهُه والده بـ " عمر الشريف " فتى الشاشة الفضية المصرية ثم العالمية ، وعمر الشريف هذا ، هو اليهودي الذي أمن بالإسلام ليتزوج سيدة الشاشة العربية ـ الأولى ـ المسلمة كما قص له الوالد قصته ، وقت أن اشترى له بدلة جديدة ليحضر حفل عرس في قاعة الإحتفالات بأوتيل " سيسل " بمحطة رمل ثغر المتوسط ، الإسكندرية ، أمام تمثال الزعيم سعد زغلول وهو يُيممُ وجهه تجاه البحر شاخصا بصره على الطريق البحري تجاه أوروبا ، والحفل افتتحه العروسان بالرقص على موسيقى „Wiener Walzer.“ ، ثم تلاحقت الرقصات وكان أجملها رقصة التانجو سواء „Tango Argentino“، أو„Tango Andaluz“ ، ورفيقي كان يقول لي :" ... رقصة التانجو تشعرك برجولتك حين تراقص امرأة على قدر كبير من الجمال والفتنة خاصة حين تعشقها " .
خيوط القصة بدأ غزل نسيجها حين قابل في احدى ورش عمل النقابة - وهو أحد أعضاءها - في الحي السادس عشر الفييناوي ، زميلة له بعد مرور سنوات دون لقاء بينهما أو اتصال ، فهي تعمل منذ سنوات في دولة المجر ، جارة النمسا والتابعة سابقاً للأمبراطورية النمساوية المجرية القيصرية الملكية
„Donaumonarchie, k. & k. = kaiserlich und königlich “ ولحظة أن قابلها أقتربت منه متخطية عدة صفوف في القاعة الكبرى وبكامل جسدها المتفجر أنوثة رغم تعديها العقد الخامس فهي امرأة في كل العقود والمواسم ، تلك المرأة ذات الملامح القيصرية والهندام الملكي تقدمت إليه لتحيه ـ فهو زميل عمل ـ كعادة أهل الغرب تقبل المرأة الرجل ـ إن ارادت ـ ، وقبل أن تضع قبلة التحية على وجنته أمام الزملاء الكُثر ، بادرته بسؤاله :" أيحق لي أن أحيك ـ أيها الزميل وأنت تحمل الجنسية النمساوية وتعيش في الغرب منذ أكثر من عشرين عاما مع أنك من أهل الجنوب ـ ، أيحق لي أن أحيك يازميلي بقبلة أمام الزملاء وأمام المشرقيين أمثالك ، أم ستتحرج!!!؟ ، أجابها وهو يسبقها بوضع قبلة التحية على وجنتها البيضاء الناعمة :" لا حرج ، سيدتي ، أنا مسلم متمدن !! " ، أنا أحيك وفق التقاليد الغربية ، وهي ليست قبلة ذكر لأنثى بل هي اسلوب تحية تعارف عليه بشر في منطقة ما ، فأين الحرج !؟ " .
تبادلا التحية حسب الأعراف المعمول بها داخل جمهورية الألب في قلب أوروبا ثم أنهالت عليه بأسئلة سريعة وقصيرة في نفس الوقت ، وهي تمسك بمعصمه :
" كيف حالك !؟ ،
" واين تعمل الآن!؟ ، أفي نفس فرع المؤسسة الذي كنا نعمل فيه سوياً !؟ "،
" وكيف حال أبنك !؟ " .
أجابها :" أنا بخير ، نعم اعمل في نفس المكان ، ابني بخير ، الآن .. صار رجلا !؟ وأبحث له عن عروس ، ورغم أنه ولدَّ في مدينتك غير أنه يريدها عربية وليس غربية . ، فأجابت :" نعم إنها حياته هو! " .
إنها « آناليزا » المرأة المتحررة من القيود الإجتماعية والبروتوكولات المعقدة الرجعية التي وضعها البشر ، إنها المرأة الوحيدة التي كانت تأتي إلى مكان عملها من بين الزميلات بكامل هندامها الأنيق ، ذي القطعة الواحدة كفستان من أرقى بيوت الأزياء أو ذي القطعتين كــ" تايور " ، امرأة لم ترتدي يوما الجينز الأمريكي لم تُر يوما ببنطلون ، فهي تحتفظ بأنوثتها ، وهندامها يعبر عن أنوثتها أو قل هو جزء منها ، كانت ترتدي دائما أغلى وأفضل أنواع الجوارب الحريمية ، امرأة تدرك أنوثتها ، ورفيقي مغرم بتلك الفئة من النساء ، المرأة التي تعتز بأنوثتها ولا تتحرج منها ، بل تظهرها بشكل أنيق جذاب ، فهندام العمل أو ما يطلق عليه ملابس تناسب المهنة لم تكن في أجندتها ، وإن كان بعض المراهقين من الرجال ينتظرونها في دور سفلي عنها وهي نازلة لإحضار فنجان من القهوة من غرفة الإستراحة ، ليتحدثوا بعد ذلك عن لون ملابسها الداخلية إن استطاعوا رؤيتها ويتضاحكون بعد ذلك ، ولا أدري أن كانت تعلم ذلك أم لا فهي على كل حال أمراة من الطراز القيصري ، امرأة تشعرك بأنها ملكة ، وهي تجيد عملها بشكل جيد ، وهي ذات خصوصية تغايّر بقية الزميلات ومع إن العلاقة بين رفيقي وبينها كانت علاقة زمالة وإحترام ، غير إنها تلمح من حين إلى آخر نظرات رجل معجب بهندامها وطريقة حديثها ومشيتها ، وكيفية تناولها فنجان قهوة الصباح ، ومص قطع الشيكولاته البيضاء التي كان رفيقي مغرم بتذوقها منذ أن كان في عاصمة النور ״ باريس ״ في عطلته الصيفية منذ أعوام عدة ، وإطالة الحديث معها في مسائل ليس لها صلة بعملهما ، فهو بالفعل معجب بها وبذاتها .
مناخ العمل في مؤسستيهما يعتبر ممتازا وعلاقة الزمالة كانت ذات مستوى راق ، ولعل هذا يعود لمديرة المؤسسة التي يعملا بها ، فالمديرة امرأة ، مَنْ ينظر إليها يلحظ أنها تحمل سمات الحقبة القيصرية فترتدي هنداما طُرزَ لها ، فهي تتردد على ترزي خاص للعائلة كما أخبرت رفيقي وقت احتساء القهوة في راحة التاسعة صباحاً ، امرأة قوية الشخصية ترغمك أن تقبل يدها حين تحييك في الصباح ، والرجل الضعيف يجد ذل الخنوع حين يحترم المرأة ويتذوق مرارته حين يتفوه بكلمة رقيقة لها ، الرجل القوي يقبل يدها لأنه يحترمها ، ويريد أن يظهر مدى تقديره لها أو إذا أرادها لنفسه فهو يلثم البشرة الناعمة بشفة الشوق لأنه يعلم أن بوابة العروج لما هو أكثر من ذلك يبدأ برسائل ذات مغزى ، فهي ـ قبلة اليد ـ تعبير عن رجولة كائن بجوار امرأة محترمة ، والمديرة تتخيَّر طاقمها فهي تريد إدارة فريق عمل لتقدم نتائج جيدة للوزارة من خلال المديرية التي تتبعها ، لذلك ارتاحت لرفيقي في العمل معه ووصفته في احدى الإجتماعات الهامة بأنه :" يدها اليمنى! ، ويمثلها حال غيابها "، فهو على كل حال الرجل الأوحد والوحيد في مجموعته ، والثاني هو راعي البناية ومنظفها ، ولعل ما دعاها ان تقول هذا عنه فطنة المرأة وتجربة الأنثى وقدرات المديرة الناجحة ، فهي شعرت بأن رفيقي رجل يرتدي البدلة المختارة بذوق ، وبعناية يعقد رابطة العنق التي تناسبها ، ومديرته كانت تتصور أن الأعراب لا يحسنون سوى ارتداء " الثوب " التقليدي والشماخ ويضع على رأسه عقالاً ، وكانت تعتذر بأدب جم عن قلة معلوماتها عن الآخر ـ تقصده ـ أو سوء التصور عن أهل الجنوب ـ وهو منهم ـ ، وما جعله مقرب لها أنه يتقن عمله ونادرا ما يخطئ ، وسمعته طيبة مع مَن يعمل معهم ، إنه من جيل تربي على أيدي رجال المحاماة والقانون والقضاة في المحكمة العدلية بالإسكندرية .
هكذا اراد له والده أن يكون وهكذا هم الذين تخرجوا من مدرسة الحقوق زمن ملك مصر والسودان ، أحدهم قال له وهو ما زال صبيا يزوره في مكتبه في وسط مدينة الثغر بشارع سعد زغول :" يجب أن تمتلئ قليلا ، فأنت نحيف ولا تصلح أن ترتدي بدلة وأنت بهذه النحافة ، يجب أن تكون رجلا " .
وحين بدأ حياته العملية بعد تخرجه من الجامعة الفييناوية قَدمَ على رجل متخصص يملك مهارات في مجال تخصصه وخبرة من أهل الأفغان ليدربه ، لكنه دربه على أمر آخر بجوار العمل ، اراد له أن يكون رجلا بمقياس الغرب وعلى منوال الشرق .. معا ، وهي خلطة صعبة التوليف والإخراج ، والمدرب الأفغاني ، سليل آحدى الأسر الحاكمة هناك ، تزوج الغربية الشقراء في مستهل حياته ولم يستطع أن يكمل معها المسيرة وحين بدأت أوراق خريف عمره تتساقط وفي عمر الشيخوخة عاد ليعاشر الأفغانية ذات الشعر الأسود لينهي حياته كما بدأها : أفغاني المنبع والمصب ، فقال لرفيقي ذات مرة :
" لا تذهب إلى عملك أبداً كالآخرين في أماكن عملهم فأنت يُنظر إليك !" ، ويتذكر كلمته :
" عليك أن تكون « شامة » بين الناس " .
الفارق بينهما أن رفيقي بدأ مطلع حياته مقترنا بعربية من مسقط رأسه والآن يعاشر الغربية في موضع قدمه .
نعود إليه لنغزل نسيج قصته من البداية فزميلة عمله « آناليزا » سألته منذ سنوات طوال وبعد أن عاد من فترة نقاهته وتغيب عن العمل ثلاثة أو أربعة أشهر وأحرجته في نفس الوقت ، إذ سألته في أول يوم عمل له وفي أول لقاء بينهما على درج البناية التي يعملا فيها :
" كيف كانت ظلال منتجعك الصحي !!؟" ،
حملق في وجهها ملياً ، لم يستطع الرد ، فهو قد سمع كلمات السؤال لكنه لم يفهم مغزاه ولم يفهم مقصدها ، فالمسألة ليس رص الكلمات بجوار بعضها البعض ، ولم يدري بما يجيب ، أيقول " نعم " حين تستلزم الإجابة لا ، أم يقول " لا " والإجابة ينبغي أن تكون نعم ، وهو لا يميل إلى السهولة بإجابات الموافقة إلا إذا كان الأمر غير مهما ، فهو يريد أن يعرف فحوى الكلام ومقصد السؤال وليس مفردات الجمل .
المرأة القيصرية أدركت موقف الحرج الذي أوقعت رفيقي فيه ، وأدركت ببداهتها أنه لم يدرك السؤال وإن فهم كلماته ، وتحججت بضيق الوقت ، فكان رد فعلها أن توارت من أمامه بهدوء الأنثى التي تركت خلفها سحابة كثيفة من الإستفسارات فغابت كضوء الشمس خلفها ، فارتبك الرجل الذي يظن في نفسه أنه قوي أو ذكي ، تركته في حيرة من أمره ، فانصرفت وهو يردد عدة مرات كأنه يريد أن يسمعها قبل أن تفارقه :
" سمعت سؤالك ولكني لم أدرك معناه! " ، هل تساعدينني!؟ " .
تركته مرتبكاً متحيرا ، ورفيقي لا يقبل هذا الحال ، كما وأنه لا يريد أن تبقى بعض المسائل بلا نهاية ، فقد اعتاد منذ صغره أن المسائل المتعلقة بالمرأة يجب أن تحل جذرياً ، ولو بعد حين ، والسائل امرأة ..ولكنها ماذا قصدت !؟.
أتجه إلى غرفة عمله وهو الذي يتنقل من موضع إلى آخر على مدار يوم العمل الواحد ، وفكره مشغول بالسؤال وليس بالإجابة فهو لم يفهم فحوى السؤال حتى ينشغل بمفردات الإجابة وإن أدرك كلماته ، وسأل نفسه :
" مَن يسأل !؟ " .
وحين أعياه فهم السؤال ، قرر أن يسأل زميلة عمل لهما ، وهو دائما كان يقترب من النساء اللآئي لديهن الصبر الجميل وطول بال ليسألهنَّ عما يريد ، وبعضهنَّ يجدنَّ سرورا لسؤاله ، خاصة كبار السن منهن فلديهن وقت أو مَن تستأنس بقربه ، فمازال هرمون الأنوثة يجري في دمها ، قال محدثاً نفسه :
" إنها اندريا ، سأفهم منها دون حرج " .
في الإستراحة التالية ـ وقت تناول الغذاء ـ ذهب إليها قاصدا أياها لا يلوي على شئ آخر غيرها ، سألها مباشرة:
" أندريا! ما معنى هذا الكلمة :" ظلال المنتجع الصحي " .
وأردف مباشرة :" أفهم الكلمات ولكني لا أدرك المعنى ، أهذا مصطلح تعارف عليه قومك وأنا لا أعرف".
ابتسمت ثم سألته بدهاء الأنثى :
" مَن تلك التي سألتك !!؟" .
ففهم أن القضية ذات مغزى ، هناك اصطلاح لم يدركه وتعارف عليه القوم ، المسألة ليس إتقان لغة القوم أو ضعف فهم اللغة أو صعوبتها ، المسألة هي إصطلاح شاع منذ زمن فتجذَّر في ثقافةٍ شعب مازال هو يقف على شاطئها لم يبحر فيها بعد ، فردَّ بهزات متتاليات في نبرة صوته :
" التي سألتني ... وهز رأسه .. إنها آناليزا" .
فضحكت بخبث المرأة اللعوب فهي تعرفها ، إنها زميلة لها والمرأة تفهم المرأة ، فشرحت له معنى السؤال ، وظهر على وجهه إثناء الشرح السريع علامات الغضب ترافقها إبتسامة بلهاء من رجل ظن في نفسه أنه من هؤلاء الذين يفهمونها قبل أن تطير من عقل صاحبها حين يفكر وتقف الكلمات على طرف لسانه ، وأندريا فهمت بالتالي بما لا يدع مجالا للشك أن زميل العمل « الرجل المشرقي » لم يكن له ״ ظل ״ يتبعه في مصحته ، وهو القادم من الصحراء العربية والذي يحسن فيها نصب الفسطاط وبجواره خيمته الخاصة ويشعل الحطب ويرتجل الشعر تحت ضوء القمر مع ندمائه ، وفي الصباح الباكر يرتحل إلى أقرب نبع صاف ، وهو كذلك صاحب ألف ليلة وليلة ، والمرأة ترافقه كظله في كل هذه الأحوال ـ هكذا يعرف الغرب عنا ـ ، أضف إلى ذلك أنه يحسن الحديث ويحسن انتقاء الكلمات كما يحسن إختيار الهندام والعطر ، فمع كل هذا ولا يملك ظلاً .
قال بصوت مبحوح صدر من أعماقه المجروحة : "وذُلاه!" .
وقال لها قبل أن يشكرها : " لذا أرى أن صحتي مازالت عليلة " .
ضحكا وافترقا وشدت على يده قائله له:" إذن في المرة القادمة ".
« نصيحة رسمية » |
راعي البناية ومنظفها نصحه بعد أن وطد علاقته به ولأمور لا يعلمها رفيقي بقوله :
" صديقي العزيز ، لا تقم علاقه غرامية بزميلة لك في العمل ، فأنت كــ " فاكهة الشتاء في الصيف ، وكمعطف فرو في الشتاء " .
وتابع القول :
" هذا ليس فقط رأيي أنا الشخصي بل كذلك رأي المدير العام ، وأنت تعلم أن المدير يقدرك جداً ويعتز بك زميلا ، والفضيحة بعد أن تنتهي ـ النزوة ـ ستصيب ياقة قميصك الأبيض بقطرات من حبر التصحيح الأحمر في ملفات الوزراة ، فانتبه!! " .
بُلغَ هذه النصيحة الشبة رسمية بعد وقت قليل من تعينه في إحدى مقاطعات جمهورية النمسا الإتحادية بمجرد تخرجه ، ولعل قد جرى شيئاً ما لم يعلمه رفيقي ، وكأن رئيسه في العمل علم به وأخبر راعي البناية بهذه الرسالة ليوصلها بهدوء إليه .
كانا ـ رفيقي ومديره - يذهبا معاً في نهاية سبتمبر وبداية أكتوبر من كل عام إلى القهوة الشعبية المعتادة „Heuriger“ والتي كان يسامر مديره فيها رفاقه ، فيشرب رفيقي عصير العنب الطازج قبل أن يختمر ومديره يشرب ما أعتاد عليه من شراب النبيذ المعتق ، ويتبادلان الحديث في أهم النقاط المحورية ويتناقشان في الأفكار لوضع الخطط المستقبلية ، وكان سعيداً جداً بهذه الخصوصية فهو يتقن عمله ويحسن وظيفته ، بل كان يصرف جل وقته في مؤسسته وكأنه يقوم بعمله مرتين :
فيحسن العمل في المرة الأولى لأنه يعمل في مثل هذه المؤسسة الحكومية ، وهو صاحب الملامح الشرقية ،
ويحسن العمل مرة ثانية لأنه عربي يريد أن يثبت للكل أنه " جيد " بل أكثر من ״ جيد ״ ، فالعيون جميعها تبحلق فيه واللسان يتحرك بسرعة الريح وقوة الإعصار لتصف خطأ ما قد يحدث منه أو من غيره في مجموعته ، لذا فكان يحسن العمل مرتين ، وبالطبع كان هو المرافق الدائم لمديره إذا جاء وفد من دولة ما أو ضيف لولائم الغذاء التي تعقد بعد إنتهاء زيارة المؤسسة ، فرفيقي متحدث لبق ، يحسن الحديث في موضوعات شتى .
كان ذلك في مقاطعة " النمسا السفلى "„Das Bundesland Niederösterreich“ في مدينة „Sankt. Pölten“ , Die Landeshauptstadt“ الكبيرة وقد سكن في ضاحية على طرفها ، وكان سعيداً جدا بشقته وخاصة تلك المساعدات التي كانت تقدمها له ربة البيت كإشعالها الحطب في الشتاء قُبيل أن يعود لشقته بعد يوم عمل شاق ، وإرسال مديرة بيت تنظف الغرف وتكوي قمصانه ، وبعض الإمتيازات الخاصة له من جيرانه كالحليب الطازج والبيض وبعض الأطعمة الجيدة والتي تعد في المناسبات الدينية التي اعتاد الكاثوليك الإحتفال بها ، فالحياة في المدينة الصغيرة أو القرية تختلف تماما عن الحياة في العاصمة فتوجد العلاقة الإنسانية في الأولى والحميمية في الثانية أما في الثالثة ـ المدن الكبرى كالعاصمة ـ فمن يجاورك تربطك به العلاقة البشرية فقط .
