خطوات في الليل(6)
خطوات في
الليل(6)
محمد الحسناوي*
اعتدل حسان في جلسته بعد أن كان مضطجعاً. مدَّ ذراعيه أمامه. كفاه مقبوضتان كأنه يضع آلة التسجيل على الأرض، مدَّ يده اليمنى إلى مكان في الجدار الأيمن، وكأنه يضع سلك الآلة في مأخذ التيار الكهربائي. ثم مدّ يده اليسرى إلى جهة قرب الجدار الأيسر، كأنه يختار شريط كاسيت بعينه. قرأ عنوانه: (وقائع اللقاء الذي عقدته الجبهة مع الكتاب والصحفيين على مدرج الجامعة.) ضغط حسان على مفتاح العمل في الآلة بعد أن وضع الشريط في مكانه. سمع صوت لغط وضجيج جمهور في بداية اللقاء. نظر حسان صوب باب الزنزانة. لم ير بقعة الضوء التي ألقاها شعاع الشمس من النافذة الخلفية، وقد انطبعت على الباب الحديدي الأصفر، بل رأى مدرج جامعة دمشق. على المنصة الرئيسية في صدر القاعة جلس أربعة أعضاء من قيادة الجبهة، وفي مقدمتهم محمود الأيوبي أمام الميكرفون الرئيسي يتحدث في كلمة افتتاحية. القاعة تغص مقاعدها الأمامية بأعضاء اتحاد الكتاب واتحاد الصحفيين. أما المقاعد الخلفية فقد احتلها عدد كبير من مدرسي الجامعة وطلابها الفضوليين الذين استطاعوا الاحتيال على رجال الأمن والحراس المدججين بالسلاح المرابطين على أبواب المدرج ونوافذه الواسعة المتعددة. بقية الطلاب والطالبات والممرضات ازدحموا يتطلعون من وراء النوافذ عبر الألواح الزجاجية والستائر الشفافة.
لم يصغ حسان إلى حديث الأيوبي عن حرية الكلمة وشرف الكلمة ومسؤولية الأدباء والمفكرين والصحفيين في حمل الكلمة أمانة غالية، بل كاد يضحك بصوت عال لما استشهد الأيوبي بادعاءات السلطة عن الضمانات التي تعطيها للحريات وفي مقدمتها حرية الكلمة، إنه تعمد النظر إلى وجوه المستمعين وابتساماتهم الساخرة. أخيراً جاء دور الكلام للأدباء والصحفيين. نهض رجل في العقد الرابع من عمره لم يلبس حلة رسمية. لباسه مؤلف من معطف جلدي أسود ذي فراء تجاري يغطي نصفه الأعلى، مفتوح الصدر عن قميص أخضر داكن. أما بنطاله الأعفر فلا يكاد يستوعب جسم صاحبه لشدة ما تعرض للغسل والكي. على عينيه نظارة طبية، إطارها أسود، وزجاجها سميك. شعره أسود، لكن الشيب قد بدأ يثبت وجوده وعلى الأخص في الصدغين. وجهه أبيض في غير نضارة ولا وسامة. شفتاه رقيقتان لونهما ناصل. حين تكلم أمام الميكرفون المخصص للجمهور على يمين الميكرفون الأول ظهرت أسنانه المصفرة من إدمان التدخين. السيجارة في يده قد بلغت نهايتها ولم يتخل عنها. سأل الأيوبي:
- الاسم من فضلك؟
أجاب عدد من أفراد الجمهور:
- عادل محمود.
كان عادل محمود قد قطع شوطاً كبيراً في عرض أفكاره بصوت فخيم ولهجة رصينة ولغة طيعة متدفقة. كان الجمهور مصغياً يتلقف الكلام كلام الرجل باهتمام وتعاطف واضحين. حتى قال:
- إذا لخصنا القضية الوطنية إلى أراض محتلة وإلى قضية فلسطين منشوف أنه على مستوى الأراضي ما استرجعنا أراضي في الجبهة من الناحية العسكرية... وعلى مستوى القضية الفلسطينية: الكل بيعرفوا أن الفلسطينيين أكلوا ضربة بلبنان بمساعدة أو تغاضي القوات السورية.
علت همهمة في وسط القاعة: نظر بعض المستمعين إلى بعض معجبين مؤيدين. تابع عادل:
- بالنسبة إلى القضية الاجتماعية، فإنها تبدأ بقضية الخبز وتنتهي بمشكلة الحرية، فلا مشكلة الخبز انحلت، ولا مشكلة الحرية انحلت، ولا ما بينهما انحل.
(فكر حسان الربيعي: هذه الفقرة تلزمني لاستشهد بها للصليب الأحمر.)
بالنسبة إلى الوحدة العربية منشوف أنه أخفقت في ثلاث محاولات لإقامة وحدات عربية.
دوت القاعة بتصفيق التأييد والاستحسان. فيما كان يمشي عادل محمود عائداً إلى مكانه تعالى عدد من الأيدي تلوح له من بعيد بقبضات التأييد والشكر على جرأته وصراحته. ارتفع لغط الجمهور: اختلطت الأصوات. باتت تشبه الهدير في مرجل محكم الإغلاق.
نظر حسان إلى المتكلم الجديد أمام الميكرفون. خيل له أنه يعرفه من قبل. شاب في الثلاثين من عمره. نحيل يميل إلى القصر. ملامح وجهه تقول بصراحة متناهية: أنا فلسطيني. البشرة السمراء. الشعر الأسود والعينان السوداوان غير الواسعتين. القوة في تعابير الوجه المحددة القسمات. الصوت الحاد المرتجف لا من البرد، بل ربما من الخوف والانفعال.
- هناك موقفان هامان وتاريخيان للجبهة الوطنية التقدمية. الأول: هو التوقيع على وقف إطلاق النار في حرب تشرين. والثاني: هو مباركة ذبح الفلسطينيين في لبنان.
ضجت القاعة بعاصفة مختلطة من التصفيق وقهقهة الضحكات.. اهتم المستمعون بمعرفة اسم المتكلم. (أحمد دحبور). (الشاعر الفلسطيني. نعم أحمد دحبور). (يبدو أنه ما أخزى الشيطان.) (لك يابا رايحه ورايحه. ايش بقي.)!! مال أحد الأدباء على جاره هامساً:
يـا داميَ العينين والكفين إن الليل زائلْ
لا غرفةُ التوقيف باقية ولا زرد السلاسلْ
اقترب منهما أديب ثالث من خلفهما يسمع الهمس. قال الثاني مجيباً:
نيرونُ ماتَ. ولم تمتْ روما بعينيها تقاتلْ
وحبوبُ سنبلةٍ تجفُّ، ستملأَ الوادي سنابلْ
قال الثالث:
- أنا صحفي لبناني اطمئنا
التقت عيون الثلاثة. ضحكوا.
- أنا ميشيل كيلو.
(قال المتحدث الجديد على الميكرفون.)
- هذا ليس ميشيل كيلو. هذا ميشيل طن! (قال أحد أعضاء الجبهة المتصدرين على المنصة الرئيسية هامساً في أذن عضو آخر. العضو الآخر لم يستجب للنكتة. لعله اعتبرها نيلاً من مواطن مثقف، تابع المواطن:
- الجبهة الوطنية غير موجودة. المؤامرة أننا في هذا البلد لا دور للشعب وأن الحريات قد خنقت عن عمد.
علت همهمات. تابع.