تذكر ـ رفيقي ـ هذه النصيحة الرسمية حين غادر مدينته التي عمل بها عدة سنوات حين طلب منه أن يعمل في العاصمة " فيينا " ، تم هذا بعد التقارير الجيدة التي كتبت عنه ـ دون علمه ـ بخط مديره وإمضاء رئيس فرع المقاطعة ، ورفعت إلى الوزارة ، وبالتالي كان يقول لي :
" سبقتني سمعتي الطيبة إلى فيينا قبل أن أغادر مدينتي الصغيرة " ، فتركها وكانت له بحق بستان من الجنة وقطعة من النعيم الأبدي ، ودع ربة المنزل والجيران وزملاء العمل ووعدهم جميعاً بتكرار الزيارة ، ركب سيارته متجهاً إلى العاصمة وما بدخله يرتجف ، فالجديد على المرء غريب ، تذكر رفيقي النصيحة الرسمية التي قالها راعي البناية ومنظفها له من مقاطعة النمسا السفلى وكأنها خطاب رسمي من المدير دون توقيع منه أم ختم المٶسسة أو تاريخ إصدار ، تذكرها حين قالت له أندريا ـ زميلته في العمل الجديدة في عاصمة الجمهورية ، ذات يوم :
" كم أنتَ لطيف ، وتحسن الحديث ، ولكني أعلم أنني لا أصلح لك ! ، وأنتَ كذلك لا تصلح لنا " .
توقف رفيقي قليلاً عند لفظة " لنا " ، فلماذا لم تقل " لي " ، فهل هي قصدت المرأة الغربية بوجه العموم أو النمساوية على الخصوص!؟ ، لم يسأل ، فيكفيه مساعدتها له منذ أن قدم لعمله الجديد وفي كل الأحيان .
أما المرأة القيصرية ذات الهندام الملكي « آناليزا » كانت تروق دائما له ويتودد إليها بحديث خفيف قبل بداية ساعات العمل ، فهي غالباً تأتي مبكرة وهو كذلك ، وهي تملك قواماً ممشوقاً متجانسَ الأعضاء تحافظ على رشاقتها وتهتم بملابسها ولديها حقيبة تجميل ، بعد الإنتهاء من عملها وقُبيل أن تغادر مقعدها تتزين كأنها الملكة وتتجمل كأنها سيدة القصر الوحيدة ، فتترك المكان ورفيقي يقول لها دائما قبل الإنصراف من عملهما :
" سأنتظرك غداً ، والغدُ قريب " . فتترك على قرنيته ابتسامة ، رموزها تفك هكذا :״ ادعو لك بحياة سعيدة ولعل في الأفق أمل ليوم جديد ״.
المرأة القيصرية تجيد الحديث وحين تخاطبه تعطيه كل جوارحها وكأنه الرجل الوحيد في العالم ، وهذا كله من مفردات قاموسه حين يكون الحديث مع امرأة ، ولكنها تعلم أنه شرقي المزاج ، عربي الطباع ، دينه يبيح له تعدد النساء وأن حصرهنَّ في أربع وهذا كثير بالنسبة للمرأة العربية أو الغربية ، ودينها وإن كان يقول بالتثليث ولكنه تثليث في الواحد وهو الآله ، وليس تثليث الرجل ، وهذا العربي سيظل ودينه غريبان ينظر إليهما بريبة على أرض الديانة المسيحية ـ أوروبا ـ ، وهي آناليزا ـ كما كانت تقول أمه ـ امرأة متفرنجة ، فكتفى بالمداعبات الخفيفة والممازحات المؤدبة ، وتلك الخصوصية في الخطاب معه وقليل من الإقتراب على منضدة شرب القهوة صباحاً مستمتعاً بطيب عطرها أو على مائدة الغذاء ظهراً أو قبلة على جبينه أو أكثر في العام قُبيل عطلة نهاية السنة واحتفالات الــ „Heiliges Christfest“ ، وحين تسمع منه في احتفال عيد ميلادها قوله :" أنتِ المرأةُ الوحيدة التي أراها تصغر عن العام الماضي .. حين نحتفل بعيد ميلادك ! ـ تعانقه طويلاً ، وهي ـ آناليزا ـ واندريا يعلما أنه رجل في كامل هندامه يمزج عطره بيده في صباحه الباكر ، لذلك فلا شبيه له ، يملك زمام فرس لم يحضره من صحراء العرب وإن شعرت المرأة بفروسيته ، ويضع على مكتبه ـ ليس اعتقاداً بل من باب الإعلام والإظهار ـ أهرامات الجيزة فيظنه من يراه أنه يتربع على قمتها وإذا جاء وفد من بلد صديق لمؤسسته في زيارة يرافقهم كما يرافق السياح بداخل معبد أبي سنبل في وادي الملوك ، فأحسن تمثيل حضارة آلاف السنين وأتقن دور المضيف فتركت له هذه المهمة في المؤسسة ، ومديرته أرادت أن تظهر بجلاء أن جمهوريتها في قلب أوروبا أرض صالحة لتعدد الحضارات وحوار وتقابل الأديان وتنوع الثقافات ، ورفيقي ـ مثلي ـ تملكَ العلم الغربي الحديث فامسك بزمام تخصصه في يمينه فيتحرك حاملا لقبه الأكاديمي على شارة تساعده في وضعها له دائماً اندريا أعلى بزته على جانبها الأيسر أو يعلقها في حمالة فتضعها آناليزا أمام رابطة عنقه ، وهي الزميلة الوحيدة التي تجرأت في أول مرة على ضبطها والإقتراب منه كثيراً حين جاء وفد الولايات المتحدة الأمريكية لزيارة المؤسسة وقد أحسن المرافقة ، كل هذا يتم بلا غرور ولكن بعزة .
وهو الذي يتعمد أن يقدم لهنَّ ـ زميلاته ـ هدايا في مناسبات الأعياد النصرانية أو أعياد ميلادهن ، كأنه قادم على ظهر ناقة من حُمر النعم ، وهو يعلم أن مروض الإبل وراكبها يحتاج لمهارة غير متوفرة عند الجميع ويفلسف لهم مصطلح „Kameltreiber“ ، ورفيقي يحاكي أصحاب الكريزما الطاغية الجبارة المؤثرة فهو لا يقبل أن يقف خلف الرجال ، مقدم دائما ومكانه الصف الأول ، ففي طفولته استيقظ على تردد صوته في خطبه الجماهيرية من خلال المذياع ، وإذا طل من التلفاز توقف السير في الميادين العامة والشوارع والحواري وداخل غرف المنازل ، وخطيبه الرجل صاحب الكريزما المؤثرة والقائد العربي الوحيد والزعيم الأوحد ، نبي اشتراكية الدولة ورسول القومية العربية وعملاق العروبة ، الذي أمم قناة السويس وهي تحت وصاية التاج البريطاني وداحر العدوان الثلاثي ، الذي قُتل بسهم السياسة المسموم وليس بسهم العشق المحموم ، والموتتان ليستا سيّان وإن كانت النهاية واحدة ، وحين أراد - رفيقي - في مهده أن يقف تعلقت أطراف أصابع يده الصغيرة بمعاطف امثال هذا الرجل ، وفي صباه المبكر اعتمد في تكوين شخصيته على سواعدهم ، دون أن يحفظ كلماتهم أو يرددها وقبل أن يبلغ سن رشده غُرزت فيه رجولتهم مجتمعين غير أنه اختار طريق آخرى وصاحب فكر غير فكرهم واستتر بمئزر يخصه .
والمرأة في حياته دائماُ تلعب دوراُ أساسياً، وسؤال المرأة القيصرية عن ظله في المنتجع الصحي يؤرقه بيّد أن عزاءه الوحيد أنه لم يرى في منتجعه الأول المرأة الأنثى التي يريدها ، فالمسألة ليست مجرد امرأة ، بل امرأة من طراز خاص أو امرأة تناسبه هو ، وهذا ما سيخبرنا عنه في المنتجع الصحي التالي ....
**
« لحظات ... ما قبل تحليق الفراشات » |
مر زمن لا يدري كم عدد شهوره وجاءه من طبيب العائلة اقتراح بالذهاب لمنتجع صحي مرة ثانية لأنه من حقه الأن وفق نظام التأمينات الصحية أن يتلقى علاجا طبيعياً فقبل الإقتراح وقُدم الطلب إلى الموظف المختص وجاء الرد بقبوله وسافر ، وهناك حدث ما لم يخطر على خلده أو يمر على باله ...
فقد وجدها إنها امرأةٌ جمعت أنوثة نساء العالمين بأكملها ووزعتها على أنحاء جسمها المتناسق الرشيق ، إنها أنثى الحريم منذ أن انجبت حواء -أم الحسان - الصبايا والبنات ولعل أفضل ما أطلق عليهن من تشبيه يصف حالهن كلمة " قوارير " ، والقارورةُ تكون من الزُّجاج الذي يُسْرِع إِليها الكسر ولا تقبل الجَبْرَ، أو يراد بها حَدَقة العين على التشبيه بالقارورة من الزجاج لصفائها وأَن المتأَمّل يرى شخصه فيها ، وكأن مَنْ خاطب أَنْجَشةَ وهو يَحْدُو ويرتجز بنسيب الشعر والرجز بالنساء قائلا له : " رِفْقاً بالقَوارير " خاطبه هو نفسه ، فكان ـ رفيقي ـ رفيقا جداً بكل قارورة أقترب منها أو أقتربت منه .
وجدتها الأولى ـ حواء ـ ادخرت لهذه المرأة أن تبقى على الدوام عروس الصبايا وحسناء الملاح وأجمل الفتيات ، وقارورة " القوارير " ، فكان جمالُها يُؤثِرُ رفيقي ومنذ اللحظة الأولى التي بزغ على عالمه حاسن وجهها وقمره ، ويلغي من حوله المكان والزمان ، فلا يرى إلا شعاع عينيها يملؤ حوله الكون فلا يرى إلا ما تريد هي أن يراه ، ولا ينظر إلا إلى ما تريد هي أن ينظر إليه ـ كــ״ آدم ״ مع ״ حواء ״ ـ لا يوجد غيرها فليس أمامه في الجنة أو على الأرض امرأة غيرها فلا يوجد في عالمه جنس نساء ولا في معجمه نون نسوة ولا كتب في قرطاسه هاء تأنيث ، ورفيقي لا ينظر إلا إلى زُرقة سماء عينيها ، ولا يتغطى إذا اشتد البرد او اراد أن يتقي حرارة الشمس إلا بشعرها الذهبي كأن شمسها تغطي شمس الدنيا ، فبجوارها لا يوجد برد أو شتاء وبقربها لا حر ولا قيظ ، لا يتذوق طعم الفاكهة إلا من قطف يديها ، لا يرتوي من فرات الماء وعذبه إلا من نبع أصابعها ، قطرات ريقها عسل جبلي مصفى شهي المذاق يتقاطر من أعالي ثناياها مُزج بمسك رائحة فمها ، إذا تحدثت اختلط العسل والشهد بمعاني كلمات تنطقها بعد أن عجنتها بأحاسيسها تجاهه ، فلا يدري أيتذوق ـ رفيقي ـ حبات عسل حروف كلماتها لجمال حديثها وعذوبته أم لأنها تدحرجت للتو من بين نبع العسل الأصلي : مقدمة ثنايا أسنانها وطرف لسانها فبتلت في حنكها ، وإذا تحدث معها لا يلمح إلا بياض يديها المشربتين بالحُمرة حين تلوحهما في الفضاء كأنها في سماء بمفردها فهي لا تتحرك إلا في الأعالي ، ولا ينظر منها إلا شمسها الساطعة من مفرق رأسها الذي توّج بشعر الحسناء الشقراء ، ولرقتها معه لا يحتاج لنظارة شمسية ، فهي الشقراء الحُميراء التي تهدي له النسمات الربيعية بغض النظر عن تواجده في موسم الشتاء أو وسط الخريف أو في صميم الصيف ، إنها امرأة تضع كل لحمها وشحمها وعظامها في راحة كفه وتقول له:
" احملني ... يا رَجُل ، فأنت رَجُلِي ، احملني لعالمك الخاص بك ، وأنا سأسير معك طواعية " .
تبحلق في عينيه تريد قراءة ما بداخله وتُكمل :
" ... وهذا قلبي وتلك روحي وهاتيك نفسي تملكتهم جميعاً ، فماذا أنتَ فاعل .. يارجلي ... في كل هذه الأمانات !؟ .
هكذا المرأة ، تتسرى مع رجلها بليل لأنها نور قمر سبيله ، وتجاوره الطريق فهي ضياء وشعاع شمس دربه في نهار ، وإن استخدم الرجل لفظة " الرديف " تعبيرا عن ملازمتها له فيقول :
" اردفتها خلفي على حصاني الأبيض ، ولكنها أمامي أحميها وأحرسها " فهي ترافقه على كل حال .
„Elle“ امرأة ولدت من رحم أقوى نساء أوروبا وخرجت من صلب رجل لا تقدر نسائها على الوقوف أمام إغوائه أو إغرائه ، وإن كان من رجال أوروبا ، وعاش في زمن تحرير المرأة إلا أنه تعامل مع نسائها كأنهن حريم السلطان وجواري مملوكات فيذلهن لأنه يعلم أنهن يردنَّه لوسامته ، فيقترب بسرعة البرق من قلب من يريدها لليلته .
وُلدت من امرأة لها إرادة قوية ، حطمتها رغبتها في الإقتراب منه وحبها لهذا الرجل ثم محاولة ترويضه، فلم يروض ، وأبوها لم يردْ أمها إلا للحظات جنونه وقضاء رغباته لم يلتفت إليها كثيراً ليس أكثر من لحظة الإستمتاع ويغادر عالمها لحظة إنتهاء الوطر ، وبغريزة المرأة وهنا يكمن ذكاءها الفطري وحفاظا على جنينها منه طلبت الزواج أمام راعي الكنيسة التي تقع على أطراف مدينة جراتس قرب الحدود مع الجارة السلوفينية ومن ثم زيارة سريعة لمكتب توثيق العقود ، وافق على مضض للإنتهاء من هذه الطقوس التقليدية والإجراءات الرسمية ، غير أنه تركهما معاً بُعيّد ولادتها ولم تراه منذ طفولتها المبكرة حتى أُخبرت بموته عندما أصبحت شابة وزوجة وأم لطفلة في العاشرة من عمرها لتدفع رسوم جنازته ويحصل منها أجرة رسوم الدفن ، ولعل هذا المشهد آحدى محطات الآم عاشتها في حياتها ، والمحطات في حياتها كثيرة وسيلقي رفيقي بعض الضوء عليها إثناء حديثه العفوي عنها .
**
« تربية طفل اليوم شخصية رجل المستقبل » |
حكى لي بالتفصيل المريح عن فترة دراسته في الإسكندرية ثغر المتوسط ، خاصة مرحلة الإعدادي فالثانوي ، فقد تعرفنا على بعضنا البعض في مرحلة الجامعة ، وإثناء رحلاته معي سواء سافرنا إلى فرنسا أو اليونان في العطلة الصيفية عبر البحر الأبيض المتوسط ، حكى لي قصصا وحكايات لم يتمكن من إخباري إياها وقت دراستنا أمام الزملاء ، وقد كنا في فترة الشباب نظن أننا نصنع المستقبل ، وكيف سنبني أمة ونقود دولة فنحن من أبناء جيل صاحب الكريزما القوية ، وقائد العروبة والقومية الأوحد ، وقد تجمعت فينا عدة عوامل شعرنا وقتها اننا سادة العالم ورجال الغد مع آمال كبيرة لا تتحملها بنيتنا الضعيفة ولكنها محاولة ذهنية لم تتعد الخيال إلى الواقع ، مع العلم أننا لم نكن نفهم في السياسة شيئاً يذكر ولم نكن من شبيبة الحزب الحاكم كما ولم نكن من الشبان المسلمين ، وإن تم الحاقنا بهما وشاركنا الطرقية في موالدهم وموائدهم وقد استفدنا قليلا من الخدمات التي تُقدم من كل الأطراف .
بعد تخرجنا توقفنا عن الحديث فلا قصص ولا حكايات بل نريد أن نثبت الذات وأن يكون لنا ظلا تحت الشمس فاتجه كل منا في طريق خلاف الآخر سواء في الدراسات العليا أو الإهتمامات أو العمل الإجتماعي أو التحرك السياسي والنشاط الحزبي ، غير أن الصداقة التي ربطتنا معاً مازالت تجمعنا ، فقد ظهرت إتجاهات مختلفة في طريقة تفكيرنا تختلف قليلا أو كثيرا حسب الموضوع ، فهو اتجه بكليته إلى العمل الحزبي السياسي المبني على مبادئ ثابتة في الطريقة والفكرة ، يجاوره سعة الفضاء في الوسائل والأساليب لتحقيق الأهداف ، رفيقي يصف نفسه أنه من رجال الإستراتيجيات ـ سواء في عمله أو نشاطه السياسي المشبوه فق تقسيم المخابرات العامة ـ فهو يسير في المعترك السياسي على ساقين ، الأولى منها الساق الناصرية التعبوية والساق الآخرى الدينية التراثية بمراجعة واعية ورؤية عصرية ، وكنت أتساءل كيف يجمع بينهما!؟ وهذا أمر يخصه ، فهو من أهل الإختصاص والتخصص ويميل إلى الخصوصية .
سافرنا للغرب - هو سبقني وأنا لحقته – فالغرب وقتها كان لنا النافذة الواسعة التي تمكنَّا من دراسات عليا لنعود للوطن بشهادة الدكتوراه ، كنا نريد أن نقوي الجانب العلمي الأكاديمي لنتمكن من الحصول على كرسي الأستاذية في الجامعة المصرية ، وبعد حصولنا على الشهادة أغلق أمامه باب القبول والتعيين لنشاطه السياسي المعادي لنظام الدولة ورفضه شكل الحكم ، وظهوره بياقته البيضاء التي لوثتها دعارة السياسة من خلال تقارير المخابرات العامة وتوصيات مكاتب أمن الدولة ، وأغلق أمامي لظروف مالية ومعيشية وأسباب حياتية فقررنا البقاء في الغرب وإن أكدنا لمشرف رسالة الدكتوراه عزمنا على العودة بمجرد إنتهاء الدراسة فسهل لنا المرحلة التمهيدية ومرحلة التحضير ويسر لنا الدفاع عن الأطروحة فلم يكثر من الأسئلة الحرجة ولم يبحث عن نقاط الضعف فيها إثناء مناقشتها ، وإن كنا بذلنا قصارى الجهد لتقديم بحث يرتفع لمستوى الدراسات العليا التي تضيف شيئاً نافعا للبشرية خاصة ونحن تخرجنا من جامعة أوروبية عريقة ، ويكفينا فخراً كما قيل لنا: "أننا بحثنا جزئية لم تبحث من قبل في كبرى معاهد أوروبا العلمية " .
وكنا عندما نعود في العطلة الصيفية لأرض الوطن المتروك نملك الوقت الكافي للحديث ومراجعة أوراق ملفات مازالت مفتوحة ، وفوق رمال الثغر وعلى آريكة الإعتراف والمراجعة التحليلة دون طبيب معالج للحالات النفسية التي أصابتنا ، كان يتحدث معي كثيراً .... وذاكرتي وعت الكثير من تفاصيل حياته لم أعلم عنها شيئاً وإن كنت أشاطره السكن في نفس المدينة .