- إننا دخلنا لعبة التسوية مع السادات.
تصفيق في المدرج.
اتفاق استراتيجي مع السادات. دافعنا عنه كثيراً. أنا أذكر أحاديث المسؤولين في (اتحاد الصحافة) يتحدثون عن حلف استراتيجي مع السادات. ثم مرة واحدة نجد أن السادات ذهب مع الأمريكان ومع الإسرائيليين، فقلبت موازين القوى في المنطقة. هذه مسألة لا يمكن التجاوز عنها بشعار إسقاط (كامب ديفيد). لا يعني أن مقاومة كامب ديفيد في الإذاعة هي مقاومة كامب ديفيد في الواقع.
قال أحد أعضاء الجبهة في نفسه: (هذا الكلب يقول الجبهة الوطنية غير موجودة. أنا وأمثالي ماذا نصنع هنا؟ لا بد له من تأديب من علاج. ليرسل إلى تدمر. ليدخل أحد معسكرات (تحضير الصحراء). ليخضع إلى قانون (التطهير الوطني) الذي يطبق على معتقلي الإخوان المسلمين وإن لم يكن ميشيل من الإخوان المسلمين).
اقترب الجندي الطويل النحيل من زميله القصير السمين. كانا يحرسان الباب الجانبي الأيمن مدججين بالسلاح. كانت خوذتاهما بيديهما اليسروين. يدهما اليمينان تمسكان بحزام البندقية الروسية. قال الطويل فيما يشبه الهمس:
- قال الجبهة التقدمية غير موجودة. قال؟!
ابتسم السمين واضعاً كفه اليمنى على كرشه الضخمة.
- ألم يقل الدحبور إن الجبهة موجودة، والدليل على ذلك أنها وقعت على وقف إطلاق النار في حرب تشرين، وباركت ذبح الفلسطينيين في لبنان؟
- قال الجبهة الوطنية غير موجودة. قال؟!
وصل ميشيل كيلو إلى قرب الجنديين. خاطبه القصير:
- تفضل أستاذ ميشيل . تفضل استرح هنا. أبوس عينك على هذا الكلام.
- أنت حلبي؟
- نعم من حي الكلاسة. وهذا أبو ميخائيل من سوق الأحد.
- أهلاً بكم.
كان هناك شبه كبير بين ميشل كيلو وبين الجندي القصير السمين، لا في القصر والسمن، بل في صلعة الرأس ولون البشرة الحنطي وقصر الرقبة. صار كل منهما يطيل النظر في الآخر، كأنه ينظر إلى نفسه في مرآة. وبين الحين والآخر يبتسمان. كأنهما يكتشفان نفسيهما لأول مرة. حتى أفراد الجمهور القريبون منهما استرعاهم هذا الشبه فصاروا يتغامزون ويتندرون.
وقف في وسط القاعة شاب يطلب الدور للكلام. سمح له. مشى إلى المنصة. وقف أمام الميكرفون. متوسط الطول. أسمر البشرة. أسود الشعر. عيناه سوداوان. ملامحه وقامته تشبهان الشاعر الفلسطيني محمود درويش... إنه الشاعر ممدوح عدوان.
- إن النظام بعيد عن الناس. وإن سبب ذلك هو الكذب.
صفق الجمهور. توقف المتكلم قليلاً، ويده اليمنى في الهواء توحي بالبعد الشاسع. بعد وقف التصفيق قال:
- لا أحد يصدق بياناً عن معركة بعدد الشهداء، ولا يصدق حتى درجات الحرارة القصوى والدنيا في نشرة الأحوال الجوية في الإذاعة.
موجة ضحك وشيء من تصفيق منقطع هنا وهناك.
- أنا أشتغل في إعلام أخجل منه لأنه يكذب في كل شيء، حتى في إخفاء الكوليرا. لماذا يكذب النظام؟ الكذب مرده إلى الخوف من الآخرين والسلطات التي تكذب هي سلطات تخاف الشعب أن يراها على حقيقتها.
صفق الجمهور بشدة تصفيقاً مستمراً.
- ما حد يحكي عن سرايا الدفاع وعن الوجه الطائفي للسلطة.
تصفيق تشجيعي.
- وعن الممارسة الطائفية لبعض عناصر النظام. أنتم تعرفون أن الناس تحكي عليها همس ووشوشة. المأزق الطائفي بده مواجهة هيك. (أشار بيده اليمنى مبسوطة بشكل عمودي ممتدة إلى الأمام توحي بالصراحة والاستقامة) بده الواحد يحكي هيك. (كرر حركة يده اليمنى مؤكداً ضرورة المواجهة والصراحة.)
عاد إلى مقعده وتناول سيجارة من علبة سجائره ونفث الدخان بشدة في الهواء.
قال أحد المستمعين لجاره:
- هل تعلم من أين جاءته هذه الجرأة؟
- من أين؟
- إنه من أهل البيت.
- بيت السلطة؟
- نعم. بل من عظام الرقبة أيضاً.
- تعني الطائفة؟
- نعم.
- أنا أخالفك هذه المرة. إن ارتفاع صوت الطائفة لأول مرة أمر مهم. إن السلطة تخشاه أكثر من معارضة الإخوان المسلمين.
- ربما!!
- بل إنها بداية النهاية. صدقني.
- إذا لم تكن الخطة كلها مرسومة لامتصاص النقمة.
- ما أظن هذا اللقاء يمتص نقمة حتى لو كان مرسوماً له ذلك. ألا ترى أن حبل الانضباط انفلت؟ انظر إلى ذلك الجبهوي كيف يعض على شفتيه ويضغط براحته المتشنجة على صدغه.
- انظر بقية الأعضاء يتصببون عرقاً. بعضهم حل ربطة عنقه.
- الأيوبي حسب حسابه. لم يضع ربطة عنق أصلاً. (ضحكا)
- إنها تنتظره على خشبة في ساحة المرجة.
- على يد الإخوان المسلمين؟
- بل على يد سيادة الرئيس الأب الرحيم. (يضحكان. ثم يقطعان الضحكات فجأة خشية أن يلفتا الأنظار.)
- قلت لك مئة مرة: لا تضحك أمام الغرباء.
- قلت لك مئة مرة: لا تسخر من ابن الشعب. (يضحكان).
وقف أمام الميكرفون الأديب علي المصري. بدا كأن الجمهور كله يعرفه من قبل، أو أن من لم يكن يعرفه من قبل سرت فيه عدوى الحب والإعجاب بهذا الأديب الساخر. وقفته تصطنع الجد الزائد، على حين كان فمه يحبس ضحكة. رفع ذراعه اليمنى. كور قبضة كفه كما يفعل الكتاب، لكنها الآن توحي ببداية حديث محدد، الجمهور يقاطعه تودداً وممازحة. توارى لون بشرته الأبيض ليحل محله بشرة حمراء. شعره الأشقر صار يلمع بإشراق نتيجة انعكاس الضوء الكهربائي على حبيبات العرق الغزيرة. لباسه بسيط جداً أشبه بلباس صيفي لولا الكنزة التي تغطي نصفه الأعلى ورقبته حتى أذنيه وأسفل ذقنه. الكنزة أيضاً شقراء زاهية على بنطال أسود يكاد يحجب الحذاء. بنية جسمه توحي أن عمره في العقد الرابع، أما تجاعيد وجهه في الجبهة العريضة وحول الفم فتوحي بأنه هرم.
نهض عدد من أفراد الجمهور يطلب من الآخرين الصمت لسماع كلام الأديب. بدا واضحاً أن الجمهور هو سيد اللقاء. يصمت حين يريد. يتكلم يضحك حين يريد. يعلق على كلمات الخطباء كما يريد. أخيراً تكلم علي المصري:
- استوقفتني عند الصباح أم العيال وراء غسالة (فريسكو) ترجوني أن لا أتكلم.
(الصمت خيم على القاعة كلها. سواء القاعدون والواقفون من كان داخل القاعة أم من كان يتلصص من وراء الزجاج والستائر.)
- فقلت لها: رجاؤك مقبول إنما أريد أن أنقل آراءكِ.. فقالت: دعك من هذا، فالكلمة فقدت شرفها.. فقلت لها: دعيني أنقل مشاعركم، أدافع عن حسام ووسام وهمام. قالت: لا يمكنك الدفاع عنهم، لأنك لا تملك في هذا البلد شيئاً. قلت لها: بل سأتكلم. قالت: تذكر أن من ستتكلم عنهم سيعودون في التاكسي (280اس) وستعود أنت بالباص. فقلت لها: فليكن لن أتخلى عن مسؤوليتي. قالت: إنك لست مسؤولاً حتى عن نفسك، لأنك بالرغم من كتبك الثمانية يأتي أحدهم من أسفل الأقبية ويسألك: من أنت؟ فبماذا تجيب؟ قلت لها القصة التالية: سافرت في السنة الماضية إلى أوروبا، وقضيت ثلاثة أشهر على باب الهجرة والجوازات. نودي: علي المصري، فرفعت يدي، فقال بالحرف الواحد: (يا خرى. صار النا ساعتين منادي عليك.) وقذف لي بالجواز من فوق رؤوس الجماهير.
لما وصلت إلى مطار لندن. قدمت جواز سفري للموظف المختص؛ تأمل الموظف جوازي قائلاً: هل أنت عضو في اتحاد الكتاب. قلت: نعم. نادى الموظف شرطياً وسلمه جوازي مشيراً إلي. قلت: الآن علقنا. اقترب مني الشرطي، وسألني: هل لك أمتعة. قلت: نعم. أشار إلي أن اتبعني. تبعته حتى استلم أمتعتي وحملها، وقال: اتبعني من فضلك. فتبعته إلى خارج المبنى، حيث استوقف سيارة أجرة، وضع أمتعتي فيها، ثم فتح لي الباب الخلفي، وأدى لي التحية قائلاً: نحن نرحب بعضو اتحد الكتاب. لم أكد أصدق ما رأيت وما سمعت. لكن هذا ما حصل معي. لا جدوى من الكلام، لأن أرخص شيء الإنسان والكلمة.
ضجت القاعة بتصفيق حاد مستمر. لم يتمالك حسان إلا أن صفق هو أيضاً. ولما هدأت موجة التصفيق أعاد الشريط قليلاً يستعيد سماع القسم الأخير منه.
ارتوى من هذا الشريط حسان الربيعي. خطر له موضوع الخطاب الذي ألقاه شقيق الرئيس السوري في المؤتمر القطري السابع في نهاية عام 979 وبداية عام 980 لما فيه من مناقضة كبيرة لكلمات الأدباء والصحفيين وحقوق الإنسان. مد يده إلى رف الأشرطة بحثاً عن شريط بهذا العنوان. لم يعثر عليه. تذكر أن نص الخطاب قد وصله خطياً وليس على شريط كاسيت. ثم تذكر أن بقعة الشمس قد انتقلت من جهة الباب إلى طرف الجدار الأيمن. هذا يعني أن موعد طعام الغداء قد حان وانقضى. كيف حصل التأخير؟! جرب أن يأمر ويطاع. تعال يا طعام الغداء ولتكن رزاً وفولاً أخضر مع لبن. انفتح باب الزنزانة فوراً. جاء طعام الغداء. كان رزاً وبازلاء مع سلطة خضروات.
الليلة الثامنة
مساء يوم الأربعاء 11 حزيران 1980
(في حلم أنا أم يقظة؟ ما أدري!)
كل ما يتذكره حسان الربيعي أنه استطاع أن ينام بعد منتصف الليل. كان معتقلاً في سجن خارج بلاده، وها هو ذا الآن يجد نفسه في زنزانة جماعية واقعة في سجن الحلبوني وسط العاصمة دمشق. كان وحيداً فأصبح وسط جماعة كبيرة. كان بعيداً فصار وسط بلاده. لكن كيف حدث هذا مرة واحدة وخلال لحظات؟!
لم يشأ حسان أن يجهد نفسه بالتعليل لأنه صادف في حياته غرائب كثيرة. وطن نفسه على الصبر والتأمل ريثما تتضح الأمور، فلا يهدر شيئاً من راحته وأعصابه بلا طائل.
لكن المفاجأة كانت أكبر من المتوقع. إن هذه الزنزانة التي حشر فيها ثلاثون سجيناً في أقل تقدير، كانت تضم فيمن تضم زملاء حسان الذين اعتقلوا معه صباح اليوم الخامس من شهر حزيران: الشعار والشامي وماضي والسيد وابنه مجاهد. وفوق ذلك كانت تضم أيضاً الشهداء الخمسة عشر الذين أعدموا منذ عام في سجن القلعة: الطبيب حسين خلوف، والطبيب مصطفى الأعوج، والأخوين مهدي وعمر علواني، والطالب عصام عقلة، المهندس عبد العزيز سيخ، والموظف مصطفى حمشو، والشقيقين مروان ومجاهد دباح البقر والخضري عبد الرزاق فاعور، والطالب خالد علواني، ومسعف الشيخ إبراهيم، وصفوان عدي، والموظف محمد سعيد الحمش، والجندي حسن سلامة، وآخرين لم يعرف أسماءهم، على أن ملامحهم ولهجتهم تدل على أنهم جميعاً سوريون. كان الشهداء أحياء يلبسون ألبسة بيضاء. الجلابيب والقبعات والأحذية الخفيفة اللطيفة. أما الآخرون فيلبسون الألبسة المدنية المعتادة، كأنهم على رأس عملهم في الحياة اليومية. كلهم كانوا يقظين بعد منتصف الليل، يتبادلون الأحاديث الودية جماعات جماعات. يتأهبون لسفر. ولم يكن لديهم أمتعة تستحق الإعداد.
أرهف حسان سمعه، فأحس بخرير بردى تحت أبنية المنطقة. تنفس بعمق، فشم عبير الياسمين الدمشقي يملأ الأرجاء. (لم يعد لدي شك بأنني الآن في دمشق. ما الذي جاء بي؟ ماذا يراد لي؟ وهؤلاء الشهداء كيف انبعثوا من قبورهم؟ هل كان إعدامهم مجرد لعبة إعلامية؟!).
نودي على نزلاء الزنزانة بأسمائهم، وقسموهم إلى مجموعتين. كل مجموعة في سيارة (باص) عسكرية. تسير أمامهم سيارة جيب عسكرية، وخلفهم سيارتا جيب عسكريتان. تحرك الموكب شمالاً لا يدرون إلى أين!
كانت إحدى السيارتين الخاصتين بالمعتقلين تضم مجموعة الشهداء ليس بينهم إلا حسان الربيعي. أما السيارة الثانية فكانت لبقية المعتقلين.