وفي غياب الزوجة " الأولى(!) " والأولاد يبدأ يحكي روايات حدثت له ، وكأننا أمام فيلم هوليودي احسن إنتاجه ٬ أما السيناريو والإخراج فمن طرف رفيقي وهو بالطبع البطل الأول فيه ، وما أنا بصدد نشره الأن ترددتُ كثيراً قبل كتابة كلمة أو سطر عن علاقة ملئت كيانه فادخلته جنة الفردوس المنشود ، وسبب ترددي يعود لحساسية المسألة وخصوصيتها ، فلم أخبره بما يدور في خلدي ، غيَّر ان مداخلة لي على الصفحة الإلكترونية ذكرتُ فيها ما دار بيني وبينه من حوار إثناء سيرنا إلى أمسية قصصية في مركز الثقافة العربية ، كمقدمة مع عرض موجز للقصة التي قُرأت على مسامعنا من القاص وشخصياتها وإلقاء بعض الضوء على السيدات والسادة ضيوف الأمسية وخاصة آحدى الشابات من الجيل الثاني لأقليتنا العربية ، ونجحت الأمسية أيما نجاح ففي نهايتها استمعنا لعزف منفرد على العود وإنشاد بعض الأغاني القديمة ذات الشجون والذكريات لأبناء الجيل الأول ـ عجائز الأقلية ـ والتجاوب الإيجابي والمشاركة في الغناء مع المنشد ، ومداخلتي نشرت تحت عنوان " صالون الأربعاء " ، وما كتبته اعجبه وأثنى عليه فاخبرته بنيتي في سرد أحداث مر بها وآثرت بالفعل في حياته الزوجية وعلاقته بأبناءه ، بل وتعدت إلى وضعها كأطباق فتح شهية على موائد نهش لحوم البشر بـ " القيل والقال " ، وهل علمت ماذا فعل فلان؟ وهل علمت ماذا فعلت فلانه ؟" ، ونشرة كاملة بالغيبة والنميمة تطرح في " صالونات " فضح الأعراض بدلا من تقديم النصيحة ووضع الخط المستقيم بجانب الخط المعوج ، أخبرته بنيتي فرد قائلا :
" دون أن تذكر اسماء ، بلاش فضائح " ، ثم نظر إلى السماء كأنه يبحث عن دليل وأردف :
" ... نحن الجيل الأول في الغرب وخاصة أصحاب الدراسات التخصصية ، تلك الفئة التي أمتلكت لغة العرب وتحمل ثقافتهم في عقل تملك لغة الدراسة الجامعية ويقف على شاطئ الثقافة الغربية ، هذه الفئة لها خصوصيتها فنحن صرنا كالغراب الأبيض فأردنا أن نغرد كالكروان فخرج صوت نشاز وأردنا أن نقلد الحمام فتعثرنا في الطريق ، وقد يستفيد الجيل الثاني من تجاربنا ... " ، رفيقي كان يحلم كثيراً في اليقظة ولعل هذا ما أعطاه قدراً كبيرا من حرية الحركة الفكرية والتخيلية ... فلنشاركه أحداث " ظله المنتجعي " دون غيبة أو نميمة .
***
« ELLE » |
أرادت أن تتميز بل أرادت أن تنفرد بأمور عدة عن سواها من بنات جنسها ، وعملت على تميّزها بكل ما أوتيت من قوة ، فاختارت أفضل الثياب وارتدت أغلى الجوارب الحريمية وتزينت بذوق خاص وجعلت اكسسواراتها مكملات زينتها خاصة لها وحدها ومع ما يبدو عليها من إناقة عصرية كانت تخفي ظلال حزن فهي لم تحمل صليباً قط بين نهديها ولم تضعه على صدرها البارز ، غير أنها حملت آلام وعذابات السيد المسيح كما صوّرت فحملتها جدران المعابد ورسمت فعلقت كلوحات الكنائس وتجدها في سقف كل كاتدرائية ، وفي كل زاوية منها وفيها ، وقُدمت كأعمال فنية على الشاشة الفضية أو شاشة التلفاز ، كانت بنظراتها تناديه بإستغاثة عالية درجة الإنسانية فيخرج من بين شعاع عينيها نداء يقول له :
" أنقذني مما أنا فيه ، أنقذني مما أتألم منه وأعانيه " ، ترسل له إشارات متتالية متلاحقة تقول له :
" أنتظرتك طويلا كي تنقذني مما أعاني منه " ، فهي لا تنام جيدا ، وتريده قبل أن يستدل الستار على نهاره أن يكون صوتها آخر من يلمس طبلة أذنه ، وفي منتصف الليل وقبل أن يغفو القمر فقد سهر الليل كله وأُرهق من تنهيدات العشاق فتريده أن يظل مستيقظأ لينادي على القمر فيفيق من نعاسه ، وفي السحر ترغب أن تتحدث معه قبل تغاريد الطيور ، وقبل بزوغ الفجر تلمس لوحة أرقام الجوال على هاتفها ليغرد صوتها قبل أن يغرد الكروان ، وعند تباشير الصباح ينبغي أن تكون أول طارق على باب نهاره وفي أستراحة التاسعة ضحاً حين يشرب قهوته تريد أن تصبها له ، وقبل منتصف النهار تذيب روحها بين حبيبات العصير قبل أن يتناوله قُبيل الغذاء ، وعند الثانية ظهراً تذكره أن لا يفكر إلا فيها ، وعند الخامسة عصراً تضع له حبات السكر في كوب الشاي وتلمس بشفتها بعض قطع البسكويت قبله ، وعند مغرب الشمس التي أخذت لونها من شعرها الذهبي فهي أول من يستقبل معه بداية الليل الطويل فهي لا تنام جيدا ... تتمنى له عشاءً هنياً .
وهكذا فهو الرجل الوحيد في هذا العالم .. فحين تستيقظ الشمس من مرقدها تتحدث معه وحين تشتد في كبد السماء فهو رفيقها ، وحين تتأذن بالغروب فرفيقي معها على خط الهاتف المحمول.
امرأة أشعرته ، بل ترغم الدنيا على الإعتراف بأنه الرجل الوحيد أمامها ومعها في هذا العالم ، فإذا تحركت هبت نسائم الربيع في حر أغسطس ، وإذا مشت تسارعت حبات المطر لتلطف له المناخ القائظ ، وإذا نظرت إليه شعر بالدفء وإن سكن القطب الشمالي المتجمد في صقيع الشتاء ، وهي ساعته الصيفية والبيولوجية ، وهي التي توّلد أيامه من خُصل جدائلها ، أما إذا لمست يده فهو في توازن داخلي وخارجي فتملٲ كيانه طمأنينة النفس وهدوء الروح واستقرار القلب فتسري بكامل جسده سعادة أهل الفردوس ورضا سكان جنة الرضوان .
أينما رحل أو حلَّ فهي ترافقه ، وهكذا ينبغي أن تكون المرأة العاشقة أو التي يبحث عنها الرجل العاشق بين النساء .
**
« „Bad Hofgastein“ » |
أخذت الجمال كله كنصيب لها وحدها ، ورثته عبر الأجيال من منبع الجمال الأول ومصدر الأنوثة الأصلية ـ حواء ، الأنثى الأولى التي جمعت خصائص النساء وبذرتها على تربة خصبة ـ وتركت الفضلَ لبقية بنات جنسها ، عرفت كيف تتعامل مع رفيقي كرجل ، إنها كشوامخ الجبال تحتاج لبعض المعاناة في طريق الصعود من سفحه لتبلغ قمة الجبل ، أراد القرب منها فجلس أول مرة في المقعد الذي خلفها إثناء القداس في كنيستها ، هو لم يذهب للصلاة بل كان مرافقاً لـ " سيلفيا " „Sylvia“ ، وظن أنها ستسلم عليه حين تنتهي الصلاة قائلة له كغيرها:
" سلام الآله عليك " „Friede sei mit dir“ ولكنها لم تلتفت إليه ولم تنظر خلفها بل إنصرفت بمفردها وهو انصرف مع „Sylvia“ ، فهو كان مرافقا لها للقداس والتي ظنتها زوجته ـ كما أخبرته بذلك فيما بعد ـ ، والمرة الثانية رأته هي فقط حين جلس بجوار „Sylvia“ على طاولة ضمت غيرهما من نزلاء المنتجع الصحي ، وهو لم ينتبه لذلك ولعلها لاحظت الحميمية التي أبداها لـ „Sylvia“ حين يتحدث معها أو يسير بجوارها أو حين صحبها إلى الحفل الموسيقي في يوم إفتتاح المنصة الجديدة في الحديقة العامة بوسط المدينة والتي أفتتحها عمدة مدينة „Bad Hofgastein“ بحشد من رجال السياسة والأعمال ووجهاء المدينة فهو يسير بجوارها وبالقرب منها ، أما ماريا ـ صديقتها أو جارتها على مائدة الطعام ـ فتسير بضع خطوات بعيدة عنهما ، وتقترب كثيرا منه حين يستفسر عن أشياء متعلقة بثقافة وتقاليد وعادات شعب النمسا ، وبالطبع كانت „Sylvia“ تجاوب بحبور وسرور عن أسئلته وماريا تكمل الجواب إذا رأت عدم استفاءه أو لا تستطيع „Sylvia“ بمفردها الإجابة عليه ، وهو يحسن هذا الدور ويتقنه ، دور السائل وهو يحسن صناعة الديالوج " الحوار " فيقنع المسؤول أو السامع أنه يريد أن يعرف ثقافة الشعب وتقاليد وعادات شعب الإمبراطورية التي أصبحت جمهورية ديموقراطية حديثة وقد لاحظ أن الناس عموماً لم تحتفظ بالكثير من التقاليد الموروثة وصارت فقط أوصاف داخل صفحات التاريخ المهمل كبقية الجمهوريات الحديثة الولادة سواء في القارة الأفريقية السمراء أو الأسيوية ، ونمطية الحياة العصرية أفقدت الكثير من شعوب العالم خواصها أو تقاليدها وصارت الأمركة هي التقليد السائد ليس فقط في دول العالم النامي أو شعوب بلدان العالم الثالث كما وصفها المارشال شارل دي جول بل وأيضاً في دول القارة الأوروبية " القديمة " و " العجوز " ذلك الوصف الذي أطلقه دونالد رامسفيلد عليها ، ولكنه ـ رفيقي ـ يميل إلى الرومانسية في شؤونه كلها بل ويرغب أيضاً في الحوار وحين يسمع الإجابة يبنى عليها سؤالا أو بالآحرى استفسارا جديدا ، إنها لعبته المفضلة يريد ان يطيل الحديث مع المرأة التي أعجبته ، ويغذي الحوار بالأسئلة القصيرة كـ : لماذا !؟ ، وكيف !؟ ، ومتى!!؟ ، والضحية عنده أو المسؤول يتبرع بالإجابة ، خاصة ورفيقي يحمل علامات مشرقية كثيرة : كلون جلده القمحي وشعره المتجعد وملامح وجهه وشكل جبهته ومخارج حروف اللغة الألمانية حين ينطقها على مسامع أهل اللغة الأصليين ، إنها عوامل كلها تدفع بالمسؤول أن يجاوب ، ولعل قربهما ـ رفيقي و„Sylvia“ ـ وهما يجلسان متجاوران على المقعد الطويل أمام الطاولة ، ويشاركهما لفيف من نزلاء المنتجع ، ويبلل ريقه من حين إلى آخر بقطرات الماء الطبيعي الصحي المثلج من قنينة „Römer Quelle“ فقد كان الطقس صحوا والجو حارا ويظن رفيقي أنها كانت تحتسي كوبا من الجعة المثلجة ـ فقد كنا في النصف الثاني من أغسطس فلقربهما هذا وكانت „ELLE“ تراقبهما ، وللحميمية الظاهرة بينهما ظنت أنهما زوجان ، وهي ـ كما أخبرته ـ كانت تتابعهما من بعد ، إذن فهو كذلك لفت انتباهها .
رفيقي من طراز الرجال الذين يحسنون معاملة الآخرين خاصة النساء ، ويتقنون الحديث وفن المجاملة وهو يملك كل مفردات الرجولة ـ هكذا يظن ـ فيوظفها ببراعة ويظهرها في كل لحظة ، فيلاطف جليسته ويلاعبها بكلماته ويتخير الفاظه وتراكيب جمله ويغدق أوصاف المديح ويتغزل فيها إذا واتته الفرصة وهو يعلم متى ينبغي له ان يتحدث بهمس بالقرب من قرط إذنيها ، ومتى يصلح له أن يتحدث بصوت مرتفع كأنه على خشبة مسرح الحياة وأمام جمهور ، وبعض النساء ـ „ELLE“ منهن ـ تريد هذا المشهد أمام الآخريات لتظهر لهنَّ أنَّها تملك ما لا تملكه بقية النساء ، ولأنها تمتاز بهذه الخواص ، الأنوثة المفرطة في الجاذبية والجمال الساحر الذي يشد الرجل إليها وإن سكنت مظاهر الرجولة فيه وخبئت ملامح الفحولة في آسارير خريطته الآدمية ، وضعفت الغدد في إفراز الهرمونات المنشطة داخليا ، فلخصائصها هذه وتركيبته النفسية والعقلية واسلوب تربيته استحدث ـ رفيقي ـ على مسمعها كلمات غير موجودة في قواميس اللغة المعتبرة إنها كلمات نحتها من خياله الخصب وترجم مفرداته من لغته الأم وقراءاته المتعددة وثقافته ذات الغور العميق ، فكانت تسمع تعبيرات لم تسمعها من قبل لم تتداول في كتب العشق وروايات الحب وكانت تقول له دائما :
" أفهم ما تقول ، أدرك تماما ما تفوهت به ، ولكن هذه الكلمة ليس لها وجود في لُغَتي أو قاموس عصرنا ، ولم اسمعها من قبل ، بل لا تستخدم هكذا إنك تخالف كل قواعد اللُغة وما تعارف عليه الأدباء والكتَّاب ، ولكن ما أعذبها من كلمات حين تخرج من بين شفتيك ويحركها لسانك الرطب فتطير كالفراشات فتقع على مسمعي فتُحيي شيئا ما متعطشة تماما له بداخلي " .
وحين يتراجع عن كلمته التي قالها على أذنها بصوت خفيض ، متعللاً بقولها:
" لا يوجد لها وجود في لُغتي!؟ "، إذ أن المعنى يفهم بصعوبة ولكنه يدرك من سياق الحديث وتركيبة الجملة ، أدركت ما يقول بتكرار المحاولات وسعدت به ، واعتادت على سماع تراكيب جمله ومقاطع تفكيره بكلمات منحوتة من أصل موجود لكن اللفظ غريب بل مهجور بل في حقيقة الآمر غير موجود بالمرة فلا يستخدم اللفظ هكذا ، وهو الذي يقول لها غير مرة متحديا علماء اللغة وواضعي قواعدها:
" لكِ ، وحدك ابدع كلمات واصنعها على مقاس قُطر رأسك كتاج لكِ حال ما ينتهي صائع السبائك الذهبية من الإنتهاء من تاجك الذهبي ، كلماتي اكتبها لكِ على غلالة رقيقة من الحرير الخالص بقدر طول قامتك ، وعلى شال بقدر المسافة بين كتفيك ، وأطرز لك وشاحاً يحيط بخصرك ، كلماتي والتي تنبع من سويداء قلبي تعلو فوق قمتيّ نهديك لتتأرجح على هضبتي مؤخرتك ، فأنت امرأة يجب أن يصنع لها قاموسا خاصا .
تحرجت قليلاً لكلماته الجريئة وخبئت خجلها خلف إبتسامة ساحرة ثم قالت له :
" إذن نكتب معا قاموسا جديدا للحب .. مفرداته .. نصنعها سوياً " ، فقال :
" سأكون كاتبك الأمين " .
إذن ضيفتنا الساكنة في مهبط رأسها مدينة „Graz“ ستكون بطلة أحداث قصتها مع رفيقي والتي أُعجبت به منذ اللحظة الأولى منذ تواجدهما معا في القرية النموذجية كمثال رائع لما تعارف وأطلق عليه „Kurschatten“ .
**
« الرجل المشرقي » |
هو يملك الفحولة وعظم الخُلق ونبله ـ فهو صديقي القديم على كل حال ـ ويملك موهبة مسرَّحة الأحداث أمامها بإخراج فني قدير ، وهو القائل دائماً :
" نحن البشر نعيش مرة واحدة ، فلنحيا كما نبغي ، ونرسم عالمنا ونلونه كما نريد وفق الآطر المسموح بها " .
فينحني أمامها إنحناءة العبد حين يريد أن يحييها ـ وهذا يعجبها ويرضي كبريائها ـ خاصة أمام جمهور ، ولحظة الإنحناء يُقَبِل يدها إلا إنه إثناء لحظة التقبيل يرسل رسائل غامضة مبهمة تشعر هي فقط بها مفادها : أنه يقبل يدها كأمير وينحني أمامها كملك ـ وأن جمع الأضداد ـ العبد ، الذي لا يملك حريته ، وهو نفسه الأمير الذي تُوِّج حالاً على إمارته ، يجمع روح الأسير الذي لا يملك حريته ، في نفس اللحظة الذي يظهر فيها كملك قاهر ظافر ، الذي يعلم الكل أن رغباته أمر قابل فقط للتنفيذ ، يقبل اليد بُعيّد لحظة الإنحناء أو يسبق فعل أحدهما الآخر فهذا فن يحتاج لإعمال نظر ويقظة ذهن ، ويتحرك بجوارها مشعرا إياها أنها أميرة الأميرات إن لم تكن ملكة الملوك وسيدة القصر .
كان يحسن هذا الدور جيدا فقد كان يرافق أمه حين تذهب لزيارة الأقارب أو تسير معه حين تريد الذهاب إلى السينما ، فالوالد ألزمه دون أن ينطق بكلمة أن يكون المرافق لها ، وهو كان صاحب كريزما قوية تحس بها المرأة فإما تقترب منه أو تغادر المكان فلا تطيق البقاء في مكان يجمعها معه ، ففي آحدى المرات ـ حكى لي بكبرياء أو قل بغرور ـ إذ إثناء ركوبه في مترو أنفاق المدينة الخط رقم " 4 " صوَّب نظره بشكل ملحوظ حاد لآحدى النساء التي أعجبته لهندامها التقليدي „Trachtkleid“ والخاص بمقاطعة سالزبورج والذي يسمى „Dirndl“، وهو معجب بهذا الملبس للنساء ، وكانت تحاول الهروب من ملاحقة نظراته وهو يجلس مقابل لها في نفس المكان الرباعي المقاعد الذي يلي مباشرة باب الركوب وبجوار الشباك ، ولم تستطع البقاء طويلا أسيرة هذه النظرات وهمهمت بكلمات لم يفهمها فهي ليست ضاجرة منه بل ـ كما فهم ، وأحيانا يفهم كما يريد أن يفهم هو ـ تريد الجلوس بمفردها فغادرت المقاعد وإن لم يجاورهما آحد وهو الذي ركب بعدها وكأن حال لسانها يقول له :
" ليس هكذا ينبغي أن تنظر إليَّ يارجل!!! ومن حولنا الكثير من الركاب الذين قد يتابعون حالك هكذا معي " .
ولعل هذا هو السبب المقنع الذي دعاها بعد لحظات قليلة أن تقرر ترك المقاعد الأربعة خاوية له وذهبت إلى مكان آخر ، وهي الأريكة التي تكون في نهاية أو مقدمة القاطرة قائلة :
" ارجوك لا تنظر إليَّ مرة ثانية هكذا !" .
غير أنه تبعها مباشرة وسار خلفها ورافقها إلى مقعدها الجديد وسألها حين جلس في المقابل لها منحنياً دون أن يقبل اليد :
" أرجو أن لا أكون قد أزعجتك !؟ " .
فقالت له بهدوء وإعجاب الأنثى بالرجل المهذب :
" أنت تنظر إلي بشكل ملفت للإنتباه ، ماذا سيقول الآخرون عني وأنت ترمقني هكذا وبهذه الحدة ، عيناك شديدتان التأثير وإني اردتُ أن أبتعد عنهما وليس عنك " .
بيَّد أن الأنثى ولجبلتها ترتجف من داخلها ـ دون أن تظهر ارتجافها ـ إذا أحست بمَن يتعدي بنظراته انسانيتها إلى خصوصيتها .
هو يحسن هذا الدور ـ مرافق النساء ـ جيداً ، إنه تربي بين الحريم والنساء ويملك وعياً عاماً بهذا الخصوص والمرأة تلاحظه وهو يحس بذكوريته أمامهن ويباشرها كرجل يحمي النساء ويرافقهن دون قصد ذكوري فاضح - إلا لمَن يريدها - ويحسن معاملتهن بشكل جيد ، فمنذ صغره تربى على أن يظهر هذا الجانب مع النساء فقد تربي منذ صغره على هذه العلاقة مع جدته خلال سنوات طفولته المبكرة ، ثم مع أمه سنوات صباه ومرحلة مراهقته وأيام شبابه ، وأدرك بوعي كامل ما قالته له جدته فقد كانت تقول له دائما:
" أنت رَجُلِي " . حين مات جده ، فلما ماتت جاء دور أمه وهي التي قالت له ذات مرة :
" إنني أعيش في هذا البيت مع أبيك من أجلك أنتَ ، فأنتَ رَجُلِي " .