على الرغم من وجود القيود في أيدي المعتقلين وكثافة الحراس المدججين بالسلاح في مقدمة المقاعد ومؤخرة المقاعد وبين المعتقلين، تجرأ حسان الربيعي على التحدث مع جاره الذي كان يظنه قد استشهد.
- ألست الأخ عبد العزيز سيخ؟
- نعم. وأنت أستاذي أبو مجاهد؟
- هل تذكر لما عاتبتني على انقطاع التنظيم عنك مدة عام كامل بسبب انتقالك من المرحلة الثانوية إلى المرحلة الجامعية عام 1974؟
- وأذكر أنك دعوتني إلى العمل معكم في جهاز الإعلام على الرغم من أن شهادتي كانت في الفرع العلمي.
- لكنك كنت متفوقاً في الجانب الأدبي مثل تفوقك العلمي والحركي.
- الخير فيما اختاره الله.
- هل صحيح أنك استشهدت؟
اكتفى عبد العزيز بالابتسام. وهو في العادة كثير الابتسام ذو لحية لطيفة صهباء جميلة. كان حسان في طرف المقعد الثالث على اليمين من ناحية وسط السيارة، فمال على جانبه الأيسر بنصف استدارة ليكلم الدكتور حسين مخلوف، وهو يبتسم:
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام. (ابتسم وأشرق نور المودة في محياه).
- بعد زمان يا أبا علي؟
- أي والله بعد زمان يا أبا مجاهد.
- هل تذكر لقاءاتنا في حلب: في الأنصاري وباب جنين والسبيل؟!
- كيف لا؟ وهل تذكر أنت ليالينا في حماة: في حي الشريعة والزنبقي والبارودية؟!
- هل تذكر كلمتك: إن لغة الرصاص هي التي تجدي وحدها اليوم.
- وأذكر كلمتك أيضاً: إن الكلمة المجاهدة أخت الطلقة الثائرة ولا تغني إحداهما عن الأخرى.
كانت شمس الصباح تلقي شباكها الذهبية على أهداب مدينة دمشق الناعسة فيما كان موكب السيارات يغادر الضواحي الشمالية للعاصمة على طريق (دمشق –حلب).
أعطيت التعاليم بالتزام الصمت وعدم الكلام أو التحرك. أسدلت ستائر النوافذ السود الكثيفة، فحجب ضوء الشمس الباهر، ومنع المعتقلون من التطلع إلى السيارات العابرة أو معالم الطريق. طلب إليهم الاستماع لحصة توعية تلقى عليهم من خلال جهاز (فيديو) في صدر السيارة.
ظهر على شاشة التلفزيون رجل معروف جداً، لكن حسان لم يستطع تذكر اسمه. لم يجرؤ أن يسأل جيرانه عنه. نطق هذا الرجل وهو يخطب في قاعة مكتظة بالرجال بالألبسة المدنية والعسكرية:
- أيها الرفاق. يجيء مؤتمرنا القطري السابع في ظروف إقليمية ودولية بالغة الدقة وبالغة التعقيد، مما يقضي بالضرورة أن تكون النظرة المتبصرة المحللة فيه على أعلى مستوى من الموضوعية والأمانة التاريخية...
(هل جرى تطور نوعي في أجهزة المخابرات السورية، فأقلعت عن التعذيب الجسدي والنفسي، ولجأت إلى وسائل الإقناع العصري؟ أشك في ذلك. سوف نرى)
- إني أحذركم من الخطر القادم سيلاً جارفاً يتجاوز في تدميره الكثير من السدود الهرمة الموضوعة في أمتنا... فأنتم الآن وأمتنا العربية معكم أمام حضارة متقدمة جداً تدق أبوابكم الأولى..
(إن الحلة السوداء والقميص الأبيض وربطة العنق الأنيقة والوجه الحليق، كل هذه المظاهر لا تعني تحضراً ولا تمدناً. أنا أعرف هذا المتكلم أبعد ما يكون عن الحضارة والوعي الحضاري، فمن أين له هذا التشدق؟)
أحس الخطيب بخواطر حسان المعارضة، ضغط على زر بجواره. أشار بإصبعه إلى حسان عبر (الشاشة)، فتحرك أحد الحرس من خلف حسان، وضربه بالسوط ثلاث ضربات موجعات. كف حسان عن الانتقاد في ذهنه!
- إن كل الذي أنجزناه لا يقف وحده قبالة الطغيان القادم. لقد أنجزنا أقل من المطلوب للمجابهة، بخطأ أكثر من المتوقع. لنكن صريحين، ولنملك دوماً شجاعة الحقيقية وعصبية العروبة. لسنا بدعاً من الأمم. إن لنا نظريتنا التي نتعصب لها. ليكن الولاء أولاً وأخيراً للحزب. ولتسقط إلى الأبد كل الولاءات الأخرى.
صفق الجمهور المستمعين في الشاشة. لم يصفق المعتقلون في السيارة. هوت السياط على المعتقلين تلزمهم بالتصفيق. لم يصفق أحد. اشتد ضرب السياط. عاد الخطيب إلى الكلام. توقف ضرب السياط.
- لقد انتصرت ألمانيا بتعصبها للعقل الألماني وللإنسان الألماني وللشعب الألماني. ستالين –أيها الرفاق- أنهى عشرة ملايين إنسان في سبيل الثورة الشيوعية واضعاً في حسابه أمراً فقط هو التعصب للحزب ولنظرية الحزب، ولو أن لينين كان في موقع وظروف وزمان ستالين لفعل مثله. فالأمم التي تريد أن تعيش أو أن تبقى تحتاج إلى رجل متعصب وإلى نظرية متعصبة. فلم لا يكون تعصبنا للحزب وللحزب وحده؟
صفق جمهور المستمعين في الشاشة. لم يصفق المعتقلون في السيارة. هوت السياط تلزمهم بالتصفيق. لم يستجب أحد.
- نعم أيها الرفاق. إن زمام الأمور يكاد يفلت من يدي رجال الأمن والنظام.
أولاً – ضعفت ثقة الحزب بالحكم، وسقطت هيبة القيادة لديه، وأصبح قلقاً من الداخل.
ثانياً – فقد المواطن العادي (الحيادي) شعرة الثقة بينه وبين النظام. فمطلق مواطن عادي يعلق بعد أي حادثة اغتيال قائلاً: وبالطبع ألقي القبض على القتيل وفر القاتل. أضف إلى ذلك كله ما يولده لدى المواطن منظر رجل الأمن المتفاخر والمتعالي من نفور وسخط داخليين.
تمهل موكب السيارات لتخرج من خط (دمشق –حلب)، وتنعطف شرقاً على طريق (دمشق –تدمر). اختلس المعتقلون النظر من خلال الستائر الكثيفة، وقرأو الشاخصة على جانب الطريق: (القريتين. تدمر)
انهمرت عليهم سياط الرجال المسلحين. لم يبالوا بها على الرغم من شدتها وتتابعها.
ما إن دخل موكب السيارات طريق (تدمر) حتى بدأت الأمور تتطور وتتفاقم. فسيارة (الباص) لم تعد سيارة عادية بل تحولت إلى مخلوق يزحف بلا دواليب ولا صوت، كما يزحف التمساح العملاق. أما الرجال المسلحون لابسو الألبسة العسكرية المبرقعة فقد انقلبوا إلى مخلوقات خرافية أشبه بالحرباوات العملاقة، تستخدم ألسنتها الطويلة لجلد المعتقلين بدلاً من السياط، وتفح فحيحاً أشبه بفحيح الأفاعي الإفريقية المسماة (الكوبرا).
كان حسان يغالب آلامه، ويكتم أوجاعه فلا يصرخ، لأن إخوانه الآخرين لا يصرخون. بل يبتسمون. ولدهشته كانت سياط الجلادين تخط على ثيابه وبدنه في كل مرة خطوطاً حمراء دامية، على حين كانت آثارها على إخوانه لابسي الألبسة البيض تظهر خطوطاًِ خضراًِ ما يلبث لونها أن يمحى بعد قليل، وكان تحمل إخوانه للألم أكبر من تحمله، بل إنهم لا يحسون بالألم. إنهم على العكس سعيدون ساخرون بالألم وبالجلادين وبالرجل الذي يتشدق على (الشاشة)، حتى لقد خيل لحسان أن ذلك الرجل يعرفهم، وهو يائس منهم، لذلك لم يوجه إليهم أي عقوبة كما فعل به لما انتقده في نفسه.
- لذلك فإنني أقترح ما يلي: أولاً –أن يصدر قانون من السلطة يدعى قانون (التطهير الوطني) يطال كل منحرف عن المسار ممن يعتنق أية مبادئ هدامة.
(أشار الخطيب إلى ركاب الباصين المعتقلين مثلاً، هوت السياط بشدة على رؤوسهم وأظهرهم وأكتافهم.
- ثانياً: أن يصدر تشريع عن السلطة ينص على إنشاء معسكرات تدريبية بغرض (تحضير الصحراء)، وتصحيح المسار الوطني للخاطئين وطنياً. ويدعى إلى هذه المعسكرات كل من تحكم عليه المحاكم الشعبية التي تمتلك السلطة قانون (التطهير الوطني) المذكور أعلاه.
(لما سمع المعتقلون عبارة تحضير الصحراء، أزيحت ستائر النوافذ الكثيفة، فوجئ المعتقلون بمشهد لم يروه من قبل في بادية الشام: المياه تتدفق في الأقنية والبرك والنوافير. الخضرة تغطي السهوب: أشجار مثمرة وأشجار غابات ومروج عشبية لا تكاد تترك موضع إبهام. هل بدأ مشروع تحضير الصحراء منذ سنوات ونحن لا ندري؟ أم وصلت التكنولوجيا إلى درجة أنك تضغط زراً، فتعشب الأرض وتتفجر المياه وتثمر الأشجار دفعة واحدة؟! هراء هذا هراء. لا بد من أن تكون عملية خداع وتزييف. أشار الخطيب إلى جهة حسان. هوت السياط سياط الجلادين كلها عليه وحده هذه المرة).
- ثالثاً: توضع برامج ثقافية قومية اشتراكية، التزام وطني، تقسم على درجات منهجية مدرسية، تدرس هذه المناهج في صفوف متدرجة للوافدين إلى معسكرات (تحضير الصحراء) وتصحيح المسار الوطني، بحيث تكون الغاية مها إدخال الفكر القومي والحس الوطني إلى أذهان هؤلاء الوافدين، وانتزاع الموروثات المريضة والأفكار المستوردة التي علقت بأذهانهم نتيجة التربية الخاطئة أسرياً ومجتمعياً.
(لفت نظر المعتقلين شاخصة بارزة خضراء على يمين الطريق كتب عليها بالخط الأحمر القانوني: المعسكر رقم (1) لتحضير الصحراء وتصحيح المسار الوطني. تأملوا المنطقة، وجدوا فيها صفوفاً من المهاجع والأبنية العسكرية، محاطة من كل جوانبها بالأسلاك الشائكة العالية المضاعفة، وبنقاط حراسة مشددة. في المنطقة القصية خارج الأسلاك رأى المعتقلون صفوفاً طويلة من الشباب، يمسكون بالمعاول ويفلحون الأرض بألبسة رمادية، وهم مقيدون بسلاسل حديدية، تنتهي بكرات حديدية ضخمة بعددهم، ووراءهم جنود مسلحون يمسكون بالسياط والهراوات، وهم أشبه بالحرباوات الخرافية التي تجلد المعتقلين في السيارتين. بصق حسان من النافذة. هوت السياط عليه بشدة).
- رابعاً: توضع برامج زراعية ومناخية في المكننة الزراعية ليقوم المدرسون المختصون بتدريسها لوافدي المعسكرات، دروساً نظرية وتطبيقية، بحيث تخدم في وقف التصحر، وفي تحضير الصحراء الموجودة حالياً، وفي تعديل مناخ القطر العربي السوري مستقبلاً.
(ظهرت من وراء الستائر الكثيفة حدائق وبساتين وكروم عامرة بالخضرة والفواكه والثمار وبجداول الماء والنوافير. ثم ظهرت سهوب صحراوية أخرى أقيمت فيها معسكرات. مرت شاخصة جديدة: المعسكر رقم (2) لتحضير الصحراء وتصحيح المسار الوطني. وشاخصة ثالثة:
إذا متُّ فادفنّي إلى أصلِ كرمةٍ تروّي عظامي حينَ أبلى عروقُها
لاحظ المعتقلون صفوف شباب آخرين بألبسة رمادية مكتوفي الأيدي مقيدي الأرجل معصوبي العيون. بين كل واحد والآخر مسافة أمتار، كالمسافة التي تترك بين الأشجار المثمرة، وأمام كل منهم حفرة كافية لطمره، وعسكري مبرقش يصوب إلى رأسه بندقية ينتظر الأمر بإطلاق النار. فصاح المعتقلون ركاب السيارتين بصوت واحد: الله أكبر. الله أكبر. اليوم نلقى الأحبة. محمداً وصحبه. وقعت السياط أو ألسن الحرباوات تجلد المعتقلين من جديد. تساءل حسان: إن الشاعر طلب دفنه إلى أصل الكرمة بعد موته الطبيعي. أما هؤلاء الشباب فيقتلون عن عمد، وتستنبت بهم الكروم على غير رغبة منهم، فما العلاقة بين الشعار والتنفيذ. تفووووووو..ه.)
- خامساً: توضع برامج لإحياء الصناعات الوطنية التقليدية المهددة بالانقراض حالياً، إلى جانب صناعات يدوية أخرى، اشتهر بها العرب سابقاً وبخاصة سورية، وتكون لها حصص في محاضرات التثقيف وتصحيح المسار الوطني. دروس نظرية وتطبيقية.
(المعسكر رقم 3) لتحضير الصحراء وتصحيح المسار الوطني. مدرسة لتعليم رقص الباليه. فرقة رقصة البجع الأبيض. في وسط المعسكر باحة دائرية بيضاء لعلها ماء جليدي مجمد، صنع خصيصاً للتدريب على رقص الباليه. بعض المدربات ينتظرن المتدربات. صف طويل من الفتيات الشواب المحتجبات بلباس شرعي سابغ، يُخيّرنَ بين خلع الحجاب والنزول إلى ساحة الرقص أو القتل. حتى تلك اللحظة كان عشر فتيات قد اخترن الموت قتلاً على تعلم هذا الرقص العربي العريق. ولم تختر واحدة القبول بالرقص. كبَّر المعتقلون. زمجرت الحرباوات بأشداقها وألسنتها السوطية).
- سادساً: يتقدم الوافد لمعسكرات التدريب إلى امتحانات سنوية...