صحيح أنهما ـ جدته لأبيه وأمه ما نظر إليهما على أنهما من الإناث ، لكنه تربى على دور الحامي أو الذي يجب أن يلعب دور الحامي وأجاد دور المرافق المهذب الذي يحسن الحديث وإلقاء المزاحات والنكات ولطائف القصص والتي كان يتعمد أن لا تنتهي في المشوار الواحد أو المرافقة الواحدة حتى يكون له - كما يدعي ـ شرف المرافق في المشوار القادم ٬ والواقع أن جدته كانت تريده دائماً الرفيق لها عن بقية احفادها وهم كثير ، مما اعطاه قناعة أنه " جيد " ويحسن أداء الدور ، بل إنه أكثر من جيد ، فتلاحق المرافقات والمواقف أثبتت صدق هذا الإدعاء .
إذن فالتهيئة النفسية والذهنية لدور متصور في الوجدان والخيال أضف إلى ذلك تلك المشاهد التمثيلية على الشاشة الفضية قامت بدور محوري لمن يريد أن يجسد الدور على الواقع الإفتراضي ، أو الواقع المأمول حدوثه ، والفرص كانت تأتي متوالية .
بعدهما -الجدة لأبيه وأمه - جاءت علاقة من نوع جديد مغاير تماماً لهذه العلاقة ... هي علاقة ذكر بأنثى ، علاقة المحب الحامي لمن يريد الحماية ومن يقدر عليها ، علاقة القوي بالجنس الضعيف - كما يدعى - إذا نظرنا لكليهما نظرة بيولوجية من حيث تركيب العضلات وعددها وقوتها ، علاقة السيد بالسيدة ، وحتى علاقة العمل وإن كانت هي زميلته في نفس الموقع فهو لا يفهم الزمالة بالتساوي بينه وبين المرأة هو يفهم الزمالة على أنها امرأة ، زميلة مع رجل وليس مع زميل مثله إنها ـ الزميلة ـ أنثى ، امرأة وهو زميلها رجل فحل ، حام وهو حتما يغيَّر حديثه سواء في العبارات أو نبرة الصوت أو الموضوع أو حتى المزاح حين يتحدث مع زميلة امرأة وليست أنثى ، فالأنثى ترغب في سماع كلمات الإطراء وتخشى أن يزيد الرجل ، والرجل وإن قلمت أظفاره مع تقدم المدنية ومعايشته للحضارة إلا أنه ما زال يحمل شبكة صيده وحربته داخل معطفه ولديه قدرة الوثب على مَن يطاردها .
حصر العلاقة بين الجنسين بمظاهر الذكورة وعلامات الأنوثة ليس غير ، يحول المجتمع إلى غابة من وحوش آدمية تريد أفتراس الكائنات الضعيفة كنمر بنابٍ يتغذى على لحم غزال يرعى بين الأعشاب ، مع أن المثال يعبر عن مسألة حياة أو فناء للحيوان المفترس ليسد جوعته ومسألة إنماء للحيوان الذي أُفترس ، لذلك فهو ـ رفيقي ـ ينتبه إلى مسألة هامة : أن ليس كل النساء حواء وليست كل حواء أنثى وليس كل انثى تشتهى ، وليس كل ما تشتهيه تجنى ثماره فهناك فارق بين الطفل والرجل ، ويسيطر على عقل رفيقي ومشاعره تربية جدته - رحمها الله - له من حيث مقياس الحلال والحرام ، وهي التي اصطحبته معها مراراً إلى " سندرة " جامع " سلطان " بشارع " عمر بن الخطاب "، ممسكاً بطرف " الملاءة الحرير اللف " الإسكندرانية ليسمع مع بقية الأرامل - زميلاتها - درس ما بعد صلاة العصر من صوت الشيخ أحمد دون ٲن يراه ، وهذا جانب يذكره رفيقي دائماً كمثال على فضل جدته لأبيه عليه من حيث بذر بذور الإيمان والخوف من الرحمن وهي ما كانت تسميه التقوى وتشير بيدها إلى موضع قلبه وتقول له:
" ها هنا .. ها هنا " .
وتقرن الدين بالدنيا فلقد كان من الدروس الأولية في حياة جدته معه قولها المأثور والذي تحول مع الزمان إلى قاعدة من قواعده الذهبية في إنتقاء النساء :
" ... وإن عشقت .. تعشق قمرا " .
فتعلم أن هناك امرأة يجب أن تحترم ، وهي ليست له ، وأن هناك أنثى قد تعجبه كرجل وقد تكون له ، وجدته تقرب له المثال في " سندرة " النساء بالقرب من سقف الجامع بأن تفرش ملاءتها السوداء الحرير ثم تجمعها قائلة له :
" افرش ملاءتي الحرير بحلال ، فهذه الملاءة ، لكَ أن تلمس طرفها ، ولك أن تفرشها أو تفترشها ، وهكذا بقية النساء " .
ثم تضع غطاء رأسها الأبيض في زاوية من زوايا الملاءة الأربع وتقول:
" إياك أن تطأ خماري ، فلقد اشتريته من مكة المكرمة ، ولقد فككته فقط أمامك فأنت ابني ، ولا تفك خمار امرأة إلا إذ ملكتها " .
وقصت عليه الكثير من القصص والحكايات والخزعبلات والأساطير بل يمكنني القول أنها حددت له آطر الثقافة العامة التي يتجول بين حنايها والميول الأدبية بصفة عامة ومبادئ التربية الأساسية وقدرا لا بأس به من السلوكيات ، ثم جاء من بعدها من أكمل معه المشوار .
**
« بداية التعارف » |
لمحها إثناء تناول وجبة العشاء وفي الصالة الكبرى بالمنتجع الصحي المشهور ، انتبه لها حين وقفت مبكراً نسبياً لتغادر المكان فهي لم تتناول وجبة عشاءها كاملة كما يفعل البعض ، وقفت لتودع جلساء المائدة التي رافقتهم عليها العشاء ، وغالب ظنه ـ رفيقي ـ أنها جاءت في نفس اليوم الذي لمحها فيه ، فلعله اليوم الأول لمجيئها فهو لم يرها من قبل على هذه المائدة ، حيث أنها المائدة الأولى في الصف الأول عند الدخول للقاعة الكبرى ، وقد تبقى له اياماًً معدودة في منتجعه الصحي .
ألقت على كتفيها وشاحاً أقرب إلى السواد ، غادرت القاعة بسرعة فهي قريبة جداً من بابها ، وهو مازال في بداية تناوله لعشاءه وكان طيب المذاق ومن عادته أن يأكل ببطء ومن عادته أيضا أنه يحتاج لونيس بجواره إثناء تناوله الطعام ، عادات يكتسبها الأبن الوحيد في العائلة .
رفيقي يبحث عن امرأة بمواصفات خاصة فهو لا يرى آية امرأة فالنساء كثير ، هو يريد امرأة ذات ملامح خاصة ذات جمال جذاب ومواصفات معينة ، لا يريد مجرد كائن أنثوي بل يريد كما علمته جدته لأبيه ״ قمرا ״ منيرا ، كما أنه تعود أن لا ينقض مباشرة على فريسته ـ أنثاه ـ بل يراقبها زمناً ، يعمل على إرباكها ، يسمر نظراته الحادة القوية تجاهها ، لا ينظر لا لشئ إلا إياها ، فإذا انتبهت بأن هناك عيون مراقب نظرت إليه مستطلعة وكأن عيناها تسألانه دون حروف أو ألفاظ :
" لماذا تنظر إليَّ ...هكذا .. أيها الرجل !؟ " .
فإذا أعيتها المراقبة ولفضولها ، فهي تريد أن تعرف ماذا يريد هذا الرجل منها ، فيُسهِل عليه هذا الموقف الذي يشوبه القلق والإرتباك أن يبدأ حواراً لن ينتهي ، فالمرأة تنتبه بسرعة أكثر من الرجل لمن يراقبها أو يلاحظها فهي تريد أن تعرف ماذا يريد منها .
قد تكون في هذه الأمسية لم تلحظ وجوده بل بالتأكيد لم تنتبه لوجوده أصلا في قاعة كبرى تضم أكثر من ثلاثمائة مريضاً مثله أو على أقل تقدير لم تدرك نظراته ، لكن حتماً سيقابلها غداً أو بعد غدٍ فهو مازال أمامه أكثر من اسبوع زمان في منتجعه .
هذا هو يوم الخميس قد مضى سريعاً ، والثلاثاء القدم سيغادر المكان كله ، إذ ستنتهي فترة علاجه .
**
« ليل طويل ساهر » |
خرج بعد العشاء يتمشى لا يقصد مكاناً بعينه غير أنه قابل „Sylvia“ في الطريق حيَّاها وأكمل الطريق مظهراًً أنه سيذهب لمكان ما أو موعد هام ، تأكد ان المقابلة ستتم بالرغم من أنه لا يدري رقم غرفتها ولا اسمها ولا أي شئ عنها ، ظن أنه في صباح الجمعة سيقابلها عند تناول الفطور في قاعة الطعام ، لكن لم يحدث!؟ ... أين هي إذن ؟
أخذ يفكر ويفكر ، ما الذي جذبه إليها ٬ ما الذي بهذه المرأة جعله هكذا يريد أن يراها ويريد أن يتحدث معها ، رغم أنها غريبة عنه ولكنها هي تلك المرأة التي يريد أن يتحدث معها وإليها ، العجيب أنه مكث أكثر من إسبوعين في منتجعه ولم يلفت إنتباهه امرأة والنساء كثير وعلى طاولة الطعام كان دائماً تجلس بجواره نساء أو حوله ، وكنّ نساء يحملنّ مواصفات الجمال في قاموسه الذكوري : الشعر الشمسي ، بياض الجسد الخلاب كحَلْبَة الفجر : الحليب الكامل الدسم ، الطول المعتدل ، القوام الرشيق ، الصوت الملائكي ، العطر الجذاب الذي يفوح في المكان كأنه خرج للتو من أكمام الزهور ، ومع كل هذا لم يكن ير أمامه نساء إلى أنْ قدمت هذه السيدة إنها تملك هذه المغناطيسية ذات الجاذبية العملاقة ، والتي لا يملك إلا أن يتقدم إليها ويقف أمامها مقبلاً يدها ـ إذ سمحت ـ ويطلب منها أن تبادله الحديث من خلال خطوات في طريق يحدد هو معالمها بعد التعارف ، ذهب إلى فراشه يحلم ، فليس أمامه سوى حلم جميل .
**
« القدر » |
وقدراً يراها أمامه ، في منتصف اليومه التالي لمجيئها ، تطل كشمس الصباح لطيفة ، وبرائحة الزهرة الندية تعبق المكان ، تتهادى في مشيتها كأنها تقول له :
" أنتظرتك طويلا ، أين كنتَ! " .
إنها تتحدث بعينيها الزرقاويتين دون أن تحرك شفتاها ، دون أن تنطق بحرف أو بكلمة واحدة ، رأها وهي ترتدي قطعة السباحة الواحدة ، قطعة سوداء على مساحة عريضة بيضاء .
امرأة يظهر من الوهلة الأولى أنها تتخيَّر ملابسها حتى قطعة السباحة التي تغطي مفاتنها أو بتعبير أدق تكشفها ، فهو لا يملك إلا أن ينظر إليها وهو ينظر فقط لعينيها ، قطعة السباحة التي ترتديها كأنها فُصِلَتْ لها ، كأنها ترافق جسدها منذ لحظة خلقها كامرأة ، منذ لحظة مولدها ، لا تحتاج إلى ضبط أو تعديل ولا تدخل بين ثنايا الجسد في مناطق تحرجها ، ولا تظهر ما لا تريد أن تظهره ولكنها كغلالة رقيقة تكسيها ، كورقة التوت نمت على قدر حجم بضعة من جسدها ، تقابلا هكذا دون ملابس المدنية ودون تلك القطع الصناعية ودون قطع قماش تسمى بدلة أو فستان يحشر المرء جسده فيها أو يقف خلفها ، ثم بعد مرور قليل من الوقت تمتلئ الثياب برائحة العرق أو العطر حسب من يرتديها ، إذن موعدهما الأول كان هكذا أريد لهما أن يلتقيا دون ملابس الزينة وإكسسوارات الموضة وتقليعات بيوت الأزياء العالمية أو المحلية ، كآدم وحواء ، ولحظة الخلق الأولى ولحظة التعارف بين كائنين مختلفين لكنهما يكملان بعضهما البعض لحظة الإحتياج ولحظة الشوق ولحظة الراحة لحظة الهدوء النفسي ولحظة أن تشبع الروح فيرتوي ظمأ الجسد ، وهما بشران بعلوية ملآئكية فيسبحان في علو وبآدمية أرضية لهما متطلبات فينجدلان تحت نجوم السماء لحظة الخلق .
**
« مكان اللقاء الأول » |
„Tepidarium“غرفة " البخار المتطاير في السماء كالسحاب " الغرفة ذات الأصول الرومانية أو الحمام التركي مع التعديل ، إنها غرفة صغيرة يتصاعد منها بخار وتسمع خلفك خرير ماء ينسكب مذاب فيه أملاح ، وأنوار مختلفة تتغير كل لحظة تتساقط على جدران المكان كأنها أضواء من نجوم سماء .... تريح الأعصاب ، هي جلست مقابل الباب وجلس رفيقي في ركن منها يمكنه أن يراها منه جيداً ، ألقى عليها التحية ، خصها بها وحدها وأخذَ يلقي نظرة تلو نظرة عليها كأنه يريد أن يقول لها :
" إني أخصك أنتِ بالتحية وأخصك بالنظر ، أخصك دون سواك ، فلا نساء بجوارك تصلح أن أنظر إليها ، بل لا نساء غيرك في هذا العالم ، وأخصك دون غيرك وأخصك دون بقية الموجودين بـ" غرفتنا " " .
والنساء يعجبهن هذا الإهتمام والإختصاص والتخصص وهو يحسن هذا الدور إذا أعجبته امرأة .
كان معهما في " غرفتِهما(!) " رجلاً يكبره في العمر وأبدى مباشرة استيائه منه ومن نظراته لها وهو يعلم عنه بعض الشئ ، فشريك " غرفتهما " أدرك أن رفيقي يتحدث لغة قومه بشكل جيد مع بعض أخطاء قواعد اللغة لا ينتبه لها إلا الدارس لقواعد اللغة ، ورفيقي ينطق الألمانية بلكنة أجنبية فقد تعلم لغة الدانوب في بداية الثلاثينيات من عمره ، وهو - شريك الغرفة - علم انه حاصل على درجة علمية اكاديمية عليا ، ولا يستطع أن يقول كلمة لها ناصحاً اياها أمامه باللغة التي يفهمها ، وأن تبتعد عن هذا الأجنبي ، كل ما استطاعه وقدر عليه أن يُظهره هو استيائه من خلال نظراته إلى رفيقي ، ثم توالت الضيوف على "غرفتهما " ، البعض يعرفه فتمتم عدة مرات برد التحية ولكن بقى تخصص التحية لها وحدها ، وابتسمت إحداهن له مظهرة أنها أدركت أنه معجب بالمرأة الجديدة على المنتجع لم تقل شيئا سوى النظرات إليه وكأنها تشجعه على الإستمرار في تخصصه .
في " الغرفة " كل منهما يلتف بملاءته وهي لفت ملاءتها حول وسطها وأردافها وساقيها وتركت الصدر مكشوفاً عارياً ولكنها حين أرادت الإستئذان وانتهى الوقت المخصص للبقاء في غرفة " الغاز المتطاير في السماء كالسحاب " غطت صدرها ، والمرأة تكشف الساق أو الذراع حين تريد وتغطيهما حين تريد فالدلال والعفاف والكشف والغطاء والتبختر والحجاب لعبة تتقنها كل النساء الجميلات منهن ـ وكلهنَّ جميلات وأيضاً المرأة التي يقول عنها الرجل إذا نظر إليها إنها ليست " حسناء " ...
لم يستطع أن يقول لها شيئاً ، بحث عن كلمة أو مناسبة ليبدأ معها تبادل الكلمات ، أية كلمات غير أن الذاكرة توقفت عن استحلاب كلمه وجف حلقه وبلع لسانه ، أو ربما لم يرد أن يقحم نفسه عليها فلعلها متزوجة أو لها صديق ، فنحن نعيش في بلاد الغرب ، فصديق أو رفيق حياة يعاشر المرأة معاشرة الأزواج .. مسألة شخصية ، اعترف بها النظام وقررتها القوانين وسنت اللوائح الدستورية لما يترتب على هذه المعاشرة من حقوق وأغمض رجال الدين العين عن مثل هذه العلاقة .
**
« الخطة » |
خطته أن يبدأ الحديث عفوياً دون إقحام أو إفتعال ، يعيش دائماً حالة معينة كأنه يصنع عالمه بنفسه ويلون دنياه بفرشته ويخطط المدن ويرسم الشوارع كما يريد ويهوى ، وهو يريد صنفاً معيناً من النساء ، سيدات المجتمع اللواتي تعود عليهنَّ ، منذ أن تعرف على السيدة " فوزية " ، ونزيلة مصحته هي بالقطع من طراز هذه السيدة .
**
« المدرسة الحقيقة ... مدرسة الحياة » |
هناك فصول دراسية في مدرسة الحياة مر بها رفيقنا ، بعض هذه الدروس أو المواقف لا يذكرها فقط سمعها من الوالدة والسماع يحوله لوجود حقيقي داخله فتحتفظ بها الذاكرة ويتفاعل معها لحظة اجترارها ، وبعضها عايشها وعاش معها ولعل الدرس الأول منها هو :
**
« آثر الدين في التربية » |
اختارت جدته لأبيه اسماً قبل أن يولد ـ وكان الوالد لا يرد لها مطلباً ولا يثني لها أمراً ـ ورغبت أمه بتسميته على اسم أخيها الذي يكبرها وكانت تحبه كثيراً ، ورضخت أمه لإقتراح جدته فهو أقرب إلى أهل أبيه من أهل أمه كما صرحت بذلك مراراً ، وأراد مَنْ كَوَّنَهُ في رحمها أن يولد بعد مولد نبي الإسلام " محمد " بثلاثة أيام وفي يوم المولد العجيب للسيد المسيح عليهما الصلاة السلام ، وهكذا فبدلاً من أن يسمى بــ" يوسف " كما رغبت أمه سُمي بـالـ " مصطفى " كما أرادت جدته وعاش في بلد كالإسكندرية اختلط فيها الدين بالعرف ٬ والتقاليد بالعادات ، والموروث الثقافي دون غربلته أو تحقيقة أو مراجعته بالجديد القادم من الغرب دون النظر لإختلاف البيئة وبلد المنشأ أو الوسط الذي تواجد فيه هذا القادم الجديد سواء عرفاً كان أو تقليدا أو عيدا أو احتفالا أو ملبسا أو طعاما ، ومرفأ الإسكندرية ترسي عليه سفن كل شعوب الأرض ، والشعب المصري يُشهد له بالتدين منذ قديم الأزل ، وامتزج الشئ بنقيضه في مناخ شكَّل شخصيته ، فلعب الدين وما عليه اليوم أهله من موروثات دورا جوهريا وحيويا في تركيبته العقلية والنفسية ، وآثر في وجدانه وشكّل مشاعره ، بيّد أن القادم الجديد الثقافي منه او الإجتماعي وإطلاعته الكثيرة والمتنوعة وطريقة معينة أخذها بالدرس في فهم الدين آثر كل هذا في بناء عقلية خاصة به ولأمثاله ، تُلحظ الفارق بين التربية التقليدية المتبعة وما ينتج عنها نمطية تفكير رجعية عند الغالبية وبين التربية العقلية والمتمثلة بنمطية فهم عصري يقرب الموروث وما علق به من شوائب دون أن ينكره أو يهمله أو يرفضه ، يقترب منه بقدر ما يقترب من العلم بأدلته القطعية في ذهن إنسان يحترم آدميته ويقدر القوى العاقلة بداخله أيّما تقدير ، ويؤكد وجود آدمية غيره ، وإختلاف طريقة التربيتين يتأتى عنها أحياناً كثيرة مصادمات فكرية وهذا أدنى الصدام .