(لم يعد حسان يطيق الإصغاء لهذه التخرصات ولا النظر من وراء الستائر الكثيفة..)
- سابعاً: يرصد المال الكافي بحسب خطة مبرمجة متكاملة لتغطية نفقات معسكرات تحضير الصحراء وتصحيح المسار الوطني.
(على الرغم من تعطيل حسان لحواسه السمعية والبصرية وغيرها. لم يتمالك أن يختلس نظرات بين حين وآخر. رأى فيها مقابر جماعية منظمة منسقة. فالمقابر الجماعية ذات اللون الأخضر وضعت لها شاخصة كبيرة كتب عليها: مسلخ العسكريين المتمردين. المقابر ذات اللون الأسود: مدفن المتمردين المدنيين. المقابر ذات اللون الأبيض: سوق الأرانب البيض. المقابر ذات اللون الأحمر: أطفال الراسبين في التطهير الوطني. كانت بادية الشام جرداء مقفرة. أصبحت اليوم عامرة بالمعسكرات والمقابر والمزارع. أليس هذا إنجازاً يفوق ما حققه يهود الأرض المحتلة من إنجازات؟!
أخيراً وصل موكب السيارات إلى مدينة (تدمر). شرع يمر بين أبنيتها الرومانية الأثرية. مارا بسوقها الرئيسي حتى وصل إلى منطقة عسكرية محاطة بسلاسل من الأسلاك الشائكة والآليات العسكرية والمعسكرات النشطة. يتوسطها مجموعة من المهاجع والباحات المعبدة المسورة بجدار عالٍ، كتب على بابه الرئيسي (سجن تدمر العسكري). لم يسمح للموكب أن يقترب كثيراً من المدخل الرئيسي. طلب من المعتقلين أن ينزلوا ويتمايزوا. جمع أصحاب الألبسة البيض على حدة. ومجموعة المعتقلين في الخامس من حزيران (حسان وإخوانه) على حدة. وبقية المعتقلين –وهم حوالي عشرة على حدة. نودي على المجموعة الأخيرة بالأسماء للدخول:
- صباح الركابي.
(تهامس المعتقلون فقالوا: هذا نقيب المحامين في سورية)
- هيثم المالح. محمود الصابوني. موفق كزبري. محمد برمدا. ميشيل عربش. عدنان عرابي.
(محامون دمشقيون. لعلهم أعضاء المجلس الأعلى لنقابة المحامين في سورية)
- عبد الكريم عيسى.
(محام حلبي له أربعة أولاد)
- أحمد عبدو.
(محام إدلبي له سبعة أولاد)
- أحمد قرة بولاد.
(محام حموي له بضة أولاد. معتقل منذ عام 1978.)
لما نودي على أصحاب الألبسة البيض لم يجد الجلادون لهم أثراً. بينما تبادل أصحاب الألبسة البيض التحيات مع بقية إخوانهم المعتقلين، ثم أمسكوا بأيدي بعضهم على شكل دائرة بيضوية، ثم طاروا في الهواء سرباً ضاحكاً مقهقهاً بضحكات مجلجلة صعداً صعداً حتى اخترقوا السحب الصيفية الشفافة. وغابوا في أعالي السماء الصافية الزرقاء.
ارتبك الجلادون في عملية الاستلام للمعتقلين على أثر غياب أصحاب الألبسة البيض. لم يجدوا بداً من اعتقال عناصر الحرباوات جزاءً على تواطؤهم أو إهمالهم. ولما جاء دور مجموعة المعتقلين في الخامس من حزيران لم يجدوا لها مكاناً في سجن تدمر. اضطروا لتحويلها إلى أحد معسكرات (تحضير الصحراء). لكن أي معسكر منها؟ الأمر يحتاج إلى فحص تمهيدي لهؤلاء الوافدين أولاً، وإلى موافقة القيادة العليا في دمشق ثانياً، وإلى نوع الفرز الذي تجريه الإدارة العليا لمعسكرات (تحضير الصحراء) لهؤلاء المعتقلين. انقضت اثنتا عشرة ساعة في الانتظار تحت حر الشمس اللاهب من وقت الظهيرة حتى منتصف الليل. تخلل ذلك جولات تفقدية بالسياط والعصي والقمامة والسباب. وجولات أخرى للتفتيش عن النقود والساعات والخواتم والأمشاط والأوراق الثبوتية وتدقيق الأسماء والأعمار والحرف وأمكنة الولادة والإقامة.
(إذن هذا اعتقال حقيقي على النمط السوري؟)
قال حسان لنفسه وقد بلغ الضيق منه أقصاه. صمم على الهرب أو المقاومة ولو أدى الأمر إلى الموت، لأن مثل هذا الاعتقال لا يطاق، ومصيره الموت فلماذا الانتظار. انهمرت السياط وسلاسل الحديد والكابلات على حسان. صار يتخبط بدمائه، كما يتخبط الغريق بالمياه. أراد الصياح لم يسعفه صوته ولا لسانه. أراد الاحتماء بذراعيه لم تستجيبا.
(يا رب. ما هذا البلاء؟ أموت ولا أستطيع المقاومة! أعني يا رباه.)
أفاق حسان على صوت أذان الفجر، وهو يتقلب على بلاط زنزانته الانفرادية يتصبب العرق منه لشدة الحر. لم يكد يصدق أنه كان في كابوس. حمد الله تعالى على النجاة. صار يقبل جدران الزنزانة، لأنها كانت أجمل من جدران السجن العسكري في تدمر، وألطف من الأسلاك الشائكة التي تحيط بمعسكرات تحضير الصحراء. إنه في الأقل سمع الأذان ويستطيع أن يصلي بكل حرية.
الله أكبر. الله أكبر.
النهار التاسع
الخميس 12 حزيران 1980
بعد صلاة الصبح لم يستطع حسان الربيعي أن ينام. كان بحاجة إلى النوم لكن مشاعر أخرى كانت تحول دون ذلك. لعل أهم هذه المشاعر الهرب من الكابوس الذي وقع تحت وطأته خلال الساعات القليلة الماضية، ومثل ذلك فرحه بأن يقظته هذه تنقله إلى حقيقة واقعة وهي أنه ليس في قبضة الحرباوات ولا حكام بلاده. انكب على القرآن يتلو منه ما يتيسر، وأشتغل بذكر الله تعالى وحمده والصلاة على رسوله عليه السلام إلى أن أشرقت الشمس، وحان موعد الإفطار. أخذ يسمع الأصوات الرتيبة: فتح أبواب. نقل طعام. إغلاق أبواب. نداءات الحرس. خرير إبريق الشاي يسكب من عل. روائح الفول المدمس والبيض المسلوق وأبخرة الشاي تتجول في الممر الطويل، تتسرب إلى الزنزانات موجة إثر موجة.
- صباح الخير يا حاج. (قال الحارس اللطيف)
- صباح الخيرات يا أخي. (قال حسان)
بكل هدوء تم تسليم الطعام وصب الشاي وإغلاق باب الزنزانة. لم يكن حسان بحاجة إلى المقارنة بين الحرباء التي كانت تجلده في الحلم من دمشق حتى تدمر وبين هذا الحارس (اللطيف). شاب دمث هادئ، يحمل شيئاً من سذاجة الأطفال وبراءتهم مع شيء من ثقة الشباب. لعله حارس جديد، ولعله بعد أيام قليلة من ممارسته وظيفة السجان، والإطلاع على أحوال السجناء داخل زنزاناتهم، ورؤية كل منهم مشغولاً بشيء من العبادة (تلاوة القرآن –تهجد –ذكر –قيام الليل –تفكر في ملكوت الله...) تأثر بهذه المشاهد، وأحس في أعماقه بتجاوب عميق مع هذه الأجواء، وظهر على سلوكه، إذ سرعان ما اتخذ لنفسه مصحفاً، وبدأ يقرأ القرآن في الممر بصوت مرتفع.