**
« معلمته الأولى درس العصر و سندرة النساء » |
حتى الرابعة الإبتدائي في مرحلة دراسته الأولى كان تلميذا ، فقط تلميذا لا يدرك عن الحياة الكثير بل قد لا يدري عن الحياة شيئا إلا من خلال جدته لأبيه " معلمته الأولى " فدربته كيف يسلم على النساء وكلهنّ في عُمْرِ جدته وكلهنّ أرامل فقدنَّ الخل والخليل ، ورفيقي كان يحسن تحيتهنّ والحديث معهنّ فهو بحق المدلل ولدماثة خلقه كان مقربا من زميلات جدته في درس العصر بمسجد جامع " سلطان " بالقرب من شارع الراوي ، شارع العائلة بباب عمر باشا والمسجد واقع في شارع " عمر بن الخطاب " والدرس يلقيه الشيخ أحمد ، وغالبا ما كان يغفو ـ رفيقي ـ وينام فتأخذه القريبة إليه من زميلات جدته لينام في حجرها وينعم بنعومة حرير ملاءتها اللف الإسكندرانية كغطاء له في الشتاء أو " الطرحة " البيضاء غطاء رأسها في فصل الصيف ، وكلاهما ـ الملاءة والطرحة ـ يحملا رائحة خاصة مازال يذكرها ليومه هذا ، تشده شدا لآخرى تشبه رائحة زميلات جدته ، وهو الذي أعتاد على شم رائحة النساء حين يجذبَنَّه جذباً بالتقبيل والأحضان ـ فهو الأبن الوحيد للعائلة ، ورفيقنا ابن الخال الحنون والذي كان يُكرم بنات أخته الوحيدة غير الشقيقة ـ عمة رفيقي ـ وكان يضيِّف أفراد العائلة وبالتالي كان يُكرّم ابنه لكرم أبيه ـ وإن كان أحيانا يلعب مع أبناء أخواله ولعلها مرة أو مرتين في الإسبوع لذلك فهو معتاد على رائحة فساتين النساء عن قرب ، خاصة أقمشة الحرائر الفاخرة وذلك الملمس الناعم الرقيق للملاءة اللف الحريرية الإسكندرانية، وكنَّ من هوانم المجتمع وقتذاك ـ فبعولهن من كبار التجار ـ يلبسنّ الحرير ويتعطرنّ بمخلوط مكة المكرمة والمدينة المنورة في أيام ، وأما غالب الأيام فيشم العطر الأفرنجي من محلات " داود عدس " اليهودي قبل التأميم في العهد الناصري أو معرض " بنزايون " ، وكانت فسحته الوحيدة إلى المسجد حتى ذلك الحين ، وهكذا لعبت وحدانيته دورا بارزا في نشأته بين نساء العائلة وزميلات جدته وعطور النساء على أختلاف الأذواق والماركات وأنواع الحرير الهندي أو المصنع محلياً .
وهو الذي كان ممنوعا من اللعب مع أترابه في الشارع الذي يسكن فيه بأمر أمه وحجتها كانت :" حتى لا يوسخ ملابسه أو أصابع يده وأظفاره " .. بهذه الصورة عاش في مجتمع الحريم سواء الجدة أو أمه في منزل أبيه ، أو العمة أو الخالة في البيت الكبير بيت جدته لأمه بشارع الراوي والقريب من منزله ، وبالطبع يتعايش مع نساء اعمامه الآتي يسكنَّ في نفس منزلة وخلاف ذلك فلا عالم آخر له .
**
« غياب المعلمة الأولى من حياته » |
اصطدم بتغيّر أسلوب الحياة حين عاد من السينما عصرا في أول أيام عيد الأضحى المبارك فوجد أمه بملابس السواد والحداد وتبكي وقالت له:
" ستك " ماتت !! ،
لم يدرك معنى الكلمة وإن سمعها مرات من قبل ، وتعطل دور هام كانت تقوم معه " سته " ، وبدون أن يدري أنتقل إلى دور جديد عند خالته " أم حسن " ، فكان يتردد كثيرا عليها .
وكان يرغب في زيارة اقرباءه خاصة الأرامل منهنَّ ، كأرملة خاله " يوسف " أو أرمله خاله " إبراهيم " وكان يتردد كثيرا على نساء أعمامه ، ويجلس منشرحا بينهنَّ ، محسنا الحديث مطولا في جلسته وكان متأدبا يحسن الحديث معهنَّ ، وكأنه يختار أوقات تكون فيها أعمامه أو أبنائهم في العمل أو غير موجودين ، أو هكذا كان يحدث .
« القميص الحرير » |
جرت العادة عند المسلمين أن يُشترى الجديد من الثياب في الأيام الأخيرة من شهر الصيام ويلبسها الكبير قبل الصغير في وقفة العيد ويؤدي بها صلاته في الجامع الكبير ، ثم يذهب الصغار بعد أداء الصلاة مع الأب والعم لزيارة الأموات في مقابر العائلة بمنطقة تسمى " العمود " بضاحية كرموز الشعبية بعد أن تخترق " البياصة " ليعيِّد على الميت خاصة كبار العائلة كالجد أو العم الكبير أو الجدة أو مَن سكن القبور من أهله ، ثم يذهب الكل بعد ذلك ليباركوا بالعيد السعيد الأحياء وفي آحدى المرات أشترت الوالدة له قميصا حريرا غاليا ولبسه ، وذهب لزيارة الخالة " أم حسن " ، فكانت الزيارة تبدأ ببيت عائلة الأم لقربه من بيته ، وسألته خالته :
" أنتَ لابس القميص الحرير الجميل ده لمين !؟ " .
تعلم من مدربه في الأكاديمية في فيينا الدكتور „Bolz“ إنه لا يوجد اسئلة ساذجة بل توجد أجوبة ساذجة ، الإجابة علمها من حديث أمه معه ، فهو ـ كما أخبرني - لا يذكر الواقعة ولا يذكر بالتالي القميص الحرير الجديد ، ولا لونه غير أن إجابته كانت :
" ألبس القميص الحرير الجديد لأعجب الستات الحلويين " .
هذه رواية الوالدة ، ولا يدري أي " ستات " ، و لا أي " حلويين " قصدَ هو أو قصد من لقنه الإجابة .
**
« ختان... فليلة عرس » |
وهذه أيضا رواية الوالدة وإن كان يوجد دليل مادي ملموس على صحة روايتها ، وأحداثها تمت وهو تقريبا حين تجاوز سن الرابعة بقليل وكأحد أبناء المسلمين يُختن الصبي قبل أن يبلغ أشده والختان من سنن الأنبياء كما علم لاحقا والرواية بكاملها لا يتذكر منها شيئا سوى " الدليل " المادي القطعي الثبوت على صحتها .. صورة العرس !.
تم الختان عند الطبيب الدكتور " محمد عبد الوهاب " في الوسعاية بـ" باب عمر باشا " بجوار السينما المحروقة ، فالوالدة كانت المرأة الحامل الأولى في عائلة أبيه أو عائلة الأم والتي تضع جنينها في مستشفي متخصص لطلبها هذا ، وهي نقلة نوعية في طريقة التفكير عند نساء مصر في هذه الفترة الزمنية ـ أوائل الخمسينات من القرن الماضي ـ وفي سلوك المرأة ، ومستشفى " دار إسماعيل " بشارع الخديوي كانت تحت الرعاية الإنجليزية أما طاقم الدكاترة فكان مصري والقابلة المولدة„Midwifery“ إنجليزية وهي من الراهبات وبجوارها تعمل مولدَّات مصريات ، فالولادة تمت بمستشفى تخصصي وليس كما تفعل نساء العائلة أمام الداية " القابلة " „Hebamme“، ويرى الجنين نور الحياة على أيدي القابلات ، وأيضا تم الختان عند الطبيب ، وليس حلاق الحي أو تمرجي المستشفى وبعد الختان وإلتئام الجرح تم حفل عرس حقيقي في الصالة الكبرى بمسرح المواساة بمحطة الرمل المقابل لميناء الإسكندرية الشرقي وبجوار تمثال الزعيم " سعد زغلول " ، الذي أعطى وجهه للبحر ميمناً جهة الشمال وإلى القارة الأوربية تحديداً ، وحين سأل عمه " سعد " أصغر الأعمام سناً وأوسمهم:
" ليه ياعمي ، سعد زغلول مدِي وشه للبحر؟" ،
فرد عليه قائلا :
" سعد قال لمراته صفية : غطيني ياصفية ، مافيش فايدة ، أنا عاوز أنام " (!!!) .
ومع أنه لم يفهم الإجابة لم يعد السؤال ، فلقد أقترب من باب المسرح وحضرت العروس بثوب الزفاف وطرحة العرس على رأسها ، وهذه رواية زوجة عمه .
**
المناصفة في العروس
والطريف أن العروس كانت بــ " المناصفة " وكان له فيها " شريك " حقيقي ، فهي جلست في الوسط وعلى يمينها عريس وعلى يسارها عريس آخر ، وهو - رفيقي ـ لا يتذكر هذا العرس ولا المعازيم ولا راقصة البطن المشهورة والتي جاءت لتحيي الحفلة وهو معتاد في الأفراح آنذاك والآن ، أقصد تأدباً وتحضراً فنانة الرقص الشرقي ، حيث أن بعضهن اليوم من حاملات الشهادات الجامعية ، هذا قبل عصر الصحوة الإسلامية وعودة الإسلام المسيس كما يدعي البعض ، ولكنه يذكر جيدا شريكه في عروسته فهو ابن عمه " أحمد " الذي يصغره بستة شهور ، والعروس يذكرها جيدا وإن سعت أن تخفي شيئا ما حين يتقابلا وتطمس معالم العرس من الذاكرة في محاولة فاشلة منها وهو يذكرها دوما بقوله :
" أنتِ كنتِ عروستي! " .
فالعروس هي الأبنة الكبرى لخالة ابن عمه " نورا " ، وهي الفتاة الكبيرة نسبيا ولكنها المناسبة لهما ، وقد وقف ببدلة العُرس السمراء والقميص الأبيض الزاهي ورابطة العنق وهي بجواره تتأبط يده وعلى رأسها تاج العروس وزهور الدانتيل الجميلة ، مناسبة أرادت أمه أن تخلدها في ذاكرته من خلال روايتها له ، وتبحث معه عن الصورة بين كومة من الصور التذكارية .
**
« المدرسة الفرنساوي » |
أراد أبوه أن يلحقه بروضة الأطفال كي يُعد بعد ذلك لدخول المدرسة الفرنساوي " سانت يوسف " الإبتدائية خلف مدرسة " الصوري " الحكومية ليتمكن من الفرنسية ثم يكمل تعليمه بكلية " سانت مارك " بالرمل متجها بعد التخرج إلى فرنسا ليدرس الحقوق ثم ينخرط في سلك المحاماة ، هذا ما أراده الوالد .
إدارة المدرسة قبلت أوراقه قبل إتمامه سن الخامسة وصار طفلا في روضة الأطفال ، وكانت المدرسات راهبات فرنسيات ـ كما تروي أمه له ، وهو لا يذكر هذه القصة بالمرة ـ
**
« المحمدي .. في مدرسة الراهبات الفرنسيات » |
وفي صباح آحدى العطلات وعلى مائدة فطور العائلة وأمام جدته لأبيه قام بأداء الصلاة قبل تناول الطعام كما تعلمها في الروضة الفرنساوي الملحقة بالمدرسة ، صلاة النصارى ، صلاة الشكر ثم قدس نفسه بالتصليب ، وأخذ يترنم بكلمات فرنسية ، جُمل مما حفظها على مائدة الراهبات الفرنسيات ليقولها قبل تناول الطعام ولا تفهمها والدة أبيه فاشارات بيدها إليه ووجهت القول لأمه :
" شوفي .. ياعايشة ـ اسم أمه ـ الولد مش راح يعرف عربي ، حيتكلم فرنساوي ذي الخواجات ، وبيصلي صلاة النصارى وأحنا في بيت مسلم ، لازم يسيب المدرسة دي!؟ ، وشوفي كمان يا عائشة سحنة وشّه عامله ازاي ، ذي عُبَّاد الصليب !؟ ، وأل آيه اسمه مصطفى !!" .
ودون نقاش يذكر ـ كما أخبرته أمه ـ سمع الوالد كلام الجدة وترك الغلام الروضة الفرنسية ، وهو غصن أخضر وعود طري لا يفقه مما قالته جدته لأبيه حرفاً أو معنى ، بيد أن أمه تذكره دوماً بقولها له :
" إنها غلطة ! ، أن تترك هذه المدرسة ، ربنا يسامح جدتك ، كان مستقبلك حيكون حاجة تانية " .
هذا القول قد يكون الخلفية الذهنية في رغبته أن يتمم تعليمه العالي في بلاد الفرنجة ـ كرغبة الوالد ـ والتي منعته جدته في طفولته من الإقتراب من أهلها على كامل التراب المصري .
**
« المعلم الأول » |
معلمه الأول بالمدرسة الإبتدائية الحكومية يدعى الأستاذ " فؤاد " ، الأن لا يذكر عنه سوى اسمه ، بلى ـ يتذكر رفيقي ويكمل القول ـ بل أذكرُ أيضا هيئته ، بدلته ، مشيته ، هدوئه ، أدبه الجم ، تعلمتُ منه الكثير ، تعلمتُ منه كيف أتحدثُ بهدوء ، وأنظرُ إلى عينيّ محدثي ، والعرب تحسن الحديث بضوضاء فنحن نتحدث بصوت عال كخطباء الجمع والمنابر وزعماء الساحات والميادين ، وجنرالات المقاهي ، وجمهور مباريات كرة قدم الدرجة الثالثة ، الأستاذ " فؤاد " كان مسيحيا ، ولم نكن وقتها ـ عام 1957 تقريباً ـ نفرق بين مسلم ومسيحي في “Ägypt „ إلا إذا وجد الأفرنجي بيننا ، ولم نلحظ ونحن تلاميذ الإبتدائي أي تدخل أو توجيه منه ـ قصد رفيقي الأستاذ فؤاد ـ في طريقة إيماننا ، ولم يتحدث مطلقا عن السيد المسيح غير أن ما في القلوب من إيمان وكره وحب يظل في القلوب ، وهذا ما أظهرته الأيام الحوامل من مصريي المهجر والعديد من الأحداث التي تمت في الداخل .
الأستاذ " فؤاد " عيَّن ـ رفيقي ـ أحد قضاة الصف الدراسي ، والدمرداش ـ والذي صار بعد ذلك طبيباً جاء لزيارتنا مرة وعمل بدون آجر في المستشفى „AKH“ الفيّناوي ، والقاضي الثالث لا يذكر اسمه الأن ـ أصبح بعد ذلك ضابطا في الشرطة ومن رجال الأمن ، وهو مسيحي ، ثم يخبرني رفيقي بقوله :" كانت ثلاثتنا قضاة الصف ، فمن يخطأ من التلاميذ نصدر حكما عليه وكنا نرتدي وشاحا أخضرا علامة على أننا القضاة وكنا بالطبع نفتخر بهذا " .
**
« عيسى » |
أختار أصدقاء وزملاء والده له أسماً آخراً غير اسمه الحقيقي ، فكانوا ينادونه في أروقة المحكمة بـ" عيسى " إثناء وجوده معهم في العطلة الصيفية ، إذ تصادف مولده في نفس اليوم الذي يحتفل نصارى مصر بمولد السيد المسيح ، وكان عمله في العطلة الصيفية هذا عقاباً له ، لأنه لعب مع بنت جيران خالته أم حسن دور الطبيب وهي قامت بدور المرأة التي على وشك الولادة ، وقفشهما عم الطفلة " الحامل " على سطح بيت عائلة أمه وهو يمارس " مهنته "، وحادثة " طبيب التوليد " هذه كانت في نهاية مرحلة الإبتدائي وفق نظام وزارة التربية والتعليم القديم .
« خوسيه رامون » |
بين حقول جنوب فرنسا لكروم العصر لصناعة النبيذ سماه العجوز الإسباني الذي كان يعمل معه أسما جديدا يناسب أسماء الأسبان ، حين سافر في العطلة الصيفية إلى فرنسا إثناء الدراسة في جامعة حلوان فرع الإسكندرية ، إذ لم يجد فرصة عمل مناسبة له أو غير مناسبة في عاصمة النور " باريس " فعلم أن موسم قطف العنب على وشك القدوم ، وليس أمامه من حل سوى أن يقطف العنب في موسمه ليغطي مصاريف الرحلة حيث أن العطلة الصيفية أوشكت على الإنتهاء وحتى لا يعود فاشلاً غادر باريس في إتجاه الجنوب ليجمع بعض الفرنكات ليثبت أمام الوالد الذي كان يرفض سفره ، أنه ... رجل ، ورامون هو الإسم الذي كان يستخدمه حين يتعرف على بنات الغرب وخاصة السيدة ضفيتنا .
**
« السينما » |
لعبت السينما دورا غير مباشر في تكوين شخصية رفيقي بشكل تلمسه إن اقتربت منه ، فهي رفعت نسبة الخيال والتصورات غير الواقعية في ذهنه وشكلت بصورة أو آخرى جزءً من شخصيته وفي نفس الوقت أقنعته بوجود حلول سحرية ومخارج من الورطات في كل لحظة ووقت كم يحدث في معظم الأفلام ، وهناك العديد من الروايات والقصص التي قدمتها الشاشة الفضية أثرت في شخصيته وتقمص دور البطل أحيانا ، ثم أوجد لنفسه شخصيته الحالية التي نعرفها ، الوالد اراد له بصورة غير مباشرة أن يعرف العالم الآخر من خلال أفلام هوليوود ، فإذا حصل على درجة جيدة في مواد الدراسة كُفِءَ بالذهاب إلى السينما الحفلة الصباحية ، وحفلة الثالثة بعد الظهر كانت ترويحا عن أمه فكان يرافقها لترى الفيلم العربي ، وإختلاف نمطية العيش والحبكة الدرامية والإخراج والإمكانيات المتاحة وقدرات الأبطال بين فيلم الصباح " الغربي " الهوليودي وفيلم الثالثة بعد الظهر " العربي " والمصنع مصرياً ، جعلت رفيقي يميل بالطبع للأفلام الغربية ويجد في نساء الغرب الشقراوات وهذا الدلال وأسلوب الغزل المدرسة العملية لرجل الغد .
**
« قصة عذاب وآلام السيد المسيح عليه السلام » |
جرت العادة أن يحضر بمفرده كل عام في سينما " فؤاد " بشارع الملك فؤاد الأول ، طريق قناة السويس لاحقا في احتفالات شم النسيم وعيد الفصح فيلم " حياة وآلام السيد المسيح " برغبة من والده وقناعة منه ، ولعل أحداث الفيلم لعبت دورا غير مباشر في شخصيته فيما بعد .
**
« السيدة فوزية » |
كانت هذه المواقف قبل أن يتجاوز الحادية عشر من عمره بقليل ، وهو مازال تلميذ الإبتدائي في بداية الصف السادس وفق نظام التعليم الإلزامي وقتذاك ، يتذكر تماما ما قيل وما جرى كأنه حدث البارحة ، ولعل السيدة " فوزية " لعبت الدور الأعظم في حياته المستقبلية كرجل ، فقد صارت هي المرأة النموذجية والمثال الذي يبحث عنه بين النساء مع بعض التعديلات التي أخذت من النماذج الأوروبية .