بعد أن انتهى توزيع الطعام عاد الحارس (اللطيف) يمر بالزنزانات سائلاً:
هل يلزمكم شيء. شاي. خبز؟!
- شكراً. شكراً.
- نعم. أنا يلزمني مزيد من الشاي. (قال حسان)
- أنت يا حاج كنت تتقلب كثيراً في نومك. هل أنت مريض؟
- لا. أبداً. شكرك. كنت أرى حلماً.
- يبدو أنه حلم غير مريح. (ابتسم الحارس وأشرق وجهه الأبيض، وانعكست أشعة الشمس على شاربيه الأشقرين وحاجبيه الأملسين.)
- يبدو.
- اليوم عندنا حصة تنظيف وحمام.
- نحن جاهزون.
- هل شربت الحبة الحمراء.
- طبعاً. طبعاً. شربتها. ماذا فيها؟
- هذه للتعويض عن التعرض للشمس.
تذكر حسان أنه لما استلم تلك الحبة الحمراء البراقة تردد قليلاً في تناولها خشية أن يكون فيها مكروه أو سم. (لو أرادوا قتلي أو دس السم لي لما احتاجوا إلى هذه الحبة. أنا أتناول طعامهم وشرابهم وبين أيديهم. ما حاجتهم إلى حبة السم؟ على كل حال: الأعمار بيد الله.)
ابتعد الحارس عن كوة الباب. أخرج منديلاً أبيض من جيبه. رآه حسان وهو يمسح عينيه بصمت. (هل يبكي حزناً علي؟ أم أن خاطرة محزنة ألمت به؟ هذا مخلوق إنساني ولا غرابة في أن يحس ويتألم. بل الغرابة أن لا يحس ولا يتألم. لكن لماذا يتكتم؟ إن الحرباوات كانت تمارس عدوانها جهرة. وهذا هو الفرق!)
بعد تناول طعام الغداء وغسل الصحون بدأت عمليات الاستحمام. يغلق حارس الممر كوى الزنزانات. يفتح باب زنزانة. يخرج أحد المعتقلين بمرافقة حارس آخر إلى حيث يقع الحمام الفردي في المبنى المجاور. في بعض الأحيان يستحم سجينان كل منهما في حمام انفرادي. وهو عبارة عن غرفة مربعة (2م × 2م) جداراها الجانبيان لا يرتفعان فوق مستوى الأكتاف، ومثل ذلك الباب الخشبي. مدة الاستحمام لا تتجاوز دقائق معدودة يتخللها نداء الحارس المرافق بالاستعجال.
في إحدى المرات شرع سجين بخلع ملابسه استعداداً للاستحمام. فوجئ بالحارس يحثه مستعجلاً، فما كان منه إلا أن أعاد ارتداء الملابس قبل أن يفرغ من خلعها. كان حسان وإخوانه السجناء يتضايقون من قصر مدة الاستحمام.
مع عملية الاستحمام كانت تجري عملية غسل الملابس المتسخة. أحياناً تغسل الملابس في الحمام، وأحياناً أخرى في الباحة الصغيرة الكائنة عند المغاسل.
حين بدأ حسان بغسل ثيابه الداخلية في وعاء بلاستيكي أحمر عند المغاسل كان حارسان يراقبان عملية الغسل: الحارس الشاب اللطيف والحارس ذو الشوارب.
إن الكلام عن شوارب هذا الحارس إنما هو كلام عن كيان الرجل كله، فهي بؤرة الاستقطاب الأولى لاهتماماته الشخصية كافة. وإذا صح أن الشعر يتغذى من دماء المخ، ونمو الشعر يؤدي بالضرورة إلى ضمور المخ، فنحن أمام معادلة منطقية تتجسد عناصرها الأساسية في شوارب صاحبنا ودماغه. إنه يفتلها دائماً، ويلامس أطرافها باستمرار واعياً أو غير واع. إنه مدمن حقيقي للمس شواربه. طرفا الشاربين يجب أن يكونا متماسكين معقوفين مثل شوارب عنترة في لوحات الرسم الشعبي، وإلا فإن (الديكور) كله غلط. ولأجل هذا فإن عمل الإبهام والشاهدة في كل من يديه، عملهما الأساسي هو المحافظة على عقفتي الشاربين. ومن هنا ندرك سر استغناء الرجل عن السبحة.
ولا بد من العودة إلى ذكائه مرة أخرى، لنذكر موقفاً قد يكون في مصلحته هذه المرة. وهو أن السجين عبد الحكيم السيد، منذ دخل الزنزانة في اليوم الأول، درج على عادة معينة، وهي التنحنح عند الخروج من الزنزانة إلى دورة المياه أو إلى التحقيق.... وكان (أبو الشوارب) قد لحظ هذا من التجربة الأولى معه، إلا أنه تجاهل الأمر في البداية مرتين أو ثلاثاً لظنه أن عبد الحكيم يتنحنح بشكل طبيعي غير مقصود، بينما كان في الواقع يفعل هذا ليشعر إخوانه في الزنزانات الأخرى أنه موجود، لعل هذا يعطيهم ملمحاً ما من ملامح الموقف، أو عنصراً يساعدهم على الربط بين بعض العلاقات التي يشوبها شيء من الغموض نتيجة العزلة عن العالم الخارجي. إلا أن الرجل شعر بأن عبد الحكيم قد "زودها" أكثر من اللازم، فنهره بفظاظة على أثر إحدى (النحنحات) زاعماً (أن الكثيرين من أمثاله قد مروا على رأسه، وأن هذه الأساليب لا تجوز عليه.) ولقد كف عبد الحكيم بعدها عن التنحنح بعد أن وازن بين سلبياته وإيجابياته، وأدرك أن شوارب الرجل المعقوفة تحمل تصميماً من نوع ما، وأن سياسة (هز العصا) يمكن أن يستبدل بها أحياناً سياسة (فتل الشارب). وبعد أن انتقل عبد الحكيم إلى زنزانة أخرى، علم الرجل أن عبد الحكيم يدخن، فربط بين تلك النحنحة التي زجره بشأنها وبين الدخان، واستنتج أن تلك العادة لديه إنما هي عادة اضطرارية بفعل الدخان وليست مفتعلة، أو بالأحرى ليس القصد منها استغباءه وتمرير رسائل رمزية من وراء ظهره. إن عملية الربط هذه بين العلاقتين (الدخان –النحنحة) تدل على أنه على حظ من الذكاء والعطف.
استلم حسان حصته من مسحوق الصابون، وشرع يبلل ألبسته المتسخة بالماء تمهيداً لغسلها بالصابون. كان على حسان أن يتقن عملية الدعك والمعك ثم العصر للأمتعة بين الفينة والأخرى كي ينجو من تعليقات أبي الشوارب.
- أنت سوري؟
- نعم.
- هل غسلت ثيابك قبل هذه المرة؟
- لا.
- من يغسل لك إذن؟
- زوجتي.