السيدة " فوزية " كانت امرأة جميلة حقا فهي في نهاية عقدها الثالث لم تتجاوز الأربعين ، وهي مفعمة بإنوثة صارخة ، كستنائية الشعر ، تمتلك مساحات شاسعة خُلط فيها العسل الأبيض النقي بالحليب الطازج مع حبات الفرولة الطازجة ، إذا مرت أمامك ينتشر في المكان حولها عبق عطر لم يشمه إنسان من قبل ، لديها رقة الأم الحنون الرؤوم فيقترب منها كعادته ـ فهو مازال الصبي الصغير المدلل ـ وهي تأتي كأنها أتت له وحده ـ المسألة القديمة وعقدته المستقبلية فهو دائما يريد أن يكون مركز الدائرة ووسطها ـ وتفتعل مواقف معه كأنها دبرت في ليل دامس دون أن يدري ، فهو الابن الوحيد الشبه مدلل بل بحق المدلل ، أو كما يقولون " ابن أمه " „Muttersöhnchen“ .
تربى بين أحضان جدته لأبيه ، فراعته حق الرعاية ودللته كثيرا بجوار أمه فكان كــ" حبيس المرأتين " ، لم يسمح له أن يلعب مع أترابه كرة القدم كما هو معتاد في شوارع الإسكندرية وحواريها ، فكره كرة القدم والسلة والطائرة وأتجه لرياضة كمال الأجسام ولعبه الجودو ، وهي رياضة مناسبة للدور الذي لعبه من جدته أو أمه وبالتالي مع من يأتي بعدهما في الطريق ، وكان لخوف أمه عليه من الهواء والغبار لا يتحرك إلا بنظام فلا بد أن يسير بحذاء ملمع ومدهون بالورنيش في الطريق العام ـ كحذاء أبيه والذي كانت تلمعه أمه في الصباح قبل أن يغادر ابوه المنزل في طريقه إلى المحكمة وبعد الغذاء حين يذهب لمكتبه ـ ، والمرة الوحيدة التي خرج فيه عن النظام ونزل حافي القدمين إلى الشارع ليلعب مع ابناء عمته جرح جرحاً عميقاً في قدمه من جراء زجاجة " كوكا كولا " مكسورة لم يرها وذهب إلى المستشفى وخيط الطبيب الجراح جرحه بست غرس ومكث في الفراش ، وبهذا دللت أمه على صحة دعواها بالحادثة هذه طوال عمره الطفولي ـ وعمره الطفولي لن ينقضي ابدأ ، كما صرحت بذلك ظلا له من ظلاله الكثيرة السيدة „Christina“ ، كما كان يناديها أو يكتب اسمها حين كان يراسلها بالخطابات وصحة اسمها هكذا „Christine“ - ، وكان لابد أن يغسل يديه قبل تناول الطعام ... بل لابد من الاستحمام عدة مرات في الإسبوع ولابد من كذا ولابد من .... ولابد .... قائمة طويلة من النظام والروتين .
« حبيس المرأتين » |
لاحظ أبوه ما ألم بابنه الوحيد وما يسير عليه من نظام وخشى أن يلحق بكتيبة المخنثين ـ فالأبن الوحيد لأبيه الحي لن يدخل الجيش المصري لأداء الخدمة العسكرية ، فهو الإبن الوحيد لأبيه الحي الذي لم يتجاوز سن الستين ، وهذا وفق القوانين المعمول بها في آداء الخدمة العسكرية ، وكان يفتخر بهذا بين اقرانه ، غير أن الجيش يربي الرجال ـ ، فتحدث ـ يغلب على ظن رفيقي كما روى لي ـ أبوه مع أحد زملائه في المحكمة الحقانية فقال له :
" لابد أن يخرج ابني من " سجن النساء " ليلتحق بحياة الرجال " ،
لكن السؤال كيف ؟ .
وهنا جاءت السيدة " فوزية " بلحمها وشحمها وأنوثتها وعنفوان شبابها في حياته الأولى وهو مازال سجين المرأتين وتربية النساء مع رعاية غير مباشرة من نوع خاص من الرجال .
**
« أسلوب نشأة » |
السيدة " فوزية " لعبت معه دور العاشقة الولهانة المغرمة بالصبي ابن الحادية عشر " عيسى " الإسم الذي أختاره اصدقاء الأب له ، كان يذهب للأستاذ " أدولف " ، وهذا هو معلمه الثاني ، وأستاذه يملك مواهب شتى ويملك قدرات لغوية ، فهو يتحدث الإنجليزية بطلاقة ويجيد اللغة الإيطالية ، وبدأ معه دروسا وأخذ يلقنه مفاهيم ، هذا هو مضمون الإتفاق الذي تم مع أبيه ـ وهذا غالب ظنه أيضاً ـ وبند الإتفاق الأوحد يقول : " علينا نحن الرجال ـ زملاء أبيه في العمل ـ أن نخرج هذا الصبي من حظيرة النساء ، فيتعامل مع النساء على أنه رجل وليس من زمرتهن " ، وبدء العمل على قدم وساق ، ولم يكن يدري أصول اللعبة ، ولا قواعدها ، شارك معهم دون أن يدرك ماذا يريدون فعلا منه! .
بدء الحديث عن إهتمامات آخرى غير الدراسة والواجب البيتي اليومي وتحدث معه عن ممارسة الرياضة حتى يكون رجلا قويا ، وأخبره قبل الأوان بعدم مزاولة العادة السرية " نكاح اليد " بعد البلوغ وفي سن الشباب ، فإن زاولها سيظهر على باطن يده شعيرات كدليل على الفعل ، وأخبره بأن البنات ما أكثرهن ، تحدث معه عن بعض الهوايات فوجد رغبة منه في هواية جمع الطوابع البريدية من كل أنحاء العالم وكان لدى أستاذه الجديد كما أسلفت عدة إهتمامات وهوايات ، فبدأ يجمع طوابع البريد وأقترب من العالم الآخر ، فليس فقط الذهاب المنتظم إلى السينما يكفي ، ورويدا رويدا دخلت المرأة الأولى(!) أو بتعبير آخر امرأة أرادت أن تلعب دورا في حياته المستقبلية ، لتنقله إلى درجة آخرى أو أعلى من الإهتمامات الحالية ، والسيدة كانت مناسبة تماماً للقيام بهذا الدور فهي جارة الأستاذ " أدولف " ، أمرأة في نهاية العقد الثالث أو على مشارف الرابع ، لديها ولد يكبره وفتاة ليست جميلة كأمها عرفت من الآخرين أنهم يلعبون معه دور أساتذة مدرسة حياة غير تقليدية بنواحيها المتعددة ، فكانت تتهكم عليه لصغر سنه ولتفاهته أو سذاجته أو خجله أو كل هذا معاً .
السيدة " فوزية " ارادت أن تعلمه أو تفهمه ما لم تستطيع جدته المتديّنة ولن تسطع أن تعلمه إياه ألا وهو أن يخرج من دور الطفل المدلل والصبي الخجول إلى دور ينتظر كل رجل وهو العلاقة الحتمية بينه وبين امرأة في المستقبل قد تعجبه ، جدته لقنته دروسا في قوالب صيغت على نمط تربية العصور الوسطى بمقياس الحِل والحرمة دون تفعيل الحدود التي عطلت منذ زمان طويل كجلد الفاعل أو تعزير الشاب المراهق مع غياب أمثلة لتقريب المفاهيم والمقاييس والقناعات التي صارت في قوالب جامدة والأمثلة التى تقدم غالباً لا تفهم ، ولكنه تم بأسلوب ساذج غير تربوي ، وهنا تربية جديدة فقد بدأت " المرأة " السيدة " فوزية " والتي هي في سن أمه ولا يدري كيف يناديها أيقول لها " خالتي " أو " عمتي " أم يقول لها " طنط " ، منذ البداية فحطمت ـ فوزية ـ كل الحواجز عند صبي في نهاية مرحلة الإبتدائي وستبدأ عليه قريبا وقريباً جدا بودار بلوغ مرحلة جديدة ليست دراسية بل بيولوجية ، إذ سينتقل من طفولة بريئة إلى مرحلة مراهقة يجرب فيها الممنوع ، إذا لم يره أحد ويقترب من حدود الحرام وقد يفعله ويرغب في ممارسة ما يفعله الكبار تشبيهاً من غير قناعة وتمثيلاً من باب التقليد وقد يحسن الدور أمام المراهقين أمثاله فتلتفت إليه فتيات الحي وطالبات مدارس البنات المجاورة لمدرسته ، حطمت السيدة " فوزية " كل الحواجز بينه وبينها وكان يعلم أبيه القصة فهو وهم ـ أصدقاءه ـ أرادوا تشكيل رجلا " ملو هدموه " كما أخبره بعد ذلك بعدة سنوات زميل والده الشاب المحامي بالنقض ، وهو حفيد السيدة التركية كما أخبر بذلك قبل أن يقابله في مكتبه ، إذن هناك في الخطوط الخلفية على أرض الإعداد خيوط " مؤامرة " تجتمع على الصبي المدلل " ابن امه وتربية جدته " أو قل خطة عمل لصنع رجل أو محاولة بالفعل لصنع رجل المستقبل .
« الموعد الثابت » |
صباح كل جمعة صار الموعد الذي يجب أن يذهب فيه للأستاذ " أدولف " وكانت السيدة تأتي بعد أن يذهب زوجها إلى عمله لتقوم بدور معدة رجل المستقبل ، فهي أم وربة بيت ، ولديها وقت كاف لتقوم بعدة أعمال ووظائف كلها ستتم في البيت ، بل العمل الجديد طريف ومسلي ، " دور العاشقة " فكانت تقترب من الصبي بكلمات الأنثى والجميع حضور وكانوا ينظرون إلى الصبي ويضحكون ، حين يتعلثم أو يبدي خجلاً ، كانوا جميعا يعلمون أنه لعب وتمثيل وهو لا يحرك ساكنا ضد نظراتهم ، وهو الوحيد الذي لم يفهم اللعبة و لا أصولها إلا متأخرا ، فما زال مبكرا عليه هذا الدور ، غالب الظن أنها تبرعت بدورها وبالطبع لا تريد من الصبي أي شئ ، ولا من والده ، دورها فقط أن تلعب دور المرأة - كأنها تطارحه الغرام ، وكأنهم يريدون عن قصد تنشيط هرمونات الذكورة في جسده لتفعيلها أو على أدنى تقدير إخراجه من حظيرة النساء فهو صبي وليس فتاة وهكذا ينبغي أن يكون رجلا ، وهو يعلم أن هناك أمر ما غير مفهوم ، ولم يكن يستطيع أن يقول شيئا ، فقط هو يستمع لكلامها لا يستطع أن يجاريها ، فقط يستمع إلى أن جاء يوم الفضيحة .
**
« فضيحة بجلاجل » |
جاءت صباح الجمعة كعادتها إليه ويعتصر الألم جسمها الأبيض الناعم وتتلوى من مغص لا يدري ـ رفيقي ـ مصدره غير أنها تقول له :
" بطني تؤلمني! " ،
وهو بعفوية الصبي المدلل الذي يسارع لوضع رأسه على صدر عمته أو نساء أعمامه أو خالته أو نساء أخواله ـ حين يقابل آحداهن ، تقدم إليها وأراد أن يواسيها ، موقف جديد بالنسبة إليه ، فهو بعيد عن عالم النساء الحقيقي ، وإن كان مقربا منهن ، قالت له :
" خذني بين يديك ، كي أستريح " ،
ولعل الفكرة راقت لها ووجدتها فرصة سانحة لدرس جديد مع الصبي المدلل فقالت له :
" تعال إلى الغرفة الثانية ، هناك أمر أريد أن افاتحك فيه!" ،
فذهب معها دون أدنى تفكير ومن ألمها لم تستطع السير فعتمدت على كتفه ولم تستطع أن تتأبط ذراعه فهو بالنسبة لها ليس بالطول الكافي الذي يمكنها من أن تتأبط ذراعه ، وهناك في الغرفة الثانية التي ما دخلها قط في شقة أستاذه " أدولف " كان يوجد سرير فتكوعت عليه مباشرة وقالت له :
" ضع يدك الحنونة على بطني لعل الألم يخف قليلاً " ،
أرتبك الغلام ماذا يصنع إنهما بمفردهما في غرفة لا ثالث معهما والباب مفتوح في كل لحظة قد يدخل مَن يريد! ، مدها على إستحياء ووضعها فوق الموضع الذي حددته له .
هناك فارق بين لعب الأطفال فيما بينهن وبين لعب الأطفال مع الكبار ، والشاذ لعب الكبار مع الأطفال والوضع الجديد بينه وبين السيدة " فوزية " جديد بكل معانيه وهو لا يعلم كثيراً عن حياة المرأة البالغة فجدته وصلت إلى سن الإياس منذ سنوات طوال ، وأمه ما حملت أو وضعت غيره ، مسألة جديدة من ألفها إلى يائها بالنسبة إليه ، وبدأ بالفعل يقوم بدور الرجل الحنون وقال مواسياً إياها :
" ماذا حدث لك !؟ ، ماذا جرى !!؟.. أخبريني "
وتكلم بكلمات رقيقة ، غير ان المفاجأة جاءت حين قالت له :
" أنت السبب في كل معاناتي وألمي ، أنت السبب يا ظالم " ،
وبدأت بسلسلة من تراكيب الجمل التي يسمعها في المسلسلات العربية ويشاهدها حية على صفحة الشاشة الفضية أو تعاد مرة ثانية أمامه من خلال جهاز التلفاز ، وبدأت تتقمص دور الفتاة التي غرر بها الوحش المفترس ، الشاب الوسيم ابن العائلة الإرستقراطية(!) ، فأغتصبها أو هكذا ارادت أن تقنعه بأنه فعل شيئاً من هذا القبيل ، وأيضاً أرادت هي منه أن يلعب دور فتى الشاشة العربية الوسيم الذي " ضحك " على بنت الجيران ففعل فعلته الشنيعة في ليلة مطيرة باردة ظلماء دهماء وغادر القطر المصري في رحلة دراسية إلى أوروبا دون أن تدري ، أو تركها لأنها ليست من مستواه واستوديوهات مصر أنتجت العديد من هذه السخافات في هذا الوقت وما زالت فتتوالي أحداث الفيلم العربي المملل ليخرج علينا أستاذ الدراما " يوسف بيك وهبي " ويعلنها صريحةً ومدويةً في سماء قاهرة الأزهر والمعز لدين الله الفاطمي مدينة الألف مأذنة :
" شرف البنت كالكبريت ما يولعش إلا مرة واحدة " .
إنها " فضيحة " بكل المعايير والمقاييس ثم تنهد قليلاً وقال بعد ذلك ببراءة أطفال الروضة :
" بس أنا معملتش حاجة!! " ،
غير أنها تقمصت دورها واتقنته فوبخته بقولها :
" ما فيش غيرك أنت صاحب المصيبة : أنا حملت منك ! " ما في أحشائي هذه ابنك ، منك أنت ، يجب أن تصلح من فعلتك الشنيعة " ماذا أقول لزوجي الأن ، لابد أن تصحح غلطتك هذه !! ".
مصيبة ... فضيحة ... ثم اردفت بصوت مفعم بالتحدي :
" سوف أتكلم مع أبيك حين يأتي ، سيأتي اليوم ، أليس كذلك !!؟ "،
أُسْقِطَ في يده ، تلعثم ، ثم توقف عن الكلام ، بل توقفت رئته عن أستقبال الهواء أو إخراجه ، بدأ الدق التنازلي في قلبه ليتوقف من شدة الصدمة .
ثار وغضب وهاج وقال بعلو بصوته :
" أنا ما فعلت شيئاً " ،
ومع صغر سنه إلا أنه يفهم بعض الأمور ، وسألها ظنا منه أنه أقحمها وأسكتها :
" كيف تم ذلك وأنا مازلت صغيراً !؟ "،
لحظتها ضحكت ولكنها بسذاجة القرويّة التي تؤمن بالجن وتلبيس إبليس والمخلوقات العجيبة أضافت :
" عن طريق الهواء ، حملتُ منك عن طريق الهواء " .
فخرج من الغرفة غاضباً مزمجراً لا يلوي على شئ وكأنه يستنجد بمعلمه وأستاذه " أدولف " ليخرجه أو يساعده في ورطته هذه غير أن الأستاذ أكد الخبر وحين رأي الغضب في عينين الصبي ترك الغرفة وذهب إلى المطبخ ليعد الشاي أو القهوة لضيوفه فهو غير متزوج ولا يريد الزواج ، وليس في حياته امرأة وكأنه لا يعرف أن هناك صنفا من المخلوقات اسمه " حريم " ، ثم تبرع أحد الضيوف بإكمال الدور فقال له :
" نعم صحيح أنت الفاعل ما فيش غيرك ، ولازم تصلح غلطتك ، الست " فوزية " الآن في ورطة وهذه مصيبة وفضيحة حرام تضحك على عقول بنات الناس ، أنت معندكش أخوات بنــــات ..." ،
غمزته السيدة " فوزية " ليسكت ، إذ أنه لا يعرف الكثير عن المتدرب ـ رفيقي ـ فالمتبرع بإكمال الدور ضيف جديد ، لم يحسن المخرج إعداده .
**
« ابن الناس .. يسب الناس » |
كلام كبير وموقف عصيب ، وبدأ ابن الإسكندرية يفلت من بين أطراف شفتيه وهو الولد المؤدب كما يقول الكل عبارات غير لائقة وغير مهذبة ، سمعها من الشارع ، وسريعا تدخل الأستاذ " أدولف " ليحل الإشكال إذ همّ الصبي صاحب الفضيحة بالخروج ومغادرة البيت وقال لهم جميعا :
" أنا رايح لماما أقول لها " ،
أنه بحق ابن أمه ، وفي هذه اللحظة قال الأستاذ :
" اصبر قليلا أحنا كنا بنهزر معاك وكنا عاوزين نشوف راح تتصرف أزاي في مثل هذا الموقف " . ثم أوضح له بأن الست " فوزية " أسقطت ما كان بأحشائها ، جنين سقط ، ونحن أردنا أن نكبرك معنا ، ما فيش مشكلة ولا حاجة !" وضحك الجميع ، ولكنه لم يجد ما يدعو للضحك ، إذ أنه نظر إليها فوجدها ما زالت تتألم ولأول مرة تضع على كتفيها شال أسود تغطي به نفسها ، وهي المرأة التي كانت تأتي بملابس تكشف أكثر مما تستر عورة المرأة وفق رؤية جدته لأبيه .
انتهى المشهد ، وهم لا يدركون الآثر العميق الذي تركه في نفسية الصبي وذاكرته .
**
تجولنا مع رفيقي في أيام طفولته وصباه لندرك العوامل المؤثرة والتي شكلت شخصيته ، وهو لم يحدثنا بعد عن فترة شبابه ونشاطه السياسي فشخصيته جمعت الشئ ونقيضة ، ويغلب على ظني أنها نفس بشرية رُكبت في ابن آدم كبقية ذريته ، فلا عجب ، وإلا فما كان هناك داع لإرسال الرسل والأنبياء والمصلحين على مر الزمان والعصور .
نعود لقصة المرأة صاحبة " التعريف "
**
« القداس » |
ذهب رفيقي إلى كنيسة القرية النموذجية بمرافقة السيدة " سيلفيا " صباح الأحد وهو يرتدي بدلة صيفية ماركة„HUGO BOSS“ ، لقد تعلم من " رجاله " أساتذته الذين تعلم على أيدهم في مدرسة الحياة ماذا يرتدي! ، وكيف يرتدي! ، وكيف يربط رابطة العنق بشكل يظهره أنه " رجل " من طراز خاص! .
رافق السيدة " سيلفيا " فقد وجدها بعد تناول الفطور واقفة عند الباب العمومي لمصحته وسألها :
" أين ستذهبين ؟ " ،
فأجابت : " سأذهب مع ماريا إلى الكنيسة لأداء الصلاة وحضور القداس .. اليوم هو الأحد ، هل تأتي معنا !" ،
أجابها بـ:
" نعم " .
فالكنيسة كانت جميلة حقا بتماثيلها ولوحاتها وزواياها وجدرانها وألوانها الزاهية وأركانها ، وقبل أن يدخلا ـ رفيقي وسيلفيا ـ ، بدأ بالتقدم خطوة أمامها ليهئى لها فتح الباب ، فهو دائما حين يرافق امرأة يخصها بهذه الخصوصية ، يتقدم خطوة أمامها ليفتح الباب لها ، وكأنه من هؤلاء الذين يحافظون على التقاليد الملكية والأعراف الإمبراطورية وهذا التصرف يعجب الكثير من النساء بل كل النساء ، ولم يجدا مكانا للجلوس إلا في المقاعد الخلفية ، وكانت المفاجأة لقد وجد صاحبة الشعر الذهبي والوشاح الأسمر جالسة في آحدى الصفوف الخلفية فهمَّ أن يجلس بجوارها غير أنه لم يجد هناك مقعدا خاليا فجلس في الصف الذي خلفها ، وغفل أو نسى أنه يجاور " سيلفيا " وكنا تقريبا في النصف الثاني من وقت القداس ، وجرت العادة أنه في نهاية القداس يسلم المصلون بعضهم على بعض قائلين :" سلام الله عليك !" وظن أنها ستلتفت خلفها وتقول له ذلك فهو جلس بالعمد خلفها تماماً وبجواره " سيلفيا " ، وكان شعاع شعرها الذهبي يضئ المكان حوله ، لم تلتفت حين انتهى القداس ، خرج الناس ، وخرج مرافقاً سيلفيا ، لا يدري إلى أين لكنه سار بعض خطوات خارج الكنيسة معهما ـ ماريا وسيلفيا ـ ثم قالت سيلفيا:
" سنذهب إلى القهوة لتناول كوبا من الكاكاو الساخن ، هذا الصباح بارد قليلاً ، هل ستأتي معنا " ،
أجاب على الفور:
" لا ، لا سأتمشى قليلا ، عذرا .. أذهبا أنتما !" ،
خطوات قليلة بعد فراقهما وتوديعهما ومن على بُعد .. ماذا يرى ! ، مَن أمامه ! ، صاحبة الشعر الذهبي والوشاح الأسود تجلس بمفردها على مقعد عمومي بالقرب من منصة الموسيقى الكلاسيكية وأصوات الآتها تصل إلى مسمعه ، وكأنه مشهد من فيلم أمريكي الإنتاج فرنسي الإخراج بطلته „Sisi“ النمساوية " رومي شنيدر " وفتى الشاشة الإنجليزي شون كونري كما مثل بإتقان جيمس بوند أو المصري الوسيم عمر الشريف في فيلم د. زيفاجو ، وبالمصادفة ليلة هذا اليوم رأى فيلما لـ كيلارك جيبل والفاتنة الإيطالية صوفيا لورين أحداثه تمت في إيطاليا على الساحل الشمالي للبحيرة المتوسطية ، وأعجبه الفيلم كثيراً ، تحرك ـ رفيقي ـ بنشاط إليها وكانت جالسة على طرف المقعد المبلل من مياة المطر فقد أمطرت إثناء تواجدهما داخل الكنيسة ، والطقس يميل إلى البرودة قليلاً ، أقترب بهدوء من مقعدها ، كانت غارقة في سماع الموسيقى العازفة فاغمضت عينيها .
شعب يعشق الموسيقى ، والياباني يأتي لتعلم النوتة الموسيقى هنا ، فهم بحق أحفاد موتسارت ، إنها الفرصة المواتية الوحيدة إنها بمفردها يستطيع أن يتحدث معها ، يستطيع أن يتكلم معها يبادلها أقل شئ التحية ، سألها بصوت هادئ كأنه يتكلم من أعماقه السحيقة :
" هل هذا المكان خال؟" ،
وأشار لما يجاورها ، ثم أكمل :
" هل أستطيع أن اجلس عليه !؟" ،
أجابته بـ :
" نعم " .
يا الله! ما هذا الصوت الملآئكي الذي يسمعه من فوق سبع سموات طباقا ويصدر بالقرب من شجرة المنتهى ، المرأة الملآئكية سارعت لتساعد ابن الإنسان في تجفيف بقية المقعد من الأمطار ببقايا جريدة التاج الحديثة„Die neu Krone“ ، وجلس بالقرب منها فبقية المقعد مبتل بماء المطر وقد بدأت أشعة الشمس في التسلل من بين السحب الرمادية والموسيقى تعزف آحدى المقطوعات الكلاسيكية المشهورة ، وأخذ يتنفس الصعداء أخيراً هو بجوارها ، جنبها ، يحدثها ويسمع صوتها ، حروف كلماتها ، رنة مخارج ما تنطقه ، إنها الآن بجواره ، الموسيقى لعبت دورا مهما في صناعة الحدث الأول بينهما ، فقد كانت مدخلا جيدا لبدء الحديث معها فآلات العزف الكلاسيكية التقليدية في وسط أوروبا ساعدته كثيرا في إستحداث جمل وكلمات تناسبها ، اقتربا وهما على مقعدهما الحكومي إذ أن بقية المقعد الذي يسع على الأقل خمسة أشخاص مبتل تماماً وهي جففته بورق جرائد طبعة الأحد الشبة مجانية ، وبدأت أشعة الشمس تظهر ويصحو الجو ، ورفيقي مِن مَن يحسن تطويع المناسبات والمواقف لموضوع يتحدث فيه أو عنه ، قال لها:
" ما أجمل هذه الموسيقى التي تعبر عن هذه اللحظة الرائعة !"
بادلت كلماته بكلمات أجمل منها ، ثم أردف مسرعاً ، فهو يريد أن يحوط المكان والإنسان بقدر إمكانياته وقدراته ليخصه وحده يريد أن يحصرها بين كلماته وبين تعبيراته ، فقال لها :
" اشعر أن العازف يشعر بحالي فيعزف فقط لنا وحدنا ... لي ولكِ ! ، إنهم يعزفون مقاطع تروق لكِ ، كما لاحظتُ ، أليس كذلك خاصةً آلة الكمنجة ، إنها تعبر عن مكنون ما بداخل النفس البشرية ! أصحيح ما أقول!؟
إنه ـ رفيقي ـ يحوّل اللحظة الواقعية لرومانسيته الخاصة ، يحول الزمان وأدوات المكان لقطع يحركها كما يريد هو ويهوى كأنه يملكها ، كان يطلق كلمات متتالية ، فقط يترك مساحة زمنية محدودة لإلتقاط أنفاسه ليعود مسرعا للحديث ويوصل جملته الأولى بالثانية كقطعة عُقد ثمين يريد أن لا تنفصم حباته أو تتناثر أو ينفرط من يده ، هي تسمع ويرى في عينيها هدوء المستمع وتجاوب المقتنع ، فلم يبخل عليها في الحديث ، وكما قالت ذات مرة جدته لأبيه :
" الكلام لا يدفع عليه جمرك " .
كان كلامه مفيدا إذ يعبر في الدرجة الأولى عن حالة ما يريد أن يوصلها لمستمعته السيدة ذات الوشاح الأسود والشعر الذهبي ، هذه الحالة تنم عن أنه يريدها وبأدب جم يبلغها هذا الشعور .
تحدثا معا طويلاً ، حتى حان وقت الغذاء ، المواعيد في منتجعه مقدسة ، دقائق تأخير ويبحثون عنك في كل مكان ، فأنت بين أيدي أمينة تحافظ عليك وعلى صحتك . يتبقى عليك أن تبحث عن " ظلٍ " يحافظ على توازنك الداخلي لتشعر بفائدة العلاج في منتجعك الصحي .
بدءا في التحرك إلى منتجعهما بخطوات بطيئة كأنهما لا يريدان أن تنتهي المسافة بين المقعد الذي نصبت بجواره المنصة الموسيقية وباب الصالة الكبرى للمطعم فيوم الأحد لا يوجد علاج طبيعي ، يوم راحة ، أقتربا من الباب العمومي للمصحة وافترقا بتحية طيبة وحديث عيون تخبر بأكثر مما تحمله الكلمات ، وقبل أن تضيع الفرصة سألها :
" ماذا ستفعلين بعد تناول الغذاء !؟ ،
أجابت:
" سأذهب إلى الحمام العمومي ، أتأتي معي!؟" ،
قال لها :
"بكل سرور وترحاب ، اريد أن ارافقك إلى مسبحك !"
تناول الغذاء بسرعة مدهشة ، وهو الذي أعتاد أن يأكل ببطئ ، ظهرت عليه علامات وتعبيرات غير مفهومة لمَن يجلس بجواره على مائدة الطعام ، فهو رابعهم ، استأذن وكأنهم يريدون أن يسألوه:
" إلى أين أنتَ ذاهب !؟ " .
تقابلا بعد الواحدة ظهراً ، وسألها كأنه جاء إلى الدنيا للتو:
" إلى أين سأذهب معك ، أنا لا أدري أي حمام سباحة تقصدين !؟"
أجابته :" تعال و لا تخف ".
ذهبا ، لاحظ عليها سعادة وهي تسير بجانبه ، سألها :
" هل المسافة بعيدة سيراً على الأقدام "،
قالت :
"كلا ، بضع دقائق وسنكون معا هناك " ، وصلا إلى حمام السباحة ، وعلى بابه قالت له :
" إنني أملك كارتة لمدة إقامتي هنا ، وعليك أن تذهب إلى شباك التذاكر لتبتاع تذكرة لكَ وحدك " .
دخلا معا وقالت:
" سأذهب لتغيير ملابسي ، ثوان وسأكون عندك ، لا تقلق! ".
تحركا سوياً في إتجاه حمام السباحة ، اختارا مكاناً بعيداً قليلا عن جمهور الحمام ، تمددت أمامه بعودها الطويل وقطعة السباحة الواحدة ، اراد بنظرة واحدة أن يستوعب حدود هذا الكيان الجديد عليه ، بدء حديثه كاذباً ـ وهذه جبلة الرجال ورغبة النساء – قال لها :
" هذه هي المرة الأولى التي أجاور امرأة هكذا جميلة مثلك ، أريد أن أنظر إليك ملياً ، أريد أن أرى : كم أنت جميلة !" . ابتسمت ولم تقل شيئاً .
جلسا دقائق ثم قالت له :
" هيا ، سنذهب إلى الماء ، أريد أن أستحم بجواركَ " .
خطوة بجوار خطوة يسيرا معا ، لم يتجرأ بعد أن يلمس يدها أو موضع ما من جسدها فقط قال لها بعد أن غيرت ملابسها :
" حاملة المايوة تحتاج أن أعدلها من الخلف هل تسمحين لي !؟ ،
الكذبة الثانية ، أو بتعبير أدق المحاولة الثانية لإزالة الحواجز وفتح الحدود وهدم الموانع ، فقالت له :
" أرجوك ، المايوة حسنّه لي أصلحه كما تريد ، فقد كنت مستعجلة في إرتداءه ولم أنتبه لذلك ، أمنظره سئ ّ؟ " .
قال:
" لا ، أبداً ، أي شئ ترتدينه سيكون بالقطع جميلاً " ،
قال مازحاً :" أنا لا أحسن السباحة فارجوكِ ابقِ بالقرب مني فأنا أخشى على نفسي من الغرق !! ، خاصةً في عيونك الزرقاء! " ،
أجابت بسرعة متناهية :" لا أظن أنك لا تحسن فن العوم !!"
فرد : " بل هي الحقيقة !" ،
وردد ثانيةُ :" ابقِ بجواري " ، أخشى أن أغرق في بحر عينيك ، فضحكت وعلا صوتها ، وهو على ما يبدو الوحيد ممن يحملون بشرة داكنة بعض الشئ فكان ينظر إليه كل الرجال والنساء وكأنهم جميعاً يسألون :
" مَن هذا الذي يرافق المرأة ذات الشعر الذهبي !؟" .
**
« عامل الحمام » |
غطس تحت الماء وأطال النفس تحت الماء أبتعد عنها قدراً كافياً ثم عاد إليها ، كأنه لا يعرفها ، محيِّها ، قائلاً لها :
" سيدتي إنني من عمال هذا المسبح العمومي ، وهذا هو يومي الأول ، وطبيعة عملي تلزمني أن ارافق النساء الجميلات فأنتِ الآن بين يديَّ أقوم برعايتك وأفعل كل ماتريدين مني ، هكذا هو طبيعة العقد بيني وبين الإدارة ،
فقالت له :" شكراً جزيلا ، لا أريد مساعدة ، معي مرافق " ،
فقال ملحاُ :" ارجوكِ ، لا أريد أن أفصل من العمل ، حين أعود مرة ثانية إلى مَن يرأسني وأقول له إن السيدة لا تريد خدماتي ، ارجوك ساعديني أن أحتفظ بوظيفتي ! "
فقالت :" لا يهمني ! " ،
فأخذ مباشرة يشرح له ما هي طبيعة عمله ، مبيناً لها أن من يرتدي مثل هذا المايوة الرجالي بهذا اللون " القرمزي " بهذين الخطين العريضين على الجانبين باللون " البيج الفاتح " وبثلاثة خطوط رفيعة تبدأ بالبني الغامق فالفاتح ثم اللون الأسود على الجانب ويحمل هذه الشارة „ONLINE“ فمن يحمل هذه الشارة على الجانب الأيسر من هذه القطعة فهو مِن مَن يعملون هنا ، لذلك لايوجد الآن غيري في الحمام وهذه هي المرة الأولى وإلا سأفصل من عملي ، فتنهدت وقالت :
" حسناً ، ماذا تستطيع أن تقدم لي من خدمات ، فقال لها :
" كل ما ترغبين ، مثلا أقوم بتدليك ظهرك ، فالتدليك هنا بالمجان ، إنها خدمة جديدة ، ابتدعتها إدارة حمام السباحة "
فردت :" هكذا أمام الناس تدلك سيدة محترمة ،
فرد مسرعاً :" بالطبع تحت الماء لن يرانا أحد سأمد يدي في المناطق التي يجب عليَّ أن أدلكها ولن ينتبه أحد ،
فقالت :" ولكــ .... ــن .." ،
وقبل أن تكمل جملتها قال لها مسرعا :" أترين هذا الرجل القادم على طرف الحمام الأيمن إنه رئيسي في العمل ويريد عن قرب أن يراقب عملي ليكتب تقريراً عني يرفعه إلى الإدارة ، أتسمحي الأن أن أمد يدي لأقوم بعملي ،
فقالت له بأسرع من البرق :" على رِسِلك ، مهلاً ، مهلاً أنا ما قلت أنني أريد التدليك اليوم ، أريد ربما شيئاً آخر "
فرد مسرعاً : " كل الخدمات بالمجان ، نحن نعمل على راحة الزبون ، أقصد ضيف الحمام ، ارجوك اتركيني أزاول مهمتي .. أقصد مهنتي ، وسوف ترضين عن خدماتنا ".
نظرت إليه بتعجب وحيرة وقال :
" أرجوك افتعل الجدية ! " ،
فرد بجدية :
" أرجوك دعيني أمارس مهنتي ، وإلا سافصل منها، وهذا لا يرضيك ، فأنا أحتاج لهذه الوظيفة ، وقد بحثت عنها كثيراً ، أيرضيك أن أكون عاطلاً عن العمل !!".
بالطبع لم يستطع أن يقدم يدا أو يؤخر قدما ، ولكنها بداية محاولة لفتح الحدود ، وبداياته دائما ملفتة للإنتباه ، بل جريئة فقالت له :
" أريد أن يفصلوك من العمل ، فهذا العمل لا يناسبك ! " .
الشمس كانت ساطعة ودرجة الحرارة بالتأكيد تتجاوز درجة الثلاثين ، ومع ذلك قالت له :
" الماء هنا بارد قليلاً فلنذهب إلى الطرف الثاني من الحمام ، فهناك الماء أسخن قليلاً " ، وكأنها محاولة منها ـ الأنثى ـ لفرملة عجلات سيارته المسرعة تجاهها ، غير أنه قال لها مكملاً دوره التمثيلي :
" أين ما ذهبت فأنا بحكم وظيفتي سأتبعك ! ليس عندي عمل غيركِ أنتِ ... فقط أنا أقوم على راحتِكِ وأسهر على تقديم خدمات المسبح لكِ !".
قالت مزمجرة :" أَوْقِفْ ، أرجوك هذا الهراء ، أنا أريد أن تتحدث معي بجدية " ،
فقال :" إذن أذهب إلى رئيسي في العمل وأطلب منه أن يفصلني لأتفرغ لكِ وحدكِ " ،
فقالت:" حسناً ، لا داعي لذهاب إليه ، فأنت مفصول من عملك على كل حال ".
كان هذا الحديث في الماء البارد ، وتحولا بعد ذلك إلى الماء الساخن ، العلاقة بينهما بدأت تسخن قليلاً قليلاً كسخونة الماء وحرارة الطقس .
إنه يتذكر نظراتها إليه عندما جلسا بالقرب من جدار حوض السباحة ومن الخلف يندفع الماء الساخن الجديد ويتدفق بسرعة شديدة فيتحرك يميناً وشمالاً دون إرادته فيقترب منها ويبتعد حسب دفق الماء ، يقترب من ملمس الحرير الطبيعي الذي أعتاده منذ نعومة أظافره من ملابس جدته ، الصورة رويدا رويدا تقترب من كمالها ، إنها المرأة التي يريدها ، وصار يقدم اعتذاره مرة تلو الآخرى كــ" جنتلمان " ،
فيقول :" سيدتي ... ارجو أن تقبلِ عذري ، الماء هو الذي يدفعني إليكِ " ،
فلا ترد عليه ، غير أنها على أقل تقدير غير منزعجة من تحركه تجاهها ، وملامسته أياها وتعطلت بالفعل لغةُ الكلام ووجدت لغة جديدة لغة من إبداعهما ، من تركيبة حوائجهما كبشر ، لغة أتت من أشجان دواخلهما ، ترجمت إلى حروف خاصة ظهرت وكتبت على سطح قرنية عينه ، يقرأها من يستطع فك رموزها ، العين الواحدة تفضح دواخلنا بما بالك بمن يملك عينين !، الرسالة الأولى منها كانت " خذني بين يديكَ " .
الخطأ في قراءة مثل هذه الرسائل المشفرة ، يوقع آحد الطرفين في مأزق قد لا تحمد عقباه .
ذهبا معا إلى الطرف الثاني من الحمام وجلسا تحت الماء ، الماء يغطي النصف السفلي من الجسم تقريبا حتى الصدر ، جلسا متجاوران ، خلفهما حائط الحمام ، وأنبوب ضخم يضخ الماء ويدفعه بشدة كمساج ساخن داخل الحمام فكان يترنح يمينا ويسارا حسب ما يدفعه الماء فيقترب من جسدها خاصة المنطقة السفلية فيعتذر
وتقول له :" لا داعي للإعذار فأنت لا تقصد شيئا ، بل يدفعك الماء " ،
وبعض لحظات قليلة من الحديث بشكل عام سمع نداءً حارا من أعماق النفس البشرية الساكنة بين جوانبها ، إنها تريد أن يساعدها ، لكن كيف!؟ ، رغبت أن يقف بجانبها ، لكن لماذا !؟ إنها تريد أن ترسل له رسالة خاصة له وحده ، بدأ مشوار الخصوصية إنه يريد امرأة خاصة ذات مواصفات خاصة ، أرادت أن يقول لها كلمات جديدة كلمات خاصة بها كلمات تقال لها وحدها دون سواها من نساء العالمين ولها الحق تماماً فيما تريد فهي بحق امرأة بمواصفات خاصة .