- هل أنت متزوج؟!
- نعم وعندي أولاد. ابني مجاهد في إحدى هذه الزنزانات.
- صحيح؟!
- جداً.
- ماذا تعمل؟
- مدرس لغة عربية.
- معك شهادات؟
- شهادتي تؤهلني للتدريس في الجامعة.
- تدرس في الجامعة وأنت لا تعرف كيف تغسل ثيابك؟!
كان أبو الشوارب يسأل هذه الأسئلة، وهو يستند بظهره إلى زاوية الجدار عند الباب الوحيد الذي يؤدي إلى خارج الممر، وبجواره الحارس اللطيف يراقبان عملية الغسل ويحاوران حسان الربيعي. أبو الشوارب يضع يديه في جيبي سرواله، وقد لف ساقاً على ساق مقوساً ظهره من الاهتمام. على حين كان الحارس الآخر متكئاً بكتفه اليمنى إلى الجدار، ويبدو أطول قليلاً من زميله الذي يميل إلى القصر والسمن بآن واحد. لم يطق الحارس اللطيف صبراً على عجز حسان. قال:
- انظر كيف يكون الغسل يا حاج.
نهض حسان واقفاً، ساعداه مكشوفان. الماء والصابون يسيلان من أصابعه. نصف جسمه الأعلى عار. شعره أشعث. العرق يتصبب من وجهه. قال أبو الشوارب وهو يفتل شاربه الأيمن:
- هل تعلم ماذا يفعل موظفو الأمن السوريون على الحدود؟
- لا أعلم بالضبط، ولكن أتوقع أنهم يسيئون المعاملة مع كل الناس.
- أقصد ماذا يفعلون مع النساء؟! (اعتدل أبو الشوارب في وقفته. مد يديه إلى أزرار بنطاله الأمامية. شرع يفكها ويمثل عملية الفاحشة التي يتحدث عنها. انعقد لسان حسان. جف حلقه. أحس بطعنة في أحشائه. استفظع الواقعة وحكايتها. جاء دور أحد السجناء للخروج إلى الحمام ورجوع آخر. طلب من حسان أن يدير ظهره للجدار كيلا يُرى ولا يرى. كان طعم المرارة ما زال في فمه. تجنب الخوض في أي حديث بعد ذلك. عاد إلى زنزانته مهموماً. فكر في صحة الواقعة. (أنا أستبعد وقوع مثلها، لكن الذي يقتل الأبرياء رجالاً ونساءً وأطفالاً ماذا يمنعه أن يرتكب الفاحشة أو يغتصب الحرائر؟! من اختطف العروس غفران أنيس واغتصبها من ثم قتلها؟ من اعتدى على زوجة المحامي الدمشقي؟! تلك كانت حوادث متفرقة. صحيح أنها لم تلق العلاج الجذري والعقوبات الرادعة. لكن هل وصل الأمر إلى التكرار والذيوع والانتشار؟.)
لما جاء دور حسان في الاستحمام ذهب الحارس اللطيف برفقته. استعاذ حسان بالأدعية والأذكار ليخفف من وطأة ما سمع أخيراً. حين ألح عليه الحارس –كالعادة- بالاستعجال. قال حسان:
- لا حول ولا قوة إلا بالله. إلى الله المشتكى.
اضطرب الحارس اللطيف فقال:
- يا حاج هل تشكوني إلى الله؟!
- لا يا أخي. أنا أشكو إلى الله تعالى على نفسي التي تعودت البطء في الاستحمام وعدم الاستعجال. أنا أستغرق ساعة في الحمام...
- ماذا صنعت لك يا حاج حتى تدعو علي؟!
- افهمني يا أخي. أنا لا أدعو عليك. أنا أدعو على نفسي.
- بدلاً من أن تدعو علي كان الأفضل أن تستعجل. الناس ينتظرون الدور.
- تكرم. سوف أستعجل.
بالنسبة إلى السجناء الآخرين لم يكن حسان مستعجلاً فهو بطيء أولاً، وهو مصمم على كسب دقائق فوق المعتاد ثانياً، لكن حوار هذا الحارس اللطيف أحبط مساعيه إلى حد ما هذه المرة.
النهار الحادي عشر
السبت 14 حزيران 1980
"لو كان عندي نسيج السماء،
الموشى بأنوار الليل والنهار
لفرشته تحت قدميك
لكنني فقير
لا أملك سوى أحلامي
وها أنذا أبسطها تحت قدميك
فخففي الوطء
إنك تطئين أحلامي."
كان حسان الربيعي يدندن بهذه الأبيات المترجمة عن الشاعر الايرلندي (وليم بتلر ييتس). لم ينتبه كم أعاد إنشادها والترنم بها، ولم يسمح لنفسه بالتأمل في سبب خطورها على باله: أهو الحنين إلى الوطن أم الشوق إلى الزوجة؟ إن غزل ييتس في رأيه قد أدمج الحبيبة بالقضية. فهل هذا هو سبب تذكره؟ وهل هذا ما تلحظه في شعر بدر شاكر السياب لما اغترب عن وطنه وبعد عن زوجته فقال:
لو جئتِ في البلد الغريب... إليَّ ما كُملَ اللقاء
الملتقى بكِ والعراقُ على يديَّ هو اللقاء
(آه.. الآن تذكرتك يا ييتس.)
تذكر حسان أنه في شبابه شاهد فيلماً سينمائياً عن الثورة الايرلندية. لم يبق مخزون الذكريات من ذلك الفيلم إلا شخصيتان. شخصية طالب جامعي غريب كان صديقاً لأحد الثوار، وكانت هذه الصداقة سبباً للاشتباه به ولتورطه في الثورة حتى النهاية، وهو غير مصمم ولا ميال إلى ذلك. وشخصية الشاعر الايرلندي الذي حقق حلمه بالعيش في كوخ على جزيرة ايرلندية منعزلة بعيداً عن حياة لندن المضجرة، قريباً من أمواج البحيرة التي يسمع صوتها في قرارة نفسه مهما بعد عنها أو غاص في شوارع لندن. لكنها لم تكن في الفيلم عزلة خالصة. كانت جزءاً من العمل الثوري الذي اضطلع به ييتس بدءاً بنظم الأشعار، وانتهاء بحمل السلاح في وجه الطغيان.
(نعم تمنيت يوماً أن أكون شاعراً ثائراً مثل ييتس. أن تكون لي قضية وأن أعمل في جماعة ثائرة بوجه الظلم والفساد..)
تذكر حسان مشهداً من مشاهد هذا الفيلم حين ألقي القبض على الطالب الجامعي الهارب مع صديقه الثائر بعد مطاردة ليلية في شوارع (دبلن). تذكر كيف نقل إلى معتقل يسجن في الثائرون في زنزانة طويلة تحت الأرض. كل سجين مربوط بالسلاسل إلى صليب خشبي ضخم، كأنه خشبة إعدام اندلقت من جدار صخري عار غير مصقول.. بدت تلك الزنزانة كهفاً طويلاً مظلماً تتلوى فيه أجساد السجناء وأرواحهم في صفين متقابلين.
(هذا المشهد هز أعماقي فضعفت رغبتي في أن أصير شاعراً ثائراً. وخصوصاً أنني كنت خارجاً حديثاً من اعتقالات عام 967. لكني ماذا أصبحت الآن؟)
يتبع إن شاء الله
* أديب سوري يعيش في المنفى