بدأت رسائل العيون تتوالي وبشكل سريع كالبرق ، لا يملك أن يلتقط أنفاسه بين رسالة وآخرى سيل من الرسائل المشفرة ، من يراهما يظن أنهما أستغنيا عن العالم الحاضر إلى عالم خاص بهما فقط دون سواهما ، وقد لاحظ بين الفينة والآخرى أن نظرات الآخرين تنبأ عن هذه الحالة الخاصة بهما ولعل البعض ينظر إليهما بغبطة أما البعض الآخر فبـ " حسد " ، إنها حالة جميلة أن يرى البشر إنسجام بين إثنين من البشر ويلاحظ كهذا الإنسجام بين بقية الكائنات ، إنهما يضخان كميات هائلة من العواطف الدافئة في زمن تحولت فيه العاطفة إلى سلعة يمكن شراؤها وتجمدت العواطف في صندوق بجوار عجلة الزمان وماكينة الحياة الرأسمالية النفعية ، اراد أن يضمها بين ذراعيه ويقول لها أنني الحامي لك ، وليس فقط المرافق ، ولكن ليس بهذه السرعة وإن كنا نعيش في زمن نقل الرسائل القصيرة „SMS“ خلال أقل من لحظة قبل أن يرتد إليك طرفك ومن قارة إلى آخرى ، أفيصلح هذا أيضا مع العواطف أم أنها تحتاج لوقت كاف حتى تنضج المشاعر ويتحقق من صدقها !!.
إنه يوم الأحد وتبدل الطقس بين المطر كخريف قادم وبين صيف قائظ ، وفترة ما بين الغذاء والعشاء ليست بالفسحة الكافية لهما ، والعشاء يبدأ في تمام السادسة مساءً ، وبالقرب من الخامسة عصراً بدءا يتحركا من الحمام إلى منزلهما ، فالمواعيد هنا مقدسة ولابد من الحفاظ عليها بكل احترام ، إذن حان موعد العودة ، فهل سيلحقه لقاء أو يتلوه موعد ، هذا ما سوف يظهر في طريق العودة .
كانت تسير أمامه كسيدة من سيدات القصور ، كأميرة من سلالة الملوك في زيارة رسمية لدولة صديقة فرشَ تحت قدميها السجاد الأحمر أو أتت من إمارة مجاورة ، أو كملكة متوجة على عرش القيصرية للتو ، تسير أمامه كأنها صاحبة المقام العالي وبمفردها أمام الرعية فيجب أن تكون امرأة غير بقية النساء ، وهو معجب بهذا الطراز الخاص من نساء حواء ، فكما كانت حواء امرأة خاصة فقط لآدم ، فرفيقي يريدها كذلك ، وليس في هذا الأمر من عجب ، فهذه هي تربيته وهكذا ـ مدلل جدته فأمه ـ عاش بين حريم العائلة .
سألها في طريق العودة :"هل لديك بعض الوقت لي بعد الإنتهاء من تناول العشاء " ،
أجابت بابتسامة تدل على الإيجاب ،
فسُرَ كثيراً وكاد يطاول السحاب فرحاً بيده ، ويرقض بين المروج مبتهجاَ ، تحرك ببطئ في الطريق فهو لا يريد أن تنتهي الطريق تحت أقدامهما ، إنه يريد أن يُحْكِم شباك صيده ، ولا يرغب في فتق بين ثنايا الشباك خوفاً من هروب الصيد ، إنها عقلية الرجل الأول ، الذي ما تمدن كثيراً بعد مرور أحقاب وأحقاب عليه وعاش في مدنية متقدمة وحضارة راقية كما هو منظور .
إذن اللقاء في السابعة والنصف مساءً بعد تناول وجبة العشاء ، في القاعة الكبرى بجوار مكتب الإستقبال .
رفيقي يتعمد إختيار ملابسه ويتخيَّر بدلته وفق المناسبات ، إنه اللقاء الرسمي الأول معها خارج المنتجع الصحي ، نبرة صوتها تملأ أرجاء المكان حوله ، إنه مازال يسمع صوتها ، بعد أن تناول عشاءه اتجه إلي مائدة طعامها التي تجلس أمامها وحياها تحية قصيرة خاصة فقط لها دون بقية الحضور على نفس الطاولة ، وإن أماء برأسه إماءة خفيفة لمن جاورها ولكن ليس بالتخصيص كما خصها ، وهي لاحظت أنه يتعدى الأعراف والبروتوكولات ويكسر الحدود والسدود والموانع بسرعة الريح وسرعة البرق ، كعادته لا يرى سدوداً أو حواجز ، وكانت تنبهه برقة متناهية حتى لا يفهم أنه صد أو إمتناع ، بأن هناك عين تراقبهما بل عيون ، وهي لا تريد أن يفهم المراقب أكثر مما هو متاح له أن يفهم ، فحتى الأن بينهما " علاقة مجاورة بين مريض في منتجع صحي مع مريض آخر " ، علاقة عادية ليس فيها أي خصوصية .
نعم قابلها في الصالة الكبرى غير أنها حضرت قبله بثوانِ واعتذر عن أنها تنتظره فما قصد التأخير فردت برقتها المعهودة حين تتحدث معه :
" كلا ، بل أنا حضرت مبكرة بعض الدقائق " .
تحركا في طريقهما إلى حقول الطبيعة المجاورة لمسكنهما والمروج الخضر بين الأشجار العتيقة التي زرعت منذ الأزل كما أحس بذلك وكأنه يشم رائحة الحقبة الإمبراطورية فكل ما حوله يذكره بتلك الحقبة .
حالة كاملة من الهدوء النفسي ، والهواء سكن في أعاليه ، والطبيعة تعزف سيمفونيتها ... لهما ... فقط ... بموسيقى ملآئكية تعزفها طيور السماء وعصافير الجنان وأوراق الشجر، وخرير جدول الماء الذي يمران بجواره ، ظهرت عليها علامات السعادة ، بدء يلقي بمعصمه في الهواء بالقرب من يدها يريد أن يلامسها ، بعد قليل قال لها :
" اريدك أن تسيري على يساري ! " ،
أجابت بدهشة :" ماذا تريد !؟ ، لم أفهم ماذا تقول !؟ ماذا قلت !؟ " ،
فوجد أنها فرصة مواتية آخرى جديدة ليشغلها ويدخلها إلى عالمه الخاص به كما يرى الدنيا وكما يفهم الحياة فقال لها وهو يعيد نفس الكلمات لا يزيد عليها إمعاناً في إستجلاب دهشتها ، إذ هي لم تفهم قصده أو مرامه ، فقال لها
" أريدك أن تمشي بجواري ولكن على شمالي وليس على يميني ! " ،
سمعت الجملة ولم تفهم قصده ، فرفعت حاجبيها مستفسرة :
" ولماذا أسير على يسارك ، أريد أن افهم ، هل يمكنك أن تخبرني !! "
وظهرت بوادر أزمة عالمية بينهما ، وشعر بحالة إضطراب في مشيتها وارتجاج في نبرة صوتها ، وهي تردد :
" على يسارك .. على شمالك ! .
فأجاب برومانسية القرن الثامن عشر في أوروبا وبرومانسية شرقية جلبها معه من صحراء العرب يتقنها منذ صباه سُرِقَت بعض تفاصيلها من حكايات ألف ليلة وليلة حين كانت تحكى في صباه في ليالي شهر الصيام من خلال المذياع ، قال بصوت خفيض :
" حين تسيري بجانبي الأيسر ، أريدكِ أن تمشي بالقرب من قلبي " ،
وقبل أن تنتهي دهشتها أكمل :
" حتى لا يدق قلبي بشكل عشوائي ، بل تعتدل دقاته فيهدأ !!" .
تعجبت وعلت شفتيها ابتسامة الرضا ، ثم بدأت تسأله عن أحواله ومعيشته ووظيفته والمدينة التي ولد فيها ومتى جاء إلى فيينا وسيل لا ينقطع من الأسئلة ، فهي تريد أن تعرف كل شئ عن الرجل الذي يرافقها ، فكان يجاوب أحيانا بالمراوغة وأحيانا بسؤال بدلا من إجابة ، وكانت تقاطعه دائما قائلة له :
" لكنني أنا السائلة أولاً "
وإثناء حديثها ما فارقتها ابتسامتها على الإطلاق ، كانت هي كما هو في قمة سعادتهما أنه يرافق المرأة ، التي رسمها في خياله ووضع لمساتها الأخيرة قبل أن يأتي إلى أوروبا ، المرأة التي يريدها .. تسير الأن بجواره .
غير أن الطبيعة لم تمهلهما كثيراً من الوقت وهما في حالتهما الإنسجامية هذه إذ بعد الهدوء النسبي الذي أحاط بالمكان وهو لم ينتبه إليه كما انتبهت طيور السماء ، بدأ المطر يتساقط
فقالت :" هل يمكنني أن أتأبط ذراعك !؟ " ،
فأجاب :" بالطبع بكل سرور " ،
فقد كانت هي التي معها مطريتها ، وكان يجب أن يكونا ملتصقين بقدر الإمكان حتى لا تبتل ثيابهما ، خاصة وهو يرتدي بدلة فاتحة اللون فقد تخيَّر بدلة توافق المناسبة وقرب قدوم الليل .
لعبت الطبيعة دوراً هاماً في قربهما أكثر ، فتساقط المطر أوصل جسور الإلتقاء وجاءت نسمة باردة تصاحبه لتكمل المشهد فيزداد القرب بينهما وتتعلق بذراعه ، وهو ـ رفيقي ـ يحسن القيام بدوره مع مثل هذه المشاهد ، خاصةً إذا تتالت المواقف والصور وتغيرت الأحوال وشكل الطبيعة تقرب الأحباب ، وتحت شجرة بلوطية منذ زمن الإمبراطورية النمساوية المجرية احتما تحتها وحين أقتربت أنفه من رقبتها ومن الخلف قليلاً قال لها :
" ما أطيب العطر الذي تستخدمينه !" ، إنه لا يملؤ خياشيم أنفي فقط بل يتسرب إلى داخل كياني فيملأ تجاويف روحي وقيعان نفسي وغرف قلبي ويسير إلى مخي من خلال شرايني "
يتوقف لحظة ليراقب الأثر الذي تركه حديثه عليها ثم يستطرد القول :
" ما أرق هذا العطر خاصة إذا لامس بشرتك الناعمة ذات المواصفات الحريرية ، أتسمحِ لي أن أستنشق هذا العبير ، ذلك المخلوط بين العطر النفيس الذي يخرج من بين خلايا بشرتك وهذا الطيب الغالي الذي سقطت بعض قطراته على مَلْمَسِك الحريري .
المرأة أعجبت بطريقة حديثة وبكيفية رسم تعبيراته وكيف يبني جمله ويخطط لمعنى جديد تولد في الذهن لحظة قربه منها ويعتمل المعنى بداخله للحظات ثم يخرجه في كلمات خاصة بها وحدها يريد أن يسمعها أياها وعلى أذنها هي فقط ، لذلك كانت دائماً تأتي جمله وتعبيراته تحتاج لفك طلاسم وتحليل رموز ، وهي التي دأبت أن تقول له :
" هذه الكلمة نضعها في قاموس كلماتنا الجديد " فيقول لها :
"وأنا سأصنع لها كتابا وصفحاته سألونها باللون الذي يعجبني "،
فترد عليه :" وأنا سأنتظر ... لأكتب كلماتنا الجديدة بين دفتي هذا القاموس الجديد ، في الكتاب الذي ستصنعه لي .
وهذه الصناعة الجديدة ، صناعة كلمات وتعبيرات وجمل جديدة ليست بالمسألة السهلة الهينة بل تحتاج بحق لذهن خالٍ من المشاغل وقريحة حاضرة متيقظة ليستطيع أن يبدع ، فهو يريد أن يسمعها تعبيرات لم تستخدم من قبل ويعتبر أنه أول العاشقين وأنه أيضا آخرهم وأنه متميز عن الآخرين ، هذه الخصوصية المكلفة كثيراً من الوقت والجهد ، ليؤكد لها أنها المرأة الوحيدة في وجود حياته ، والتي تستحق هذا العناء والمجهود وهو سعيد بذلك أيما سعادة .
توالى سقوط المطر فترة من الزمان طالت عن القدر المعقول وهما صارا بمفردهما في الخارج فالكل اراد أن يحتمي من الماء ، غير أنهما أرادا المطر والماء وهذه النسمة التي أشتدت رويداً رويداً كأنها عاصفة خفيفة تهب من جنة العشق ، وهما لا يريدان أن يختبأَ في مكان فيه ناس ، فقط تحت أغصان الأشجار وأوراقها ولا حماية لهما من نزول المطر ،
ثم يهمس بالقرب من قرطها ومن خلفها وتحت شجرة الحياة التي حمتهما قليلا من سقوط المطر :" هكذا كان الإنسان الأول مع مَن عشقها : المرأة الأولى والوحيدة في حياته والعالم " ،
ومطريتها لهما معا غير كافيه وهو يريد هذا القرب بل هو الفرصة الأن الوحيدة ليحسن مخاطبتها كما يريد ويهوى وبالمسافات التي يريدها هو ويحددها ، وكأن الطبيعة تساعده في أداء مهمته ، كصائد يحسن نصب المصيدة ويغطيها بعشب فلا يراها أحد فيسقط صيده ويمسك به دون عناء أو تعب ، وهي لم تكن منزعجة من هطول المطر بل ارادت كذلك هذا القرب ولم تتأفف منه أو تبدي تعبيرا ينم عن المضايقة ، بل كانت تحثه بقولها :
" تكلم ... إني أسمعك ! ، صوتك تحت المطر نغم جديد لم أسمعه من قبل " ،
وهو يقول لها :" ما أجمل هذه الموسيقى التصويرية التي تصاحب كلماتك حين تتحدثين معي أو حين أطلق عباراتي معبرة عما بداخلي " .
رويداً ... رويداً شعر ببرودة في أطراف قدميه ، فحذاءه الصيفي بدأ يمتلأ ماءً ، وجوربه بدأ تتسرب قطرات المطر إليه ، فقتربا من مقعد وقال :
" هل أنت متعبة فتستريحين ! ؟
ثم قال :" لا يصلح لنا الجلوس هنا فبالتأكيد المقعد مبتل تماماً ، عذراً " ،
وأشفق عليها وخشى أن تصاب بنزلة برد ،
فقال :" أترغبين العودة إلى منتجعنا الصحي !؟ أم نبقى قليلا لعل المطر يقلع عن الهبوط !؟ "
فأجابته :" أريد أن أبقى هنا للأبد .. بجوارك في الخارج كأن هذه الغابة بيتنا " .
هذه المرة وبسرعة غير معهودة في علاقة امرأة برجل تعرفت عليه منذ ساعات فقط ، ولعوامل الطبيعة لم يصبح رفيقي مجرد " مرافق " فقط بل صار أكثر من ذلك ، فللحظات كثيرة تحت الشجرة البلوطية العتيقة يلف ساعديه حول كتفيها ضاماً جذعها الطويل إلى صدره مسمعاً إذنها اليسرى حديثه ، ـ فهو كان يقف خلفها تحت شجرة البلوط حتى لا يبتلا ـ ، ظنا منه أن الأذن اليسرى أقرب إلى القلب من اليمنى فيسيل حلو الكلمات على قلبها وتدرك بإحساسها الأنثوي أن هذا الرجل هو رجلها ، ورجلها الوحيد لا يشاركها فيه أحد من بنات حواء أو إناث الجن أو نساء الإنس ، وهذا ما تريده كل امرأة أن تشعر به .
فكم تمنيت أن أكون ـ كما تقول العرب ـ الوِشاحُ كله المغطى حَلْي للمرأة ِ، كِرْسانِ من لؤلؤ وجوهر منظومان مُخالَفٌ بينهما معطوف أَحدُهما على الآخر، تَتَوَشَّحُ المرأَةُ به ، يُنْسَجُ من أَديم عريضاً ويرَصَّعُ بالجواهر وتَشُدُّه المرأَة بين عاتقيها وكَشْحَيْها ...
... كم تمنيت أن أكون وشاحها
يروي لي رفيقي فيقول :" بدءنا نعد أنفسنا للذهاب إلى ضوء المدينة بعد أن كنا سويا تحت عباءة السماء ذات الألوان الفضية وضوء نجم هناك وآخر بعيد عنه يرسل شعاعه مؤذنا بإنتهاء موجة سخات المطر ، والسحاب المحمل بوابل الصيب بدأ في الإنقشاع فترى لمعان النجوم وبريق الكواكب ، ويطل الحاسن : قمر الزمان عليهما من علياءه بحياء لا يريد أن يكشف ما يريدا أن يستراه عن الناس وعنه ، وكأنه يدير وجهه عنهما لآخرين ليسوا على حالنا ، ويلمحا من بعيد ضوء سيارة تعبر الطريق .
النظام في منتجعهما أن يصل المرء قبل العاشرة مساءً ويغلق الباب العمومي في العاشرة والنصف ، وحين تدخل غرفتك وتضع مفتاح غرفة إقامتك تضاء الكهرباء ، وتضاء لمبة خضراء عند مراجعة الدور الذي تسكن فيه مشيراً أنك الآن في غرفتك ، لا يهم كيف حالك أو فيما تفكر المهم أن الضوء الأخضر يضئ عند حارسة المرضى وأنت الآن في غرفتك ... ماذا نفعل الآن أيذهب كل منا إلى غرفته ليحرس نجوم الليل من سرقة العشاق الآخرين ، ويرعى نجوم السماء خوفا من أن يفترسهم ذئاب البشر أو الحيوان ، لا مفر من ذلك فهذا نظام صارم وإن كنا في بلاد الحريات الأربع المقدسة وفق الدستور الأساسي للدولة وقانون البرلمان ، ولكن يوجد بجوارهما نظام ينظم العلاقات وإن كانت الحرية الشخصية ـ آحدى الحريات الأربع ـ مصانة ومقدسة إذا تعديت سن الرشد ، ليس امامنا إذن من مفر من عودة كل طرف إلى غرفته ليغلقها عليه ويتمدد بمفرده على مرقده وينتظر الغد ، ولعل الغد قريب .
لم يستطع أن يرافقها إلى غرفتها فهذا كثير ، حيَّاها تحية المساء وتمنى لها نوماً هادئاً بأحلام سعيدة وتلفظ بصوت خفيض: أرجو لكِ أحلاما " عسلية " .
**
« الإستعداد للرحيل » |
سيمر يوم الإثنين غداً وفي صباح الثلاثاء سيغادر المكان والدنيا بعيداً عنها مسافراً أكثر من ثلاثمئة كيلومتراً إلى إتجاه مدينته الكبيرة التي يسكن فيها ، سيعود إلى مزاولة حياته العادية كما كانت من قبل ، وهي تبدأ فترة علاجها في منتجعهما ، قدر عجيب جَمَّعَ ولحظة أن وثقَّ فرقَّ .
أمامه بعض نهار الإثنين وثلث مساءه ويتبقى صباح الثلاثاء دقائق معدودات بعد تناول الفطور ويغادر جنة الرضوان .
**
إنها المرأة التي ابدعها خالقها في صورة الأنثى الكاملة فابدعت في معاملة الرجل العاشق ، صورتها في خياله كما في الكراسة التي كتبت له على صفحاتها مشاعرها حين غاب عنها في رحلته الموسمية إلى جزيرة العرب ، نظر لصورتها فأمطرت السماء دموع الشوق والجوى ، إنها المرأة الوحيدة التي ارغمته ـ كما أعترف لي ـ على البكاء أمامها وفي غيابها حين قرر أن يبتعد عنها ، وعزيز على الرجل البكاء حين يفارق ، وأليم على المرأة الفراق حين يودعها الرجل الذي عشقها ، تبعثرت اشياءها في كل أنحاء المكان الذي يعيشه ، قاصدا أم ناسيا …إنها تريد أن تبتلع وجوده في كينونتها فقد أغرقته بأشياء في كل مناسبة لتظل هي المرأة الوحيدة في العالم وفي حياته وإن فارقها .
**
فهل للقصة من بقية ، لعل الجواب يأتي من صاحب القصة ، وهذا ما انتظره من رفيقي ....
« القصة بدأت » |